إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

معها بشكل سطحي نظرا لضعف خرته في هذا الميدان ، وكذلك الحال بالنسبة لمتاحف العلوم التقنية.

المعارض الصناعية الدولية

قد كانت ظاهرة حضارية اجتاحت العالم الصناعي ، بسبب جو التنافس العلمي الذي كان قائما بينهم ، وقد برزت أنجلترا في هذا الميدان بإقامتها أول معرض عمومي (دولي) اشتركت فيه معظم الأمم ، وأنشأوا لهذا الغرض الدار الرحيبة المعروفة بقصر (١) البلورCrystal Palace منذ سنة ١٨٥١ م ، حيث يتلاقى فيه أهل الأبحاث والأشغال والملاهي ، هذا المعرض الفريد من نوعه خصه الجعيدي بدراسة مطولة ، تناول خلالها جل الأشياء التي أثارت انتباهه واستغرابه ، كألعاب السرك والبهلوان ، والمحاولات الأولى للغطس تحت الماء بالاستعانة بأجهزة الهواء المضغوط المتصل بالخرطوم على سطح الأرض ، وأجهزة اللعب الكهربائية ، وقاعة عرض الصور الفوتوغرافية بواسطة آلات علمية كهربائية كبيرة ، والتي سبقت ظهور السينما الحقيقية (٢) على يد الأخوان Lumiere سنة ١٨٩٥ م. ومن حسن الصدف أنهم تعرفوا عليهم وهم صغار صحبة والدهم السيدAntoine Lumiere عند زيارتهم لورش عمله الخاص بتطوير فن التصوير الشمسي (الفوتوغرافيا) بجبل MontPlaisir بضواحي ليون الفرنسية وغير ذلك. وبمعرض العلاج والإنقاذ ببروكسيل (٣) وصف لنا في رحلته بعض الوسائل المستحدثة في هذا الميدان ، نظرا لتضخم المدن ، وتطور وسائل النقل ، وذلك بهدف مواجهة الحوادث والنكبات ، مثل عمل رجال

__________________

(١) رحلة الجعيدي : ٢٩٢ إلى ٢٩٥.

(٢)

L\'EncycloPe ? die du cine ? ma, Roger Boussinot Bordas I, P. 37.

 (٣) ب ص ٢٦٢ من الرحلةL ص d ExPosition ص souvetage de et hygiene

٦١

المطافئ (١) ومراكب الإنقاذ وجهاز التلغراف وغير ذلك. أما بمعرض العلوم بمدينة فرنسي الإيطالية فقد اهتم بأجهزة الرصد الفلكية كالإسطرلاب ، وأخضع نفسه لتجربة علمية تتلخص في تحويل الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهربائية. (مثل دينامو الدراجة العادية) كما أطلعه الأطباء على علم تشريح الأعضاء والأنسجة التي تتكون منها الكائنات الحية (الإنسان والحيوان والنبات) وعلى مراحل حمل المرأة والهيكل العظمي لجسم الإنسان وغير ذلك.

اهتمامات الرحالة

الاهتمامات الخاصة التي أثارت فضول الجعيدي العلمي كثيرة وفي شتى الميادين ، أخص بالذكر منها ، أنه لاحظ وجود الثلج في أيام فصل الصيف ، فسأل أحد ضباط الجيش الفرنسي العاملين بالجزائر والذي كان يجلس بجواره في إحدى الحفلات الرسمية بباريس ، عن سبب عدم ذوبان الثلج رغم بقائه في الهواء مثل ما يحدث في بعض بلاد المغرب ، فأخبره أنهم يخزنونه في المطامير ويغطونه بالتبن كما يفعل المغاربة عند خزن الزرع ، وعند الاحتياج يأخذون منه القدر المحتاج بعد غسله ، غير أن الجعيدي لم يكتفي بما سمع ، ولم يقتنع حتى اكتشف الحقيقة العلمية لطريقة صناعة الثلج بعد تزايد الطلب عليه بسبب ضرورة نقل وحفظ المواد الغذائية وغير

__________________

(١) بقيت مكافحة الحرائق لزمن غير بعيد مبادرة شعبية لا تملك من الوسائل سوى دلو الماء ، ولم تبدأ الاستعاة بالمضخات المائية إلا سنة ١٦٩٩ م. ثم تأسست فرق حرس المضخات ، وكانت تضم نخبة من الرجال ، ثم استبدلت بفوج من الإطفائيين العسكريين ، وفي ق ١٩ م بدأت تنتشر المؤسسات الإطفائية المنظمة بأوربا. (الموسوعة العربية).

٦٢

ذلك. وذلك أثناء عودته على متن باخرة إيطالية إلى طنجة حيث طلب من قائد الباخرة أن يصاحبه لمشاهدة آلة يدوية لصنع الثلج في مدة قصيرة ، فوصف تجربته ورسم شكل الآلة الخارجي. كما تعرف على قبة الغاز التي تطير بالناس في الجو قصد معرفة حالة الطقس ببلادهم ولأسباب عسكرية كذلك. وتتبع معاينة الأساليب التقنية المستعملة في المطبعة الوطنية الفرنسية (١) لطبع الكتب وكيفية خياطتها وتسفيرها ، وتأسف لعدم اشتغال المطبعة العربية هناك بسبب قلة الطلب عليها.

وخص بالبحث المستفيض ببروكسيل آلية تغويز الفحم الحجري الذي يستعمل في الإنارة والطهي في المدن الكبرى ، ويسمى عادة غاز الاستصباح كطاقة رخيصة ، بعد حرق الفحم الحجري في أفران كبيرة ، لإزالة غاز ثاني أكسيد الكبريت وهو غاز سام ذو رائحة كريهة غير مرغوب في وجوده مع الغازات الهيدروكاربونية ، التي توزع بواسطة أنانيب باطنية على الدور والحوانيت التي تتوفر على (٢) عدادات تسجل مقدار استهلاك كل دار أو حانوت خلال الشهر.

اكتفي بهذا القدر لأن رحلته في الحقيقة علمية أكثر منها أدبية.

الجانب الفني إلى جانب اهتمامات الجعيدي بالفن الهندسي والمعماري ، كانت له اهتمامات بالفن المسرحي والموسيقى ، كباقي الرحال العرب إلى أوربا خلال القرن ١٩ م.

__________________

(١) «.. ويطبع في هذه الدار بجميع الأقلام الموجودة في الوقت عدا القلم العربي ، فلم نر مطبعة هناك ، وإن كانت موجودة هناك فلم يصادف وقت الطبع بها ، ولعله لقلة طالبها ..». رحلة الجعيدي :

(٢) رسمت شكل هذه العدادات بطرة الصفحة من الرحلة ، حسب ما ذكره الجعيدي في وصفه لها تقريبا للفهم.

٦٣

كان تأثير المسرح عليهم تأثيرا واضحا كفن قائم بذاته. باعتباره الأداة التصويرية الهادئة في التعبير عن مشكلات المجتمع الأوربي. ومن الطريف أن نسمع رأي الرحالة الصفار في المسرح الذي زاره لأول مرة في باريس ، وتنبه إلى دوره في التثقيف والترفيه ، يقول : «(١) .. من محال فرجاتهم ، المحال المسماة بالتياترو أو الكومدية وتسمى الأوبرا وهو محل يلعب فيه بمستغربات اللعب ومضحكاته وحكاية ما وقع من حرب أو نادرة أو نحو ذلك ، فهو جد في صورة هزل ، لأنه يكون في اللعب اعتبار أو تأديب أو أعجوبة أو قضية مخصوصة ويكتسبون من ذلك علوما جمة ..» ، وهذا الرأي يقارب ما كتبه الطهطاوي (٢) الذي يراه جدا في صورة هزل ، واتخاذ الجد صورة الهزل إنما مرده استنباط العبرة منها. أما الجعيدي فقد تعرف هو الآخر على المسرح بدار الأوبرا بباريس وشاهد به بعض المسرحيات واعتبر مشاهده من الأمور الحقيقية البعيدة عن الخدعة. «.. أما ما يفعله بعمل السيمياء المسماة عندنا «بخنقاطرة» فأمرها مسلم مفرز مشهور ، رأينا من ذلك في بعض الديار ما سأذكره ، وذلك أنهم يرسلون سترا بأحد أرباع الدار ، يصير حاجزا بين جميع من في الدار الذين أتوا للفرجة ، وبين محل اللعب ، حتى يتناولوا العمل الذي يريدون ظهوره ، فإذا فرغوا من تهيئه يرفعون الستر فترى ذلك المحل المتخذ للعب قد انبسط وامتد غاية .... وحين

__________________

(١) «الرحلة إلى باريس» ، ص ٦٢ ، مخطوط ب خ. ح. بالرياط ، رقم ١١٣.

(٢) رفاعة رافع الطهطاوي الذي عاد من فرنسا ليبراليا وكان يدعو إلى الديمقراطية على طريقة المثاليين في رحلته «تخليص الإبريز في تلخيص باريس» لهذا لم يكن يخفى عليه قيمة المسرح في الحياة الديمقراطية ، راجع كتاب «العرب وفن المسرح» ، د. أحمد شمس الدين الحجاجي ، القاهرة ، ١٩٧٥ م.

٦٤

لعبهم يكون أصحاب الموسيقا مشتغلين بها ، وعددهم أظنه يزيد على المائة ...» ، كما وصف لنا الجعيدي المسرح الملكي بلندن من الناحية الهندسية ، وتأسف لأنه لم يسعفه الحظ من حضور إحدى عروضه ، وتطرق لأهمية المداخل المالية التي تجنيها التجار من كرائهم للمسرح أو حجزهم لعدد من مقاعده. وبإيطاليا شاهد المغاربة بعض العروض المسرحية وخاصة المتعلقة بفن الرقص المعروف «البالي» لم يذكرها في رحلته بل أشارت إليها الصحف الإيطالية ضمن أنشطة السفارة ، وهي التي تولدت عليها المستملحة الفكاهية التي أشرت إليها في الجانب الفكاهي من هذه الدراسة.

أما عن الجانب الموسيقي في الرحلة ، فإننا نجد الجعيدي يشير في كل مرة إلى وجود الأجواق الموسيقية عند كل الاستقبالات الرسمية ، فيصفها ويحاول رصد أوجه الاختلاف في ما بين هذه الأجواق من حيث اللباس أو الآلات التي يعزفون بها وأحيانا حتى النغمة الموسيقية. بل يطلعنا في رحلته أنهم خلال إقامتهم بروما كانت بعض الفرق الموسيقية تزورهم بمقر إقامتهم قصد الترحيب والترفيه عليهم «... جماعة من أصحاب الطرب بنحو أربعة عشر رجلا بأيديهم كثرات وأعواد مثل الآلة التي تستعمل في الغرب .. وطلع معهم جماعة من النسوة اللواتي كن جالسات في براح الدار ... وصاروا يخدمون بتلك الآلات بنغم مستعذبة تشبه النغم التونسية ...» ، كما ركز على الجانب التطبيقي لهذه الأجواق الحديثة باعتبارها تعزف قطعا موسيقية مكتوبة على الأوراق ويسيرها بما يعرف بالمايسترو» ... قدمت جماعة كبيرة من أصحاب الطرب أيضا للدار التي نحن نازلون بها ... وهم ممن يخدمون بالطرنبطات على أشكال من الهيئة ومن الكبر والصغر وبالمزامير وغيرها ... يخدمون واقفين يصنعون دائرة منهم ، ... كحلقة المداح ، وكل واحد ينصب قدامه ثلاثة أعمدة تجتمع رؤوسها قدامه ، فينصب على رأسها أعوادا رقاقا مربعة الشكل ليضع عليها الأوراق التي تبين له فيها خدمة طبائع الموسيقا التي يخدمون بها ، ... فيتقدم واحد منهم ويقف في وسط الحلقة ، وينصب ثلاثة أعمدة كذلك قدامه ، ويوقد له الضوء ويأخذ بيده قضيبا ويشتعل ...».

نستنتج اهتمام الجعيدي بفن الموسيقى من خلال المؤلفات المخطوطة التي تركها لنا

٦٥

المؤرخ أحمد الناصري والمسجلة بكتابه (١) ، «الاستقصا» ، أنه ترك رسالتين في فن الموسيقى. إحداهما خاطب بها صديقه العلامة الفلكي ، إدريس الجعيدي السلاوي ، والأخرى قيدها في الموضوع نفسه ، وبحث فيهما في النغمات العربية والمقابلة بينها وبين الموسيقى العجمية.

الجانب العمراني والمنشآت العمومية والاجتماعية في الرحلة

لرحالة الجعيدي ميل كبير إلى فن المعمار كواجهة حضارية نظرا لتعوده على مشاهدة روائع العمران في المغرب من مساجد ومدارس وقصور وسواق وأقواس وأضرحة وغير ذلك.

بالإضافة إلى معرفته الجيدة لعلم الهندسة والحساب واطلاعه على كتاب أقليدس الرياضي اليوناني الشهير في علم الرياضيات والهندسة ، لهذا أعار هذا الفن باهتمام كبير في رحلته هاته. فكان يقف أمام العمران الأوربي (٢) بإعجاب يحصي الأعمدة والسواري والأبواب وأنواع الأثاث والحمامات ويقيس الطول والعرض ويذكر أشكال الزخرفة والتمويه وسعة الأماكن ويستعمل مصطلحات الحرفيين كالتخريم والقريسة والتشجير والدرابيز والسبنية والتوريق والفورمة والجوائز والبارات وغير ذلك بصفته العارف المتمكن بخبايا هذا الفن.

فمعرفته بالهندسة المعمارية المغربية التقليدية ، جعلته يلاحظ التجديد الحاصل في الهندسة المدنية في أوربا ، التي أخذت بأسباب العلم والتغيير باستحداث كل ما يجعلها سهلة ومنظمة وممتعة. وبالاهتمام بها هو قديم والعمل على صيانته والحفاظ عليه لحمايته من الضياع والاضمحلال.

__________________

(١) «الاستقصا» ، الجزء الأول ، ص ٣٢ ، رقم ٢١ من جدول مؤلفاته.

(٢) معظم الرحالة المغاربة لأوربا خلال القرنين ١٨ و١٩ ، اهتموا بهذا التطور الحضاري والعمراني الذي كانت تشهده المدن الأوربية.

٦٦

العمران

المدن الحديثة (١) التي اكتشفها الجعيدي لأول مرة في حياته ، لا تمت بصلة إلى المدن العتيقة التي تركها في المغرب ، فهي مدن ذات شوارع فسيحة ومبلطة وسطها خاص لمرور العربات والأكداش والجانب الأيمن والأيسر خاص بالراجلين ، ومع امتدادها تنتشر أشجار مخضرة مصطفة بقصد استحسان المنظر ، وبين كل شجرتين قطعة نحاسية قائمة برأسها فنار كبير يوقد ليلا «... لاشتغال أهل البلد بأمور دنياهم بالليل بكامله كأشغالهم بها بالنهار ...». ولكثرة النشاط التجاري والاقتصادي ونقل السلع.

«... كأن الحرب مشتعلة بينهم وكل يجري حسب جهده وطاقته ... كأن المحلة دخلت البلاد ...» ، وعند الفجر تقريبا تنطلق عملية تنظيف وكنس الشوارع من روث الخيل والغبرة بالماء الذي يجري بسرعة ، وكذلك الحال عند نزول المطر ، لكون الطرق محدبة الشكل تنتهي إلى مجاري المياه ، أما الأزبال المنزلية فلها أماكنها المعينة (٢) وهي مدن ذات بنايات عالية من أربع إلى سبع طبقات ، نوافذها وشرفاتها مفتوحة نحو الخارج بدل الداخل كما كان سائدا في البناء المغربي ، وعند ملتقى الطرق الأربعة توجد النافورات ذات المياه المتدفقة وبعض التماثيل المستعذبة ، وبأسفل العمارات توجد المقاهي والمكاتب والحوانيت التي تعرض التحف البديعة ،

__________________

(١) مثلا «... باريس ذات الحسن الفريد ، الجامعة لما تشتهيه النفس في الأرض على وجه ما تحب وتريد ، إذ هي جنة الدنيا بلا منازع ومأوى الحكماء والعقلاء والنبلاء بلا معارض ...». رحلة الجعيدي :.

(٢) «... قيل لي ذات يوم الذباب لا يوجد في مدينة باريز ، فقلت له وهل يتركون له شيئا من القاذورات التي ينزل عليها ... عدا يوما واحدا رأيت فيه ذبابة واحدة في حانوت جزار ما أنظفها وما أظرفها ...»! ، رحلة الجعيدي :.

٦٧

وبقربها بعض رجال الأمن لتنظيم المرور وحفظ الأمن مع انتشار الحدائق (١) والمنتزهات «... فتخاله كزريبة بديعة التزويق في غاية التنميق ، والصبيان يمرون بها مع أمهاتهم ، ولا ترى واحدا ينزع شيئا من ذلك النوار إنما يتركون ذلك تحسينا للنظر ومصلحة البصر ...» وبها العديد من المقاعد العمومية قصد الاستراحة والاستجمام وغير ذلك من التنظيمات العمرانية الحديثة التي اقتحمت اهتمام الجعيدي وعقله.

كما أعجب كثيرا بعظمة الفنادق الأوربية باعتبارها تضم أرقى التحف البديعة والأثاث المستظرفة والخدمات السريعة والتجهيزات الحديثة قصد توفير الراحة لرواد الفندق ، فخصها بالبحث والوصف الدقيق الممتع حتى قال «... إذا استحضرت ذلك وتأملته ووسعته دائرة خيالك على تفاصيله المبينة ، فكأنك تشاهد ذلك عيانا ...». بل تجاوز ذلك بمحاولته الجادة لكشف شكل فندق مرسيليا الهندسي رغم عدم اطلاعه على أصل تخطيطه في تقرير طويل بلغ حوالي عشر صفحات ، ورغبة منه في تفادي التكرار والإطناب ، اختصر الكلام عن فندق لندن رغم عظمته في بضعة أسطر فقط. وتوسع في وصفه القصور الملكية البريطانية والبلجيكية والإيطالية التي تزخر بالتحف النادرة والمتوارثة عند أسرهم الملكية أو المستوردة من المستعمرات.

وصف الجعيدي العديد من المنشآت العمومية والاجتماعية بعد أن رتبت لهم الزيارات إليها من طرف البلد المضيف ، فوقف في رحلته على وصف العديد من المتاحف باعتبارها المكان الذي تجمع فيه الأشياء ذات الأهمية التاريخية والعلمية

__________________

(١) كانت الهيئة الدبلوماسية تقوم بالضغط على السلطان الحسن الأول لإنجاز إصلاحات حضرية بطنجة تتعلق بترصيف طرقها وتزويدها بالماء الصالح للشرب وبناء مجزرة عمومية بها ، وغير ذلك حسب المناهج الأوربية (راجع رسالة محمد الأمين البزاز» ، المجلس الصحي الدولي بالمغرب من ١٧٩٢ إلى ١٩٢٩») وذلك لتسهيل حركة الاستيطان الأوربي.

٦٨

والتقنية والفنية ، بغية حفظها وعرضها للمتفرجين ، كمتاحف العلوم التقنية التي تبرز الأدوات والآلات والأجهزة القديمة وتطورها ، التي بواسطتها يستطيع المشاهد تتبع تطور الاختراعات التي توصلت إليها العبقرية البشرية في كل الميادين. ثم متاحف التاريخ الطبيعي ودار الوحوش الميتة وحديقة الحيوان ومتحف الشمع الشهير ببريطانيا ، ومتحف ليزانفليد ومتحف المعادن الملكي ببروكسيل ومدرج كوليسير بروما باهتمام كبير خاصة أن أخباره قد انتشرت عبر المعمور خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وكان يعتبر من عجائب وغرائب الوقت فوصف لعبة رقص الأفيال ولعبة الكلاب ، والغريب في الأمر أنه تعرف على ثلاثة مغاربة واحد مراكشي والآخران من سوس ، يقومون بألعاب بهلوانية فوق الخيل من أتباع أولاد سيدي أحمد وموسى بلندن. وقد سبق له أن تعرف على السرك بباريس وحاول استنباط أنواع الخدعة التي يستعملونها في حركاتهم فوق الخيل وغيره ، «... ليس في ذلك كبير مزية ، بل ذلك كله من قبيل الرياضيات والممارسات ، والنشأة في ذلك من حال الصبي حيث يعتاد ذلك ويصير ذلك لمتعاطيه طبيعة وعادة ...» وقارنهم بما يقومون به أصحاب البارود في المغرب من ألعاب الفروسية التي يتعجب منها «... ولا يأخذون عن ذلك أجرى ولا لهم عنه وظيف بخلاف هؤلاء ، فإن لهم فيه تجارة كبيرة وصائرا عظيما ..» (١).

وقد أشار إلى أن العلامة ابن خلدون قد تطرق إلى هذا الجانب في مقدمته «... إنها من قبيل المدارك التي يدركها الإنسان بالتدريج والرياضة ...» (٢). ويقصد

__________________

(١) ختم زيارته لدار البلار بلندن «بأن هدفه لم يكن الفرجة فقط بل في هيئة الدار وكيفيتها». مع العلم أن فكرة إقامة المعارض الدولية قد تنبهت لها الكثير من الدول في أوربا وأمريكا وتنافست في ما بينها في إقامة المعارض العامة وحققت من وراء ذلك أرباحا كبيرة ، بالإضافة إلى تشجيع الأبحاث والأشغال والمناظرة وغير ذلك.

(٢) انظر رحلة الجعيدي ، وكذلك دراسة محمد عابد الجابري «إبستيمولوجيا المعقول واللامعقول في مقدمة ابن خلدون. «أعمال ندوة ابن خلدون» ، ص ٧٣ ، كلية الآداب بالرباط ، سنة ١٩٧٩.

٦٩

بذلك أن المعارف النفسانية إما مصدرها الوحي الذي يلقى في صنف خاص من البشر وهم الأنبياء والرسل ، وإما مصدرها الرياضة والاكتساب لا الوحي.

ومن أهم الزيارات التي يذكرها زيارته دار المطبعة الوطنية بباريس وشرحه كيفية الطبع والتسفير وغير ذلك ، في الوقت الذي لم يعرف المغرب إلا المطبعة الحجرية (١) التي أدخلها إلى المغرب قاضي تارودانت من مصر سنة ١٨٦٦ م ، فكان المغرب يتطلع لهذا الاختراع العلمي. ثم زيارتهم للمكتبة الوطنية الضخمة بباريس. فتحدث عن كيفية توزيع الكتب على رواد المكتبة ، وأشار إلى وجود بعض المخطوطات العربية معروضة هناك. فطلب منهم أن يدفعوا له تقييدا بما عندهم من كتب العربية فوعدوا به ، ولم يكن وفاء بهذا الوعد. كما تعرف بروما على دار المرضى أو المستشفى الخاص بالعميان تشرف عليه الرهيبات ، خاصة أن السفارة المغربية كانت تقدم الهبات المالية إلى الكثير من دور الإحسان والأيتام والعجزة والمستشفيات الفقيرة في كل مدينة نزلت بها ، وتتلقى عن ذلك العديد من (٢) رسائل الشكر والتقدير ، وتترك انطباعات حسنة لدى حكومات وشعوب هذه الدول.

نقل الجعيدي الكثير عن هذا الجانب وحاول (٣) رصد هذه الحركية القوية التي تهدف التجديد والتغيير والبناء والتطور في جميع مظاهره ، رغم قصر مدة إقامتهم بأوربا ، لم يتعرض لمساوئهم ولا لجوانبهم السلبية التي تتمثل في استخدام قوة التطور والاختراع والمال لإخضاع الشعوب الضعيفة المتخلفة وقهرها واستعبادها.

__________________

(١) مظاهر يقظة المغرب الحديث ، محمد المنوني ، ج ١ : ٢٠١ ، الرباط ، ١٩٧٣.

(٢) «الإتحاف» لابن زيدان ، ج ٢ : ٢٧٩.

(٣) رغم توسعه في وصف مدنهم ، وجه دعوة مباشرة لزيارتها لمن له القدرة على ذلك حتى يتعرف على حضارتهم مباشرة «... فليس من سمع كمن رأى ... بهذا نبأتك ولكن لست بخبير ، فإن كنت من الأعيان ، فانهض إليها فليس الخبر كالعيان وإن كنت من العاجزين فاقنع بما أتيتك وكن من الشاكرين ...».

٧٠

بعض المظاهر الاجتماعية :

الطعام والمجتمع الأوربي والمغربي

القصد من هذه الدراسة ليس نظام الطعام وترتيبه في مضمونه المادي فحسب ، وإنما في دلالاته الاجتماعية ورموزه الثقافية أيضا. لأن أهميته كونه وسيلة لتغذية الجسم بغية الحياة. بل أيضا يرتبط (١) بالبيئة والاقتصاد وبالدين والمعتقدات الشعبية ، وربما بكافة مظاهر الحياة الإنسانية المادية والفكرية ، وعلى هذا الأساس يشكل الطعام مركبا حضاريا في الفكر الأنثروبولوجي ، خاصة أن احتفالية النظر والأكل والشراب تشكل (٢) سمة جلية في الثقافة العربية (الكرم ، الضيافة ....).

من هنا تأتي الأهمية التي أعطاها الجعيدي لآداب المائدة عند الأوربيين والتي أكثر الحديث عنها في رحلته ، خاصة أنهم حضروا العديد من مآدب الأكل الرسمية بأوربا ، فوصفها بدقة متناهية تنم عن إدراكه التام بطقوسها وآدابها ، لهذا حاولت تتبع وصفه لها خطوة خطوة أثناء تحقيق رحلته ، فكنت أجد تطابقا تاما بين ما ذكره وبين ما تذكره المراجع المختصة بدارسة التقاليد البروتوكولية لكيفية الأكل أثناء المآدب الدبلوماسية. وهي طقوس تطورت مع نمو الطبقة البورجوازية وارتفاع مستوى الدخل والمعيشة ، وهي مغايرة بطبيعة الحال لما كان سائدا في المجتمع المغربي والإسلامي على العموم ، لا من حيث الشكل أو المضمون ، وقد انعكس هذا على سلوك أعضاء

__________________

(١) انظر الفصل الخامس من كتاب «أدب الرحلات» تأليف د. حسين محمد فهيم ، سلسلة عالم المعرفة ١٣٨ في ذكر الطعام واستنباط أحوال المجتمعات.

(٢) تجدر الإشارة إلى الدراسة التي وصف فيها المستشرق الفرنسي أشتور وجبات الطعام لدى طبقات المجتمع العربي خلال العصر العباسي مسترشدا بالكثير من كتابات الرحالة الطوافين منهم والمؤرخين ، ومن هذه الدراسة استنبط الباحث الأوضاع الاجتماعية وتأثيرها في التركيبة السكانية ، كما ربط بين صلة التغذية بالأمراض التي كانت منتشرة في بعض المجتمعات العربية إبان عصر النهضة الإسلامية. وحالة النمو السكاني في تلك الحقبة الزمنية.

٧١

السفارة المغربية عندما امتنعوا عن الأكل لاعتبارات دينية (الأكل الحلال ، والأكل الحرام) ، ففي باريس لم يكن هناك مشكل ، لأن الحكومة الفرنسية المطلعة على أحوال وعادات العرب. استدعت بعض الضباط الفرنسيين العاملين بالجزائر للجلوس بجوار المغاربة لمساعدتهم «... ثم سرنا نحو القبة التي فيها الغداء ، فدخلناها فالتفت إلينا كبير الدولة ، وتكلم بلغته ، فقال لي رجل من عسكره كان بقربي ، إنه يقول لكم مرحبا بكم ، وإنه وكلني بالجلوس معكم لأبين لكم الطعام الحلال عليكم من غيره ، ووجدته يحسن اللغة العربية ...».

أما الحكومة البلجيكية على ما يظهر لن تنتبه إلى طبيعة ضيوفها المغاربة المتشبثين بالشريعة الإسلامية (١) ، والذين امتنعوا عن مشاركتهم في الأكل ، أثناء حضورهم حفلة غذاء أقامها الملك اليوبولد الثاني على شرفهم «... ثم أخذوا يخرجون بالطعام وأنواع الحلواء في أواني كبيرة ، ويطوفون بها على من بالمائدة ، فكل واحد يأخذ منها بمغرفة ما يريد ويضعه في الطبسيل الذي قدامه ... وهكذا حتى فرغ من الطعام ، ونحن تناولنا من ذلك يسيرا من حلواء معقودة على الثلج مع غيرها من الحلواء

__________________

(١) كان وسق المواد الغذائية إلى أوربا ، يفرض على السلطان المغربي أن يستشير الفقهاء والأمناء والتجار في الإباحة والمنع ، لأن المعاملة مع «الكفار» كانت بمثابة إعانة لهم على المسلمين مثلما ذكر صاحب الاستقصا. وكان مصدر بعض الهلع الذي كان يصيب التجار وخاصة السفير البريطاني بالمغرب هاي الذي كان يطلب تصدير الثيران إلى جبل طارق «وسمعنا أناسا لا عقل لهم ولا تجربة في هذا الأمر يقولون أن وسق الطعام حرام لبر النصارى وقائل ذلك من قلة عقله ، لا يتنبه للكسوة الجديدة التي عليه كونها عملا بيد النصارى ورأسه الخارج منه هذا الكلام ملتف برزة من عمل النصارى ... ويذهب لداره يشرب القهوة والشاي الواردين من بلد النصارى ، والسكة التي تحرث بها الأرض وصفيحة بهائمه وسيفه ومكحلة ، كل ذلك وارد من بر النصارى ، ومن يقل ذلك جاهل ولا عقل له ... إن الله سبحانه جعل تحت سلطاتنا عددا كثيرا من المسلمين بالهند أربعين مليونا ولا نمنعهم من نعم الله ...» وثائق المخطوطات البريطانية ١٣٣ / ١٧٤ ...F.O النص العربي لمذكرة ٢٧ مارس ١٨٥٥ م.

٧٢

الطازجة ...» ، ونفس المشكل البروتوكولي يتكرر في إيطاليا «... ثم أخذوا يأتون بأطعمتهم على عادتهم ، فما تناولنا منها إلا الخبز والزبدة وأنواع الحلواء ، وكانوا يعرضون علينا أنوع الطعام التي يطوفون بها عليهم ، فكنا نشير إليهم بالامتناع منها فيعرضونها على غيرنا ...» ، غير أن الأمير الإيطالي تنبه إلى ذلك واعتذر لهم عن هذا التقصير «... ذكر أنه رآنا لم نأكل شيئا من طعامهم في تلك الوليمة ، وألمه ذلك غاية ، لكنه سره عدم أكلنا منه من جهة محافظتنا على شرعنا ...». هذه المواقف دفعت الأوربيين إلى البحث عن أسباب هذا الامتناع. لهذا نشرت الصحافة البلجيكية تقريرا مفصلا عن نمط عيش المغاربة داخل إحدى فنادقهم ببروكسيل.«.. (١) .. المطبخ (المغربي) به آلات الطبخ Goudin وتنكات مغربية في منتهى الغرابة ... إن وجباتهم تتكون من لحم الخروف ، والأرز ، والشاي والحلويات ، والجزار بعد توجيه دعواته للنبي ، على السنة المحمدية يبدأ في ذبح وسلخ الخرفان الذكور والدجاج في البهو الخلفي ، ولا يأكل اللحم إلا مرة واحدة في اليوم ، لا خمرة على الطاولة ، شاي ، شاي دائما ...» ، وفي إطار الفضول الصحفي كذلك استطاع أحد الصحفيين الإيطاليين الدخول إلى (٢) مقر إقامة السفارة المغربية صحبة الترجمان Bo ـ sio وكتب التقرير التالي في جريدته (٣) La.Lombardia «... ضيوفنا الأعزاء لا يأكلون لحم الخنزير ولا مشتقاته ، كل ما يطبخ في المطابخ الأجنبية غير المسلمة ، وهم يكتفون بأكل اللحوم المذبوحة ، حيث يوجه الشاة إلى القبلة أي مكان قبر الرسول ،

__________________

(١)

G. D. B. R. A. LER) M. A. E. R. B. (Arch; Hist, DiP, J 18 / 479 )Bruxelles(

(٢) كانت للسفارة المغربية استقلاليتها من حيث تحضير الطعام كما يقول الجعيدي «... وأصحابنا الذين في المطبخة يذبحون كل يوم شاة من الضأن ويوتى لهم بالدجاج كل يوم والحوت ، وما يحتاجونه من الإدام ، ويوتى لنا في كل صباح بالقهوة والحليب والزبدة وغير ذلك من الأشربة ، كشراب اللوز وشراب أحمر قان يضاف مع الماء بنحو الثلثين منه والثلث من الماء ...».

(٣)

BIB ,COM.DI Milano (La lombardia).

٧٣

ويذبح وينتظر حتى تسيل دماؤها وتسلخ وتقدم مطبوخة ، وهذه الطريقة صعبة ولكنها صحية ...».

كما كانت للجعيدي التفاتة أخرى تخص المستوى الرفيع للوجبات الغنية والشهية التي كانت تقدم في إحدى السجون الأنجليزية التي زارها بلندن «... وفيه مطبخة كبيرة يطبخ فيها للمساجين من أزكى الطعام ، وجدنا فيها أكوابا ممتلئة حريرة جامدة ، رفع منها صاحب المطبخة مغرفتين كبيرتين في زلافة ، وقطع من خبزة طرفا نحو نصف رطل ميزانا ، وقطعة لحم نحو أوقيتين أو أقل مع إدام يسير ، وقال الترجمان هذا ما يطعم للمساجين كل يوم ...» في إطار إعجابه بنظام السجون الجديد الذي يهدف الإصلاح والتأهيل بواسطة أساليب التربية والتهذيب مثل عقوبة العمل في الأعمال الزراعية والصناعية بدل تعذيب المحكوم عليه «.... حتى قيل لهم من ضاقت عليه المعيشة منهم فيدخل لهذا السجن فلعله يجده أفضل من محله ، فانبسطوا لذلك ...». إن الحديث عن العمران والمنشآت العمومية والاجتماعية وما يستنبط منه يحتاج إلى المزيد من التحليل والدراسة ليزودنا ولا شك بالكثير من المعلومات والإيضاحات ، لأن وصفه للمجتمع الآخر هو تعبير عن مجتمع الرحالة وتعريف له بالسلب المنطقي ، حيث لا يسجل الرحالة في رحلته إلا الأشياء التي يفتقدها في مجتمعه الأصلي ، ليصل في النهاية إلى تحديد مجتمعه.

المرأة

الحديث عن المرأة في الرحلة السفارية ، كما هو الشأن بالنسبة لبقية القضايا الأخرى هو نتيجة انطباعات أولية ، ووصف لمظاهر خارجية لم يكن الوقت من النفوذ لبواطينها.

ولا ريب أن إسهام المرأة الأوربية في الحياة العامة اقتضى تحررها من تقاليد المجتمع القديم ، وتغيير المقاييس الأخلاقية تبعا لذلك.

ورحلة الجعيدي عموما إشارات إلى مساهمة المرأة الأوربية إلى جانب الرجل في العمل داخل الأوراش والفابريكات «... ثم أوتي بنا إلى محل آخر فيه خلق كثير

٧٤

من النساء والرجال ، ينشرون القالب الكبير من السكر ...» نظرا لحاجة سوق العمل التي تحتاج إلى المزيد من الأيدي العاملة. بل يذكر كذلك تواجد الصبيان بكثرة في المراكز الصناعية والتجارية. غير أن الجعيدي لا يتردد لحظة في التغزل بسيدات المجتمع الأوربي ، فإن هذا الغزل هو ودون شك تجسيد لإعجابه بالتطور الذي كانت تمر به المرأة الأوربية آنذاك ، فعند زيارته لإحدى الدور التجارية الكبرى بباريس التي تعرض التحف المصنوعة من البلار ، أعجب بإحداهن «.... حين سمع نساؤهن بأننا هناك خرج بعضهن بقصد رؤيتنا لأنهن يستغربن زيّنا ويتعجبن منا ، فالتفتت إلينا إحداهن ، فتذكرت ما قيل في مثل ذلك :

بدار الزاج قمر

فضحت زين العجم

سلبت عقل رامق

سلب عقل بمدام

هام من حسنها وجدا

ذو عفاف وكرم

وهي من نور حسنها

تقتبس محو الظلام

قلت جذلى بوصال

قالت : فاقرأه سلامي

إن بالحل وطني

وأنتم أهل الحرم

صدقت فيما نطقت

وحقا قالت حذام ...» (١)

__________________

(١) يقول بعض الشعراء :

إذا قالت حذام فصدقوها

فإن القول ما قالت حذام

اسم امرأة عربية ، والإشارة من المؤلف إلى هذا الشعر واضحة على سبيل الاقتباس.

٧٥

فهو يقصد بهذا التغزل إشاعة روح المرح في ما بين أعضاء السفارة قصد التسلية والترفيه (١). بل نجد في إحدى قصائده الشعرية يقسم بكل المناظر المكشوفة من المرأة التي أكره على مشاهدتها وهي ترقص على خشبة المسرح وهي دعابة أدبية مقصودة ، نظرا لما يتيمز به من روح مرحة.

كما أشار لهذا التحرر من خلال مشاركتها في الحفلات والسهرات واختلاطها بالرجل وهي في كامل زينتها وأبهتها «.. (٢) ... والنساء يجررن ثياب الحرير بنحو ثلاثة أذرع في الأرض ، وغالبها مرصع بالديمانض ، وكذلك في نحورهن وعلى رؤوسهن ... ورأينا في نسائهم حياء كبيرا لأنهن يرفعن إلينا من بعد ، فإذا قربن ووقع بصرنا على إحداهن نكست بصرها إلى الأرض ، وغالبهن على هذه الحالة ...».

هذا الموقف يجعلنا أمام حالة ربما نادرة من حالات التكيف السريع مع التحرر الأخلاقي ، على أن المرأة الأوربية يغلب عليها النبل والطهر والعفاف ، عكس (٣) من يصفها بالفجور والرذيلة ، ونحن نعلم وضعية المرأة المغربية في تلك العصور ، وما كانت عليه من الجهل الفكري والتخلف الاجتماعي والانغلاق ، ونعلم أيضا موقف الإسلام من المرأة وما يوجبه عليها من الأخلاق والاستقامة مع العلم والوعي المشاركة في الحياة.

__________________

(١) انظر الجانب الفكاهي من الدراسة والقصيدة. كما أن الرحالة الصفار يتغزل في المرأة الفرنسية «... وتسدل ذلك الثوب حتى يستر بناءها ، فلا يظهر شيء من أسفلها بالكلية ، فإذا أقبلت عليك تشتهي أن تمسكها من ذلك الخصر ...» «رحلة إلى فرنسا» ص ١٠٥ و١٠٦ و٧٠ مخطوطا.

(٢) رحلة الجعيدي ، عند حضورهم حفلة شاي أقامها وزير المستعمرات البريطانية بلندن.

(٣) كمثال على ذلك ما أبداه ابن رعثمان المكناسي في رحلته «البدر السافر لهداية المسافر» من امتعاض عند حضوره بعض الحفلات الليلية بنابولي ، ص ٢٥٢.

٧٦

مظاهر التقدم الصناعي والمالي والفلاحي في الرحلة :

الصناعة

قامت أساسا على القوة البخارية التي تعتبر أعظم اكتشاف توصلت إليه أوربا خلال القرن ١٩ م ، والتي فتحت الباب أمام اختراعات لا حصر لها في جميع الميادين ، فقد حلت الآلات البخارية مكان الأيدي العاملة في الصناعة. وانتشرت خطوط السكة الحديدية بشكل كثيف في أوربا ، مما شجع تنقل الأشخاص والبضائع ، وساعد على تنمية الهجرة القوية ونمو المدن ، غيرت معالم العهد القديم.

الفحم الحجري

المصدر الطاقي الوحيد الذي اعتمد عليه الاقتصاد الأوربي ، لهذا خصه الجعيدي في «رحلته» بالبحث المستفيض ، فوصف لنا (١) طريقة استخراجه عبر آبار عميقة ومتعددة ينزل إليها الخدمة بالتناوب بواسطة المصاعد التي حاول رسم شكلها الخارجي بطرة الورقة ، وتهوية المناجم لاستخراج الغازات السامة ، وضخ المياه الباطنية ، وغير ذلك. وإن احتراقه ينتج عنه غاز الاستصباح الذي يخصص للطهي والإنارة ، ويولد كذلك (٢) حرارة هائلة داخل الأفران العالية لصهر الحديد وغيره.

مما لا شك فيه أن التقارير التي كانت تصل إلى الحسن الأول من الزبيدي ، قد

__________________

(١) رحلة الجعيدي ، عند زيارتهم لأوراش شركة كوكريل Kockrill المجتمعة حول مناجم الفحم عند مدينة سوران Seraing البلجيكية.

(٢) «... لم أقف على أصل الحركة الأولى التي ينشأ عنها سائر الحركات ...».

فعلق المؤرخ محمد بن علي الدكالي في الطرة «هي قوة البخار الذي نشأ من تسخين الماء الحار الشديد الغليان» لكن الجعيدي تدارك هذه الهفوة في ما بعد.

٧٧

أطلعته على أهمية استخراج الفحم بطرق علمية ، فابتداءا من سنة ١٨٧٨ م وجه السلطان أوامره إلى الحاجب موسى بن أحمد ليستفسر فابتداء من السفير هاي عن ذلك. (١) وطلب منه مد المخزن المغربي بالخبراء في هذا الميدان ، وبالفعل توافد على المغرب العديد من المهندسين المتخصصين منهم البريطاني E.Silva الذي تمكن من العثور على منجم فحمي بالقرب من طنجة (٢) بمساعدة المهندس المغربي الزبير سكيرج والإشراف الإداري لمحمد الزبيدي ، الذي أوضح للسلطان بأن بداية الاستخراج يمكن أن تتم «... بحفر آبار ثلاثة كآبار السواني متفرقة ليعرف منها الجهة القريبة للمنفعة فيقع الشروع منها ...» (٣) ، كما طلب الزبيدي «التوجيه على عشرين معلما من أهل تدغة الذين يحفرون الخطاطير بالحوز يحفرون الآبار بصائر قريب الأجرة ..» بعد أن رفض السلطان استغلاله من طرف المؤسسات الأجنبية ، بل طلب المساعدة في البحث والتنقيب فقط ، لأنه كان يرى في ذلك أداة للتغلغل الأجنبي ، كما رفض باقي العروض الأجنبية الأخرى.

وسائل النقل : كان على رأسها «بابور البر» أو القطار البخاري (٤) الذي أثار إعجابه خاصة أنه كان الوسيلة الوحيدة لتنقلهم عبر التراب الأوربي ، ووفر لهم الراحة ومتعة

__________________

(١) رسالة موسى بن أحمد إلى د. هاي بتاريخ ١٧ رجب ١٢٩٥ ه‍ / ١٧ يوليوز سنة ١٨٧٨ م وثائق المفوطات البريطانية ٨٩ / ١٧٤.F.O ..

(٢) الكناش ٣٤٨ الخزانة الحسنية ص ٥٤ رسالة السلطان إلى بركاش بتاريخ ٥ صفر ١٣٠١ ه‍ / ٦ دجنبر ١٨٨٣ م.

(٣) نفس الكناش ١٢٥ رسالة الزبيدي إلى السلطان بتاريخ ١٦ ربيع الأول ١٣٠١ ه‍ / ١٥ فبراير ١٨٨٤ م وب «الإتحاف» خ. ح ٤٦٣.

(٤) في سنة ٢٩٤ ه‍ ، وفد على السلطان عدة باشدورات الأجناس «... وتكلم الفرنسيس في شأن بابور البر والتلغراف وإجرائهما بالمغرب ، كما هو في سائر بلاد المعمور ، وزعم أن في ذلك نفعا كبيرا للمسلمين والنصارى ، وهو والله عين الضرر ، وإنما النصارى جربوا سائر البلاد فأرادوا أن يخربوا هذا القطر السعيد الذي طهره الله من دنسهم ، نسأله سبحانه أن يكبت كيدهم ويحفظ المسلمين من شرهم ...». «الاستقصا» ، الناصري ، ج ٩ : ١٦٢.

٧٨

السفر والسرعة في التنقل عبر خطوط حديدية قوية تشق الجبال وتقطع السهول وتعبر الأنهار والوديان بدقة ونظام بديع. وقد أشار الجعيدي إلى الكثير من أسماء المحطات التي كانوا يمرون عليها ومدة التوقف فيها.

كما أشار إلى أهمية المواصلات عبر الأنهار (١) والحيل التي استنبطوها في الربط بينها ، بواسطة قنوات وسدود صغيرة لرفع أو حفظ مستوى المياه حسب الحاجة ، ويستغلونها كذلك في صيد الأسماك بها ، واستغلال مياهها في سقي المزروعات عند ضفافها.

صناعة السكر : التي لها ارتباط بحاجيات السوق المغربية الاستهلاكية ، والتي انتشرت عادة استهلاكه بكثرة ، وكان (٢) دخوله للمغرب أيام سيدي محمد بن عبد الله ، وقد خلق عصرئد بعض المشاكل الفقهية واضطرابا كبيرا ، فالبعض يحرمه والبعض يحلله ، مما دفع السلطان مولاي سليمان أن يبعث بمن يثق بدينه وعلمه ليتعرفوا عن طرق صناعته «فأخبروا بطهارة أصله وإباحة فرعه» ، إنما حرم الجامد منه أي «سكار القالب» نظرا لأنهم يضيفون مادة كحولية بقدر معين إلى البلورات السكرية وقد تعرف على ذلك الجعيدي وتظاهر بجهله لها «.... انظر من أي شيء هو ذلك الماء المتخذ للتصفية ...» ، غير أن هذه النتيجة التي توصلوا إليها لم تحترم مع

__________________

(١) قد نرجع اهتمام الجعيدي بأهمية الأنهار ، لاستقراره على إحدى ضفاف نهر أبي رقراق الذي لعب دورا تاريخيا إبان الجهاد البحري وقبله كمرسى للمجاهدين ، لولا الحاجز الرملي الذي أصبح مانعا لدخول السفن الكبيرة لمرسى العدوتين خشية التحريث والجنوح ، وقد انعكس ذلك على اقتصاد المدينتين.

(٢) انظر مخطوط محمد المامون بن عمر بن الطائع الكتاني الحسني (ب. خ. ع. بالرباط ، رقم ٥٣٢ ، ص ١٣٣ و١٤٥ فقد كان المغاربة لا يشربون الشاي إنما يحتسون نقيع النعنع أو الشيبة معطر بورق الورد أو ماء زهر البرتقال والليمون. انظر مقال ليلى أبو زيد «نحن والأنجليز ونقط الالتقاء» في مجلة دعوة الحق ، نوفمبر ١٩٨٠ م ص ٧٣ وتختلف الروايات في تاريخ دخول عادة الشاي إلى المغرب.

٧٩

مرور الزمن ، بل حصل العكس حيث تزايد الاستهلاك بشكل صاعدي ، وكان يكلف ميزانية المخزن مبالغ باهضة ، مما دفعه إلى التفكير في العمل على استحداث (١) معمل لصناعة السكر بالمغرب.

لهذا نجد السفارة المغربية بمجرد وصولها إلى مرسيليا ، تقوم بزيارة لفابريكة السكر ، وقد خصه الجعيدي بالبحث المستفيض لما شاهده من عمل الخدمة به ، وكيفية نشره إلى قطع صغيرة على شكل مربعات صغيرة ، وأشار في الأخير «.... وسمعنا بأن حكيما هناك التزم على نفسه أن يخدم السكر القالب ويوجده في أربع وعشرين ساعة ، وأنه لا يضيف إليه شيئا مما يصفى به الآن (يقصد المادة الكحولية دون أن يذكرها) ... فقيل له إن القائمين بخدمة المكينة الآن حيث يستوفون مدة «كنطردتهم» يكون الكلام في ذلك ...» إشارة إلى أنهم قد فتحوا باب الحوار معهم لجلب أحد الحكماء إلى المغرب لدراسة موضوع صناعة السكر الذي أصبح مع مرور الوقت مادة شعبية.

الصناعات النسيجية : التي أصبحت تجد في السوق المغربية رواجا كبيرا ، نظرا لجودتها وثمنها المناسب ، وكان لذلك تأثير سلبي على الطبقات الحرفية التقليدية المغربية لفائدة طبقات من التجار المغاربة والأجانب الذين يستوردون الأثواب والمنتوجات. وقد أدى ذلك إلى تحطيم الهياكل الاقتصادية التقليدية (٢) الموجودة وتعويضها بغيرها مع تسرب الاقتصاد النقدي والتجاري. لهذا وصف طرقهم الميكانيكية التي تشتغل لوحدها مع مراقبة من طرف الخدمة من غزل ونسج الصوف والقطن والحرير والكتان والماركان ، وتعرف على بعض الأثواب التي تصل إلى المغرب

__________________

(١) كان في أكدال مراكش معمل لتكرير السكر جلب إليه محمد بن عبد الرحمان الصناع من مصر.

الإتحاف ج ٣ : ٥٥٦. كما أسس الحسن الأول مصنعا بتجهيزات أنجليزية وبمساعدة المهندس jOHN Guy Jachson عام ١٢٩٦ ه‍ / ١٨٧٨ م وكلفه نفقات باهضة ولكنه أحيل بعد سنوات إلى مدبغة للجلود بمنطقة الحوز.

(٢) انظر دراسة إدريس بنعلي عن علاقة بعض المغاربة بالتجارة الخارجية في القرنين الحالي والماضي في «المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد» ، عدد ٨ : ٩٧ سنة ١٩٨١ م.

٨٠