إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

فابريكات الكور وغيره والعدة التي في الخزين

ثم خرجنا إلى دار فيها فابريكة صنع رويضة الكراريط من العود ، فابريكات صنع الخفيف للمكاحيل والكور المستطيل (١) ، مثل ما تقدم بيانه في بعض مدن اللوندريز ، إلا أن تلك الخدمة أقوى وأكثر بكثير منها في باريس ، ثم إلى خزائن العدة فيها مكاحيل مصطفة في أسرّة عود طولا وعرضا من الأرض إلى السقف ، وكذلك الكوابيس والسيوف ، ولم نسأل عن عدد ما في هذا الخزين من العدة ، غير أني وجدت في طوله مائة خطوة وعشر خطوات بين كل ست خطوات سريران ، أحدهما عن اليمين والآخر يسارا ، كل سرير ممتد مع الأرض بنحو ثمانية أذرع ، مرتفع إلى السقف وفيه ست طبقات ، بين كل مكحلتين نحو سدس ذراع ، فيكون في اللوحة السفلى من /٢٧٧/ المكاحيل ، من أحد الأسرة التي عن اليمين ست وتسعون مكحلة ، تضرب في ستة عدة طبقات السرير الواحد ، يكون فيه خمسمائة وست وسبعون مكحلة ، تضرب في ستة عشر ، عدة صفوف الأسرة طولا التي عن اليمين ، يكون فيها من المكاحيل واحد وستون ألف وست وخمسون ، ومثلها يكون في صفوف الأسرة التي عن اليسار ، يكون جميع ما يسعه هذا الخزين من المكاحيل مائة ألف واثنين وعشرين ألف ومائة واحدة وثنتي عشرة مكحلة ، لكن بعض الأسرة فارغة قيل إن مكاحيلها بيد العسكر تمسح ، وكلها في غاية النظافة كأنها خرجت الآن من قوالب صنعها ، وكلها من العينة التي تعمر من الخزنة ، ووجدنا هناك كبابيط من ورقات الحديد ، كل كبوط ينفصل إلى ورقة إحداها تجعل على الظهر والأخرى على البطن ويجمع بينهما ، وزن كل كبوط كما قيل ثمانية كيل ، نحو خمسة عشر رطلا بالعطارى ، وفي بيت آخر كورة صغيرة مستطيلة على هيئة الجوزة الكبرى ، وقد

__________________

(١) لم تطلع السفارة المغربية أثناء إقامتها الأولى بفرنسا إلا على المنشآت العمرانية والاقتصادية فقط ، بينما في بلجيكا وأنجلترا تعرفت على الصناعات الحربية ، فتنبهت الحكومة الفرنسية لهذا التقصير وركزت على اطلاع السفارة المغربية أثناء إقامتها الثانية بباريس ، على معاملها الحربية وقواعدها العسكرية لإظهار عظمة فرنسا في هذا الميدان.

٣٢١

رصفت بمسامير ، قيل هي مما كان يرمى عليهم البروصيا ، وأن واحدة منها نزلت في طريق طويل عريض وتفرقعت (١) هناك فقتلت خمسين منهم ، وطفئت الفنارات التي كانت في ذلك المحج ، وسقطت سراجيمه ، وأصاب طرف منها الجلنار كان مع السلطان (٢) في كروصة فقتلته ، هكذا ذكر ترجمانهم ، ثم إلى بيت آخر وجدنا فيه عينات من المكاحيل مهما ظهرت عينة جديدة عند جنس من الأجناس ، يوتى لهم بعدد منها فيسلمونه للمعلمين المهندسين يختبرونها ويقلبونها ويخبرونهم بما يظهر لهم منها ، وبينوا لنا عينة أحدثها الفرنصيص يفتح خزنة الجعبة ويجعل فيها عمارات من البارود ، فتكون العمارات مدفوعة في طول السرير من قرب رأس الجعبة إلى الخزنة ، فإذا تمت عمارتها يجدب القرص فتخرج العمارة الأولى ، وبنفس خروجها تدفع جعبة السلك العمارة الثانية إلى الخزنة ، ثم بفتحها فتلفظ الخزنة الجعبة التي كان فيها البارود وتطير منها بجهد ، وعند ذلك / تستقر العمارة الثانية في الخزنة ، في الموضع الذي خرجت بدفع السلك الملتوي بها إلى الخزنة ، وهكذا العمل بها حتى تخرج العمارات الثمان ، قيل إنهم يدركون بهذه العينة خروج أربعين عمارة في الدقيقة الواحدة.

سكويلة العسكر والخروج من باريس إلى اليون

ثم أدخلونا إلى سكويلة من سكويلات العسكر ، ومعناها الدار التي يتعلمون فيها العلوم الحربية ، فوجدناها مملوءة بفئة من العسكر كانوا جالسين على الأسرة من عود ،

__________________

(١) ظهرت القنابل اليدوية كسلاح جديد وفعال تتفجر بقوة عند اصطدامها بالأرض (الموسوعة العسكرية).

(٢) لويس نابليون بونابارت Louis NaPoleon BonaParte سنة ١٨٥٢ لقب بنابليون الثالث ، وعمل جهده لترسيخ دعائم حكم سطوي وقوي. غير أن انهزامه أمام ابروسيا سنة ١٨٧٠ م التي برزت داخل أوربا كقوة سياسية جديدة ، أرغمت فرنسا على توقيع معاهدة فرانكفور في ماي ١٨٧١ م إذلالا لها.(تاريخ العلاقات الدولية من ١٨١٥ م إلى ١٩٤٥ م ، ببيررنوفان).

٣٢٢

وكل واحد قدامه كتاب وكبيرهم مقابل لهم ، فعند إشرافنا على الدخول عليهم تكلم معهم الكبير فوقفوا وأشاروا بالسلام ، وذكر أنهم يأتون إلى هذه الدار في الساعة الخامسة من صباح كل يوم (١) ، ولا يخرجون منها حتى تصل الساعة الحادية عشرة ليلا ، فيكون مدة مقامهم بهذه الدار ثمان عشرة ساعة ، وتبقى لهم من اليوم بليلته ست سوائع للنوم والاستراحة ، ولهم في هذه الدار مطابخ عديدة ومواضع للأكل وطوابل وشوالي على عادتهم ، وفي بعض المواضع موسيقا حيث دخلنا إلى تلك المواضع تقدم بعض المتعلمين إلى تلك الموسيقا وصار يخدم بها هنيئة بنغمات عجيبة لطيفة.

وفي الساعة التاسعة عدا ثنتي عشرة دقيقة ، ركبنا في بابور البر من باريس قاصدين مدينة اليون ، للمرور عليها إلى بر إيطاليا ، ذلك من ليلة الجمعة العشرين من رجب (٢) ، وخرج معنا ترجمان الدولة الفرنصوية مع ترجمانهم الذي كان طلع من طنجة.

زيارة رأس بعض جبال ليون

وكان دخولنا إلى ليون في الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة ، فتكون مدة السفر بينهما إحدى عشرة ساعة وثنتي عشرة دقيقة ، باعتبار مقام البابور ووقوفه في بعض المدن التي بينهما لنزول بعض الناس فيها وحمل آخرين منها على العادة ، وهذه المدينة يحيط بها الجبال من بعض الجهات وهي معمورة أي الجبال ، ومع ذلك تصعد الكراريس إلى أعلا جبالها في طرق بها / ارتفاع يسير ينطوي في طول هذه الطرق ارتفاع تلك الجبال ، وتكون الخيل التي تجر الكراريس في هذه الطرق المرتفعة تسيرا سيرا مهلا.

__________________

(١) إشارة ضمنية من الجعيدي إلى أن التطور الأوربي وخاصة في الميدان العسكري وليد التربية والتعليم المكثف والمستمر ، وثمرة مدارسهم المتعددة لتكوين أبنائهم تكوينا ثقافيا وعلميا منذ الصبا.

(٢) ١١ عشت سنة ١٨٧٦ م.

٣٢٣

وفي مساء يوم الجمعة المذكور أوتي إلينا بالأكداش وركب الباشدور مع الترجمان الذي طلع من طنجة ، ونحن في أثره وتوجهت بنا إلى بعض تلك الجبال المسكونة ، فوصلنا إلى رأس جبل ، فخرج إلينا رجل (١) واستدعانا للدخول لقبة هو فيها هناك مع بعض عياله ، وهي مربعة صغيرة نحو عشرة أذرع طولا ومثلها عرضا ، وفيها سراجم بالزاج بجدرانها يشرف منها على المدينة ، وعلى ما وراءها من الجبال حتى على جبال إيطاليا كما بينها لنا صاحب القبة المذكورة. وله في هذه القبة أثاث وحوائج بقصد بيعها كالمراءات التي يرى بها ما بالبعد مختلفة في الكبر والصغر. منها ما هو أصغر من الأنملة لكن لا يرى بها بعين واحدة. ويرى فيها بعض الصور والأشكال ، وله هناك صنيدقات من العود صغار في كل واحدة زاجة وفي وسطه ورقات كاغد ، في بعضها صور طرق (٢) ليون وكيفية بناء ديارها وقببها والقناطير التي يمر البابور فوقها والماء يجري تحتها ، وغير ذلك من الهيئات ، وثمن هذا الصندوق خمسة وأربعون من الافرنك ، أعني (٣) تسع ريالات ، فمن كان عنده هذا الصندوق فكأنه يرى مدينة اليون عيانا ، ثم خرجنا منها ورجعنا مع أطراف المدينة بين أشجارها كأشجار الغابة ، وطرقها منسقة والوادي جار فيها ، وبقرب شاطئه أماكن مزروعة بالنوار فيها حياض

__________________

(١) ربما يقصد الباحث Antoine Lumière الذي أسس ورش عمل لتطوير فن التصوير الشمسي (الفوتوغرافيا) بضواحي مدينة ليون بMontPlaisir منذ ١٨٧٠ م ، صحبة ولديه Auguste (١٨٦٢ م ، ١٩٥٤ م) الكميائي وLouis (١٨٦٤ م ، ١٩٤٣ م) الفيزيائي ، اللذين أصبحا من كبار المنتجين في العالم للألواح الزجاجية الخاصة بالتصوير الشمسي ثم الأفلام الحساسة ، ودخلوا عالم السينا سنة ١٨٩٥ م ، وكانت المنافسة بين Frères Lumière Les والأمريكي Eastman George (١٨٥٤ م ، ١٩٥٢ م) الذي صمم آلة التصوير كوداك Kodak.

L\'Universelle Bordas, vol : VII: 774.

(٢) يلتقي بها نهر الرون Rhȏne بنهر الساؤون Sâne.

(٣) في سنة ١٨٧٦ م كان ٤٥ فرنك فرنسي ـ ٩ ريال. أي (ف. ف ـ ١ ريال) وحسب جاك كيلي أن : ١ فرنك فرنسي لسنة ١٨٧٦ ـ ٢٠٠ ف. ف. سنة ١٩٥٩.» السفارات والبعثات المغربية» مجلةHes ـ Peris ـ Tamuda سنة ١٨٦٠ م : ١٥٠ الرباط.

٣٢٤

عجيبة على عادتهم ، وعبرنا على قناطر عديدة على ذلك الوادي ، ورجعنا إلى نزولنا بعد ما غربت الشمس.

فابريكات خدمة الحرير والديباج به

وفي يوم السبت الواحد والعشرين منه (١) توجه بنا الترجمان (٢) المذكور في ضحاه إلى دار فيها فابريكة صبغ الحرير الأسود فقط ، فوجدنا فيها صناديق من عود مجلدة بالنحاس معمرة بماء الصباغة ، ومدجات الحرير تجعل على أعواد وترسل في ذلك الماء وتنصب /٢٨٠/ على حرفي الصندوق طولا ، ورأينا صندوقا ينصب فيه ماء الصباغة من جعبة طويلة قطر دورها يقرب من ربع ذراع. وذكر أن هذه الدار تصبغ خمسمائة ألف كيلو في السنة، وأن فيها ثمانمائة من الخدمة.

وبعد صلاة الظهر توجهنا إلى بعض فابريكات صنع الديباج والحرير ، وتوجه معنا عامل البلد ، وعند دخولنا إليها وجدنا أولا رجلا قدامه منسج وهو ينسج فيه بوضربة من الحرير الأحمر والأخضر من العينة التي تأتي للغرب ، وما يرى في بوضربة وغيره من التوريق والتشجير ، ينسجونه في خيوط ويلفونه فيها ، ويركبونها فوق المنسج في لوحة تمسك فيها وترسل إلى أسفل ، وتمر بين خيوط السدا التي ينسج فيها وتخرج منها حتى تقرب إلى الأرض ، فيربطون بطرف كل خيط كالخيط من الرصاص ليبقى نزول كل خيط مستقيما من السدا إلى الأرض ، وأما بقية كل خيط من فوق السدا

__________________

(١) ١٢ غشت سنة ١٨٧٦ م.

(٢) Soheffer الذي قال عنه الأديب العمراوي في تحفته» ... ولهذا الترجمان معرفة بكثير من علوم المسلمين ، ويكتب بالخط المشرقي في كتابة جيدة ويحفظ أشعار عربية ونوادر أدبية ، ويستحضر الآيات والأحاديث والقصص وتواريخ الأمم الماضية ... فإنه يعرف اللسان العربي والفارسي والتركي وجميع ألسنة النصارى ... مع ذلك كله فليس على أدبه طلاوة ولا في ألفاظه حلاوة فعلى كل أقواله ينزل المقت ... وكنا نتلمح في عينيه بغض المسلمين أكثر من غيره ... ولعل ذلك من اطلاعه على كتبنا ...».

٣٢٥

إلى اللوحة التي تمسكه ، فيكون منحرفا فيه تعريج ، والمعلم الذي ينسج أسفل رجله اليمنى خشبتان كالجائزتين ، تارة ينزل رجله عليهما معا وتارة على إحداهما فقط ، وعند الخدمة تارة ينزل بعض تلك الخيوط المثقلة بالخفيف وتارة ترتفع ، وهو يخدم بنزق واحد ، فيرسله بيده اليسرى فيمر بين خيوط السدا ثم يجذب خيطا بيمناه في ناعورة ، فوق المنسج وفي وسطه ، فيرجع ذلك النزق وحده بين خيوط السدا من اليمين إلى اليسار ، وبعض المعلمين يخدمون النزق من الجهتين بتلك الناعورة ، ويكون قابضا بإحدى يديه القنبة المعلقة في تلك الجرارة ، وبالأخرى الدقاق الذي يدق به عند النسج ، وكلما جذب تلك القنبة إلى جهة يأتي النزق إليها ، ووجدنا رجلا آخر يخدم الموبر البرانية ، وله سداوات ثلاث في منسج واحد إحداها حرير صافي ، والأخريان من قطن ، وهو يجعل بين السدا ثلاثة قضبان من السلك الرقيق مجعوبة ومشقوقة ، ويصلها بمحل النسيج ويرسل النزق ثلاث مرات /٢٨١/ ثم يأخذ حديدة لطيفة أرق من الميزق ، ويشق برأسها الحرير الذي التوى على ذلك السلك المشنوق ، فيقطع الحرير ويلقى الميزق ذلك الشق الذي في السلك ، ثم يخرجه ، وهكذا فيشق ذلك الحرير تطلع الوبرة على وجه الموبر ، وهناك أناس آخرون يخدمون ثيابا فاخرة مشجرة بالذهب وبالحرير على أشكال وألوان لا تكاد تحصى كثرة. وطولعنا بعينات منها عندهم مهيئة يرسلونها لمن يريد شراء شيء منه ، فمنها ما ثمنه يزيد على أربعين ريالا للقالة. ومنها ما دون ذلك إلى أقل من ريال واحد للقالة.

ووجدنا هناك مكينة فيها مناسج عديدة ، عرض كل منسج خمسة أمتار تخدم ثوب المسوس ، وآلات النسج تخدم بحركات المكينة لا يمسها أحد إلا من يقابلها لمباشرة ما ، كوصل خيط عند انفصاله أو شبه ذلك. ووجدنا طرفا منها منسوجا في غاية اللطافة والرقة والليونة ، وظننا أنه منسوج من الحرير ، فأخبر كبير الفابريكة أنه من الحرير وشعر المعز أنصافا ، وخيطه مبروم أرق من الشعرة بأضعاف ، ة حتى قيل إن وزن أوقية من هذا الخيط يكون طوله ثلاثين ألف متر ، وأيضا فالثوب الذي وجدته منسوجا عرضه خمسة أمتار ، وطوله سبعة عشر مترا ، قيل وزنه كيلو واحد ، وثمنه أربعون ريالا ، فإذا قسم هذا المنكب الذي طوله خمسة أمتار ، وهي تعدل تسعة أذرع تقريبا ، على قالة ونصف يكون فيه ستة مناكب ، وإذا قسمت هذه القطعة نصفين

٣٢٦

عرضا صارت ثنتي عشرة شقة ، طول كل واحدة أزيد من خمسة عشر ذراعا ، والمنكب من نحو ذراع ونصف ، فيكون ثمن الشقة حينئذ ثلاث ريالات وثلث ، وهو إذن أرخص بكثير من المسوس المصنوع من الخيط الذي يجلب للغرب ، غير أن شعر المعز الملفق مع الحرير فيه ما فيه من /٢٨٢/ توهم عدم تزكية المعز التي يأخذون شعرها لذلك.

مستملحة استظرفتها هنا (١)

مستملحة جرت بيني وبعض رفقائي مداعبة ، اقتضتها المرافقة والمصاحبة ، وذلك حيث طال بنا السفر وصرنا كالمقيمين بلظى أو سقر ، والأيام تمتد وتطول ، والليالي ، تبخل بالنوم وتصول ، فذكرني ما سلف من الغرائب ، وما شاهدناه في ديار الطياطيرو من العجائب ، وبلسان الحقيقة نصحني ووعظني ، وكان بلسان الغرور بستر تلك الزلة وعدني ، وقال (٢) كيف بك يا رفيق حتى سلكت ذلك الطريق ، وولجت تلك الديار ، وهتكت الأستار ، وخلعت بها العذار ، وغرست في أرض قلبك بذر هذا النبات ، وسرك دوران رقص تلك البنات ، مع أنك لدى القاضي من العدول المبرزين، والاخلاء المغربين ، ولا بدّ لي أن أكشف (٣) له عن حالك ، وأبين له ما صرت إليه في مثالك ، وأودّي لديه بذلك شهادتي ، ولا تأخذني لومة لائم فيما فيه سعادتي،

__________________

(١) ما هي إلا تصوير جريء وصريح لمعايشة رفاقه ، من خلال ما يروج في دائرتهم ، مما يبعث على إشاعة روح المرح فيما بينهم للتسلية والتزجية ، خاصة أنه كان لهؤلاء الرفاق وضعية محترمة في وسطهم الاجتماعي ، ولذلك توزعت عليهم الأدوار في هذه المستملحة الهزلية حسب ما لهم من حرمة ومكانة واعتبار.

(٢) يقصد الشخص المدعي (الأمين التاجر بناصر غنام) الذي ألحق به تهمة يحاول بها أن ينال من عدالته لدى القاضي.

(٣) التهديد برفع الدعوى إلى القاضي ليسقط شهاداته.

٣٢٧

فأجبته (١) ووفيت له بالمكيال الكبير ، ولم يكن قلقي في هذا الميدان قصير ، وما ظلمته والله أعلم ، ولكن الخير بالخير والبادي أكرم. أما علمت أنك كنت لذلك طالبا مشتاقا ، ومتشوقا إليه وفيه راغبا ، وتوجهت إليه بقلبك ، بعدما أخذ حبه بمجامع قلبك ، وكنت تتأمل في ذلك تأمل المشتاق ، وتتمايل طربا تمايل العشاق ، وتتصدر في المواضع التي لها اشراف ، وجاوزت في تلك حد الاشراف ، وأكدت ذلك بالاستحسان وزكيته بالثناء وطول اللسان ، حتى كأنك تثني على مريم وآسية ، ويسليك ما انطوت عليه تلك القلوب القاسية ، وتتلذذ به مساء وصباحا ، وكأنك ارتكبت أمرا مباحا ، وما غضضت عن ذلك النظرة وسلكت مسلك أولائك النفر ، ولأنشرن خبرك في الأوطان ، وأشرح حالك في حضرة مولانا السلطان /٢٨٣/ فيعرف منزلتك بين التجار ، ويعطل تجارتك بخدمته الشريفة في الأقفار والبحار ، أو يدنيك من قربه وهذا جزاؤك والمرء مقتول بما قتل به ، وأما ما رميتني به من الفجر ، والأفك وببّنات الزور ، فإن القاضي له عقل حاد ، من الأذكياء النقاد ، لا يسمع منك تلك الدعوى ، وربما تجر عليك البلوى ، فإن من الهوى والفضول ، اتباع العورات لا سيما تجريح العدول ، وقد علمت أني توجهت معكم جبرا ، ولم يكن لي بذلك خبر (٢) ، ومع ذلك كنت ممن تركوا بدارهم القلوب والأرواح ، وتوجهوا بالأجسام والأشباح ، وتأخرت باختياري في ذلك المجلس إلى وراء ، ونبذت ما هناك بالعراء ، ولم يكن لي لذلك التفات ، ولم تصحبني نظارة ولا مرءاة ، وأخذتني هناك سنة من النوم ، حتى استغرب ذلك الترجمان من القوم ، ولا مني على نومي ، مع أني ظللت نائما جل يومي وها أنا أشرح للقاضي قصتي لينصفني وأستريح من غصتي ، وأبينها في بحر خفيف ذي قافية ، فإنه ممن يراقب من لا يخفى عليه خافية ، وهذا أوان رقم تلك

__________________

(١) الجعيدي بصفته المدعى عليه والمقصود من الشكوى ، يدافع عن نفسه ويكشف عيوب الدعي.

(٢) في الأصل خبرا وهي خطأ ، نصبها لأجل ضرورة السجع.

٣٢٨

الدعوى في الأسطار ، وترتيب فصولها في هذه الأشطار (١) :

قد رفعت إليك يا علم الوق

ت، ومفتي الأنام قاضي القضاة

قصتي ، فاستمع وبالحق فاحكم

وارحم ضعفي ، وفيض ذي العبرات

قاسني من رفيقي ظلم وجور

لكن كان مقصوده مسرّاتي(٢)

كلفوني دخول دار (الطياطرو)

أوقفوني مواقف الشبهات

فامتنعت ، وقلت ذاك حرام

فاتقوا الله عالم الخفيات

ثم جاءوا وقد تمالاوا طرا

على ظلمي بباطل الدعوات

/ زعموا أنه يسرني  ـ جورا ـ

مثل ما سرهم من رقص البنات(٣)

أوعدوني برفع ذلك للقاضي

ليرى ذاك ساقطا شهاداتي

ليس للقوم حجة ولا رسم

لا برهان لهم ، ولا بينات

__________________

(١) هذه القصيدة اختار لها الإيقاع الخفيف وذلك لخفته وسهولة النظم فيه ، وفي الحقيقة ما هي إلا تسجيل ثاني لما سبق تسجيله عند المؤلف نثرا مسجوعا على منهجه المعتاد في التوثيق. وهي قصيدة متواضعة شكلا وموضوعا ، لما ساده من خلل وتكسير على صعيد الإيقاع والتعبير، غير أنها توثق لنا كل ما يحدث له ولغيره على سبيل الفكاهة الأدبية.

(٢) استدراك بأن القصة غير مقصودة لذاتها ، وإنما تمت صياغتها من أجل التسلية.

(٣) الشبهة المنسوبة إليه مشاهدة رقص البنات في المسرح.

٣٢٩

لست أبغي وكيلا (١) عن هذه

الدعوى إذ شأنه الميل للفليسات

وحلفت يمينا عن صدق قولي

واستوفاها مني أخو الترهات

فاستمع نصها وعلمه للعدل

المزكي ، لردع كل البغاة

فبحق (٢) سهام تلك الجفون

وقسيّ كرمي الرماة

وبهز القرود عند التثني

وبحق احمرار تلك الوجنات

وبلثم الوقوح تلك الشفاه

فازمن زعمه بتلك اللذات

بالصدور ، وما بها من رمان

بانكشاف الذوات لا العورات

ما نظرت إلا بناظر عيني

لا بقلبي لا بضوء المرآة

لا تقل أن الحكم يجري على

الظاهر (٣) ، دون التفات للخفيات

__________________

(١) الجعيدي يرغب في الدفاع عن نفسه ، دون حاجة إلى وكيل ينوب عنه لقناعة لديه أن الوكيل رجل مادي متهافت على (الفليسات) الدراهم .... وهذا انتقاد صريح لما كان عليه الوكلاء في عهده من تكالب وتهافت على جمع المال.

(٢) هنا تتجلى قمة الدعابة المقصودة من صياغة هذه القصة ، لذلك لم يتحرج الجعيدي أن يقسم بكل المناظر المكشوفة التي أكره على مشاهدتها ، إذ يتضمن لفظ هذا اليمين وصف الراقصات ، وصفا ماديا كاشفا لذواتهن.

(٣) أما جواب القسم فهو اعتذار وإقرار ، لهذا لا يطبق عليه الحديث» أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» بل يطبق عليه حديث» إنما الأعمال بالنيات».

٣٣٠

فقد بان صدقي ، وعندي فتاوي

إن ذاك من معفو العترات

وافتح بابا إلى التأويل ... وإلا

فلنا رب يغفر السيآت (١)

ثم أن سيدنا الرئيس اطلع على ما هنا من الدار النفيس ، وتأمل هذه القضية نظما ونشرا ، وفاح لديه طيب شداها صنعا ونشرا ، وتأمل في فصول ذلك القسم ، وسره حتى ضحك وابتسم ، فقال لا تثريب عليك ولا ضير ، فاستصلح بينكما والصلح خير ، ولا ترفع /٢٨٥/ ذلك لأحد من الولاة ، ولا تطالع به الوشاة ، وصنه صينة النفس الشحيحة بما لها ، واستره ستر الحسناء العفيفة بجمالها ، فرجعت القهقرا ، وتأخرت إلى وراء ثقة بعدله كما وعده وصرت لا أبالي بعد بمن قام أو قعد ، ولا أرفع رأسا لمن أبرق أو أرعد ، ولكن شرطت عليه أن يحضر خصمي ، ويشترط عليه عدم تمزيق رسمي ، لأن في تمزيق الرسوم تضييع الحقوق ، إذ ربما ينشئ عنها الإنكار والعقوق ، فكان بذاك كفيلا ، وكفى بالله وكيلا ، ثم المطلوب من الواقف على هذا الجمل الواهية الأساس المركبة على غير قياس ، أن لا يبادر إلى الإنكار ، بما تبديه بديهة الأفكار ، فإنك إن جلت في غربتي ، وتبين لك حالي وكربتي ، ولخرجت من فرقة الإنكار ، إلى فرقة من يلتمس الأعذار ، وصرت لي من خير الفرقتين ، وقلت عذرا لك يا من جسمه برومة (٢) والقلب بالعدوتين.

__________________

(١) قصيدته هذه يعترها بعض الخلل والتكسير ، لأن المؤلف يمارس نظم الشعر على سبيل المحاولة ، كتعبير ثاني لما سبق أن عبر عنه نثرا مسجوعا لتوثيق الحدث المسجل وتأكيده شعرا لجريان الشعر على الألسن وشيوعه بين الناس بكثرة ، ولو كان غير مستوف لأدواته الضرورية التي منها الوزن والإيقاع وكذلك الشاعرية.

(٢) هذه المستلمحة كتبت أثناء تواجد السفارة المغربية بروما لكن صاحب الرحلة أدرجها مع أنشطة السفارة بفرنسا.

٣٣١
٣٣٢

الجزء السادس

أخبار بعض بلاد الطاليان (١)

وكان خروجنا من ليون في الساعة الثامنة ليلا من ليلة الأحد الثاني والعشرين من رجب (٢) ، وخرج مع الباشدور ترجمان الدولة الفرنصوية مع ترجمانهم بطنجة ، وركبا معه في بابور البر في عربة منتخبة وقطعنا الليل كله سفرا ، وفي الساعة الرابعة صباح الأحد المذكور ، وصلنا إلى مدينة تسمى رمضان (٣) ، وهي الحدادة بين الجنسين الطاليان والفرنصيص ، ويقال إنها مشتركة بينهما في الحكم كل جنس منهما يحكم في نصفها الذي من جهته ، وهناك تلقى للباشدور نائب الطاليان ، وهو

__________________

(١) انظر خريطة تنقلات السفارة المغربية عبر إيطاليا بملحق الرسوم والصور صفحة ٢٢).

(٢) ٣ أغشت سنة ١٨٧٦ م.

(٣) Modane.

٣٣٣

القونصو (١) وهو رجل ذو عقل وأدب يحسن النطق باللغة والقلم العربي ، وكذا غيرها من اللغات وله خلق حسن وله مكانة معتبرة عند الدولة ، ووجدناه قد هيأ عربة أنيقة كبيرة ، فيها عشر شوالي /٢٨٦/ كبيرة مبطنة بثوب حرير أحمر فيه تشجير ، وبين كل شيليتين مائدة مستديرة قائمة على كرسي من عود ، عليها أشكال من الحلواء والعنب والبطيخ وغيرهما من فواكه الوقت ، وكذلك من الحليب والقهوة وأواني الماء من البلار الرفيع المدفون في وسطه الثلج ، وفي العربة سراجم ثمانية بالزاج من الجهتين كبيرة ، على كل سرجم ستر من ذلك الحرير المذكور طويل مع مجاديل غلاظ منه ، في كل واحد كبالة (٢) كبيرة من الحرير لربط ذلك الستر به ، وستر آخر من حرير أزرق يرسل تارة على الزاج وقاية من شعاع الشمس ، وسقفها وبقية ما بين السراجم منها كله مبطن بذلك الحرير ، وبداخل هذه العربة بيت الخلاء ، والماء يجري بحلابة عند إدارة تنظيفه وبها حلاب آخر في الجهة اليسرى عند الدخول لبيت الخلاء ينزل الماء إليه من بزبور فوقه عند الاحتياج إليه. ولم يقصر هذا القونصو في البرور والتعظيم والترحيب.

ثم سافر البابور بنا بعدما رجع ترجمان الفرنصيص الذي كان (٣) طلع من طنجة ، وبقي معنا ترجمان الدولة الوارد من باريس ، وتوجهنا إلى مدينة طورين (٤) ، وهي

__________________

(١) قنصل إيطاليا بمدينة حلب بالشام ، القائد بوزيوBosio ، استدعى رسميا ليكون المرافق والترجمان الخاص للسفارة المغربية ، خاصة وأن سفير إيطاليا بلندن نبه حكومته لذلك.» ... إن أنجلترا وضعت تحت أمر السفير المغربي دبلوماسي رسمي يقضي وقته كله في الترجمة وحكومتنا لا بد أن تكلف شخصا ليقوم بنفس المهمة ...». D.M.Smith) p: ٢٦٥.)) S.D.P.E.I)

(٢) المكب الكبير ، ما يلف عليه الغزل أو الخيوط المختلفة ، ج. مكبات ومكاب. (المنجد).

(٣) Jules Mong سنجده في ما بعد مرافقا لأعضاء السفارة المغربية بإيطاليا ومتتبعا لخطواتها (جاسوس فرنسي).

(٤) Torino أو (Turin) رابعة مدن إيطاليا ، عند نهر البو ، وعلى منحدرات جبال الألب ، كانت عاصمة لمملكة سردينيا (١٨١٤ـ ١٨٦٠) ، وعاصمة إيطاليا حتى عام ١٨٦٥ م. (دائرة المعارف الحديثة ، ج ٢ : ٥٤٨).

٣٣٤

مدينة عظيم الدولة ، وما بين هاتين المدينتين جله من جهة مضان ، جبال شاهقة مرتفعة في الهواء تطاول السحاب طولا وتجاوزه وصولا وعلى رؤوسها من الثلج عمائم لا يزال حتى في أيام السمائم (١) ، فكان البابور يمر بنا في مواضع ضيقة بين تلك الجبال وقد شمخت بالفضاء والتوسعة في ذلك المجال ، وتارة تعارضنا الجبال الشاهقة ، فيمر البابور تحتها حتى لا يدري من الجهات الغاربة من الشارقة ، فمنها ما يطول سيره تحتها نحو ثلاثين دقيقة ، ومنها ما هو أقل من ذلك ، وتارة يتلاقى بابوران تحت تلك الجبال فيمر كل على طريقه /٢٨٧/ فتحدث أصواتا مرهبة ، والعربات تمر كالبرق باختلاف حركتيها بين مقبلة ومدبرة ، وحين قربنا من مدينة طورين المذكورة ، تركنا تلك الجبال وراءا وخرجنا إلى التوسعة والفضاء ، فوجدنا هناك بساتين وأنهارا ومزارع وأشجارا ، واتصل ذلك في الجهتين إلى أن وصلنا إلى تلك الديار.

الدخول إلى طورين

وكان وصولنا إليها أي مدينة طورين في الساعة الثامنة وخمسين دقيقة من يوم الأحد (٢) المذكور ، وتلقى هناك للباشدور عامل تلك البلد وشيخها والجلنار ، بالفرح والبرور والتعظيم والسرور ، وذكروا أنهم مامورون من قبل أمير الدولة بالوقوف معه والبرور به والتوسعة عليه وعلى من معه وتنفيد جميع ما يحتاج إليه من الضروريات والمقضيات ، اعتناء بجانب مولانا الشريف واهتماما بشأنه المعظم ، فجازاهم الباشدور عن ذلك بلين الكلام ، ثم ركبنا في الأكداش ودخلنا البلدة المذكورة ، أنزلونا بأوطيل (٣) معتبر ، فيه فرش عديدة وكنابيس وشوالي من الموبر والحرير ، وكانت على أيدينا فيه قبب عديدة ، كل قبة مخالفة للأخرى في الهيئة والزخاريف والفرش ،

__________________

(١) مفردها السموم وهي الريح الحارة تهب أواسط فصل الصيف (المنجد).

(٢) ١٣ غشت سنة ١٨٧٦ م.

(٣) فندق Albergo D\'EuroPa.

M. D. R. A. E. I) ARCH. STOR. DIPL (Roma.

٣٣٥

وكان بقربنا بيوت الماء عديدة في كل بيت صندوق من حديد أو غيره ، ينزل إليه من بزبوزين الماء الحار والبارد ، ولم نر مثله في موضع إلا في أوطيل باريس ، لكن الذي في باريس تسد تلك البيوت في الليل كله ، وعليها حراس موكلون بها بخلاف البيوت التي في أوطيل طورين ، فإنها مباحة لا تسد لا ليلا ولا نهارا. ولم يكن أحد موكلا بها ، وهذا الأوطيل يشرق منه على فضاء متسع كالمشور ، قدامه دار أمير الدولة ، وكان قبل وصولنا خارجا عن هذه المدينة في نواحيها ، يقصد الأماكن الباردة لشدة حرارة الوقت ، وحيث كنا باللوندريز أتى إلى الباشدور يوم دخولنا إليها قونصو الطاليان بها ، وأخبره أن كبير دولتهم بصدد الخروج /٢٨٨/ إلى نواحي بلده ، وأنه لا يرجع إليها حتى تمر نحو خمسة وعشرين يوما من شهر غشت العجمي ، وكان مقصوده (١) بذلك أن يبين له في أي يوم يكون خروجه من اللوندريز ، وكان أجابه إذ إذاك بأن الزائر في قبضة المزور ، وأنه لم يدر في أي يوم يكون خروجه منها ، ولم يكتف بهذا فقال له : إن خرج أمير دولتكم للصيد في تلك الجبال فإني أتوجه إليه بها بحول الله ، لأني مولع بالصيد (٢) ، ولي به شغف كبير فسر بذلك سرورا عظيما ، وقال في هذه الساعة يتكلم مع دولتهم في طريق السلك بما أجابه به الباشدور ، وقد بالغت هذه الدولة في الإكرام وبسط موائد الأنعام بسطا كبيرا ، لم نعهد مثله فيما تقدم ، ويتوالى ذلك منهم بتوالي الأوقات ، ومع هذا كله يتفقد

__________________

(١) بعد هذا الاتصال أخبر السفير المغربي سفير إيطاليا بلندن وزيره Melegari بما يلي :» ... وأنا مستعد للذهاب والبحث عليه لأحدد معه تاريخ وصوله إلى إيطاليا وتاريخ زيارته للملك ، والسفير المغربي يرغب في أن تصل الهدايا إلى إيطاليا قبل وصوله ...» ، لندن ١٨ / ٧ / ١٨٧٦ م : ٢٦٥. ثم أخبرت وزارة الخارجية الإيطالية سفيرها بباريس ...» في الأيام الأخيرة لهذا الأسبوع سيصل إلى باريس السفير المغربي قادما من أنجلترا ، وقد أخبرناه أن الملك سيستقبله بطورين ما بين ٢٩ و٣٠ غشت ، وأخبره أن الهدايا وصلت إلى ميناء جنوا ...». روما ٢ غشت ١٨٧٦ م : ٢٩٤.

S. P. E. I) D. M. Smith (.

(٢) أخبر سفير إيطاليا بلندن حكومة بلاده بذلك ، فنظمت حفلة خاصة للصيد البري على شرف السفير الزبيدي بضواحي طورين كما سيرد لاحقا.

٣٣٦

القونصو المذكور أحوالنا ويتردد إلينا ويسألنا هل نحن محتاجون لشيء ، وأخبر أنه مأمور من قبل الدولة بالتوجه بنا إلى بعض مدنهم كرومة وفرينسي (١) وغيرهما ، بقصد رؤية ذلك وبسط الباشدور وكمال الفرح والسرور ، وأقمنا هناك في مدينة طورين المذكورة.

مدينة فرينسي وما رأيناه فيها

إلى الساعة السابعة عدا خمس دقائق من مساء يوم الاثنين الثالث (٢) والعشرين من رجب ، وفيها ركبنا في بابور البر في تلك العربة الموصوفة ، وركب معنا القونصو المذكور وصحب معه أنواعا من الحلواء والفواكه والماء أيضا ، ومن هناك رجع ترجمان الدولة الفرنصوية بعد ما سافر البابور شيئا يسيرا ، وهذا البابور كان يقف في بعض المدن التي في طريقه فينزل منه أناس ، ويحمل آخرين على العادة ، وفي كل مدينة يقف نحو خمس دقائق فأقل ، ومهما وصل وجد الناس مهيئين للركوب ليلا ، وكذلك المكلفين بالبابور في تلك المواطين والأماكن لا يغفلون عن أشغالهم ليلا ونهارا ، ولكن يخلفهم في تلك الخدمة غيرهم في بعض الأوقات ، ففي الساعة

__________________

(١) وصول السفارة المغربية قبل الموعد المحدد للاستقبالات الرسمية ، جعل الحكومة الإيطالية تخصص لهم زيارة خاصة إلى روماRoma العاصمة الجديدة لإيطاليا الموحدة ، ولمدينة فرنسي Firenze كما جاء في جواب الحاجب السلطاني عن مكاتب الزبيدي التي يشرح فيها ما راج في تنقلاته» ... ورد عليهم عامل طورين وشيخها والجنرال وكبير العسكر وأخبروكم بأن عظيم الدولة خارج البلد حسبما قدمتم الإعلام بذلك ، وأن رجوعه يكون في أواخر غشت وقاموا بالاعتناء بكم وطلبوا توجهكم إلى رومة عملا بما أمروا به من قبيل كبيرهم ...». موسى بن أحمد ٤ رمضان عام ١٢٩٣. (الإتحاف ، ج ٢ : ٣٠٣).

(٢) ١٤ غشت سنة ١٨٧٦ م.

٣٣٧

السابعة وخمسين دقيقة ، وقف البابور في مدينة اقس (١) وفي الثامنة وثلاث وثلاثين دقيقة وقف في بلدة تسمى سكندرية (٢) ، /٢٨٩/ وطلع إلى الباشدور عامل البلد وبعض أعيانها ، (٣) ورحبوا به غاية الترحيب ، وفي التاسعة ونصف وقف في مدينة طرطونه (٤) ، وفي التاسعة والإحدى والخمسين دقيقة وقف في بفير (٥) ، وفي العاشرة والعشرين دقيقة وقف في اسطرديلا (٦) ، وفي الحادية عشرة عدا خمس دقائق وقف في ابياجنصا (٧) ، وفي منتصف الليل وزيادة عشرين دقيقة وقف في طالما (٨) ، وفي الساعة الأولى وثلاثين دقيقة وقف في موظنا (٩) ، وفي الساعة الثانية وثلاثين دقيقة وقف في بلونيا (١٠) ، وكان سلط الله علي في هذه الليلة ذميا يخبرني بهذه المدن بعد ما يبحث عنها ، ومهما كادت تأخذني سنة من النوم لسعني كالبرغوت حتى ضاق خاصري من ذلك ، ولم يجمل بي نهره عن ذلك وتدرعت بالصبر الجميل ، فصرفه الله عني بعد ذلك ، وخرج من تلك العربة وما رجع إليها حتى وصلنا إلى مدينة فرينسي (١١) في الساعة السابعة صباح يوم الثلاثاء الرابع والعشرين (١٢) من رجب ، وهذه المدن التي كنا نمر بها هي مدن عظيمة ، وكنا نشاهد حالة السفر ضوءا كثيرا في مدن أخرى بعيدة عن طريق البابور عن اليمين واليسار ، وعند وصولنا لمدينة فرينسي (١٣) المذكورة ، تلقى للباشدور عامل البلد وشيخها عند النزول من البابور ، ثم ورد كبير الجلنار وآخران معه من كبراء العسكر ، ثم

__________________

(١) المحطات :

Asti ـ ـ < Allessandria ـ ـ < Tortone ـ ـ < Vochera ـ ـ < Stradella ـ ـ < Piacenza ـ ـ < Parma ـ ـ < Modena ـ ـ < Bologna ـ ـ < Firinze.

(٢) ١٥ غشت سنة ١٨٧٦ م.

(٣) عاصمة منطقة التوسكاناToscana ، وتعتبر المركز الأكثر أهمية في العالم ، لما تتوفر عليه من آثار لتعاقب الفنانين عليها. وأصبحت عاصمة إيطاليا من سنة ١٨٦٥ م إلى هزيمة فرنسا أمام ابروسيا سنة ١٨٧١ م ، حيث دخلت جيوشها روما التي أصبحت عاصمة الدولة الإيطالية الجديدة.

L\'encioclomedia Grolier Int) Milano): vol. 8: 114.

٣٣٨

خليفة (١) وزير الأمور البرانية ، وشاهدنا من أدبهم وبرورهم وشدة فرحهم ما تعجبنا منه ، ثم أنزلونا في أوطيل متسع مزخرف غاية أيضا ، وبالغوا في الإكرام والبرور والاحترام.

وفي مساء هذا اليوم أتوا بالأكداش فركب الباشدور ونحن في أثره ، وتوجهوا بنا إلى دار قديمة البناء بهذه المدينة ، يقال أنها بنيت قبل نحو ثنتي عشرة مائة سنة كانت تعرف عندهم بدار الحكومة (٢) ، فصعدنا إلى قبة مربعة في طولها نحو ستين خطوة ، وفي عرضها نيف وأربعون ، فيها خزانات من الزاج فيها أواني كبيرة من الطاوس ، قيل إنه من عمل إيطاليا في القديم ، ثم إلى أخرى فيها خزانات زاج أيضا فيها صور آدميين وغيرهم من العاج ، وفي أسفل إحدى الخزانات عظم سرج من العاج شبيه بعظم سرج الغرب ، وقبة أخرى فيها /٢٩٠/ صور عبيد سود من نحاس مختلفي الأحوال ، ثم إلى طبقة (٣) فوق هذه وجدنا في قبة كساوي مرصة بالذهب والأحجار ، وفي بعضها تصاوير مرقومة بما ذكر وبالحرير قيل ذلك مرقوم بالإبر ، وفي قبة أخرى صور من الودع لاصقة الجدران ، وفي أخرى في جدرانها ستر من الحرير مرسوم فيها صور آدميين أيضا ، وفي أخرى خزانات بالزاج فيها قوالب وطوابع سكك قديمة من ذهب وغيره ، ثم خزين بأسفل الدار فيه سلاح قديم وفيه مدفع نحاس عظيم ، قيل هو في الأصل من عمل إيطاليا ، وكان أهداه لهم بعض ملوك تونس ، وبقرب خزنته الغبر رقم سبعمائة وأربعة قيل ذاك تاريخ صنعه.

__________________

(١) Tornielli الكاتب العام لوزارة الخارجية الإيطالية (D.M.Smith) .S.P.E.I.

(٢) مجلس السينيوري Palazzo Vecchio O Della Sicnoria أو قصر الشخصيات ، تم إنشاؤه عام ٢٠٠ م من طرف Arnolfo di CamPio ووقع ترميمه سنة ٥٠٠ م ، واستقر به حاكم فلورنسا كوزيمو ذي ميدتشي الذي أنشأ مكتبة عامة في كنيسةSanta Maria Del Fiore أو أواخر ق ١٥ م ، وأسس الأكاديمية الافلاطونية التي جمعت نخبة من المفكرين.

L\'EncicloPedia Grolier Int) Milano (, Vol 20: 134.

(٣) الطابق الأول به غرف فرانسيسكو الأول Francessco I بديكورها القديم. (نفس المرجع السابق).

٣٣٩

الدخول إلى دار المهندسين والفلكيين

وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين (١) منه أي رجب ، توجهنا لدار العلماء المهندسين والفلكيين. فصعدنا إلى قبة بها فتلقانا كبيرها بالتعظيم والترحيب ووجدنا في جدرانها خزانات من الزاج فيها إسطرلابات (٢) عديدة ذات أشكال مختلفة ومتفاوتة في الكبر والصغر ، ورأيت فيها إسطرلابين من عمل المسلمين (٣) ، أحدهما لعرض ست وثلاثين ونيف ، والآخر لعرض ثمانية وثلاثين ونيف ، فذكر أنهما صنعا قبل تاريخه بأزيد من خمسمائة عام ، فتناولت أحدهما من يد (٤) ووضعت حرف المضادة على أول درجة من الحمل ، فوافقت اليوم الخامس عشر من مارس ، فقلت له هذا الإسطرلاب صنع قبل بأزيد من ستمائة سنة عجمية ، وأشرت له بأن أول الحمل كان إذ ذاك في خامس عشر من مارس ، وأما اليوم ففي السادس منه تقريبا ، فسلم ذلك ، وهناك آلات أخر من نحاس ، ومرءاة لعلها للرصد ، ودخلنا إلى قبة وجدنا فيها دوائر لعلها من حديد بعضها داخل بعض ، وعددها إحدى عشرة دائرة وهي مختلفة الوضع ، منها ما هو من المشرق إلى المغرب ، ومنها ما بالعكس ومنها ما هو بين ذلك ، وفي وسطها كرة مركزها خارج عن مركز /٢٩١/ الدائرة الثامنة ، وهم يحكون بذلك

__________________

(١) ١٦ غشت سنة ١٨٧٦ م.

(٢) أنواعه كثيرة منها الهلالي والكروي والصدفي والمبطح والمسطح ... وغير ذلك. (موسوعة عربية عالمية).

(٣) الجدير بالذكر أن علم الإسطرلاب لم يتقدم إلا على يد العلماء المسلمين ، حيث وصلت هذه الآلة درجة عالية من الفائدة والتعقيد في الاستعمال بعد ما كانت بسيطة وبدائية عند اليونانيين ، وهناك المئات من الإسطرلابات مبعثرة بالمتاحف العالمية في أنجلترا وباريس وإيطاليا وأمريكا وغيرهم. (حالة العلوم عند المسلمين ، دمشق ، ١٩٧٢ : ١٣٥).

(٤) الجعيدي كان من كبار أساتذة علم الفلك (انظر ترجمته) ، خاصة أن بعض المغاربة ابتكروا أكثر من آلة فلكية جديدة ، مثلا عبد السلام العلمي. (انظر المنوني ، مظاهر يقظة المغرب ، ج ١ : ١٥٧).

٣٤٠