إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

وهي أعظم منه بكثير ، ولونها رمادي وفيها ألوان أخرى (١) ، ثم طيور النعامة المعروفة عندنا. ثم طيور ريشها كله أحمر. ثم طير النحاف المعروف ، وهي طويلة بيضاء ، طول عنقها نحو ذراع. / ١١٩ / ثم دجاج (٢) الماء في برك من الماء هناك. وطيور فيها ألوان ، طويلة الأذناب ، تشبه الطاووس ، وطيور رمادية اللون ، تشبه الدجاج ، فوق رؤوسها ريش طويل ، وطيور أخر طويلة الأذناب يزيد طول أذنابها على جرم ذات بأزيد من ضعفين (٣) ، وفي ريش أذنابها دوائر ملونة خضراء وزرقاء وسوداء كالدوائر التي في جلد النمر ، ومن شدة طول أذنابها حتى أنها تجر في الأرض ، ثم الحمام المغربي البري وغيره ، ثم طير الباز. رأينا واحدا منه لا غير ، بيد رجل يده مجلدة. ووجدنا في هذا الطريق ثلاثة أفيال ، أصغرها قدر البقر مربوط ، وأكبرها أعظم من الجمل بكثير ، عليه سرج ، وفوقه أربعة راكبون عليه ، وهو يمشي بهم ، فقربنا منه ، فنزل الراكبون عليه ، وصعد عليه رجل كان معنا ، وناداني تعال ، فاركب معي. فقلت أنتم ألفتموه وألفكم ونحن لا ألفة بيننا وبينه ، ثم حيوان على صورة الغزال ، رجلاه أطول من يديه بكثير (٤) ، وهو يمشي على رجليه فقط ، يقفز كالغراب ، وإذا وقف / ١٢٠ / يستند على يديه ، ومما يستغرب أننا رأينا في بطنه جرابا من خلقته ، ومن لها من هذا الحيوان مولود صغير ، فحين يرى الآدمي يصعد إلى ذلك الجراب ويتوارى فيه ، بحيث لا يبقى يظهر منه إلا رأسه بأسفل بطن أمه ، حتى يتخيل لمن يراه بديهة أن ذلك الحيوان له رأسان. ثم الغزال المعروف رأينا منه هناك عددا كبيرا ، ويعدو ويجري في مكان متسع ، محوط بما ذكرناه ، ثم البقر الوحشي ، لونه رمادي ، ثم جمالا لكل

__________________

(١) يقص نحام Flamaul من الطيور ذات الأساوق الكبيرة ، لونه بيض ووردي ، طويل الساقين وله أشكال كثيرة تختلف في اللون وطول العنق. (نفس المرجع).

(٢) يسمى حذف Sarcelle ، وهو نوعان رخامي أو شتوي ، أما قار أو مهاجر (نفس المرجع).

(٣) ببغاةPerroquet.

(٤) قنقرKangourou حيوان ثديي يعيش بأستراليا ، والأنثى لها كيس تحت بطنه لحمل صغارها مدة ستة أشهر تقريبا ، وتتميز بقصر اليدين واستطالة الرجلين والذنب. الموسوعة في علوم الطبيعة ، إدوار غالب ، مجلد ٢ : ٣٢٨.

١٨١

واحد حدبتان فوق ظهره ، بينهما من أعلاهما نحو ذراع. ثم نعامة تجر كروصة ، ثم فرسين قصيري القامة قيل إنه ولدتهما بغلة زرقاء (١) ... (٢) ثم اللين فوق رأسه قرون مشتبكة أكبر من العجل ، وفي قده أيضا. ثم حيوان بحري في صهريج مستدير ، ينزل إليه الماء ، رأسه كرأس الكلب (٣) ، وعنقه أغلظ من عنق الكلب ، وذاته كذات المعز ، له ذنب كذنب الحوت ، / ١٢١ / الشابل إلا أنه أي الذنب أعظم ، بين ريشتي ذنبه ذنب قصير كالأصبع ، وبين منتهى عنقه وصدره ريشتان قصيرتان ، ولا قشور في ذاته ، بل جلده رطب إلى السواد كلون الفرخ الذي يصطاد من بعض الأودية ، رأينا منه في هذا الصهريج خمسة وهو يسبح فيه ويغوص ، فبينما نحن نراه إذ وقف رجل يقابلنا على ظهر الصهريج ، وبيده حوت بل كوب فيه حوت رقيق كالحوت البوري ، فعندما رآه هذا الحيوان ، بعضه صعد فوق تلك اللوحة ، وصار يصيح كصياح العجل ، والبعض منه طلع على ظهر الصهريج يمشي على ذنبه مع تلك الريشتين حتى وصل إلى ذلك الرجل ، فصار تارة يرمي من ذلك الحوت إلى الذي فوق تلك اللوحة فيلتهمه بفيه لا يخطئه غالبا. وإذا أخطأ غاص عليه. وتارة يناول منه بيده للذي طلع / ١٢٢ / منه إليه. والعجب من هذا الحيوان أنه يفهم الإشارة من ذلك الرجل الذي يطعمهم ، فإذا أشار إلى الذي فوق اللوحة بالإتيان إليه ، فينزل منها إلى الماء ، ويطلع إليه ، وإذا أشار إليه بالنزول ينزل ، ويعلو تلك اللوحة.

ثم دخلنا بيتا طويلا مظلما ، في جداره من جهة اليسار صناديق من زاج مملوءة بالماء ، وبسببها يرى الضوء في هذا البيت ، وفيها من أنواع الحوت عدد كثير ، وفي

__________________

(١) حمار الزرد البرشيلي de Burchell موطنه الأصقاع الإفريقية القائمة جنوب خط الاستواء ، يتميز بشكله القريب من شكل الخيل ، رأسه يشبه رأس الحصان ، أذناه صغيرتان. نفس المرجع : ٣٢٢.

وتعتبر الجدعةPoney أصغر الأنواع.

(٢) بياض بقدر كلمتين.

(٣) كلب البحرPhoque من جنس الحيوانات اللبونة أتارية (Otarie) ، من الفقميات زعنفيات الأقدام ، موطنها بعض المناطق الباردة ، مستطيلة العنق والرأس لها أذنان صغيرتان ، يغلب عليها اللون البني الغامق ، تدرب على بعض الألعاب البهلوانية (نفس المرجع السابق ، ٢ : ٣٢٨).

١٨٢

الصناديق مع الماء بأسفله صم رقيق ، وفي بعضها حجر كأنه طين ، وفي بعض الصناديق عكرايشة (١) التي توجد عندنا بساحل البحر ، وفي بعضها حيوان ملتصق بالحجر ، يوجد بالساحل عندنا أيضا ، وذاته منتشرة ، وفيها شيء ناتئ كشوك القنفود ، إلا أنه أحمر (٢). فأتى رجل من وراء البيت ونزع لوحة الصندوق وناول هذا الحيوان ما يأكله بواسطة قضيب طويل ، بحيث جعل له ما يقتاته في رأس ذلك القضيب وأدلاه إليه حتى وصله ، / ١٢٣ / إلى وسط بطنه ، فانكمش عليه ، ونزع القضيب لا شيء فيه ثم طعم آخر كذلك ، فسبحان الملك الخلاق المنعم الرزاق. كيف أوصل إلى هذا الحوت ما قدر له من القوت ، على يد بعض البشر ، حيث ضاق عنه محله المنتشر ، فلا إلاه سواه ، ولا معبود بالحق إلا الله ، وفي بعض الصناديق الحوت البوري ، وحوت موسى (٣) في أسفل صندوقه الرملة يغوص فيها ، وفي بعض الصناديق الفرخ الذي ذكرناه يلتوي خلال الحجر هناك ، ثم حوت قصير أسود اللون له أيد وأرجل يشبه فارة الخيل ، وحوت الهند فيه ألوان ، في ذنبه ريش ، به استرخاء ، ووجدنا بركة ماء فيه حوت واحد طويل ، قيل أصله من بلاد الموسكو! ووجد بواد باريس ، فقبض وأتى به إلى ذلك المحل ، وطوله نحو ذراعين ونصف ، في جرم الشابل ، ولونه إلى السواد. ووجدنا قبة مبنية ، ومستديرة كالصومعة أو أطول ، فيها حمام ، قيل إنه الذي يسافر بالرسائل (٤). ثم حيوان كالغزال إلا أنه بلا قرون / لكن الذكر منه له قرون (٥) مشتبكة ، ثم قفص كبير محوط بقضبان الحديد والسلك كما ذكر ، وفيه كلاب الصيد عديدة ، وكل اثنين منها بيتان من عود

__________________

(١) سرطان البحرCraPe.

(٢) كستناء البحر من جنس الشوكيات جسمها مغطى بأشواك متحركة ، وجسمها مستدير الشكل ومسطح بعض الشيء في قسم منه ، وفمه يفتح ويغلق باستمرار فيه عدد من الأسنان المتحركة.

(نفس المرجع السابق).

(٣) طوربيدTorPille سمك يغوص في الرمل رعاش أو رعاد.

(٤) الحمام الزاجل Voyagear.

(٥) أيل Cerf له أنواع كثيرة عاشبة لبونة مجترة.

١٨٣

يخصهما ، يأويان إليهما ليلا ، وبينهما وبين غيرهما حائل من الحديد والسلك ، بحيث لا يدخل عليهما غيرهما ، ولا يخرجان إلى غيرهما ليلا يعدو بعضهما على بعض. ولها أناس موكلون بها ، يدخلون إليها من أبواب تخصهما ، وأما الطيور التي تقدم ذكرها ، فلكل نوع منها قفص يخصه ، في وسطه خصة صغيرة ، قدر طبلة الأتاي الصغيرة ، ينبع الماء فيها بقدر يسير ، وأما الحيوان الذي يرعى النبات فمرعاه خصب أخضر يانع ، لا ينقطع الماء عنه ، لأنهم يركبون في مواضع منه جعبة الطرنبة ، قائمة مقدار نصف القامة ، ويركبون في رأسها جعبة حديد ، فيها ثقب كثيرة ، والماء يخرج منها ، وهي تدور بسرعة (١) ، فينفصل الماء عنها وينزل ممتدا نزوله منها إلى مكان بعيد ، فنرى / ١٢٥ / ذلك الماء ينزل كنزول المطر ، فبسببه يكثر النبات هناك ، ولا ينقطع ، وذكر لنا أن هذا الجنان أحدث في ذلك المكان هذه مدة من سبعة عشر عاما. وفيه رجل مسن ذو سمت حسن ، هو كبير القوم هناك ، وأخبر أنه كان من كبراء الدولة في أيام نابليون قبل ، وأنه الآن أخر من مرتبته ووكل بما وكل به في هذا الجنان ، وطلب من الباشدور أن يتكلم عنه في ذلك فأجابه بما يسلي خاطره ، انظر حال من كان في رتبة وساء فيها الأدب كيف أدب بالرد إلى سياسة الدواب. اللهم من علينا بحسن الأدب معك ومع عبادك ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك ، ودبر لنا بأحسن التدبير ، وكن لنا وليا ونصيرا ، فأنت نعم المولى ونعم النصير. وأما (٢) غير هذا من الوحوش كالسباع وغيرها ، فقيل أنها في جنان آخر يخصها أبعد من هذا ، فاقتصرنا على ما رأيناه منها في هذا الجنان حيث لم يبق / ١٢٦ / عندنا شك وصار الخبر كالعيان ، فلم يسعنا إذ ذاك إلا الرجوع لوطننا الرحيب ، وكيف لا وقد كادت الشمس أن تغيب.

__________________

(١) الري بالرش SPrinkling هو تقليد للري المطري الطبيعي ، ونظامه يتكون أساسا من أنابيب لنقل المياه ورشاشات ، يقذف الماء في شكل رذاذ ، ومضخة لدفع الماء في الأنابيب تحت ضغط مناسب. عالم المعرفة التكنولوجيا الحديثة ، رقم ٥٠ ؛ ١٧٧ د ، محمد السيد عبد السلام.

(٢) طرة في هامش الصفحة من إنشاء صاحب الرحلة «هذا الفصل يقوم عند الخروج من هذه المبيضة بحول الله».

١٨٤

بعض أوصاف دور السكة

وفي يوم الاثنين السادس والعشرين (١) من جمادى الأولى (٢) المذكور توجهنا إلى دار ضرب السكة (٣) ، وحيث وصلنا إليها تلقانا كبراؤها بالفرح والتعظيم فأدخلنا إلى صالة كبيرة وجدنا فيها تنتي عشرة مائدة مصطفة في براحها ، كل مائدة مرفوعة من الأرض نحو نصف القامة على ست أعمدة من عود ، وجعل على كل طبقة غطاء مثلث ، قاعدته في وجه الطبلة ، وضلعاه من ورقات الزاج ، ممسوكة بين فتقيات من عود ، في كل ضلع ست ورقات زاج تقابلها ست أخر في الضلع الآخر ، وهذه الورقات من الزاج تحتها ورقات من الكاغد الغليظ ، فيه دوائر متفاوتة ، نزع من هذه الدوائر مقدار من الكاغد من جميع مساحة الدوائر ، ووضعت فيها أنواع من / ١٢٧ / من السكة القديمة لجميع الأجناس (٤) من الذهب والفضة والنحاس ، فصار المأخوذ من الكاغد من مساحة تلك الدوائر بمقدار جرم السكة الموضوعة فيه ، فيصير جرم السكة تحيط به مساحة الدائرة التي وضع فيها بعدما نزع منها بقدره الكاغد ، وهذه الموائد كلها على هذه الكيفية ، وهي محفوظة عندهم ملحوظة غاية. ووجدنا في بعضها ريالات ثلاثة من الريال ذي شعب أربع المسمى عندنا بالريال المقنت (٥) ، من سكة مولانا السلطان سيدي محمد بن عبد الله تغمده الله برحمته وأسكنه بمنه

__________________

(١) في الأصل السادس والعشرون. سبق قلم.

(٢) الاثنين ١٩ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٣) بنك فرنسا France Banque de تصنع به المسكوكات على اختلاف أنواعها وأحجامها من ذهب وفضة ونحاس وغيرها. بني سنة ١٧٧٠ م.

Grand EncycloPedie, N. 4. P. 371.

(٤) معرض المسكوكات الفرنسية القديمة والحديثة ، وبعض من مسكوكات الدول الأخرى. ويهتم علم المسكوكات أو علم النميات من الكلمة الفرنسية Numismatique Laبدراسة أنواع النقود والأوسمة.

(الكرملي ، النقود العربية وعلم النميات ، القاهرة ، ١٩٣٩ : ١٢١).

(٥) انظر شرحه في الملحق رقم : ٤.

١٨٥

فسيح الجنان. في أحدها تاريخ ١١٨٩ وفي آخر تاريخ ١١٩٠ وفي الثالث تاريخ ١١٩١.

ثم نزلنا إلى محل خدمة السكة ، فوجدنا في موضع منها مكينة عظيمة مثل مكينة البابور بل أعظم بكثير باعتبار ما يدور بسببها من مكينة الخدمة. إذ لكل عاملها مكينة تخصه بالخدمة في غاية الاجتهاد ، الخدمة في كمال الراحة والصدق والانقياد / ١٢٨ / وحين دخلنا إلى ذلك المحل الذي فيه المكينة الكبرى دخلنا منه إلى بيت آخر ، فيه بيوت النار كبيرة عليها أواني كبيرة الجرم منصوبة عليها ، والنار توقد تحتها ، وبيد رجل مغرفة يغرف بها الفضة من تلك الآنية ، ويفرغ في القوالب ، فأفرغ بمحضرنا ثلاث غرفات من كل مغرفة ، في ثلاثة قوالب ، ثم فتح ألواح القالب ، فتساقطت سبائك الفضة ، أخذ بعضها بلقاط وأدخله في آنية ماء ، وأخرجها ومسحها فإذا هي سبكة فضة ، طولها مقدار ذراع واحد ، وعرضها يزيد على عرض الريال بيسير ، وغلظها قريب من الأصبع (١) ، وعند فرغ هذه السبابك يأخذها أناس آخرون ، فيأتون بها لمكينة أخرى ، يدخلون رأس كل سبيكة في فرجة مربعة على قدرها بل أصغر منها. فتجر هذه السبيكة بالمكينة كما يجر الصواغ السلك في المزرة فتخرج أرق مما كانت وأطول. ولا يزالون معها بهذا العمل حتى يصير حرفها في الرقة كحرف الريال ، وتطول حينئذ ، / ١٢٩ / ولا تقع زيادة في عرضها ـ والله أعلم ـ بل تبقى على عرض الريال ، فعند ذلك يأخذها آخرون ، ويضعونها أمام رجال بين أيديهم مكينات صغيرة خارجة فوق مائدة مبسوطة ، مرفوعة بمقدار نصف القامة ، وهي أي المكينة الخارجة فوق هذه المائدة ، تشبه الزيار ، فيقبض الرجل الجالس قبالتها تلك السبيكة التي صارت في رق الريال ، ويدخل رأسها أسفل المكينة ، ويحرك إحدى رجليه ، ويصير يدفع هذه السبيكة ويخرجها من أسفل المكينة ، فتصير ترتفع وتنزل بسرعة على السبيكة ، وكلما نزلت عليها ارتفعت عنها ينفصل منها ريال مستدير ، وتبقى تلك السبيكة فيها دوائر الريال الذي سقط منها ، فترد إلى النار وعند خدمة هذه المكينة فتحت مجانة كانت عندي ، ورصدت مقدار ما تقطعه هذه المكينة من الريال ، فوجدتها قطعت خمسة عشر ريالا في ربع دقيقة. وهناك رجال

__________________

(١) ٢ سنتمتر.

١٨٦

متعددون ، هذا عملهم. وعند خدمة تلك المكينة نرى الريال / ١٣٠ / يتساقط من أسفلها متواليا (١) بسرعة كما بيناه. وهذا الريال الذي يتساقط ليس فيه حينئذ نقش ولا طابع ، ولا بحرفه شيء. ثم يجمع هذا الذي يتساقط ويوضع في أيدي رجال آخرين يجعلونه في جعبة على قدره ، بل هو أكبر (٢) ويخدم المكينة فيتساقط من أسفلها وقد أخذت من دائرة حرفه شيئا يسيرا ، كأن لا عبرة فيه في رأس العين ، قبل مروره في هذا المكينة. وهذه المكينة تصفي حرفه ، وتتركه متساويا في الوزن ، ثم يجمع ولا شيء فيه من النقش ، ويوضع في وسط زنبيل كبير ، طوله نحو ذراعين ، وقطره نحو نصف ذراع. وفيه ثقب كثيرة ، فإذا ملئ هذا الزنبيل أو قرب ملؤه يسد ويرفع بين حافتي صندوق. ويخدم المكينة فتراه يدور كما يدور الراقد الذي على بئر السانية. إلا أنه أي الزنبيل أسرع دورانا منه ، وبدورانه يدخل إليه ماء من ذلك الماء المملوء به للصندوق ، فترى الماء يضطرب في الزنبيل بين الريال ، وذلك / ١٣١ / الماء مشوب ـ والله أعلم ـ بما تشبب به الفضة ويبيضها ، فيتركه يدور في ذلك الصهريج نحو دقيقة مجانية أو أزيد بقليل ، ثم ينزعه ويفتحه ويفرغه ، فيخرج الريال أبيض فيجف ويمسح ويدفع لصاحب الطابع ، وهو بين يديه مكينة ، وهي دور من حديد كدور السانية ، مرفوع من وسطه على قطعة حديد طويلة مستديرة ، يدير بها وشك محفور فيها ، فيأخذ الريال واحدا بعد واحد ويضعه على طرف من حديد بارز قدامه ، ويحرك المكينة بين دفتي ذلك الدور نازلا يدور كدوران الرحى حتى ينزل ذلك الدور بقوته بطرف القطعة التي في وسطه على الريال ، ويضربه ضربة واحدة ، ثم يحرك المكينة فيصعد الدور مرتفعا ، فيرفع الريال وقد نقش من وجهين ، ثم يأخذ من بين يديه ، ويوضع في جعبة مكينة أخرى على قدر دوره ، ويملأ تلك الجعبة ريالا ، ويحرك المكينة فيأخذ يتساقط من أسفلها واحدا بعد / ١٣١٢ / بعد واحد وكلما سقط واحد

__________________

(١) بدل طرق ضرب السكة العتيقة التي تشكل عائقا ، في صنع الكميات الكافية ، مما يعطل حاجة السوق من كمية النقود المطلوبة. (مشكلة النقود ومحاولات الإصلاح في مغرب القرن التاسع عشر ، أفا عمر الرباط ، كلية الآداب ، سنة ١٩٨٥ م).

(٢) بياض بقدر كلمتين.

١٨٧

من تلك الجعبة تخطفه حديدة أخرى رأسها مستدير ، بقدر نصف دور الريال ، وتجذبه إلى محل آخر ، فيسقط في داخل ثقبة هناك ، وينزل إلى الطرف الموضوع لجمعه ، فيخرج عنده وقد رقم في حرفه ما يرقم في حرف الريال من حروفهم. وبهذا يتم عمله.

ولم نر في ذلك الوقت خدمة اللويز (١) ، لكن رأينا أناسا يخدمون من النحاس على قدر اللويز ، وخدمته كخدمة الريال ، لا فرق. والله أعلم. ووجدنا رجلين قدامها أواني مملوءة لويزا ذهبا ، وآنية أخرى كالصقعة فيوسطها صم ، وهو يأخذ اللويز من ذلك الطرف ، ويرمي به واحدا بعد واحد على ذلك الصم ، فإذا وجد واحدا طنينه ناقص على طنين الذهب المعهود يجعله في مكان وحده وذلك إما لتشعير به أو شبهه ، قيل إنه يرجع إلى محل تدويب الذهب ، وهذا اللويز الذي يقلبه هؤلاء ، ويعزلون / ١٣٣ / الجيد منه لا يكتفي بهذا التقليب ، بل يجمع هذا الجيد ويوزن في مكينة أخرى حيرت منا الأدهان ، وصار كل واحد منا كالحيوان الولهان ، وهي في غاية اللطافة والظرافة والنظافة أجزائها من صغر لطيفة ، وصورة ما شاهدته منها أنهم اتخذوا طبلة مربعة من عود ـ والله أعلم ـ قائمة على أربعة أرجل أزيد من نصف قامة الإنسان ، وفي وسطها ناعورة من صفر ، في حرفها مسمار بل مسامير ناتئة منه ، بعضها صغير طوله قدر حرف اللويز ، وهي في صف واحد بل صفوف محيطة بحرف الناعورة ، والمسامير الأخرى أطول من الصغيرة بيسير. وتحت الناعورة صندوق مربع من صفر ، لكن شكله كقطعة دائرة رأسه الذي أسفل الناعورة لا يرى وهو ـ والله أعلم ـ رقيق قدره ما يخرج منه خمسة من اللويز ، مصطفة مبسوطة من اليمين إلى اليسار ، وطرف الصندوق الآخر مرتفع منفرج ، فيوتى باللويز ، فيوضع / ١٣٤ / في المحل المنفرج من الصندوق المرتفع ، فتلقاه الناعورة ومساميرها ، لأن حرف الناعورة فيه ستة صفوف من المسامير الطويلة ، بين كل صفين منه قدر قطر اللويز ، وبين كل صفين من هذه الصفوف صفوف المسامير الصغيرة ، وقد ظهرت لي علة ذلك ـ والله أعلم ـ كما

__________________

(١) قطعة ذهبية قديمة وتنسب لملك فرنسا لويس الرابع عشر ، وتسمى اللويز الفرنسوي. وهي تقتنى حتى الآن ، وإن كان التعامل غير جار بها.

١٨٨

سأصفه لك بحول الله. وذلك أنهم حيث يفرغون اللويز في المحل المذكور ، ليرجع للمكينة ، فترى الناعورة تدور بالمسامير الطوال ، بدورانها تحرك اللويز وتدفعه قدامها لينحدر اللويز شيئا فشيئا وكلما وصل إلى محل أضيق من الذي كان فيه ، تحركه المسامير الطوال حتى يصل إلى المحل الذي تماس فيه رؤوس المسامير الكبيرة لوحة الصندوق السفلى. فعند ذلك تكون رؤوس المسامير الطويلة مماسة كلها للوحة الصندوق ، وحيث تكون على هذه الكيفية تكون تلك المسامير الصغيرة التي بين الكبيرة وبين رؤوسها وبين / ١٣٥ / اللوحة التي ينزل عليها اللويز مصطفا كما ذكر ، مقدار حرفه في العلو. فإذا نزلت هذه الخمسة من اللويز مصطفة كما ذكر للعلة التي بينا ، تأتي لوحة أخرى من رصاص أو شبهه رقيقة كرقة اللويز ، عرضها مثل عرض خمسة من اللويز. وحرفها فيه أنصاف دوائر مثل أنصاف دوائر جرم اللويز ، فيدخل كل لويز منها في نصف دائرة من أنصاف دوائر حروفها وترفعها بلطافة إلى صنجيات صغيرات قدر اللويز ، كل واحدة ممسوكة وحدها ، وهي مصطفة فينزل كل لويز في كل صنجة ، فتقف هنيئة ، ثم تنحدر إلى أسفل ، فيتساقط منها اللويز وينزل منحجبا عنا ، وتخرج الخمسة من اللويز من مخارج ثلاثة ، كل مخرج تحته آنية ، فالآنية الوسطى لا ينزل فيها إلا المعتدل الذي صفا وزنه ، ولا زيادة فيه ولا نقصان ، ولو كان هذا المعتدل في أحد الصفين الطرفين والآنيتان الأخريان ، لا ينزل في أحدهما إلا الناقص الوزن ، ولو / ١٣٦ / كان في الجهة المقابلة للآنية التي ينزل فيها الخفيف والأخرى لا ينزل فيها إلا الخفيف ولو كان مقابلا للآنية التي ينزل فيها الناقص أو المعتدل ، وهنا تعجبت عقول الحاضرين من ذلك ، وهناك مكينتان أخريان لكن يوضع في كل واحدة منهما اللويز في جعبة على قدر دائرة جرمه ، فيخرج من أسفلها إلى صنجة واحدة ، ثم يسقط منها فينزل في إحدى الأواني الثلاث ، المعتدل في آنية وغير المعتدل في محلين (١) ، ذو ذكر أنه يطبع فيها في كل يوم ثمانمائة ألف ريال منها

__________________

(١) استدراك في طرة الصفحة أدرجته في مكانه بين نجمتين* ...*.

١٨٩

مائتان ألف ريال لجنس الفرنصيص وباقيها لأجناس أخرى (١) هناك ، ويدفعون عنه وظيفا للمخزنذ. وكان هذا آخر ما رأينا بهذه الدار.

دار المطبعة

وفي يوم الثلاثاء السابع والعشرين من جمادى الأولى المذكور (٢) خرجنا لدار المطبعة (٣) فدخلنا لبيت منها وجدنا في وسطه تأليف الإمام سيدي خليل (٤) بخط المطبعة بالعربي ، والقاموس (٥). لكنه مميز بخطهم ، وهذا البيت مربع يحيط به

__________________

(١) بهذه الدار تم ضرب الريال الحسني ، كما جاء في رسالة السلطان الحسن الأول إلى نائبه بطنجة (... وبعد ، اقتضى نظرنا الشريف ضرب سكة شرعية تتصارف بها رعيتنا ، في إيالتنا السعيدة ... أن يضرب مقدار خمسة ملايين من العشرين مليونا من الفرنك المذكور. ريالا وزنه عشرة دراهم شرعية يكون مماثلا لريال الفرنسيس في المعيار والصفاء ، ومقدار مليونين منها يضرب نصف ريال وزنه خمسة دراهم شرعية يكون مماثلا للفرنك الفرنسيسي في المعيار والصفاء ، ...) الإتحاف ، ابن زيدان ، ٢ :٤٣١ ـ ٤٣٣. وبعد أن ضرب بفرنسا رفض المغرب قبول هذه السكة المخالفة للمتفق عليه في شأنها ، لكنه أرغم في النهاية على قبولها على علاتها ، من هنا جاءت الكارثة ، فصارت قيمتها تنحط شيئا فشيئا عن الريال الفرنسي مما أدى إلى أزمات الاقتصاد المغربي ، وآلت محاولة الإصلاح إلى فساد.

محمد المنوني ، مظاهر يقظة المغرب الحديث ، الرباط ، سنة ١٩٧٣ م ، ١ : ٨٥ ـ ٨٦) وذلك سنة ١٢٩٨ ه‍ / ١٨٨١ م.

(٢) ٢٠ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٣) يقصد المطبعة الوطنية Nationale ImPrimerie وهي معمل ضخم أسسه الملك لويز الثالث عشر سنة ١٦٤٠ م ، وفي سنة ١٨٠٩ م اختصت بطبع قوانين الدولة وكتب العلوم والصنائع التي تعينها الدولة ، مع طبع ما يتعلق بالوزارات والإدارة العامة ، وتطبع بها الكتب المؤلفة باللغات الشرقية ومنها العربية

Grand.EncycloPedie ,N. ١٣. P. ١٧٥.

(٤) ابن إسحاق ، فقيه مالكي من مؤلفاته «المختصر» توفي بالقاهرة حوالي ١٣٧٤ م. المنجد.

(٥) المحيط ألفه الفيروز ابادي المتوفى ١٤١٤ م ، رتبه البستاني في كتاب «محيط المحيط» المنجد.

١٩٠

خزانات عديدة ، قيل إن جميع الخطوط التي تقدمت في سالف الدهر ، مع الموجود منها اليوم ، كلها مقيدة محفوظة هناك حتى الخط السرياني ، وسموا لنا خطوطا كثيرة ما سمعتها قط ، وعددت هناك ما يزيد على العشرين خطا ، فما استوعبت نصفها. وخرجت تابعا لأصحابنا ، فدخلنا لدار المطبعة ، وهي دار عظيمة في أسفلها طرق كثيرة يوصل بعضها إلى / ١٣٧ / بعض ، والداخل إليها وحده ممن لا خبرة له بها إذا توسطها لا أظنه يهتدي إلى طريق الخروج منها ، لشدة كبرها. ومع ذلك فهي مقبية بالزاج في غاية النظافة ، لا ترى فيها غبراء ولا بها شيئا يستقدر ، وفي هذه الطبقة السفلى أناس كثيرون ، بيدهم الألواح ، وأمامهم الحروف (١) في صناديقها ، وهم يركبون الحروف في الألواح ويصففونها في سطور ويجعلون بين كل سطرين فتقية (٢) حديد تمسك الحروف ، هذا شغل هؤلاء الناس ، وهناك آخرون ، وهم قليلون ، بين أيديهم رزم من الكاغد الأبيض يضعونه في صهريج ماء ويخرجونه ليصير قابلا لطبع الحروف فيه ، وهناك مكينة حديد عظيمة ، بها تتحرك جميع المكينات التي في الطبقات ، ثم صعدنا الطبقة الثانية ، فوجدنا فيها الأناس المشتغلين بالطبع فمنها مطبعة الحجر ، لكن لم نجد واحدا منهم يطبع بها ، وإنما هناك أناس مشتغلون بنقش الحروف في الحجر وهو حجر صلب أظنه رخاما (٣) ـ والله أعلم ـ ، ومنها ألواح كبيرة على قدر صفحة الكاغد الكبيرة ، يأخذ رجلان الصفحة (٤) ويضعانها عليها وينزلان فوقها ، لوحة حديد على قدرها ، ويدفعها المقابل للمكينة فتنزل عليها بلطافة وترتفع

__________________

(١) هي الأداة التي توضع فيها الحروف ، وتصنع عادة من الخشب التك (Teak Wood) أو الزان ، وتقسم إلى خانات ، الضيقة تملأ بالحروف القليلة الاستعمال ، والمتوسطة بالحروف الأكثر استعمالا حتى تلتقط بأسرع وأيسر وسيلة.

(٢) المصف الخاص بجمع الحروف الصغيرة يسحب ، ويوضع فوق السطر المجموع بالمصف ، لتسهيل جمع سطر آخر فوقه ، وهكذا إلى أن يملأ المصف بالأسطر فيفرغ دفعة واحدة. الطباعة الحديثة ، علي حسين عاصم ، ١ : ٢٦.

(٣) الحروف تنقش على الحجر المتوسط الصلابة ، وليس الرخام. (نفس المرجع السابق).

(٤) في الأصل يضعونها عليها وينزلون.

١٩١

فيقربها / ١٣٨ / إليه ذلك المقابل لها ، ويفك تلك اللوحة التي فوق الصفحة وينزعها فتخرج مكتوبة كلها لا نقص فيها ، ثم يرفع الآخر طرفا من عود ـ والله أعلم ـ مستدير ، طوله كعرض صفحة الكاغد ، وله يدان بطرفين خارجتين ، وهو مبطن بشيء لين ، ويمر به على المداد الذي فوق رخامة أخرى أمامه ، ويمر به فوق الحروف ، ثم توضع صفحة أخرى فوق لوحة الحروف وهكذا كما تقدم (١) ، وكلما طبعت صفحة يقبلها آخر من الخدمة ويضعها فوق أخرى والخدمة هناك على هذه الكيفية كثيرون. ومنهم خدمة آخرون يطبعون بالكيفية الأخرى ، والفرق بينهما وبين الأخرى أن هذه لوحة حروفها قائمة قبالته فحين يوضع عليها الصفحة ، وتشد تنحدر قدامه ، كأنها تريد النزول ، فتلقاها المكينة ، من أسفلها ومن فوقها بلطافة ، ثم ترسلها فترجع إلى الذي هو مقابل لها ، فينزع هذه الصفحة مطبوعة كلها ، وأما الأولى فإن لوحة الحروف مبسوطة أمام المقابلين كما تقدم ، وهناك مطبعة على كيفية أخرى (٢) ، وذلك أنهم اتخذوا حرفا من حديد مستديرا ، طوله كعرض الصفحة التي تطبع فيه ، ومحيط دائرته / ١٣٩ / ، بقدر طول السطور التي تكتب في تلك الصفحة ، وبأسفله جرم آخر مثله طولا وعرضا ، وهما متسامتان ، أعني أحدهما فوق الآخر ، بينهما من الفضاء مقدار حرف الكاغد الذي يطبع بهما. وهذان الجرمان سطحهما مغروز بالحروف كسطح لولب الموسيقا المعروف بمسامير خدمتها ، وهما يدوران فيوضع رأس الصفحة بين ذلك الجرمين ، فيجذبانه إليهما ، فتراها خارجة من الجهة الأخرى بسرعة مطبوعة من كلتا الجهتين ، فيمسكها آخر واقف هناك ، فلا ينزل ورقة على أخرى إلا ويرفع ذانك الجرمان صفحة أخرى مطبوعة ، وهذا شغله لا راحة له لسير

__________________

(١) ذكر السفير الحاج إدريس العمراوي في رحلته «تحفة الملك العزيز بمملكة باريس» (حققه زكي مبارك ، طنجة ١٩٨٩ م) في أواخر سنة ١٨٥٩ م «ونطلب الله بوجود مولانا أمير المؤمنين أن يكمل محاسن مغربنا بمثل هذه المطبعة ويجعل في ميزان حسناته هذه المنفعة». نفهم من هذه الجملة كنص تاريخي في هذا المجال ، أن المغرب كان يتطلع لهذا الاختراع العلمي. على أن المطبعة الحجرية دخلت إلى المغرب على يد قاضي تارودانت سنة ١٨٦٦ م ، بعد أن اشتراها من مصر.

(٢) بعد المطبعة الحجرية يتحدث عن المطبعة الميكانيكية الحديثة ، التي أخذت محلها شيئا فشيئا.

١٩٢

تلك الخدمة ، والخدمة هناك كثيرون هذا عملهم بسبب تعدد المكينات ، ثم صعدنا طبقة أخرى فوجدنا فيها نواعير تدور ، كل ناعورتين تدوران على رابط بينهما كالحائط ، يدور عليهما منشور وتدور بدورانه صفحات الكاغد المكتوبة ، بل المطبوعة. قيل إن بدورانها يصفيها الهواء فيتم يبسها ، ولعلها أن بمرور الصفحة بين الناعورة والحديد ترتدع الحروف التي تكون بارزة في الكاغد ، وتنبسط ، ثم يصيبها الهواء ، وبمرورها يقبضها خدمة آخرون ، فيدفعونها / ١٤٠ / لنسوة فيشتغلن بطيها ويضعنها بعضها فوق بعض على حسب تواليها وتتابعها. وهناك نسوة أخر يفصلن الورقات ، ويضعن كل ورقة فوق أخرى على حسب تتابعها أيضا ، ثم صعدنا طبقة أخرى فوجدنا فيها نسوة يخدمن الكتب بالمكينات ، بحيث يجعلن حروف الكتاب أسفل حديدة ويرسلها عليه فتمر عليه بسرعة ، فتأخذ منه قدرا ، وتترك ذلك الحرف في غاية الاستواء.

وفي الطبقة التي فوق هذه المسفرون (١) ، والكتب موضوعة أمامهم مصطفة من الأرض إلى السقف ، ممتدة مع طول هذه الطبقة. فمنهم من هو مشتغل بوضع التذهيب في ألواح الأسفار ، ومنهم من هو مشتغل بخياطة الكتب ، وسئل عن عدد الخدمة الذين بهذه الدار ، فقيل ثنتا مائة خدام ، بين رجال ونساء ، وهذه الكتب تفرق في سائر الأقاليم ، ويطبع في هذه الدار بجميع الأقلام الموجودة في الوقت عدا القلم العربي (٢) ، فلم نر مطبعته هناك ، وإن كانت موجودة هناك فلم نصادف وقت الطبع بها ، ولعله لقلة طالبها.

__________________

(١) في الأصل السفارة.

(٢) انتقلت الطباعة إلى مصر مع الحملة الفرنسية سنة ١٧٩٨ م ، ولما انتهت الحملة أعيدت أدوات الطبع وآلاتها إلى فرنسا ، حتى أسس محمد علي باشا مطبعة بولاق عام ١٨٢٠ م وغدت المطبعة الرسمية للحكومة المصرية وتضم ٤٦٩ حرفا. (الطباعة الحديثة ، علي حسين عاصم ، ١٩٥٦ ، ١ : ١٢).

١٩٣

دار الكتب المطبوعة

وفي يوم الأربعاء (١) توجهنا للدار التي / ١٤١ / فيها الكتب المطبوعة (٢) فوجدناها في الكبر مثل دار المطبعة أو تقرب منها ، وهي مع عظمتها وكبرها مقبية بالزاج ، لا تدخلها غبراء ، وهي في غاية النظافة والمحافظة. وفيها طبقات بعضها فوق بعض ، وسقف هذه الطبقات أشراك من حديد لنفاذ الهواء فيها من الأسفل إلى الأعلى. ويرتقون للطبقة العليا في معارج عديدة هناك من حديد ، وهناك أناس قائمون بأمر كتبهم ، لأننا وجدنا في بعض الطبقات أناسا مشتغلين بالمطالعة (٣) ، فمتى احتاج أحدهم كتابا يأخذه من القيمين هناك ، فيقتضي منه غرضه هناك ، ولا يخرجه بل عند خروجه يرده له. والقائمون بالكتب الذين في الطبقة العليا عندهم هناك ظرف كالكوب ، يمسك بقنبة طويلة من يده ويرسله إلى أسفل ، بين مخازين الكتب ، فتراه كأنه نازل في بئر ، فيضع الذين كانوا يطالعون فيه الكتب التي كانت عندهم في وقت واحد ويخرجون ، ثم يصعد ذلك الكوب إلى الطبقة التي يريد القيم وقوفه بها ، فيقف فيرد الكتب التي فيه لمواضعها ، وذكر لنا أن هذه الدار عندها (٤) من الكتب العربية القديمة ألفا كتاب ، وإنما أوتي لنا منها بمصحف / ١٤٢ / من القرءان العظيم ،

__________________

(١) ٢١ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٢) يقصد المكتبة الوطنية Nationale Bibliothequeكانت تسمى مكتبة الملك أو الملوكية ثم الإمبراطورية ، وهي من أغنى المكتبات بالعالم إذ تحتوي على كثير من الأسفار في شتى الفنون والمواضيع ، في وقت الثورة لما أزيلت من فرنسا المآثر الدينية ضم إلى هذه المكتبة الكثير من الكتب الدينية ، بالإضافة إلى الإهداء والشراء وكل ما يطبع بالمطابع المحلية ، وتنقسم الكتب الموجودة بها إلى أقسام.

Grand EncycloPedie, N. 6. P. 47.

(٣) قاعة المطالعة بها حوالي ١٠٠٠ مقعد مفتوحة للعموم (نفس المرجع).

(٤) أدخل إلى هاته الخزانة سنة ١٧٣٩ م قسم اللغات الشرقية ، بها عشرات الآلاف من الكتب المخطوطة ، منها المخطوطات العربية. (نفس المرجع السابق).

١٩٤

بقلم كوفي (١) ، وطوله نحو ذراع وربع ، وعرضه يقرب من ذراع ، وآخر يقرب منه كذلك ، ثم أوتي لنا بمصحف بخط من خطوط الجزيرة ، وبآخر صغير جدا ، عرضه نحو أصبعين ، وطوله كطول السبابة ، بحروف دقيقة متداخلة ، ووجدنا هناك سفرا كبيرا ، مثل المصحف الأول ، في ترجمته هذه المقالة الأولى من كتاب أرسططاليس (٢) ، وهو سفر ضخم ، ثم سفر الإحاطة في أخبار غرناطة (٣) بقلم مشرقي ، وطلبنا منهم أن يدفعوا لنا تقييدا بما عندهم من كتب العربية (٤) فوعدوا به ، ولم يكن وفاء بهذا الوعد ، وذكر أن بتلك الدار من كتبهم مليونين اثنين من عدد الكتب الخاصة بهم.

بعض صفات دار الفرجات

وفي بعض الليالي السالفة لنا في باريز كان كبراء الدولة يتخذون لنا المواضع

__________________

(١) قد يكون مصحف قرآن بخط الخليفة هارون الرشيد ، الذي ما زال بها ضمن المخطوطات العربية.

(نفس المرجع السابق).

(٢) كتاب أرسطوطاليس( Aristote ٣٢٢ ـ ٣٨٤ ق. م) فيلسوف يوناني تأثرت بوادر التفكير العربي بتآليفه التي نقلها إلى العربية النقلة السريان ، مؤلفاته كثيرة ومتنوعة ، وله مخطوطة في الخطابة السوفسطائية.

(٣) لذي الوزارتين لسان الدين بن الخطيب ، وهو عبارة عن موسوعة شاملة بكل ما يتعلق بالمدنية الأندلسية. ألّف سنة ٧٧٢ ه‍ ، وتوجد نسخ الإحاطة بجامع الزيتونة بتونس ، ومكبتة مدريد والإسكوريال ، وبدار الكتب المصرية ، وبالخزانة الملكية بالرباط ، وخزانة القرويين بفاس ، والمتحف البريطاني ، ومكتبة لين بهولندا ، والخزانة الوطنية بباريس. (حقق نصه محمد عبد الله عنان ، القاهرة ، ١٩٧٣).

(٤) من المخطوطات العربية كذلك (تاريخ الطبري ، ومقامات الحريري بالصور ، ووصية أبي حنيفة ...).

(نفس المرجع السابق).

١٩٥

الخاصة ، المنتخبة بديار الفرجات عندهم ، المسماة عندهم بديار الطياطرو (١). ويرون ذلك من وجوه المبرات بنا والإكرام لنا ، فكنا نتوجه إليها مساعدة ، وهي ذات أشكال بديعة مشتملة على قبب رفيعة ، مرفوعة على سوار من رخام ، في وسطها ثريات تشغل بالغاز مع لانبات منه (٢) / ١٤٣ / في أماكن محيطة بداخل الدار ، ومن العجب أنهم إذا أرادوا إطفاء الثريات وغيرها من جميع الضوء الذي في الدار ، فيدار لولب واحد فتنطفئ كلها دفعة واحدة ، وأحسن ما يبين هنا من هذه الفرجات أن عند أرباب بعض هذه (٣) الديار حيلا معلمة ، تعلم اصطلاح نقر طنبور العسكر وموسيقاه ، وعددها ثمانية ، تخرج إلى وسط الدار فمهما تكلم الطنابري الذي هناك مع صاحب الموسيقا بشيء تجيبه العسكر من الآدمي ، فتراهما في بعض الأوقات تقبل واحدا بعد واحد مع تتابع أيديها وأرجلها في الخطى ، وحيث يتغير نقر الطنبور والموسيقا تراها تصطف وتقبل في صف واحد ، وتارة يدور بعضها على بعض كما يفعله العسكر في بعض الأوقات ، وتارة ترفع أيديها وتقف على أرجلها ، وتقبل في صف واحد ، ثم ترجع إلى مرابطها عندما يؤذن لها بذلك. وفي بعض الأوقات خرج منها فرس واحد مسرج وتبعه صبي صغير السن نحيف الجسم لا أظن سنه يبلغ ثمانية أعوام ، وهو عاري الجسد عدا عورته مستورة فعمد إلى ذلك الفرس وقفز قفزة واحدة ، فإذا به فوق ظهره ، فصار الفرس يعدو به دائرا مع محيط الدار / ١٤٤ / حتى دار به نحو ثلاث مرات ، ثم قفز فوق ظهره فإذا به واقف ، فصار ينقلب فوقه ، تارة أمامه ، وتارة وراءه ، وتارة تراه يرقص فوق الفرس ، وتارة تراه في حال قيامه مائلا إلى جهة

__________________

(١) يقصد السرك أو الملعب البهلواني داخل مسرح مدرج AmPhitheatre يعرف بالروماني.

(٢) انظر شرحها في الملحق رقم : ٤.

(٣) ظهر السرك الحديث لأول مرة بانجلترا ، في شكل متنقل ، داخل إطار مؤسسة خاصة بالألعاب البهلوانية وترويض بعض الحيوانات المتوحشة والأليفة. شيد السيد Astler PhiliPفي لندن أول مسرح مدرج AmPhithetre سنة ١٧٨٠ م. وانتقل هذا الفن بسرعة إلى فرنسا ، وشيد بها سرك Elysees ChamPs وسرك نابليون. وبعد حرب ١٨٧٠ م تزايد عددهم داخل مدينة باريس بعد النجاح الكبير الذي عرفته هذه الدور.

G. Dictionnaire Ency. Larousse, Paris

١٩٦

البراح ، فيكون بين قدميه وظهر الفرس زاوية منفرجة ، وتارة ينصبون في وسط هذه الدار عصا قائمة ويربطون في رأسها أطراف ثياب طويلة كالعمائم عندنا ، ويمدونها من العصا إلى محيط الدار ، وعددها أربعة ، كل عمامة في ربع ، فيصير الفرس يجري تحتها ، وهذا الولد يقفز عليها عند وصوله إليها ، وهو مع ذلك بين كل عمامتين إما ينقلب أماما أو وراء على ظهر الفرس ، أو يرقص مع شدة قرب ما بين العمامتين ، وكأنه يفعل ذلك على شيء لا يتحرك ، وتارة يقف أناس آخرون بين هذه العمائم ، ويمسك كل واحد منهم قضيبا مستديرا ، قطر دائرته نحو ذراعين ونصف ، واتخذت ورقة كبيرة من كاغد رقيق أرق من العنكبوت. / ١٤٥ / ووضع هذا المستدير عليها ومسكت عليه ، وجعل في هذه الدوائر ، في كل واحدة منها يد خارجة عنها من عود أو حديد ، فيقف أربعة رجال بين تلك العمائم ، كل واحد ماسك لتلك الدائرة المجلدة بذلك الكاغد ، فيأخذ الفرس في جريه مع محيط الدار والصبي واقف على ظهره ، فإذا عارضته العمامة قفز فوقها ، وإذا لقيته تلك الدائرة المجلدة قفز وخرقها برأسه ، ويتمزق ذلك الكاغد ، ويخرج منه منقلبا ، ويأتي واقفا على ظهر الفرس ، فتلقاه العمامة الثانية فيقفز فوقها ، ثم الدائرة المجلدة ثانيا فيخرقها كما ذكر ، ويصير واقفا على ظهر الفرس ، وهكذا حتى يخرق الدوائر الأربع ، ويقفز على العمائم الأربع في دورة واحدة ، وتراه في هذه الحالة كالبرطال ، لا يكاد يثبت على ظهر الفرس ، لأنه كلما استوى عليه تعرض له العمامة أو الدائرة. وهذا يكاد أن يستغربه السامع لكني تأملت في أحوال الماسكين للعمائم مع تلك الدوائر ، فرأيتهم يرتكبون ما يسهل / ١٤٦ / العمل على ذلك الصبي ، لأنه إذا وصل إلى صاحب العمامة يرخيها يسيرا من يده حتى تقرب من سرج الفرس ، فيسهل عليه القفز عليها ، وكذلك صاحب الدائرة المجلدة بالكاغد ، إذا وصل إليها ترى الماسك لها كأنه يضرب رأس ذلك الصبي بالكاغد المجلد بها تلك الدائرة ، وفي وسطه تمزيق يسير ، وذلك كله تسهيل لخرق الصبي ذلك الكاغد والخروج منه بسرعة ، عند الوصول إليه ، وليس في ذلك كبير مزية ، بل ذلك كله من قبيل الرياضات والممارسة ، والنشأة (١) في ذلك من حال

__________________

(١) في الأصل خطأ ، النشئة.

١٩٧

الصغر حيث يعتاد ذلك ويصير ذلك لمتعاطيه طبيعة وعادة. نعم ، لو كان كل فرد منهم كبيرا وصغيرا يفعلون ذلك لكانت لهم به مزية وخصوصية ، ولكنه في أفراد نادرة قليلة جدا. كما يوجد عندنا في بعض الأفراد الذين يركبون الخيل ، فإنهم يقفون عليها ويلتفتون إلى الوراء يخرجون البارود ، ومنهم من يدور على بطن الفرس ، ومنهم من يرفع / ١٤٧ / شيئا من الأرض توضع له ، كالعمامة توضع له على الأرض ممتدة على طولها ، فيأخذها من طرفيها معا إلى غير ذلك من الأعمال التي يتعجب منها. ولا يأخذون عن ذلك أجرة ، ولا لهم عنه وظيف (١) ، بخلاف هؤلاء فإن لهم فيه تجارة كبيرة وصائرا عظيما. ولو كان الفرسان المسلمين (٢) جعل عن ذلك لشوهد منهم العجب الكبير ، ولكن الشجاعة الغريزية هي التي تحمل بعضهم على استعمال ذلك. وهذه الرياضة الموصلة إلى هذه الخفة علق بذهني أن ابن خلدون تكلم عليها في المقدمة ، وأنها من قبيل المدارك التي يدركها الإنسان بالتدريج والرياضة (٣) ، حتى إن بعض أصحاب الرياضة من ذلك يمشون على الحبل الرقيق المنصوب في الهواء ، ولا يخشى سقوطا ، كأنه يمشي على الأرض ، وتنفى عنه مادة وهم السقوط ، فلا يبقى بخياله شيء من توهّم السقوط ، ذكر ذلك ـ والله أعلم ـ في الكلام على الوهم وأثره في الإنسان ، فراجعه إن شئت (٤) ، ومنهم رجال يقف بعضهم فوق بعض ، وينقلبون إلى وراء وأمام ، كما يفعله بقربنا أولاد سيدي / ١٤٨ / أحمد وموسى

__________________

(١) يركز الجعيدي على أهمية الاختصاص والاحتراف بدل الهواية.

(٢) في الهامش طرة من إنشاء نجله عبد القادر الجعيدي «قد حضر بمكة المشرفة أيام الحج عام ١١٩٤ ه‍ من فعل ذلك بفناء دار الأمير الشريف عبد الله بمرأى من الوفود وجعل يمشي تارة على الخيل وتارة يرقص فوقه».

(٣) حسب نظر المؤرخ ابن خلدون أن المعارف النفسانية مصدرها الوحي الذي يلقى في صنف خاص من البشر وهم الأنبياء والرسل ، وهناك معارف نفسانية كذلك مصدرها الرياضة والاكتساب لا الوحي ، أي معارف مكتسبة.(إبستيمولوجيا المعقول واللامعقول ، محمد عابد الجابري ، أعمال ندوة ابن خلدون ، ١٩٧٩ : ٧٣).

(٤) «... في أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو الرياضة ...». المقدمة ، الفصل ٦ الباب ١.

١٩٨

 ـ نفع الله به ـ وأما ما يفعله بعمل السيمياء المسماة عندنا بخنقاطرة (١) فأمرها مسلم مغرز مشهور (٢).

رأينا من ذلك في بعض الديار ما سأذكره ، وذلك أنهم يرسلون سترا بأحد أرباع الدار ، يصير حاجزا بين جميع من في الدار الذين أتوا للفرجة ، وبين محل اللعب ، حتى يتناولوا العمل الذي يريدون ظهوره ، فإذا فرغوا من تهيئه يرفعون الستر ، فترى ذلك المحل المتخذ للعب قد انبسط وامتد غاية ، حتى ترى منه دائرة الأفق كأن بها بحرا فيه سفن كبيرة ، والفلك محيط بالبحر ، وفيه سحب حمر وغيرها ، وتارة حين يرفعون الستر ترى جبالا شاهقة ، وتارة ترى أشجارا عظيمة كأشجار الغابة ، فيخرج عند ذلك من كهوف الجبال رجال لابسون لباس العسكر ، لابسون السلاح ويأتون معه مصطفين صفا بعد صف ، وكل فرقة منهم تباين الأخرى في الزي واللباس. وهم يحكون بذلك محاربة أهل الهند لهم ، وليس هذا العسكر من قبيل السيميا / ١٤٩ / بل ذلك حقيقة من تمام فرجتهم وتارة حين يرفع الستر تجد بابور النار حقيقة لا سيميا مارا ، وصاحب الصفارة يصيح بها ، وهو يجر عربات وكل ذلك معد عندهم بهذه الدار بقصد الفرجة ، وعند مرور العربات يخرج الناس من كهوف تلك الجبال ويأتون إلى العربة الأخيرة ، يفصلونها من العربية التي تجرها ، فيسافر البابور وتبقى تلك العربة بأيديهم ، فيأخذون منها ما شاءوا ، وتارة يكون بها أناس كالمسافرين ، فيخرجون إليهم منها فيخرجون فيهم كوابيس البارود خروجا حقيقيا ، لكنه لا يصيب

__________________

(١) انظر شرحه في الملحق رقم : ٤.

(٢) في الهامش طرة من إنشاء نجله عبد القادر الجعيدي «هذا العمل ليس من أعمال الخنقطرة في شيء ، وإنما هو تصاوير في كاغد يتحرك بآلة كهربائية». اعتقد الجعيدي أن ذلك حقيقة ، والصفار تحدث في رحلته السفارية عن المسرح والأوبرا ، من الصفحة ٦٥ إلى ٨٦ ، وسرد ما يعرض على الخشبة من أنواع القصص وتعجب لملائمة الأزياء للأدوار والأزمنة ، وملائمة الصور للأماكن التي دارت فيها الأحداث ، وذكر أنه شاهد تمثيلية حول حياة القسيسين الخادعة ، وكيف أنهم يتظاهرون بالصلاح والزهد وهم يتعاطون في الخفاء لشتى أنواع المنكرات ، فرأى فيها تأديبا للنفوس وتهذيبا للأخلاق وراحة للقلب والبدن.

١٩٩

الذين خرجوا من الكهوف ، لكنهم عند خروج البارود تراهم يتساقطون على الأرض ، وكأنهم أصابهم البارود وماتوا به ، فلا ترى أحدا منهم يتحرك ، فعند ذلك يرسلون ذلك الستر ، ويشرعون في أعمال أخر لا حاجة إلى ذكرها ، ومع هذا حين لعبهم يكون أصحاب الموسيقا مشتغلين بها ، وعددهم أظنه يزيد على المائة ، ولم أدر هل كل واحد منهم بيده آلة (١) / ١٥٠ / مغايرة لغيرها ، أو تتعدد آلة الطرب عندهم ، وهذه الديار متعددة في باريز ، في كل حومة منها عدد كثير ومبدأ الفرجة عندهم من الغروب وكان عنهم في الوقت الذي كنا فيه يزيد على الساعة الثامنة بخمس دقائق (٢) ، وهي الغاية عندهم ، وتمتد الفرجة إلى ثلاث سوائع أو أربع أو أقل.

صفة طرق باريس وأحوال الخدمة

وأما طرق هذه المدينة فيبيت الضوء مشعولا في فناراتها المنصوبة في الطرق إلى الشروق. وأما الخدمة أصحاب الأكداش الذين يحملون السلع من البابورات إلى المدينة ، وينقلون السلع منها إلى البابورات ، فلا تفتر خدمتهم ليلا ولا نهارا ، وإنما تقل الخدمة قرب الفجر لا غير. وأما في وسط النهار ومنتصف الليل ، فتراهم بين غاد ورائح ، كأن الحرب مشتعلة بينهم وكل يجري حسب جهده وطاقته ، وإذا نظرت إلى الطرق من الأعلى ترى كأن المحلة دخلت البلاد ، وبعضهم يجري على بعض ، وعند

__________________

(١) ابتداء من الصفحة / ١٥٠ / نجد صفحات مخطوط الرحلة مسطرة بخطوط أفقية ، وازداد عدد الأسطر من ١٢ إلى ١٦ في الصفحة الواحدة.

(٢) في الهامش طرة من إنشاء نجله عبد القادر الجعيدي (وذلك لأن عرض باريس ٤٩ والميل المعدل ٢٣ فيكون نصب القوس إذن ٨٥ فيزيدون تعديل الغروب في ذلك. أن تكون الشمس وقتئذ في أول السرطان والشهر العجمي يونيو في اصطلاحنا وليس اصطلاحهم ٢١ منه والله أعلم).

حسب التوهيمات الفلكية تقسم الأرض إلى ٣٦٠ درجة ، والشمس في حركتها الظاهرية تقطع هذه المسافة في ٢٤ ساعة (١ ساعة ـ ١٥ درجة) ، وعدد درجات الطول التي بينهما ـ ٥ ، ٨ أدرج* ٤ ـ ٣٤ دقيقة ، وباريس شرقية من سلا والرباط فيتقدم الوقت فيها بمقدار ذلك.

٢٠٠