إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

إلى غيرها ، فلم أجد بعد من يخبرني بالمدن التي كان يقف فيها البابور بعد.

وفي الساعة الثامنة وخمسين دقيقة من يوم الجمعة المذكورة ، وصلنا إلى مدينة طورين ووجدنا أهلها فرحين مسرورين ، ووجدنا بالمحل الذي وقف فيه البابور جما غفيرا من العسكر (١) متهيئين للقاء الباشدور خيلا ورماة ، وطلع إليه للعربة عامل البلد والجلنار وأعيانها مهنيئن له في السلامة والعافية ، /٣١٣/ وعند نزولنا من العربة أخذ أصحاب الموسيقا يخدمون بها ، ووجدنا الطرق قد سدت وامتلأت بازدحام الناس ومسابقتهم كأنهم يتسارعون إلى رؤية ملكهم أو أعظم ، وامتدت الطرق التي مررنا عليها على هذا الازدحام ، حتى وصلنا إلى المحل الذي أنزلونا به ، فوجدنا هناك فئة أخرى من العسكر ومعهم أصحاب الموسيقا ، فاشتغلوا بخدمتها حتى صعدنا إلى المواضع التي هيأت للنزول ، وكان هذا المحل الذي أنزلونا به مقابلا لدار عظيم دولتهم ، بينهما براح متسع كالمشور مربع منعطف كهيئة أكدال ، وامتد مع جدراته أعمدة قائمة من نحاس كأنه مخروط مورق جعل على رؤوسها فنارات خمس توقد ليلا ، وهذا المشور دائما يمر الناس به راجلين وفي الأكداش وعربات الوسق وغيرها.

اللقاء بعظيم دولة الطليان وببعض الأمراء

وبعد نزولنا تقريبا ورد الإعلام للباشدور (٢) بالطلوع للملاقاة مع عظيم الدولة غدا ،

__________________

(١) وصل ممثل إمبراطور المغرب ... واستقبل بجميع المراسيم الملكية ، وكان في استقباله في المحطة الجنرال Cadorna وعامل المدينة بزيه الرسمي و... عزفت الموسيقى على الطريقة الملكية كما وصلت العربة الملكية التي حملتهم عبر شوارع طورين تحت رعاية جيش الشرف إلى فندق أوربة ... منحت لهم القاعات الفخمة.(بتاريخ ٢٥ ، غشت سنة ١٨٧٦ م). الإيطاليةGazzetta Del PoPolo.

(٢) وجه وزير خارجية إيطاليا ميليكاري رسالة إلى السفير الزبيدي يخبره بيوم استقبال ملك إيطاليا لهم وذلك يوم السبت ٢٦ غشت سنة ١٨٧٦. «أنه جوابا عن كتابكم الذي مكنني إياه سعادة عامل فالازيو حاجب جلالة السلطان أتشرف بأخبار سعادتكم أن مولانا الملك سيستقبلكم في حفلة رسمية بطورين». (الإتحاف ، ج ٢ : ٣٠٥).

٣٦١

أعني يوم السبت في الساعة العاشرة منه ، فعند ذلك أحضرت صناديق الهدية وفتحت وتفاوض مع الترجمان في تقديمها لدار عظيم الدولة قبل اللقاء (١) به ، فاستأذن في ذلك واستحسن هذا الرأي ، فوجهها في عشية ذلك اليوم. وفي يوم السبت الرابع من شعبان (٢) ، في الساعة السابعة ونصف من صباحه ، أخذ العسكر في التهييء للملاقاة وصاروا يأتون أفواجا أفواجا من كل طريق من الطرق التي توصل لذلك المشور خيلا ورماتا ، وكل طنبور معه أصحاب الموسيقا ويصطفون بذلك المشور صفا وراء صف حتى أخذ كل واحد وكل طنبور موضعه ، وامتدت الصفوف من باب الدار التي كنا بها إلى باب دار عظيم الدولة ، وعند وصول الساعة العاشرة أتت عربات (٣) ثلاث ، كل عربة يجرها أربعة من الخيل ومعها أربعة من العسكر لابسين ثيابهم الفاخرة ، فخرج الباشدور وركب العربة الأولى ومعه الترجمان ، وركبت مع الأمين الثانية ومعنا /٣١٤/ كبير المخازنية ، وركب المخازنية الأربعة العربة الثالثة ، لكن أذن للعساكرية الأربعة الذين يسوقون العربة التي نحن فيها بالتقدم ، فتقدمت

__________________

(١) أثناء هذا اللقاء قدم الزبيدي رسالة سلطانية لملك إيطاليا لم يشر إليها الجعيدي نصها «... أما بعد اقتضى نظرنا السديد أوفدنا إليكم حامله خديمنا الحاج محمد الزبيدي ... وقد حملناه ما يذكره لكم مشافهة نيابة عن جانبنا من المجازات بلسان الخير والثناء ... حيث عينتم سفيركم ... وأوفدتموه على حضرتنا الشريفة مبينا لما نعتقده من صفاء المحبة ... والمعتقد عندنا أن تقابلوا سفيرنا المذكور ، ومن معه بغاية الاعتناء والبرور ... وتصدقوه في جميع ما يذكره لكم ... حتى يرجع مقضى المطالب ناطقا بلسان الثناء ، فإن محبتنا مع دولتكم الفخيمة القديمة ، والمحبة تقضي التسهيل والتيسير ... ٢٨ جمادى الأولى عام ١٢٩٣ ه‍». (الإتحاف ، ج ٢ : ٣٠٦).

(٢) السبت ٥ شعبان يوافق ٢٦ غشت سنة ١٨٧٦ م.

(٣) «.. وبإيقاعات موسيقية ملكية دخلت عربات السفارة المغربية إلى القصر الملكي مصحوبة برجال الدرك على خيولهم بعد قطعهم الساحة الرابطة بين فندق إقامتهم Al Bergo D\'EuroPa، والقصر الملكي Palazzo Reale وكان معهم القائدBosio والكونت Sambuy ، حتى وصلوا إلى قاعةSlaone» Degli Suizzeri ـ ـ ـ.

Gazzeta Del PoPolo (Torino) بتاريخ ٢٧ غشت ١٨٧٦ م.

٣٦٢

وتبعتها عربة الباشدور وتأخرت عربة المخازنية ، وتقدمت فئة من فرسان العسكر قدامنا في أحسن ما يكون من الزي والتهييء ، ومن خروجنا والموسيقا تتكلم عند كل طنبور نصل إليه ، والعسكر يشير بالسلام متأدبا على عادته ، حتى وصلنا إلى باب دار عظيم الدولة (١) ، فنزلنا ووقفنا حتى تقدم الباشدور وتبعناه والمخازنية وراءنا ، وصعدنا قبب هذه الدار ووجدنا قليلا من العسكر بالدرج التي مررنا بها حتى قابلتنا القبة التي فيها عظيم الدولة ، وكان واقفا بالباب أحد كبراء العسكر ففتح باب القبة وتقدم الباشدور للدخول وتبعه الترجمان فقط ، وكان عندنا الإذن بالوقوف بباب القبة عند دخول الباشدور ، حتى يؤذن لنا بالدخول وعند دخولهما سد ذلك الباب ، ووقفنا نحو ست دقائق ثم فتح ذلك الباب وأذن البواب لنا بالدخول ، فتقدم مقيده ـ عفا الله عنه ـ وتبعه الأمين وفقه الله ، وفي أثره كبير المخازنية وبعده باقيهم ، فلم يكن في تلك القبة إلا عظيم الدولة والباشدور والترجمان لا غير ، فبادر عظيم الدولة بالإشارة بالتحية فأجبناه ، ثم عرفه الباشدور بكل واحد منا وبمرتبته ، ومهما عرفه بواحد أعاد التحية أيضا لكل واحد بخصوصه ، وأجيب بمثلها وظهر فيه من الفرح والسرور ما لم نره من غيره ، وكذلك من كبراء دولته وأهل بلدانه وخصوصا أهل هذه البلدة أعني طورين.

ثم خرجنا من عنده ورجعنا ، فوجدنا العسكر لا زال كل واحد بمحله ، وتوجهنا

__________________

(١) ملك إيطاليا فيكتور إمنويل الثاني (١٨٢٠ ـ ١٨٧٨) Emmanuel II Victor- شغل منصب ملك سردينيا من ١٨٤٩ م إلى ١٨٦١ م ثم توج ملكا على إيطاليا من ١٨٦١ م إلى ١٨٧٨ م وهو ابن شارل ألبيرCharles ـ Albert واجه الكثير من الحروب مع النمسا وفرنسا ، لكنه تابع عملية توحيد إيطاليا في سنة ١٨٦٦ ضم إقليم البندقية ودخل رسميا لروما سنة ١٨٧١ م وعمل على تخفيف الصراع مع الفاتيكان الذي كان يرفض الأمر الواقع ، وقد عاش هذا الملك الجندي حياة بسيطة.

Dictionnaire d\'histoire Universelle, Michel Mourre, Bordas, V 1: 1664.

٣٦٣

إلى دار ولده للملاقاة معه وهو الذي كان سلطانا (١) عند دولة الصبنيول حين تقاتلت تلك الدولة مع عظيمها ، ففرح بقدومنا عليه فرحا كبيرا ، وكذلك توجهنا في هذا اليوم لدار خال عظيم الدولة /٣١٥/ وهو رجل مسن يستخلفه (٢) عظيم الدولة في سفره ، ففرح كذلك فرحا عظيما وعند رجوعنا إلى محل النزول ، أخبر الباشدور أن من جملة ما تكلم به عظيم الدولة مما يدله على تعظيمه للجانب الشريف ـ أسماه الله ـ واعتنائه به ، أن قال له أنه كان مسافرا في بعض نواحي بلده وأنه إنما قدم لأجل الملاقاة به ، وأنه غدا أي يوم الأحد راجع للمحل الذي كان فيه وأنه أذن لولده يصنع لنا وليمة إكراما وفرحا منه بقدومنا ، ويكون ذلك بداره أي عظيم الدولة ، فلأجل ذلك طلب منه اللقاء بولده فأذن به وسره ذلك سرورا كبيرا.

وفي منتصف هذا النهار أتى الترجمان ومعه كاتب سر عظيم الدولة بتحف (٣)،

__________________

(١) Amedio Disvoia (١٨٩٠ـ ١٨٤٥ م) الابن الثالث للملك فكتور إيمانويل الثاني ، قبل التاج الإسباني سنة ١٨٧٠ م الذي كان فارغا بعد طرد الملكة إيزابيلا الثانية دي بوربون Di Borbone، لكن عارضه الجميع ففضل التنازل على العرش بعد عامين فأعطوه لقب الملك الجنتمان ...Re.Gentiluomo. تزوج بـ Liza BonaParte L\'enci, Glorier, vol ١:٢٩٠.

(٢) توجه الضيوف المغاربة لتقديم الهدايا إلى البرلمان نيكوتيرا وزير الشؤون الداخلية المسؤول على الشرطة ، فشكروه على ما بذله بتاريخ ٢٨ غشت سنة ١٨٧٦ م من مجهود لإلقاء القبض على سارقيهم .... كما سيرد لاحقا.

Corriere Della Sira, Milano، بتاريخ ٢٨ غشت سنة ١٨٧٦ م. جريدة.

(٣) عند نهاية الاقتبال الملكي تبودلت الهدايا كما جاء ذلك في الصحف الإيطالية «... بعد دقائق معدودة بدأ جميع الحاضرين يشاهدون الهدايا التي جلبها الزبيدي معه إلى جلالة ملك إيطاليا ، وكانت تشتمل على سروج للخيول وأسلحة وأحدية وزرابي صغيرة وملابس من الحرير والذهب ، وليس جديرا بالذكر التأكيد على الذوق الجميل الذي يتميز به الصناع المغاربة ، رغم أنهم كانوا في بداية العهد الصناعي ... وملك إيطاليا بدوره قدم هدية إلى سفير المغرب تشتمل على علبة للدخان مزينة بالأحجار الثمينة وبندقية عجيبة وساعات يدوية وخواتم ومسدسات وبنادق إلى مرافقيه ، وقدم طاولة مزخرفة لملك المغرب لا ثمن لها ...».

Gazzetta Del PoPolo, Torino، بتاريخ ٢٧ غشت سنة ١٨٧٦ م.

٣٦٤

وقال إنها من عظيم الدولة ودفع كل تحفة منها لكل واحد منا بيده فتلقيناها بالقبول ، ثم تركت ما كان دفعه لي منها الترجمان على مائدة بيت الباشدور ، وتوجه كل واحد بتحفته لمحله ، فقال لي مالك تركت حوائجك هنا ، فقلت لا ينبغي لي حيازة شيء منها حتى يعرض ذلك على حضرة مولانا العالية بالله أدام الله عزها ، وهو أعزه الله يجود عنا برضاه الذي هو الكيفية العظمى ، وهو الإكسير الأكبر والكبريت الأحمر ، فسر بما سمعه مني ، وقال : إنه لكذلك وأذن لي بحوزها حتى نعزم على الخروج وتجمع في صندوق يخصها.

الفرجة التي أنشأها عامل طورين

ثم إن أهل هذا البلد أنشأوا فرجة (١) عظيمة في الليلة القابلة بعد هذا اليوم ، وهي ليلة الاثنين وذلك بأنهم عمدوا إلى جداري الركنة الخارجة في هذا المشور ، وجعلوا في أحد جداريها خاتما كبيرا من المصابيح الصغيرة ، وجعلوا فيها ماء على ألوان وجعلوا الزيت فيها وجعلوا في وسط الخاتم حروف الاسم المفرد من تلك المصابيح وجعلوا في الجدار الآخر صورة كرونة عظيم دولتهم من المصابيح ، في وسط تربيعة من المصابيح أيضا ، وجعلوا صفا ممتدا لدخول الغاز مع جدرات المشور ، ونصبوا مائدة مثمنة بوسط المشور قريبة من الدار التي نحن بها وهي من /٣١٦/ العود ، وهي متسعة في طولها وعرضها نحو اثني عشر ذراعا ، ومثلها في كل جهة من جهات التنميق ، ونصبوا أعمدة دائرة مع هذه المائدة ، وفي رأس كل عمود خمس وردات حمر من الورد المصنوع ، كل وردة في الكبر مثل جرم كرة أربعة وعشرين ، وكان بقرب تلك الركنة

__________________

(١) «مساء البارحة أقامت «مصالح بلدية طورين» على الساعة ٨ مساءا ، وعلى شرف السفارة المغربية بإنارة Castelo Piazza، بحضور فرقة الحرس الوطني ، الذين كانوا يعزفون الأناشيد تحت مقر إقامة السفير ، وقد حج جمهور غفير لمشاهدتهم والسلام على السفير المغربي ، الذي بدوره رد السلام عليهم من نوافد وبالكون إقامته بفندق أوربا ...».

Gazzetta Del PoPolo, Torino، بتاريخ ٢٧ غشت سنة ١٨٧٦ م.

٣٦٥

الخارجة من المشور أشجار ممتدة معها ، نصبوا بين أغصانها وأوراقها كواغد على شكل المخروط كالمكب ، وهي على ألوان أضا وحيث قرب الغروب أوقدوا تلك المصابيح والفنارات الممتدة مع جدران المشور ، وجعلوا سرجا بداخل ذلك الورد المصنوع الذي على رؤوس الأعمدة المحيطة بتلك المائدة ، وفي الأشجار المذكورة في وسط الكواغد الملونة ، ثم أتى أصحاب الموسيقا وأحدقوا بتلك المائدة ودخل واحد منهم وسطها على عادتهم ، وصاروا يخدمون وامتلأ ذلك المشور ليلا بالخلائق رجالا ونساء وصبيانا ، وأتت في ذلك الوقت جماعة من أعيان أهل البلد ، وتلاقت بالباشدور وأخبروه أن فرحهم بقدومه واعتناءهم بجانب مولانا الشريف هو الذي حملهم على إنشاء هذه الفرحة ، فشكرهم (١) على ذلك ثم قال الترجمان للباشدور ، ينبغي لك أن تخرج إلى ذلك السرجم وتقابل الناس الذين اجتمعوا هناك وتشير لهم بالترحيب ، فخرج وخرجنا معه ، فحين أشرفنا عليهم أخذوا في التصفيق جميعا وتلك عادتهم إذا كانوا مجتمعين في موضع ورأوا ما يسرهم ، ثم جلسنا هنيئة على الشوالي بين الدربوز وجدار الصالة التي كان فيها الباشدور ، وكلما قام الباشدور ورام الدخول يأخذون في التصفيق ، يريدون بذلك الرجوع إلى الجلوس ، فيجلس حتى تكرر ذلك منهم مرارا فقام وأشار لهم بالسلام ودخل لمحله فتفرقت الناس وراح كل لمحله.

وفي يوم الأحد الخامس (٢) منه ، أتى الترجمان بالأكداش وخرجنا معه إلى عرصة لعظيم الدولة قريبة من داره ، ولعلها متصلة بها من بعض الجهات فوجدنا /٣١٧/ أنواعا من السباع في أقفاص من الحديد ، لا حاجة إلى إعادة ذكرها وبيانها لتقدم ذلك وبيانه غير ما مرة.

__________________

(١) «تعجب الضيوف المغاربة من مشاهدة العلم الأحمر الذي قام بتعليقه صاحب الفندق وسط ساحته.

كل البلدان التي تعتقد ديانة محمد يعتمدون العلم الأحمر وبداخله نجمة أو أكثر من نجمة أو نصف هلال أو ثلاثة أنصاف الهلال وذلك حسب الدولة التي ينتمي إليها العلم كتركيا ومصر وتونس والمغرب ...».

(La Lombardia, Torino) ، بتاريخ ١ / ٩ / ١٨٧٦ م. جريدة.

(٢) الأحد ٦ شعبان يوافق ٢٧ ، غشت سنة ١٨٧٦ م.

٣٦٦

زيارة سجن مدينة طورين

ثم خرجنا من تلك العرصة وذهب بنا إلى سجن (١) هذه البلدة ، فدخلنا إليه فوجدناه مستديرا كالبرج ، وقد أحدقت به بيوت صغيرة بعضها فوق بعض ، ولعلها خمس طبقات ولكل طبقة سراجم ودرابيز من قضبان الحديد ، والضوء منتشر في جميعه حتى قيل لهم من ضاقت عليه المعيشة منهم يرتكب جريمة فيدخل لهذا السجن فلعله يجده أفضل من محله ، فانبسطوا لذلك ثم سرحت بصري في قطر دائرة هذا السجن ، إذ فيه طرق متقابلة هي أقطار دائرته ، وظننت أن قطرها يكون نحو ثلاثمائة متر ، ولم أكتف بهذا فسألت الترجمان فاستفهم عنه كبير السجن ، فقال إما يزيد على ثلاثمائة متر أو ينقص. وهناك أناس يخدمون منهم النجارة يستخدمونهم بعض الناس ، والسجان (٢) يقبض لهم أجرتهم ولا يدفع لهم إلا ما يتوقفون عليه من النزر القليل. وعند خروجهم يتحاسبون معه ، ويدفع لهم ما يجتمع عنده ، ومنهم أناس يغزلون الخيط كأن القيطان في نواعير على هيئة الشراطة فسئل أحدهم عن سبب سجنه ، فقال إن رجلا سرق سرقة وأخفاها عنده ، فسجن لأجل ذلك وحكم عليه بالسجن ثلاثة أعوام ، وقد مر منها عام ونصف ، ومنهم أناس يصنعون صنيدقات من الكاغد للوقيد ، قيل يخرج كل يوم من هذا السجن سبعون ألفا من تلك

__________________

(١) تعرضت السفارة المغربية لسرقة داخل القطار ، لكن السلطات الإيطالية استطاعت إلقاء القبض على اللصوص كما سيأتي ذلك بتفصيل. في هذا الإطار تدخل زيارتهم لسجن طورين الجديدLe corceri nuove بدعوة من عامل المدينة ليؤكد لهم حقيقة إلقائهم القبض على المجرمين بعد أن تشكك الزبيدي في أن القبض على المجرمين ما هو إلا تغطية حكومية للموضوع.

(La Lombardia, Torino) ، بتاريخ ٣١ / ٨ / ١٨٧٦ م. جريدة.

(٢) طبق نظام السجون الحديث أسلوب العمل الإجباري نظرا لحاجة النهضة الصناعية لأيدي عاملة ، وذلك بإجبار المحكوم عليهم على القيام بأعمال يدوية متنوعة مقابل أجور خاصة ، قسم يحصل عليه مباشرة ، وقسم يذخر له طول المدة المحكوم بها عليه ليستطيع مواجهة متطلبات المعيشة داخل المجتمع الجديد. (مؤسسة السجون ، أحمد مفتاح البقالي ، الرباط ، ١٩٧٩ : ٦٢).

٣٦٧

الصنيدقات ، وفي هذا السجن مطبخة يقوم بها المخزن عندهم للمسجونين ، وبه عراصي محدقة به فيها أشجار وأنوار وخضر ، وفي كل عرصة (١) يبنون في وسطها دائرة كالبرج الصغير يكون قطرها نحو ستة أذرع ، وقد فتح في جدار دائرتها شراريف ، يقال أن المساجين يخرجون كل يوم لتلك العراصي وعند خروجهم يدخل بعض العساكرية لتلك الدائرة التي في وسط العرصة بالمكاحيل ، فإذا رأوا أحدا من المساجين يتنازع مع آخر يصربه بالبارود /٣١٣/ هكذا الحكم عندهم.

الإكرام بدار عظيم الدولة

وفي الساعة السابعة ونصف من ليلة الاثنين سادس شعبان (٢) ، توجهنا لدار السلطان للوليمة التي كان وعد بها ، وأنه كلف (٣) بها ولده فحين طلعنا لقبب الدار ووصلنا إلى القبة التي فيها ولد عظيم دولتهم ، وجدنا معه جماعة كبيرة من الوزراء والأعيان ، ثم أدخلونا إلى قبة الإكرام وهي مستطيلة سقفها نصف دائرة مموه

__________________

(١) السجن المفتوح يتوفر على مساحات شاسعة ، حتى يتمكن من تشغيل المحكوم عليهم في الأعمال الزراعية والصناعية المتصلة بها ، كأسلوب عقابي جديد تساعد السجين على استعادة مكانته في المجتمع ، ولتفادي هروبهم تشدد الحراسة في أبراج اصطناعية عالية تشرف على الأراضي الفلاحية.(نفس المرجع السابق).

(٢) الاثنين ٧ شعبان يوافق ٢٨ غشت سنة ١٨٧٦ م.

(٣) «كلف الملك فكتور إمنويل الثاني ولده Duca D\'Aosta بإقامة حفلة عشاء على شرف أعضاء السفارة المغربية بقاعةFestini ـ ـ ـ والمدعوون حدد عددهم ب ٩٠ في الأول وتقلص العدد إلى ٦٠ شخصا منهم وزير الداخلية ووزير الحربية ووزير الخارجية ..».

Gazzetta Del PoPolo, (Torino)، بتاريخ ٢٨ غشت سنة ١٨٧٦ م.

لكن Melegari لم يحضر هذا الحفل ، وذلك لضرورة حضوره بروما خلال هذه الفترة لانعقاد مؤتمر السلام بروما الذي تلعب فيه إيطاليا دورا مهما. نقلا عن جريدةLa Liberta.

Corriere Della Sira, (Milano)، بتاريخ ٢٧ غشت سنة ١٨٧٦ م.

٣٦٨

بالتذهيب والتوريق ، وفي السقف خمس ثريات عظيمة من البلار توقد بالشمع ، وجدران هذه القبة فيها مرايا عظيمة ، وبين كل مرءاتين ثريات صغيرة من صفر ، بعضها فوق بعض توقد بالشمع ، وفي وسط هذه القبة مائدة قائمة على أعمدة ممتدة من مدخل القبة إلى قرب منتهاها ، وجعلوا على هذه المائدة ثلاثا وعشرين حسكة من المعدن ، كل حسكة فيها ثنتا عشرة شمعة ومنها ما فيه أقل ، وفي وسط كل حسكة مشموم من ألوان النوار قد رصف على نسب عجيبة وأشكال غريبة ، ولكل حسكة طاس تستقر عليه كالطبقة الكبرى ، رصف أيضا بالنوار كأنها زربيات ، وبين كل حسكتين مشموم عظيم من النوار أيضا ، منصوب على حسك أخرى ، ووجدنا هذه المائدة قد حفت بالشوالي ، وعلى المائدة قبالة كل شيلية ورقة فيها اسم الرجل الذي يجلس في تلك الشيلية وقدامه طبسيل من الطاووس العجيب وكؤوس بلار عديدة ، وجنوي وفيجكة ومعلقة كلها مموهة بالذهب ، فجلس كل واحد منهم في شيلية ، وأجلسوا كل واحد منا بمحله وكان جلوس الباشدور عن يمين ولد عظيم دولتهم ، وعن يمينه الترجمان ونحن في الجهة الأخرى مقابلون له ، ثم أخذوا يأتون بأطعمتهم على عادتهم ، فما تناولنا منها إلا الخبز والزبدة وأنواع الحلواء ، وكانوا يعرضون علينا أنواع الطعام التي يطوفون بها عليهم ، فكنا نشير إليهم بالامتناع (١)

__________________

(١) تعليق بطرة الصفحة كتبه لابنه عبد القادر الجعيدي. «لا شك أن هؤلاء أهل كتاب وطعامهم الذي لم يحرم في كتابنا حل لنا كما أن طعامنا حل لهم ولا يلزم تحريمه ، وإعراضهم من كتابهم وحرمة طعامهم علينا كما لا يلزم من إعراض بعضنا عن كتابنا حرمة طعامه على البعض الآخر». هذا الموقف أثار عند الأوربيين الكثير من الفضول ، وقد استطاع أحد الصحفيين الدخول إلى مقر إقامة السفارة المغربية صحبة الترجمان Bosio وكتب التقرير التالي : (Torino)La Lombardia  «... ضيوفنا الأعزاء لا يأكلون لحم الخنزير ولا مشتقاته ، وكل ما يطبخ في المطابخ الأجنبية وغير المسلمة وهم يكتفون بأكل اللحوم المدبوحة ، حيث يوجه الشاة إلى القبلة أي مكان قبر الرسول ويدبح وينتظر حتى تسيل دماؤها وتسلخ وتقدم مطبوخة وهذه الطريقة صعبة ولكنها صحية ...» ، ثم تكلم عن شخصية السفير وشكل لباس المغاربة وغير ذلك.

٣٦٩

منها فيعرضونها على غيرنا ، وكل واحد منهم يأخذ منها حاجته ، وفي آخر الإكرام أخذ الخدمة يطوفون بأواني الحلواء في احكاك صغار /٣١٩/ مثل بيضة بلارج ، ومنها ما هو مستدير فكان منهم من يأخذ حكا واحدا ، ومنهم من يأخذ حكين ، فحين وصل إلي الذي يطوف بها أشرت له بعدم الأخذ منها ، فمر وأخذ الذي كان عن يميني بل يساري حكما وضعه قدامه ، وحيث رآني لم آخذ منها ، أحذ حكا آخر ووضعه قدامي ، ثم قام الناس فأخذ كل واحد حكه ووضعه في جيبه ، فقمت وتركت الحك الذي كان قدامي فلحقني به الذي كان وضعه قدامي ، وأشار إلي بأن جميع الناس أخذوا حككهم ، وأشار إلي بوضعه في جيبي فقلبته إذ ذاك ، فمن هذا الاحكاك ما هو من زاج ومنها ما هو من الكاغد ، وبها تزويق وتذهيب والحلواء التي بداخلها كالحبوب ملونة ، وهي إنما تليق للعب الصبيان ، وهم يأكلون ذلك في مواضعهم افتخارا ورفعة لهم ، ثم خرجنا من تلك القبة إلى غيرها ، وصار الناس واقفين بها وولد عظيم الدولة يقف مع كل واحد منهم هنيئة ويكلمه بانبساط وتبسم ، حتى وصل إلى الباشدور فتكلم معه بما يناسب وتشكر عن اعتنائهم بالجانب الشريف أسماه الله ، ثم أخذ الوزراء يأتون إلى الباشدور واحدا بعد واحد ويرحبون به حتى مروا عن آخرهم ، وخرجنا وانصرفنا إلى محل النزول.

الخروج لى الصيد مع ولد عظيم الدولة والوزراء

وفي صباح الاثنين المذكور أتى الترجمان إلى الباشدور ، وأخبره أن ولد عظيم الدولة يحاول الخروج للصيد في الغابة حول المدينة ، وأنه يأذن لنا في الخروج معه للصيد ، ويخرج معنا الطباخ الذي يطبخ لنا ليهيء لنا الغذاء هناك ، لأنه ذكر أنه رءانا لم نأكل شيئا من طعامهم في تلك الوليمة ، وألمه ذلك غاية لكنه سره عدم أكلنا منه من جهة محافظتنا على شرعنا ، فخرجنا في الساعة العاشرة من يوم الاثنين المذكور ، ولم يكن من المخازنية إلا قائدهم ، فسرنا في الأكداش نحو ساعة في طريق محفوفة بالأشجار عن اليمين واليسار ، حتى انتهينا إلى دار

٣٧٠

عظيمة (١) كأنها قصبة ، فدخلنا إلى قبة بأسفلها مرفوعة على أربع سوار عظيمة ، وفيها حياض وأنوار ومحابيق ، ثم خرجت مع الأمين إلى باب هذه القبة ، فوجدنا ولد عظيم الدولة قد أتى راكبا كرسي الكدش (٢) وبيده سوط ، وهو الذي /٣٢٠/ يزجر الخيل التي تجر الكدش الذي فيه أتى معه من أعيانهم ، فتعجبنا من سياسته ولطافته ثم دخلنا وأتى بنا إلى قبة أخرى فيها مائدة أكلهم ، فجلس كل واحد منهم على شيليته وجلسنا نحن كذلك ، وكان الطباخ (٣) قد هيأ لنا الغداء هناك ، وبعد الغداء ركبنا الأكداش وذهبنا إلى الغابة ، فوصلنا إليها فإذا هي كالأجنة والطرق ممتدة فيها طولا وعرضا ، وهي خاصة بعظيم الدولة ، ولا يصطاد أحد فيها شيئا ، وقيل هي مربعة تكسيرها خمسة وعشرون ميلا ، وعند خروجنا إليها كانوا دفعوا لكل واحد كاغدا مستديرا قدر جرم الريال ، في كل واحد حرف أو حرفان من حروف الغبار ، ليقف كل واحد في الموضع الذي فيه النمر الذي في الكاغد الذي دفع إليه ، ثم نصبوا أعمدة ممتدة مع تربيعة من تربيعات هذه الغابة ، وفي رأس كل عمود لوحة جعل فيها حرف أو حرفان من حروف الغبار ، وبين كل عمودين نحو أربعين خطوة وأقل وأكثر ، وكل واحد منهم يقف مع النمر الذي في كاغده ، فإذا وقفوا يتكلم واحد ببوق فيدخل العسكر إلى تلك التربيعة بأيديهم العصي ، ويتشغلون بضرب الأشجار

__________________

(١) طبقا لرغبة الزبيدي التي أبداها لسفير إيطاليا بلندن أقيمت حفلة للصيد البري بمنطقةStuPinigi (D.M.Smith) S.P.E.I.

StuPinigi«بناية الصيد البري التي شرع في بنائهاFiliPPe Juvarra عام ١٧٢٩ م ، وأنهاها فنانون محليون سنة ١٧٣٥ م وخصصت كمقر خاص للصيد البري للملك فيكتور اميديو الثاني ، وهي الآن متحف التحف والأثاث المنزلي. «Ammobiliamento

L\'EncicloPedia Glorier,) Milano (, vol. 18: 346.

(٢) انظر شرحه بالملحق : ٤.

(٣) «... بما أن السفير المغربي ومرافقيه لم يأكلوا أي شيء مما قدمه لهم D\'Aosta Duca من طعام ، فقد قام هذا الأخير بتجهيز طاولة بأكملها من الطعام على الطريقة المغربية التقليدية ...».

Gazzetta Del PoPolo, (Torino)، بتاريخ ٢٩ غشت سنة ١٨٧٦ م.

٣٧١

فتطير الطيور فيحشرونها إلى جهة الرماة ، فمن مر في طريقه طير أخرج فيه مكحلته ، حتى يصل العسكر إلى الرماة ، ثم انتقلنا إلى تربيعات أخرى ، واحدة بعد واحدة ، وكل واحدة يعملون فيها مثل العمل الأول ، فضربوا طيورا كثيرة ، وكان الباشدور أكثرهم إصابة ، وفي كل تربيعة يضرب فيها طيرين أو طيرا ، فتعجبت النصارى من رمايته (١) وإصابته ، وكان جملة ما أصاب من الطيور إما سبعة أو ثمانية ، وشاع هذا عندهم وجملة الطيور التي أصيبت في هذا الصيد قيل نيف وخمسون طائرا ، وأرنب واحدة.

ثم رجعنا إلى تلك الدار التي خرجنا منها ، فوجدنا قد نصبت موائد في البراح الذي قدام بابها ، وعليها أواني شرابهم فدخلنا إلى الدار. /٣٢١/ ثم خرج ولد عظيم الدولة إلى ذلك البراح الذي فيه تلك الموائد ، وكانت قد هيأت للعسكر الذي كان يحشر الطير للرماة ، فجلس معهم على تلك الموائد حتى شرب معهم ثم رجع إلى الدار وجلس مع الباشدور وأوتي بأنواع من حلواء الثلج وغيرها ، فتناولنا منها ما تيسر ثم ركبنا الأكداش راجعين إلى المدينة ، فنشأت غبرة كثيرة في الطريق من جري الخيل التي تجر الأكداش ، فقلت في سري زد هذه على حرارة الشمس التي ظللنا نتقلب فيها من مكان إلى آخر ، وقيدت إذ ذاك حين الرجوع هذه الأبيات (٢) :

فماالصيدفي وقت الربيع ولاالصيف

من دأبي ولا أبغي التقلد بالسيف

ولكن أحب الصيد في غسق الدجا

ببيت غزال ناعم الكف والردف

تعاطيني كأس الشوق صاف شرابه

وتمزجه عتبا وتسمح بالعطف

__________________

(١) «... حفلة الصيد البري الذي أقيم بمنطقةCastello Di StuPinigi  على شرف سفير المغرب الذي عبر عن فرحته ومشاركته في الحفل وقام برمي عددا من الطلقات بالبندقية أصابت الهدف ...».

Gazzetta Del PoPolo, (Torino)، تاريخ ٢٩ غشت سنة ١٨٧٦ م.

(٢) قصيدة شعرية من البحر الطويل.

٣٧٢

وقبل انصداع الفجر يحلو تهجّدي

وما أنا ممن يعبد الله عن حرف

ولي قلم يبرى إذا هاج غيظه

يراعي ذمام السيف من شدة الخوف

ففيه اكتسابي وافتخاري ورفعتي

ونعم الرفيق في الشتاء وفي الصيف

وكان ولد عظيم الدولة أمر الطبجية يخرجون لرمي الإشارة بالمدافع ، ويجربون الرمي بمدفع عظيم أحدثوه وزنه ثمانية وثلاثون طنا ، وطلب من الباشدور الخروج للحضور معهم في ذلك الرمي.

الخروج لرمي الإشارة مع الطبجية

فخرجنا في الساعة الثامنة من يوم الثلاثاء ثامن (١) شعبان ، راكبين الأكداش وفي الساعة الثامنة ونصف ركبنا في بابور البر متوجهين إلى الموضع الذي يرمون فيه الإشارة ، فمر البابور بنا على أرضين مربعة ليس فيها إلا الربيع الأخضر لسريان الماء في حدود هذه الأرضين ، وقد غرست الأشجار في الحدود وسويت صفوفها وتقاطعت طولا وعرضا ، ثم مر /٣٢٢/ بنا على أجنة العنب ، وهم ينصبون مع كل ساق دالية (٢) خشبة برأسها أعمدة تنزل عليها أغصان الدالية ، لما يرون في ذلك من المصلحة لها فتخلخل الريح والهواء فيما بين الأغصان وما بتحتها ، وإشراق أشعة الكواكب عليها ، بخلاف الدالية التي في بعض مدن الغرب ، فإنهم يتركون أغصان الدالية يترامى بعضها فوق بعض حتى يلتئم غالبها ، ولا يمكن السلوك بينها إلا بمشقة

__________________

(١) ٢٩ غشت سنة ١٨٧٦ م.

(٢) أو الكرمة لها أغصان طويلة تحتاج إلى دعائم تعترش عليها بفضل أعضاء لولبية بدل تركها زاحفة على الأرض عرضة للحشرات والطفيليات كما كان سائدا بالمغرب. (موسوعة عربية).

٣٧٣

لا سيما في الصباح بعد نزول الندى ، ويبقى غالب عناقيد العنب إذ ذاك منحجبا بين الأغصان والأوراق عن تمام نفود الهواء والأشعة ، وربما يكون تتولد آفة للعنب من ذلك والله أعلم.

وفي الساعة التاسعة وثلث نزلنا في المحل (١) الذي يرمون فيه الإشارة بالمدافع ، فوجدنا هناك بعض كبراء طبجية العسكر فتلقوا الباشدور بالتعظيم والترحيب وغاية الأدب ، ووجدنا هناك مدافع الجر صغيرة من العينة التي تعمر من وراء ، ومدفعا آخر عظيما جديدا هو الذي أحدثوه وأرادوا تجريب الرمي (٢) به في هذا اليوم ، وهو كذلك من العينة التي تعمر من رواء لكن على كيفية أخرى ، لأن قعره مبسوط مستو ليس فيه انعطاف داخلا وخارجا ، والمحل الذي يعمر منه فيه وشك كوشك خزنة المكاحيل ، لكن قسموا دائرة هذا الوشك ، وهي الباب التي يعمر منه إلى ستة أقسام وأسقطوا وشك سدسها حتى صار مستويا مع الخزنة ، وتركوا وشك سدسها الثاني بارزا على حاله وأسقطوا وشك السدس الثالث كذلك ، وتركوا الرابع كما ذكر ، وأسقطوا الخامس كالأول وتركوا السادس على هيئته ، فصار فم الخزنة بهذا فيه أي في دائرته ثلاثة أسداسها ، وشكها بارز والثلاثة الأسداس الأخرى أزيل وشكها وسويت مع الخزنة ، واتخذوا جرما من الحديد اسطواني الشكل ، وجعلوا فيه وشكا /٣٢٣/ مثل وشك الخزنة مقسوم على ستة أجزاء أسقطوا وشك ثلاثة أجزاء ، وتركوا بينها وشك الأجزاء الثلاثة الباقية ، وبهذا الجرم الاسطواني يسدون الخزنة على عمارة هذا المدفع ، لأنه أي هذا الجرم المذكور ، مقبوض بحلقة من حديد من طرفه الذي يبقى بارزا عن الخزنة عند السد به ، ولهذه الحلقة طرف حديد ناتئ منها ممتد إلى جرم خزنة المدفع من جهة اليمين ، ووصل هذا الطرف المذكور بجرم الخزنة بهيئة

__________________

(١)

 CamPo Militare di San - Maurizio,) M. D. A. E. I. ARCH. STIR. DIPL.

(يقع وسطPiemonte ويبعد بحوالي ١٩ كلم شمال طورين ، مخصص كحقل لتجارب الأسلحة الإيطالية الحديثة ، وخاصة المدفعية ومكان المناورات العسكرية طيلة القرن ١٩ م وقد تحولت في ما بعد إلى منطقة صناعية.

(٢) رسم توضيحي يبين شكل التقنية المستحدثة في المدافع الكبيرة التي تعمر من الخلف والتي أثارت اهتماما كبيرا عند المغاربة. (انظر ملحق الرسوم والصور صفحة ٢٤).

٣٧٤

البزكرات ، وفي جرم الخزنة أيضا فوق تلك البزاكرة ناعورة من حديد في جرفها درج بها يفتحون الخزنة ويخرجون منها ذلك الجرم الذي تسد به ، وبها تسد ، فإذا عمروا هذا المدفع وأرادوا سده يدفعون بأيديهم ذلك الجرم حتى يقابل رأسه فم الخزنة لأنه ممسوك بتلك البزاكرة ، وعند مقابلة رأس ذلك الجرم لفم الخزنة وعزمه على الدخول إليها يكون وشكه ووشك الخزنة متغايرين ، أعني تكون الأجزاء الساقطة من وشك الخزنة مقابلة للأجزاء الساقطة من وشك الجرم ، والبارزة منها مقابلة للبارزة الأخرى ، فلا يمكن السد به على هذه الحالة فعند ذلك يديرون تلك الناعورة وبدورانها يأخذ الجرم في الدوران حتى تسامت الأجزاء الثلاثة الساقطة من وشكه الأجزاء الثلاثة البارزة من وشك الخزنة ، فعند ذلك يدخلون طرفا من رأس الجرم في فم الخزنة ، ثم يديرون تلك الناعورة فيصير الجرم يدور داخلا في الخزنة لتطابق الوشك إذ ذاك بعضه مع بعض حتى يصل إلى منتهاه ، هذه كيفية (١) فتح خزنة هذا المدفع وسدها على حسب ما ارتسم في خيال مقيده وسامحه مولاه.

كيفية عمارة هذا المدفع

وأما كيفية عمارته ، فإنه أتى رجلان من العسكر كل واحد منهما حامل على

__________________

(١) رسم توضيحي يبين كيفية إقفال أو فتح باب خزنة المدفع ، وذلك بتدوير تلك الناعورة الدائرية الشكل يمينا أو يسارا. والمخزن المغربي كان يسعى لاقتناء أسلحة عصرية ، بعد ما انهزم أمام الجيوش الأوربية ، وفقد تفوقه العسكري على القبائل بسبب انتشار تجارة تهريب الأسلحة «البنادق» ، وبيع العسكر «الهراب» لأسلحتهم أثناء موسم الحرث ، فلم يبق أمامه إلا ميدان واحد للتفوق على القبائل وهو المدفعية لكن هذه المدفعية بقيت فعاليتها متوقفة على الأجانب ، رغم ارتفاع عدد المغاربة الذين تدربوا عليها «معلمين» طبجية ، ولعل هذا راجع إلى تعدد أنواع المدفعية المستعملة بالمغرب ، واحتراس المخزن من وضع هذا السلاح «الحيوي» بين أيدي من يمكن أن يصبح خطرا عليه ، لهذا كان المخزن يلتجئ إلى أعضاء البعثات العسكرية الأجنبية في هذه المهمة. (الجيش المغربي وتطوره في ق ١٩ ، برادة ثريا ، مرقونة بخزانة كلية الآداب بالرباط). (انظر ملحق الرسوم والصور صفحة ٢٥).

٣٧٥

ظهره برميلا فيه خنشة من البارود ، ووزنهما معا كما ذكروا ثمانية وستون كيلوا ، وهي تعدل قنطارا وستة وثلاثين رطلا تقريبا ، /٣٢٤/ ووضعوهما بين أيدي الطبجية قرب المدفع ، ثم أتوا بكورته في كدش وهي مستطيلة محددة الرأس ، ورفعوها بالبوجي المتصل بكريطة هذا المدفع ، وأداروا البوجي عند رفعه لها حتى سامت فم الخزنة ودفعوها إليها حتى حلت محلها من الخزنة ، ثم ألحقوا بهاتينك الخنشتين من البارود ، وسدوا الخزنة على الجميع بالكيفية السابقة ، وسغنسوا أي تقبوا خنشة البارود من ثوب الخيش على الكيفية المعهودة ، وركبوا النيشان الذي يحققون به الإشارة التي يرمونها في الجهة اليسرى من خزنة المدفع لا فوقه أو وسطه ، وحققوا به مسامتة الإشارة ، وركبوا في الخبش حلقة النار التي بها يخرجون عمارته ، بعد ما ركبت فيها قنبة طويلة ، ثم تكلم واحد منهم بالبوق للإعلام بخروج هذا المدفع ليكون منه على بال من جهة الإشارة من الناس ، وبعد ذلك أخرجوه ، فكان له صوت (١) مرهب لم أسمع مثله قط ، وحسست بشيء يروم الخروج من أذني وبقي بهما طنين كثير مدة من الزمان ، وحريق مؤلم كما تتألم العين بالفلفل ، وسبب هذا أني كنت عن يمين المدفع مسامت لفمه ، وبانتشار صوت المدفع لتلك الجهة أصابني ما أصابني والحمد لله على السلامة ، وأما من كان وراء هذا المدفع بعيدا عنه أو قريبا فإنما تعجب من ذلك الصوت الهائل وتشكى بأذنيه أيضا ، وقالوا إن هذه الكورة أصابت رأس اللوحة التي كانت منصوبة إشارة ، لكني لم أر أثرا لذلك لأن بينهما وبين المدفع اثنتا عشرة مائة متر ، وكانوا أخرجوا عمارات بمدافع الجر الصغيرة قبل هذا ورموا بها ألواحا أخرى منصوبة ، وقالوا إنها كانت تصيبها تلك الكنبرة ، والذي كنت أشاهده أن تلك الكنبرة عند وصولها للوحة الإشارة تتفرقع هناك ، لأنها مملوءة بالخفيف المصنوع من روح التوتية كما قيل ، أو منهما معا ، فحين رأونا وقع لنا الشك فيما يقولونه من إصابة

__________________

(١) كان البارود المستعمل في المدفعية حتى سنة ١٨٣٠ م ، يتكون من حبات صغيرة والتي تعطي دويا لمدة قصيرة ، تستعمل لتحطيم أهداف قريبة ، وحوالي ١٨٥٥ م بدأت المدفعية تستعمل القذائف الطويلة والثقيلة بفضل تطور صناعة الصلب بأوربا.

Histoire générale des techniques, Tome. IV; Techniques Militaires.

٣٧٦

الإشارة ، طلبوا منا الانتقال إلى قرب /٣٢٥/ الألواح المنصوبة إشارة لنرى إصابتها معاينة ، وأتوا بالأكداش فركبنا حتى وصلنا إلى قربها ونزلنا ووصلنا إلى تلك الألواح المنصوبة ، وهي متفرقة في مواضع متعددة ، وطول كل لوحة نحو ثمانية ذروع وعرضها نحو ستة ذروع وغلظها أزيد من بلكاطة ، وهي كهيئة الدفة وكل لوحة بكل طرف من أعلاها خشبتان نازلتان منه إلى الأرض لتنفد منها الكونبرة ، وتبقى واقفة أي اللوحة ، ورأينا في اللوحة الأولى فورمة ثمان كونبرات كأنها نزعت منها بالبريمة ، فالفورمات المتباعدة على هذه الكيفية والمتقاربة تكسر العود الذي بينها ، لأجل المقاربة ومنها فورمة واحدة على رأس السواد الذي في وسط اللوحة ، وفيها تقب عديدة بالخفيف الذي رمته الكونبرات التي كانت تتفرقع هناك ، ومنه الذي لا زال مغروسا في جرم اللوحة ، وهذا الأثر الذي في هذه اللوحة هو ضرب مدافع الجر ، ثم سرنا إلى اللوحة التي رموها بالمدفع الكبير ، فرأينا كونبرة الضربة الأولى خرقت وسطها ، والضربة الثانية أخذت طرفا من أعلاها ، فحين وقفنا على ذلك وشاهدناه معاينة ، تأخر بنا ما كان معنا من النصارى وترجمانهم عن تلك الألواح ، وكانوا قد نصبوا السلك من المحل الذي فيه المدافع إلى محل الإشارة ، فتكلم أصحاب السلك بمحضرنا الذين بمحل الإشارة مع الآخرين وأعلموهم بأن الباشدور وأصحابه قد رأوا ذلك وتأخروا ، فعند ذلك تكلم الآخرون بالبوق وأجابوهم الذين معنا يعلمون بذلك بعزم خروج المدفع ، ثم رأينا دخان الخبش قد صعد وشاهدنا أثره تلك الكونبرة العظيمة قاصدة تلك اللوحة كأنها قربة ماء ، وأصابت تلك اللوحة ورحلت بها وطارت ، ولها صوت بين الجبال كالصاعقة ، ونزلت بحجر جبل وارتفعت منه غبراء كثيرة / فتقدمنا إلى تلك اللوحة التي سقطت ، فرأينا الضربة في السواد الذي في وسطها.

هيئة السواد الذي في وسط لوحة الإشارة

وأما هذا السواد الذي في وسطها ، فهو شكل مربع غير مستطيل بل متساوي الأضلاع ولعله ـ والله أعلم ـ يمكن أن يكون هذا المربع محيطا بدائرة خزنة المدفع

٣٧٧

الكبير ، هكذا ترجم عندي ، ودليله (١) الخط المفتوح على رق الشعرة الذي في وسط النيشان الذي يركبونه عن يسار خزنة المدفع ، إذا توهم نزول هذا الخط المفتوح إلى الأرض ، يكون مماسا لدائرة خزنة المدفع عمودا على الخط الخارج من نقطة التماس المار بمركز دائرة الخزنة ، وحيث يكون النيشان مركبا على هذه الكيفية ، فالناظر في الخط المفتوح في النيشان حالة تحقيق مسامتته للإشارة ، بحيث يكون تحريك الكريطة ودورانها يمينا أو يسارا ، إنما ذلك لعدم انطباق الشعاع الخارج من بصره النافد من الخط المفتوح في النيشان على الضلع الأيسر من المربع الذي في وسط لوحة الإشارة المصبوغ بالسواد ، ولا يكون يطلب إلا مسامتتهما لأنه لو كان يطلب غير مسامتتهما لكان إما أن يطب وقوع خط النيشان على السواد أو خارجه ، وفي ذلك من الخلل ما لا يخفى ، وأيضا فعند مسامتة الخطين مسامتة حقيقية وانتصاب المدفع انتصابا لا ميل له إلى جهتي الارتفاع والانخفاظ ، يكون قطب دائرة فورمة المدفع مسامتا لقطب الدائرة المتوهمة في سواد لوحة الإشارة ، المماسة لأضلاع مربعة ، لأنه لا يمكن مسامتة قطبي الدائرتين المذكورتين إلا بمسامتة خط النيشان لخط الضلع المقابل له من أضلاع مربع السواد المذكور والله أعلم. هذا ما ظهر لي في ذلك والعلم لله ، ولم يتقدم لي عمل مع الطبجية في علم رمايتهم ، لكن كان منهم من ينتمي إلي ، ويأخذ عني (٢) قواعد

__________________

(١) رسم يوضح ما جاء عند صاحب الرحلة عن كيفية رمي الإشارة (أ).

والعوامل المتحكمة في ذلك هي :

 ـ قوة رمي المدفع. ـ وزن القديفة.

 ـ زاوية الرمي. ـ المسافة الفاصلة بين المدفع والهدف.

(انظر ملحق الرسوم والصور صفحة ٢٦).

(٢) كان تعطى بسلا دروس تعليمية تهتم بالمدفعية بصفة خاصة كما جاء في رسالة السلطان المولى عبد الرحمن إلى عامل سلا محبوبة «... وبعد ، فبوصول كتابنا هذا إليك عين عشرين من الولدان النجباء لتعلم علم تاطبجيت ، وانظ لهم معلما ماهرا أو معلمين من طبجية البلد ، يعلمهم ويشرعون في التعلم الآن فيبدأون بمقدماته ، ثم يتدربون منها إلى الأخذ في تعلم رماية المدافع والمهراس ، هكذا حتى ينجبوا ويمهروا في الصنعة ، ويصيروا قادرين على الخدمة ...» ، ٢٠ ذي القعدة عام ١٢٧٣ ه‍ / ١٨٥٧ م.(الاستقصا ، ج ٩ : ٧٠). وقد أصبحت هذه الدروس أكثر تنظيما أوائل عهد السلطان الحسن الأول.

٣٧٨

حسابية يستعين بها على خطته ، فكان ينتفع بها /٣٢٧/ لكنهم سامحنا الله وإياهم ، يبخلون عن متعلميهم بكشف دسائس الرماية ، وإظهار علل أعمالهم ، «ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم» (١). وقد خرجنا عن الموضوع ولكن للحديث شجون ، وليس ذلك بممنوع ، رجع اللوحة التي سقطت عند نفود الكنبرة في سواد وسطها ، كانت منصوبة وسطا وعن يمينها لوحة وعن يسارها أخرى ، كل منهما مثل الوسطى طولا وعرضا ، وهما غير متصلتين بالوسطى بل بينها وبين كل واحدة من اللوحتين نحو نصف أصبع ، والوسطى ليس لها خشبتان من ورائها بخلاف الأخريين ، فلذلك حين أصابتها الكونبرة رحلت بها بتمامها ، وبقيت اللوحتان الأخريان في مكانهما ، ثم انتقلنا إلى ألواح آخر منصوبة إشارة أيضا قريبة من الألواح الأخر لكن جعلوها على كيفية صفوف العسكر ، بحيث نصبوا ألواحا متصلة بعضها ببعض في صف واحد وراء ألواح أخر مثلها في صف آخر ، ثم ألواح أخر جعلوها كالصف الثالث وطول الصف نحو ثلاثين خطوة ، وصاروا يضربون هذه الصفوف بالكونبرات بمدافع الجر. فضربوها أولا بأربع كونبرات واحدة إثر أخرى بينهما مقدار قراءة سورة الإخلاص (٢) مرة واحدة ، ثم ضربوها أيضا بأربع أخرى ثم كذلك مرة ثالثة ورابعة وخامسة ، وفي كل مرة يكون تتاربع الكونبرات أقل مدة من تتابعها في المرة قبلها ، وغالب هذه الكونبرات كان يتفرقع بين صفوف تلك الألواح والناذر منها كان يتفرقع بقربها أو بعد مجاوزتها بقريب ، وفي المرة الأخيرة أخرجوا المدافع كلها في لحظة واحدة فتفرقعت كونبراتها بين الصفوف كخروج الحاضرون ، ثم تقدما إلى تلك الألواح التي كانوا يضربونها ، فوجدناها كالغرابيل من /٣٢٨/ شدة نفود خفيف الكونبرات فيها ، وبعضه لم ينفد وبقي مدفونا في وسطها ، وهذه الألواح مدعمة بالخشب من وراء فبذلك لم تسقط ، فتعجبنا من ذلك غاية العجب ، وذكر الترجمان إذ ذاك أن بعض العسكر الذين كانوا معنا يقولون عند رؤيتهم نفود الخفيف في تلك الألواح ، هكذا تكون ذوات بعضهم عند الحرب ، والعجب الكبير إنما هو من إصابة الكونبرة الكبرى بالمدفع

__________________

(١) ﴿ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ﴾ سورة محمد : ٢١.

(٢) وحدة زمان بسيكولوجية ودينية. وهي مدة استغراق تلاوة سورة الإخلاص ، فترتيلها ترتيلا وسطا بالبسملة والاشباع يستغرق نحوا من ١٢ ثانية أو أقل من ذلك بحسب حالة القارئ النفسية.

٣٧٩

الكبير السواد الذي في وسط لوحة إشارته ، مع البعد الذي بينهما ، وهو ثنتا عشرة مائة متر ، أزيد من ميل واحد بكثير.

ثم رجعنا إلى الطبجية وشكر الباشدور حسن رمايتهم وشدة إتقان قواعدها فتأدبوا معه أدبا كبيرا ، وقالوا قد أسعدهم الله به وبقدومه لهذا المحل وحضوره لتجربة الرمي بذلك المدفع الكبير ، وقد سخر الله لهم فيه بسببه ، هكذا ذكر ترجمانهم عنهم فأجابهم بما يقتضيه الحال وودعوه متأدبين مع سيادته ، ثم رجعنا في الأكداش وفي بابور البر إلى طورين ، بعدما دخلنا لأوطيل في الطريق كان خرج إليه الطباخ وخدام آخر يهيئان لنا فيه الغداء ، وتغدينا هناك ، وذلك المدفع الكبير ذكروا أن كورته وزنها ثلاثمائة كيلو وخمسون كيلو ، وهي تعدل (١) سبعة قناطير إلا نزرا يسيرا ، وأنها تخرق بوردول المركب من الحديد ، إذا كان في عرضه أن البوردول تسع بلقاضات ، ولو كان في مراسي مولانا السعيدة منها شيء في أبراجها ، لكان ذلك من الاستعداد بالقوة الظاهرة في الوقت بحسب الاستطاعة ، لا بحسب العناد بحيث تكون العدة التي عندنا مماثلة للعدة التي عند النصارى كيفية وعددا ، لأن في ذلك حرجا ومشقة ، والمولى جل علاه سلك بهذه الأمة المحمدية /٣٢٩/ مسلك اللطف والفرج (٢). فقال عز وجل (٣)﴿ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وإنما أمرنا سبحانه بالاستعداد بحسب الاستطاعة ، فقال تعالى (٤)﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ولم يقل مثل استعدادهم لطفا بهذه الأمة ورحمة بها ، فله الحمد على هذه المنن الواقية والألطاف الخافية أدى الله عنا شكرها بفضله آمين ، آمين ، آمين.

__________________

(١) القنطار يساوي ١٠٠ رطل أي حوالي ٥٤ كلغ.

(٢) طرة بهامش الصفحة لابنه عبد القادر الجعيدي.

«بل الآية تدل على المماثلة أولا قدرهم إذ بذلك يحصل المقصود وإعلاء كلمة الله ، وكل ممكن مستطاع ونرجو من ربنا شفاعة نبينا إذ نحن أهل الكبائر من أمته ، وقد قال شفاعة لأهل الكبائر من أمتي ، كما قال لكل نبي دعوة» «الحديث الصحيح».

(٣) «هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج» ، سورة الحج : ٧٨.

(٤) «ومن رباط الخيل» سورة الأنفال : ٦٠.

٣٨٠