إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

تزاحم الأكداش تسمع لمرورها صوتا هائلا كالبحر عند هيجانه ، أو صوت الرعد. وعند مرورنا (١) في الأكداش بينهم إذا لم تتكلم بغاية جهدك مع الجالس معك لا يسمعك نطقا ، ومع هذا كله ، فالمكلفون بتنظيف الطرق بالكنس والرش قائمون بذلك ليلا ونهارا لا يفترون ، فأصحاب الرش يركبون الطرنبات في تفجيرة مع رديف الطريق ، وهي أي الطرنبة جعبة طويلة ، بل جعبات طويلة ، وكل واحدة نحو خمسة أذرع ، ويوصل بين كل جعبتين بجعبة من الجلد. ويجعل عند الملتقى جرارتين كأنهما رجلان ، تمشي عليها الطرنبة ، والماء يخرج من فم الطرنبة فينصب على الطريق مقدار عشرة أذرع طولا وقربها عرضا ، ففي المدة القريبة تراه يرش سطحها /١٥١/ عظيما ، وإذا لقيته أكداش ينقص من طول رمي الماء ليلا يصيب منه المارين. وتجد وراء هذا الذي يرش بهذه الطرنبة رجلا آخر بيده طرنبة أخرى تابعا له يرش المواضع التي أخذت في الجفاف واليبس ، وآخرون وراءه على هذه الكيفية ، والطرق كلها هكذا. وإذا نزل المطر ـ ونزوله كثير عندهم ـ لا يبقى من مائه شيء بوسط الطرق ، لأنها محدبة فينحدر الماء إلى الرديفين يمينا ويسارا ، فيأتي أناس كل واحد بيده

__________________

(١) بهذه المناسبة دفع السفير الزبيدي لفقراء باريس عشرة آلاف فرنك فرنسي حسب ما جاء في كتاب الشكر الذي وجهته له الحكومة الفرنسية على ذلك بتاريخ : ٢٥ يونيو ١٨٧٦ م ، «لقد تفضلتم سعادتكم فأبلغتموني بواسطة الكاتب الثاني بسفارة جلالة سلطان المغرب جملة ٠٠٠ ، ١٠ فرنك برسم توزيعها على مختلف ملاجئ الإحسان في باريس ... أعرب لسعادتكم عن ممونية الحكومة مما منحتموه ...». الإتحاف ، ٢ : ٢٨٦. كما تبرع بالمبالغ التالية بباريس :

للموسيقى وأصحاب العربات الملازمة لهم

٢٠٠٠

للمكلفين بخيل الهدية

١٠٠٠

للخدمة والبوابة يوم ضيافة رئيس الجمهورية

٣٠٠٠

لأصحاب وزير الخارجية

٢٠٠٠

ولعسة العسكر وللخدمة المقابلين للسفارة بمحل النزول

٣٠٠٠

ولضعفاء باريس

١٠٠٠٠

المجموع :

٠٠٠ ، ٢١ فرنك

٢٠١

شطابتان من شعر على هيئة الشيطة التي يمسح بها الملف ، وهما أكبر بكثير ، ويجعل كل واحد برأس عصا ويدفع بهما الماء وهما منصوبتان أحدهما بجنب الأخرى طولا فترى الماء يجري قدامه ، وإذا كان كبيرا وخرج منه شيء وبقي وراءه يتبعه آخر يدفعه بشطابتين كذلك ، ولم أدر هل يوصله إلى مصرف خاص به أو إلى غير ذلك ، وإذا ارتفع المطر وأخذت الأرض في الجفاف يرجعون إلى الرش والتنظيف في يوم واحد مرة أو مرارا ، وهذا دأب هؤلاء ليلا ونهارا. وقيل لي ذات يوم إن الذباب لا يوجد في مدينة باريز ، فقلت له وهل يتركون له شيئا من القاذورات التي ينزل عليها ، مع أن براح ديارهم وغالب أسواقهم مقبية بالزاج ، ثم تتبعت ذلك فلم أر شيئا منه في الدار التي كنا فيها ، ولا في محل الطبخ ، ولا في الزقاق ، مع أن الوقت في نهاية الحرارة ، عدا يوما واحدا رأيت فيه ذبابة واحدة في حانوت جزار ، ما أنظفها وما أظرفها ، وبراحها كالكاغد المورق بالألوان ، واللحم الذي يباع فيها يابس لا شيء فيه من البلل ، وحين نقله من محل / الذبح إلى الحوانيت يجعل في الخناشي (١) كالسراويل ، محافظة على النظافة ، والحوانيت التي يباع فيها اللحم ، رأينا في حومة واحدة فندقا عظيما مربعا في طول ربعه أزيد من مائتي خطوة ، وله أبواب كثيرة في كل ربع. ويقابله فندق آخر مثله لبيع اللحم أيضا ، وما عرفنا فيها شيئا من النعم المأكولات والمشروبات لأن كبير الدار التي كنا نازلين بها ، مأمور بأن يأتي إلينا بجميع ما نطلبه منه من ذلك. وأصحابنا الذين في المطبخة يذبحون كل يوم شاة من الضأن ويوتى لهم بالدجاج كل يوم والحوت ، وما يحتاجونه من الإدام ، ويوتى لنا في كل صباح بالقهوة والحليب والزبدة وغير ذلك من الأشربة ، كشراب اللوز وشراب أحمر قان يضاف مع الماء بنحو الثلثين منه والثلث من الماء ، وحضر هذا الشراب ذات يوم ، فحين تناولت منه قيل لي سيقال للقاضي إنك تشرب معنا هذا الشراب ، فقلت أو ليس فيه من بأس أو يشمله شيء من الالتباس ، وتذكرت قول القائل :

فعندي ميزان يفرق بينها

وبين ذوات السكر لست بزاهق

__________________

(١) انظر شرحه في الملحق رقم : ٤.

٢٠٢

وقلت في ذلك ارتجالا (١) :

كؤوس الصفا دارت من بين الأحبة

فهمت لها شوقا لتفريج علتي

نهاني عنها لائم متداعبا

أخ لي نصيح صادق في الأخوة

وأوعدني أني إذا ما شربتها

يوضح للقاضي النزيه ضلالتي

فقلت : وكيف الصبر وهي من وصفها

يسلّى بها قلب الكئيب بنظرة

فخذها جهارا لا تراقب من الورى

قضاة. ولا شيئا فأنت في ذمتي

فأمل الأواني منها فهي مباحة

ولي أذن صماء عن ذي ملامة

وهذا الشراب قيل إنه يتخذ عندهم من ثمار يشبه ساسنوا (٢) الذي بالغرب عندنا ، ويضيفون له شيئا من السكر ، ولم أر فرقا بينه وبين الماء الصرف إلا في الحلاوة وشدة الاحمرار لا غير.

وفي يوم الخميس التاسع والعشرين (٣) ، قدم ولد باشدور أنجليز بطنجة (٤) علينا

__________________

(١) الأبيات من بحر الطويل مع بعض الخلل في الوزن.

(٢) يسمى حاليا «بوخنو» وهو من الفواكه البرية الطبيعية.

(٣) ٢٢ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٤) يقصد الترجمان روبترRoberts نجل الوزير المقيم بطنجة جون هاي دريموند هاي (١٦ ـ ١٨٩٣ م) ممثل بريطانيا العظمى بالمغرب مدة تقرب من نصف قرن. وقد شغل روبتر منصب نائب قنصل بريطانيا بالصويرة. (رسالة السلطان الأولى إلى بركاش بتاريخ ٦ رجب ١٢٩٦ هئ) الخميس ٢٦ يونيو ١٨٧٩ م.

(والرسالة الثانية في ٧ رمضان ١٢٩٦ ه‍ / الاثنين ٢٥ غشت سنة ١٨٧٩ م) (نص الرسالتين بالوثائق الملكية ، العدد ٤ : ٤٥٧ و٦٠٥) من سنة ١٨٧٤ م إلى سنة ١٨٧٩ م.

٢٠٣

لباريس ، ففرحنا لقدومه لأن والده المذكور ، كان وعد بأن يرسله معنا لدولتهم الفخيمة ، بقصد أن يترجم هناك ، وهو رجل ذو عقل ومروءة ، وذو سمت حسن ، فتلاقى بالباشدور صاحب السر المذكور ، وسر بقدومه سرورا كبيرا.

٢٠٤

الجزء الثالث

الإكرام الذي وجهته الدولة للباشدور وأصحابه

وفي يوم الجمعة متمه (١) ، وجهت الدولة الفرنصوية للباشدور المذكور الإكرام لسيادته وكذلك للأمين وكاتبه ، وللمخازنية الخمسة الذين معنا ، كل واحد بما يناسب مرتبته فتلقى ذلك منهم بالقبول والسرور ، وجازيناهم بالشكر والقول المبرور ، فعند ذلك كتب (٢) الباشدور المذكور لوزير الأمور البرانية بهذه الدولة ، يعلمه بأنه عزم على النهوض والسفر إلى دولتي بلجيق ، وأنجلترا في يوم /١٥٤/ الاثنين ، ثالث جمادى الأخيرة (٣) ويطلب منه التسريح للسفر والمساعدة (٤) على ذلك ،

__________________

(١) ٢٦ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٢) قبل أن يغادر الزبيدي باريس قدم للوزير دي كازي مطالب المغرب مكتوبة نصها الكامل (الوثائق الملكية ، عدد ٥ : ٦٢٨).

(٣) ٢٦ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٤) «... أعلمت جنابكم لتكونوا على بال على العادة في ذلك ، وعند رجوعنا في قريب إن شاء الله نرجو المقابلة لتتميم المذاكرة ، كما نرجو منكم المقابلة مع رئيس الجمهورية الأفخم للوداع ...». ٣٠ جمادى الأولى عام ١٢٩٣ ه‍.

٢٠٥

فأجيب (١) إلى هذا المطلب فأخذ يتهيأ للسفر إلى مدينة ابروكصيلا ، وهي دار الملك عند جنس بلجيق لأن سلطان هذا الجنس (٢) حين سمع بخروج الباشدور المذكور ، لبعض الأجناس دونه مع أنه مكتنف بينهم ، اقتضت محبته القديمة أن طلب من الحضرة العالية بالله بواسطة بعض نوابه المرور عليه ، والدخول لبلدته المذكورة ، بقصد النزول والاستراحة والضيافة وكمال الراحة ، فأجابته أدام الله عزها ـ إلى قصده ، وأذنت بالدخول إليه ، والمقام في بلده.

الخروج من باريس إلى جنس البلجيق وما رأيناه في بعض مدنهم

وفي يوم الاثنين المذكور وجهت لنا الدولة الفرنصوية الأكداش المخزنية بقصد الركوب فيها إلى السكة الموصلة لمدينة بلجيق المذكورة ، فركب كل منا في تلك الأكداش وركب مع الباشدور المذكور في كدشه ترجمان هذه الدولة ، بقصد وداعه وتشييعه ، حتى يوصله إلى حكومة جنس البلجيق ، وهو الذي كان طلع للبابور لملاقاته حين وصلنا لمرسيلية. ومن الأكداش ركبنا في عربية منتخبة من عربات سكة البابور ، وكان ابتداء السفر في الساعة السابعة وزيادة ثلث / ساعة أخرى من الثامنة ، وهذه الطريق من باريس إلى مدينة جنس بلجيق هي كالطريق التي تقدم وصفها من مرسيلية إلى باريس في المزارع التي فيها والبساتين والأنهار والقرى والمدن والأشجار ، وكان البابور كلما وصل إلى مدينة له فيها غرض يقف يسيرا نحو

__________________

(١) «... يكون رجوعكم منها لبلادنا لتتميم الأشغال المنوطة بماموريتكم ... تعلمنا قبل نهوضكم من مملكة اكريت بريطن بثلاثة أيام بطريق السلك ليهيأ لكم البابور الخاص بكم بمدينة كالي ...» ، إتحاف ، بن زيدان ، ٢ : ٢٨٥.

(٢) ليوبولد الثاني II LeoPold ولد ببروكسيل سنة ١٨٣٥ م وتولى ملك بلجيكا سنة ١٨٦٥ م خلفا الوالده ليوبولد الأول ، وتوفي في لاكن سنة ١٩٠٩ م.

Dictionnaire d\'histoire Universelle, Michel Mourre. 1207.

تجول بالمغرب سنة ١٨٦٣ م متنكرا. م. بو شعراء ، الاستيطان والحماية ، م. س ، ٤ : ١٥٤٢.

٢٠٦

خمس دقائق فأقل ، فوقف أولا في بلدة تسمى اكراي (١) ، وفيها فابريكات بعض المصانع ، وبقي واقفا خمس دقيقات ، ووقف في أخرى دقيقة واحدة ، تسمى الوريورا (٢) ، ثم في شولي (٣) دقيقتين ، ثم في بلدة طرني (٤) ثلاث عشرة دقيقة ، ووقف في خمس مدن أخرى لم أدر ما اسمها ثلاث عشرة دقيقة ، فجملة وقوف البابور في مدن الدول الفرنصوية أربع وثلاثون دقيقة ، وفي الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق بعدها وصل البابور إلى الحدادة ، التي بين الدولتين المذكورتين ، في بلدة لجنس البلجيق ، تسمى كيفي (٥) ، فعند ذلك ودع ترجمان الدولة الفرنصوية الباشدور المذكور ، ورجع لباريس ، بعدما كان طلع إلينا للعربة من تلك المدينة ولد وزير الأمور البرانية ببلجيق (٦) ، واستدعانا للدخول لبلدهم وهو في أحسن زي ، لابس أجمل ثيابه. ورأينا من أدبه وتواضعه وتلطفه ما ليس فوقه مزيد ، وأنشدنا لسان حاله (٧).

__________________

(١) Criel.

(٢) محطة صغيرة لم أجد ذكرا لها في الخرائط.

(٣) Chauly.

(٤) Tergnier.

(٥) كيفي Quevy (انظر خريطة بلجيكا في ملحق الرسوم والصور صفحة ٦).

(٦) يقصد السفير أرنيست دالون Ernest Daluin ، كان نائبا قنصليا لبلجيكا بمدينة قادس الإسابنية ، وعين سنة ١٨٥٦ م قنصلا بطنجة ، بعد أن قام برحلة استطلاعية إلى المغرب نشرت نتائجها سنة ١٨٥٥ م. ثم صار سنة ١٨٧٧ م وزيرا مقيما بالمغرب بعد أنكان قبل ذلك قنصلا لبلاده بشاطئ إفريقيا الغربية ، (مييج ، ١ : ٩٦ ، ٢ : ٢٧٥) وكانت له علاقة طيبة مع المخزن ، فاستطاع أن يقنع السلطان الحسن الأول بإيفاد بعثة طلابية إلى بلجيكا حوالي ١٨٧٥ م. انظر كلمة الزبيدي أمام ملك بلجيكا (إتحاف ، ابن زيدان. ٢ : ٢٩٣) وأن يوقع مع المغرب معاهدة في يونيو ١٨٦٢ م حصلت بموجبها بلاده على نفس الامتيازات التي ظفرت بها أنجلترا وإسبانيا سنة ١٨٥٦ م وسنة ١٨٦١ م. ثم أحيل على المعاش ، حتى مات بأوربا سنة ١٨٨٤ م وخلف ثروة طائلة من تجارة السلاح و٩ منازل بطنجة وحدها. وقد خلفه البارون فينطال Whetnall في دجنبر ١٨٨٤ م.

(٧) من بحر الكامل مع بعض التكسير في الإيقاع.

٢٠٧

/١٥٦/عرج على روضناالأنيق وعج به

فأولوا العقول تحيرت من عجبه

وانظر حدائق بهجة ما أجّلها

يسلو بها قلب الكئيب من كربه

واقطف ثمارا دانيات قطوفها

فلك الهنا يا واردا لمحبه

فأنتم وفود على مدينة بلجيق

أكرم بهم من وافدين لبابه

فلكم هنا كل المقاصد والمنا

أهلا بذى الوفد الزكي من غربه

ثم دعانا ولد الوزير المذكور إلى النزول إلى بلدة الحدادة المذكورة (١) بقصد الملاقاة مع كبير عسكرها ، فأجيب إلى ذلك ، وكان من اعتنائه وكمال محبته أن وجدنا فئة عظيمة بهذه البلدة من العسكر متهيئة لقدومنا ، مصفوفة صفا بعد صف ، لابسة آلة حربها. فنزلنا ، وقدمنا إلى دار كبيرهم ، فتأدب أدبا كبيرا مع الباشدور ، وجرى بينها كلام بما يناسب الحال. ثم رجعنا إلى العربة ومعنا ولد الوزير المذكور ، وجد في سيره إلى أن وصلنا إلى مدينة ابركصلاص (٢) المذكورة ، فدخلنا إليها في الساعة الثانية من يوم الاثنين المذكور ، فإذا أسقطت مدة المقام في المدن المتقدمة مع خمس عشرة دقيقة

__________________

(١) استقبلت السفارة المغربية بكيفي من طرف السيد Bossche Yendenمدير ديوان وزير العلاقات الخارجية البلجيكية ، والقنصل دالوان الذي سبق وصول السفارة ببضعة ايام ، وبمحطة مدينةMond ، استقبل من طرف العامل المدني والحاكم العسكري لمنطقةHaunaut وكتيبة من الفيلق التاسع.

أرشيف وزارة الخارجية البلجيكية ببروكسيل (Arch.Hist.DiP) .M.A.E.R.B.

(٢) ببروكسيل استعرض الزبيدي بساحةMidi كوكبتان من جنود الطليعة بقيادة ماجوره ثم توجهوا على متن عربات خاصة إلى فندق منجيل Mengelle يوم الاثنين ٢٦ يونيو سنة ١٨٧٦ م. (نفس المرجع السابق).

٢٠٨

مدة ملاقاتنا مع كبير العسكر في الحدادة ، تبقى مدة السفر خمس سوايع وإحدى وعشرين دقيقة. وعند دخولنا لهذه البلدة وجدنا (١) ذببابها قبة عظيمة والعسكر أيضا في زي مخالف لزي عسكر الفرنصيص ، لأن الشمارير التي على رؤوسهم على هيئة الدلاء محدبة القعر ، وهي من جلد المعز لا زال بشعره وبأيديهم السيوف لا غير ، كل واحد موقف سيفه بين جبهة عينيه ، فتلاقى كبيرهم بالباشدور وتأدب كما يجب ، ودخلنا للمدينة فوجدنا في طرقها متسعة ، وأناسا مكلفين بالكنس والرش والبناء الذي يجدد بها حينئذ /١٥٧/ يبنى على كيفية الأبنية بباريس.

صفة الدار التي نزلنا بها في ابركصلاص

فأتى معنا ولد الوزير المذكور إلى الأوطيل الكبير في تلك البلدة ، وأنزلنا به في الطبقة الأولى قائلا : ليلا يصيبكم التعب في صعود الدرج والنزول منها. فنفد لنا منه مواضع منتخبة (٢). وأماكن مزخرفة في كل مكان منها موائد للأكل ، وشيليات عديدة ، وكنابيس كذلك ، وفرش لينة مع أغطية ، ووطاءات من قطن باردة ، قد تبدى

__________________

(١) طرة بالهامش أدرجتها في مكانها بين نجمتين* ...*.

(٢) هذه بعض التفاصيل التي أوردتها الصحافة البلجيكية عن كيفية تهييء الغرف التي يسكنها أعضاء السفارة المغربية بفندق منجيل ، البهو الخلفي يستعمل كغرفة للطعام ـ الرئيس الكبير ـ وضباطه ، وعلى اليسار قاعة حولت إلى مطبخ به آلات الطبخ coudin وتنكات مغربية ، إن هذا في منتهى الغرابة. بالجانب هناك مرقد مشترك حيث يكون فيه منفذ الأعمال السامية أي الجزار ، قائما بالصلاة على الساعة الثالثة والنصف ، إن تكبيراته لمحمد لا تنقطع. الخدم الآخرون وهم ـ خادم الغرفة ، والحلاق ، وخادم السفير وأجيروا القرآن ، تلقوا التعليمات بعدم الخروج أثناء غياب السفير. إن وجباتهم تتكون من لحم الخروف ، والأرز ، والشاي وحلويات ، والجزار بعد توجيه دعواته للنبي ، على السنة المحمدية بدأ يسلخ الخرفان الذكور والدجاج في البهو الخلفي ، ولا يأكل اللحم إلا مرة واحدة في اليوم ، لا خمرة على الطاولة ، شاي ، شاي دائما. (j.de ,Bruxelles) Belgique G.D.B.R.A.ler ابروكسيل.

٢٠٩

للبدن برودتها من فوق الثياب ، وكذلك فيها من الثريات والماريو وغير ذلك من الزرابي والأواني المحتاج إليها. وفي وسط هذا الأوطيل خصة كبيرة ، وبقطبها الذي في وسطها ثلاث خصص متصاعدة متفاوتة في الصغر والكبر. وبين السفلى والعليا نحو خمسة أذرع ، والماء ينبع من الأنبوب الذي في وسط العليا عن ثقب ضيقة متعددة ، فتراه يخرج منها متصاعدا ، ثم ينحدر إلى الخصة العليا ، ومنها ينزل إلى التي تحتها ، ومنها ينصب إلى التي أسفلها ، وبينها وبين الخصة الكبرى ثلاث تصاوير على صور الآدمي ، كأنهم هم الحاملون للخصص التي فوقهم. وبمحيط جدران براح هذا الأوطيل أشجار صغيرة ومحابق عديدة. وفيها قفص كبير ، فيه طيور كثيرة ، على أشكال منها : طيور في جرم البرطال. لونها أخضر (١) ذو وجهها مع نصف رأسها أحمرذ ، ومنها ما هو في جرم الطير المعروف عندنا بشرقراق (٢) ، وهي تترنم في بعض الأوقات ، /١٥٨/ وتتكلم بصوت مستحسن ، وبالجملة فهي دار منتخبة ظريفة ذات مرافق ومنابع ، قيل إن فيها نحو ثلاثمائة منزل ، وليس عندهم في بلدهم أحسن منها ، وليست كالدار التي كنا نازلين فيها في باريس ذبل تلك أعظم وأكبرذ فشتان ما بين السماء والقمر.

الملاقات مع الوزير

وبمجرد وصولنا ونزولنا بهذه الدار أتي قائد مشورهم (٣) إلى الباشدور يحمده في السلامة ، وطلب منه بأدب كبير ، أن يعين له الوقت الذي يتلاقى فيه مع وزير الأمور البرانية في الغد ، يريد يوم الثلاثاء الرابع منه ، فاعتذر له بتلطف عن اللقاء في ذلك

__________________

(١) طرتين بهامش الصفحة أدرجتهما في مكانهما بين نجمتين* ...*.

(٢) أو الشرقرق هو الأخيل مرقط ، في أجنحته سواد كريه الرائحة كثير الصوت (المنجد).

(٣) وبعد نصف ساعة ، حضر المرافق العسكري للملك الجنرال Ponthoz nder CPaien لتقديم الترحاب باسم جلالته. : ٥١٨(ARCH.HIST.DIP) M.A.E.R.B.

٢١٠

اليوم ، وواعده به في يوم الأربعاء في الساعة الحادية عشر منه (١) ، وفيها تلاقى معه بداره بعد أن ركبنا في الأكداش ، وتوجهنا معه ، فوجدنا فئة عظيمة من العسكر رجلية بباب داره ، فحين رأونا تكلمت الموسيقا على العادة ، وحين تلاقى به كنا نحن وراءه بقرب منه ، فظهر منه فرح كبير وسرور عظيم بقدومنا عليهم لبلدهم ، وجرى بينهما كلام بما يناسب الحال. وأخبر أنه يحب المغرب وأهله ، ولأنه كان فيما سلف في تفيلالت ، وأقام بها خمسة أشهر (٢) ، وأحسن معه أهلها غاية الإحسان ، فلذلك يحب الغرب وأهله ، وأنه يرجو الله أن لا يموت حتى يرده إلى الغرب ، لأنه يحن إليه ، فقال له الباشدور إنه لرجل عاقل ، ومن تمام عقله حسن معاشرته مع أهل /١٥٩/ تفيلالت ، حتى أقام فيها تلك المدة ورجع بسلام. ثم ودعه فأخذ نائبه الذي تقدم ذكره يمشي قدامه ، وهو مواجه له أدبا معه حتى وصل إلى الباب فودعه بأدب كبير ورجع.

بعض أوصاف هذه المدينة

وفي مساء ذلك اليوم ، ركبنا في الأكداش وخرجنا نطوف بناحية من نواحي البلد ، فوجدناهم مشتغلين بكنس الطرق والرش أيضا ، وسرنا حتى انتهينا إلى طرف

__________________

(١) نظرا لعياء السفير لم يغادر شقته طيلة يوم الثلاثاء ، حتى يوم الأربعاء ٢٨ يونيو سنة ١٨٧٦ م ، توجه لاستقبال وزير الخارجية صحبة القنصل دالوان ، وبعد نصف ساعة قام الكونت Lyn  D\'AsPremoneـ denرفقة مدير ديوانه برد الزيارة لمحمد الزبيدي. (نفس المرجع السابق).

(٢) لقد سبق للسفير البلجيكي دالوان أن قام برحلة استطلاعية إلى الجنوب المغربي نشرت نتائجها سنة ١٨٥٥ م. وكانت بلجيكا ترغب في الحصول على «موضع قدم» بالساحل الجنوبي من أجل أن يكون مكان استراحة يربط بلجيكا بالكونغو ، وقد كلف دالوان بزيارة العاهل المغربي في يونيو سنة ١٨٧٩ م بمعسكره قرب الرباط لمعرفة موقفه من ذلك. كما كلف السفيرWhetnall بتقديم طلب الحصول على موضع قدم في وادي الشبيكة على الأطلسي في بداية ١٨٨٨ م.

٢١١

البلد ، فوجدنا هناك غابة عظيمة (١) والطرق واسعة فيها ، تتخللها من جهات كثيرة ، وبعض الأماكن منها يتخذ بقصد الاستراحة ، فيوضع فيه شوالي طويلة وأخرى مستديرة ، فمن أحب الجلوس هناك فله ذلك. ورأينا بعض الشوالي هناك مستديرة مرفوعة على قضبان بعضها خارج من بعض كأغصان الشجر ، فظننا أنها من عود ، فقيل لنا بل هي من حديد ، وعليها طلاء يشبه لون العود ، فنزلنا في بعض بقاع هذه الغاية وصلينا العصر بها (٢) ، فاجتمع علينا خلق كثير من نسائهم ورجالهم ، لأن ذلك المحل أي الغابة امتدت معها بعض المساكين والأبنية ، وهم يتعجبون منا لأنهم قلما يصل المسلمون إلى بلدهم. وبعد صلاة العصر أخذنا نتمشى في هذه الغابة على أرجلنا فرأينا /١٦٠/ فيها أشجارا عظيمة الخلقة ، وهي في غاية ارتفاع ، وجلها لا ترى في طوله من ساقه إلى رأسه اعوجاجا. ووجدنا أصول شجرة موضوعة هناك ، قد فصل بعضها عن بعض. فعبرت نصف دور بعضها فوجدته فيه اثني عشر شبرا ، فيكون في دور ساق (٣) هذه الشجرة أربعة وعشرون شبرا. ثم بقينا نتمشى حتى عرضت لنا طريق أخرى ، فأتت الأكداش إلينا ، فركبنا ورجعنا. فكنا نجدهم في بعض الطرق يغرسون بها من تلك الأشجار مع طولها ، وفي بعضها أشجار كبيرة ، غرسها قديم لكن في بعض الطرق دون بعض ، وفنارات الضوء ممتدة معها تشعل الليل

__________________

(١) بعد الاستقبالات الرسمية ، قامت السفارة المغربية بنزهة بغابةLa Camba على متن العربات.

. M. A. E. R. B (ARCH. HIST. DIP): 518.

(٢) «بعد أن تقدموا بعض الخطوات داخل الغابة شوهدوا وهم يركعون رافعين أيديهم وعيونهم شاخصة باتجاه الشرق ، كانت ساعة الصلاة وكانت غابةLa Camba ، هي المسجد. وقد تابعت الشخصيات المتواجدة على بعد وباهتمام بالغ الشكل المعقد لهذه العبادات الشرقية في الهواء الطلق ، وقد تميز هذا المنظر الإسلامي تحت ظلال الغابة بطابع أصيل».

جريدة ابروكسيل

G.D.B.R.A.ler Belgique (J.de Bruxelles).

(٣) الجدع الذي ينمو عموديا ، تتنامى سماكته بشكل غير منتظم حسب الفصول ، وتكون حلقات متميزة ، تساعدنا على تحديد عمر الشجرة (شبر ـ ٢٦ ، ٠ متر إذن محيط الشجرة هو ٢٤ شبر* ٢٦ ، ٠ م ـ ٢٤ ، ٦ م.(الموسوعة العربية).

٢١٢

كله. وبعض المواضع التي بوسط المدينة وجدناه مغروسا كأنه غاية. وقد أحيط بها قضبان حديد قائمة على رؤوسها كالحربات مذهبة ، وهي متقاربة بين كل قضيبين أقل من نصف شبر ، وقضبان أخر ممتدة مقاطعة لها ، قد أحكم وصل بعضها ببعض ، حتى صارت هذه القضبان زربا لتلك الغابة لا يدخل لها إلا من أبوابها المصنوعة فيها. وقد امتد مع هذا الزرب وداخله أشجار صغيرة ، وهي في غاية الاستواء ، لا اعوجاج فيها ، وقد نقيت من أصولها إلى حيث أخذت /١٦١/ الفروع في الانتشار ، فتركوها تنتشر ، لكن من محل واحد ، بعدها من الأرض بقدر متحد ، وبين كل شجرتين نحو ثمان خطى. فحين طالت الفروع السفلية الأولى قرن ما بين بعضها ببعض ، وكذلك ما فوقها حتى التأمت الفروع من أعلا الأشجار وبقيت الأصول متجردة. وامتدت على هذه الحالة كامتداد قضبان الحديد على المثال بالطرة (١). ويا لها من نظرة هناك ما أجملها ، ومسرة ما أجلها. وهذه البقاع بداخلها شوالي موضوعة ، وقد تتخذ للفرجات وغيرها. وهذا المحل قريب من دار كبير دولتهم ، وهو مباح يدخله من شاء. وحين رجعنا إلى محل نزولنا تذاكرنا في كبر هذه المدينة فألقيناها كبيرة في رؤية العين. وطلبت من الترجمان أن يبين لي كم متر في طولها وعرضها ، فوعدني بأنه يأتيني بورقة هيئتها ، لأن من عادتهم طبع هيئة البلد في ورقات (٢) لا تكاد تحصى ، يدفعون كل ورقة لمن ينزل في منزل منها من البرانيين ، ويرقم فيها جميع ما يحتاجه ، بحيث يكون فيها كل ما يريد أن يسأل عنه ، لا من الأماكن ولا من أكريتها ، وبيان المواضع والطرق الموصلة إليها ، وعدد البابورات التي تخرج منها ، وفي أي وقت ليلا ونهارا ، ومقدار الكراء بحسب السكة وغير ذلك من ضروريات التجارة. وعند إتيانه بهذه الورقة وبسطه لحالها لنا. نرجع إلى /١٦٢/ تمام الكلام على البلد بحول الله.

__________________

(١) رسمين توضيحيين من إنشاء الجعيدي : (أ) مثال الأشجار المتناسقة. (ب) مثال الزرب الحديدي.

(انظر ملحق الرسوم والصور صفحة ٧).

(٢) يقصد رسم أو دليل ابروكسيل ، الذي يرشد السائح لما قد يحتاجه من معلومات أو عناوين أو غير ذلك ، أثناء إقامته بها ، ويكون مدعما بالصور والرسوم والبيانات.

٢١٣

الملاقات مع عظيم دولتهم

وبعد ذلك بل عند رجوعنا وجد الباشدور (١) كتابا مطبوعا وجهه له وزير الأمور البرانية ، تضمن الإذن له ولأصحابه بالطلوع إلى دار ملكهم ، وأنه هو وزوجته يأذنان في الطلوع بقصد الملاقاة معهم ، في الساعة الثانية من يوم الخميس السادس من شهر تاريخه ، فحين قربت هذه الساعة وجه ثلاثة أكداش من الأكداش التي يركبها هو ووزراؤه. كل كدش يجره ستة من الخيل ، يتولاه نفر من خاصة عسكره ، كساويهم جلها ذهب ، وكذلك سرج هذه الخيل ، وآلات الجر جلها مرصع بالذهب ، فركب الباشدور في كدشه أمامنا ، وتبعناه في كدشين في أثره ، وأخذت الخيل في السير هونا ، تتحرك قليلا قليلا حتى كأن في ذلك إشارة إلى أن هذه الخيل تجر أمرا عظيما لملكهم (٢) ، وحين قربنا من داره وجدنا صفوفا كثيرة من العسكر صفا وراء صف ، وأصحاب الموسيقا والطنابرية مشتغلون بعملهم ، وكبراؤهم يشيرون بالسلام بتأدب على عادتهم. وعند وصولنا إلى دار ملكهم ودخلنا إليها وصعدنا معارج للدخول عليه

__________________

(١) «... أتشرف بإعلامكم أن جلالة الملك وجلالة الملكة يقتبلانكم في قصر بروكسيل في الساعة الثالثة من هذا اليوم ...». ابن زيدان ، الإتحاف ، ج ١٢ : ٢٨٨. كما طلب منه نسخة من الخطبة التي سيلقيها أمام الملك ليهيء جوابها فدفعها له.

(٢) «.. الخميس ٢٩ يونيو على الساعة الثانية ، استقبل سيادته استقبالا رسميا من طرف ملك بلجيكا وبحضور الملكة مرفوقين بحاشية الشرف ، وقد غاب عن الاحتفال الضباط السامين للتاج ، وقد حضر السفير المغربي في العربتين المخصصتين للحفلات الكبيرة ، يجر كل واحدة ستة خيول وطاقمها ، التي نقلته خصيصا من الفندق ، وقد رافقه أمام القصر كتيبة من المشاة بقيادة مقدم ، وعلم موسيقى الفيلق ، وكانت مراسيم الحفل هي المراسيم الخاصة باستقبال السفراء ، وقد حضرها القنصل العام بالمغرب. السفير الزبيدي لم تكن لديه أوراق اعتماد خاصة ، ألقى خطابا أمام الملك الذي قبل الرد عليه بكلمة جوابية ، وبعد ذلك استقبل السفير من طرف الأمراء والأميرات». نلاحظ التشابه الكبير بين ما ذكره الجعيدي ، وبين ما جاء في تقرير وزارة الخارجية البلجيكية.

M. A. E. R. B) ARCH. HIST. DIP): 518.

٢١٤

للقبة التي هو فيها. دخلنا لقبب بعضها يوصل إلى بعض ، وكل واحدة تنسيك محاسن الأخرى ، حتى وصلنا إلى القبة الثامنة ، فوجدنا فيها وزراءه وخاصة دولته ، نحو العشرة. ثم خرج كبير دولتهم من القبة التاسعة ، ومعه زوجته (١) ، وتلاقى بالباشدور متأدبا غاية /١٦٣/ وكاتبه والأمين وراء الباشدور قريبان منه ، والمخازنية الخمسة وراءنا ، فشرع الباشدور في الكلام (٢) معه بما هو مأمور به ، وترجمه المترجم ، وأجاب عنه كبير الدولة بأنه حصل له فرح وسرور عظيم بقدومنا عليهم ودخولنا لبلدهم ، حتى أنه قال : إنه يرجو الله أن يشرح صدورنا لبلده حتى نقيم فيها في عافية وراحة ، ويأذن لنا في المسير للفابركات التي بداخل المدينة وخارجها ، وزور الأماكن التي تصنع فيها العدة والسلاح ، ونستوعب ذلك كله بحول الله ، فجازاه الباشدور بكلام طيب عن كلامه هذا ، ثم طال الكلام بينهما في غير هذا. ثم انصرفنا من عنده ، ورجعنا لمحل نزولنا.

فابريكات المدافع والرماية بها

وبعده بقريب أتى الترجمان بأكداش أخر ، وأذننا بالركوب فيها بقصد الذهاب إلى دار فابريكات المدافع ، ودار تعليم الرماية بها وبالمكاحيل ، فسرنا إلى دار فابريكات المدافع (٣) ، فوجدناهم يصنعون بها المدافع التي ظهرت في الوقت ، فوجدنا فيها مدفعا

__________________

(١) ملكة بلجيكا السيدة D\'Autriche Henriette Marie -.

(٢) «.. فإنني أمرت من جلالة سلطان المغرب ... تجديد أسباب المحبة ... وشكركم بتوسط نائبكم دالوان في شأن المتعلمين وغيرهم ... وإنني لمسرور جدا بتبليغ كلام جلالة سلطاننا ... مشافهة ... ولجلالة الملكة المعظمة ... وأرجو من سموكم الإذن لمن تختارون للمخابرة معنا فيما يعود بالمصلحة على الدولتين». الإتحاف ، ج ٢ : ٢٨٩. يقصد المتعلمين ، البعثة الطلابية المغربية التي توجهت إلى الدراسة بالمعاهد البلجيكية.

(٣) يقصد معمل السيد كريسطوف CristoPhe في مولابريك سان جان Jean Molenbreek St لصناعة الأسلحة : ٥١٨.(ARCH.HIST.DIP)  M.A.E.R.B

٢١٥

صغيرا تم عمله ، وهو من مدافع الجر (١) منصوبا على كريطته ، وطوله بخزنته نحو ذراع ونصفه ، وقطر فورمته أقل من ربع ذراع ، وفيه تسع عشرة عمارة ، وكنا نسمع بهذه العينة ، فكنا نظن أن العمارات لها جعبة واحدة هي فورمة المدفع ، والخزنة فيها التسعة عشرة ، كما نعتاده في بعض الكوابيس الرومية ، فوجدناه بخلاف ذلك. وبيانه أن هذا المدفع ملفق من أجزاء ، أما جعبته أعني جرمه ما عدا خزنته فهي جزء مستدير /١٦٤/ أسطواني كالمعهود ، لكن منه نحو أصبعين أو أزيد صنع من صفر. ثم أفرغ في جوفه الحديد المذاب حتى ملئ منه جوفه كله. ثم ثقب في هذا المذاب بالبريمة تسع عشرة ثقبة ، نافدة من خزنته إلى فمه على المثال الذي سطرته. ثم صنع قعره من صفر مفصولا عنه. ثم عمدوا إلى قطعة حديد مبسوطة وفتحوا فيها تسع عشرة دائرة على الكيفية التي بالطرة (٢). وجعلوا لهذه الحديدة علامة ترفع منها خارجة عن الدوائر التي فيها. وفتحوا في قعر المدفع المفصول قدرا يسع هذه الحديدة دون علاقتها. وهذه الحديدة يركب فيها القرطوس (٣) من البارود ، كل قرطوس في دائرة حتى تملأ دوائر الحديدة بقراطيس البارود برصاصها ، لأنه كقرطوس المكاحيل في الجرم ، فإذا أريد عمارة المدفع ، تحرك يد من حديد كيد الزيار قرب الخزنة من جهة اليمين ، فينفصل قعر المدفع من بقية جرمه ، فيوضع تلك الحديدة في محلها الذي حفر لها على قدر جرمها ، ثم تحرك تلك اليد فينطبق قعر المدفع على فم الخزنة ، فتدخل كل عمارة قرطوس في كل ثقبة من الثقب الذي في جرم المدفع (٤) ، لمراعاة المسامتة عند الوضع ، ويسد عليها بتلك اليد ، فيصير كأنه ذات واحدة. وعن يسار

__________________

(١) يقصد الرشاش سلاح ناري جماعي للرمي المستقيم ، يتم تموينه بالذخيرة بواسطة أشرطة أو مخازن مستطيلة أو أسطوانية ، ويمتاز بقدرته على إنتاج رمايات غزيرة بسرعة كبيرة. الموسوعة العسكرية ، ج ١ : ٨٣ ـ ٨٥.

(٢) رسم من إنشاء الجعيدي يوضح فوهات الرشاش المتعدد الطلقات.(انظر ملحق الرسوم والصور صفحة٨ و٩.

(٣) انظر شرحه بالملحق رقم : ٤.

(٤) الرشاش يستخدم مجموعة دائرية من السبطانات التي تدور حول محور مركزي داخل حجرة أسطوانية تؤمن التلقيم بالتتابع ، ويتم إطلاق النار عن طريق ذراع تدوير يدوية ، تتصل بإبر التفجير المخصصة لكل طلقة من الطلقات الموجودة في المخزن. (الموسوعة العسكرية ، ج ١ : ٨٤).

٢١٦

الخزنة الآلة التي يعرف بها مسامتة الشيء الذي يرمي بالمدفع ، وهي بنية معروفة. ثم تكلم كبير الدار مع بعض الخدمة التي فيها ، وهو ولد صغير يبلغ سنه ثلاثين سنة والله أعلم. /١٦٥/ فعمد إلى ذلك المدفع وفصله عن كريطته ، ورفعه ووضعه على كتفه ، وبقي واقفا به هنيئة ، ووضعه على كريطته ، ثم أتى معه ولد آخر في قده وجعلا كالعصا على رجل الكريطة لأنها لها رجل واحدة ، وأخذ كل واحد منهما بطرفها بيد واحدة ، وخرجا به إلى وسط الدار ، وصارا يجريان به وهما يحركانه ، فوهته وراءهما ، ولم يكن عليهما في ذلك كبير مشقة ، ثم رداه إلى محله ، ووجدنا (١) مدفعا آخر مصنوعا مثل هذا أكبر منه بنحو نصف ذراع ، فيه ثنتان وثلاثون عمارة كما في الآخر ، ووجدنا آخر فيه سبع وثلاثون عمارة ، قيل إنه يرمي في الدقيقة الواحدة ستمائة رصاصة ، وغاية البعد الذي يرمي به ثنتان وعشرون مائة متر ، وهي تنيف عندنا على ثلاث وأربعين مائة ذراع والله أعلم. وجدنا آخر أكبر من تلك المدافع ، طوله نحو ثلاثة أذرع ، وليس فيه إلا سبع عمارات ، فورمة كل واحدة قدر دور نصف الريال ، قيل إنه يرمى بمقدار خمس وثلاثين مائة متر. وسئل (٢) عن

__________________

(١) كانت الحرب الأهلية الأمريكية (٦١ ـ ١٨٦٥ م) المناسبة المثلى لاختبار وتطوير رشاش غاتلينغ.R Gailing وغيره ، مما ألحق خسائر بشرية ضخمة.

وبفرنسا سمي Mitrailleuse (عنقود أو حزمة الطلقات) استخدم في الحرب البروسية (٧٠ ـ ١٨٧١ م) ، وكما استخدمته بريطانيا ضد الثورة المهدية بأم درمان سنة ١٨٩٨ م ، حيث أثبت فاعلية كبيرة في القضاء على جماعات المشاة والخيالة السودانيين ، وكانت الحرب العالمية الأولى هي حرب الرشاشات التي حتمت اختراع الدبابة والعربة المدرعة ... (الموسوعة العسكرية ، ج ١ : ٨٥).

(٢) نقتطف من جواب الحاجب السطاني المغربي عن مكاتب الزبيدي ما يأتي : (تواصل دائم بواسطة البريد) «... وصار بالبال جميع ما سطرته في المكاتب الثلاثة واطلعنا عليها سيدنا واستوعبها سيادته قراءة وفهما ... وقد استحسن سيدنا مدفع الجر الصغير الخفيف ذا العمائر ، والذي نبهت عليه ، وقال أيده الله لا بد من بيان ثمنه ، أي المدفع الصغير الذي تحمله بغلة واحدة فتحقق لنا ثمنه وبين لنا كيفية السريجة التي يحمل عليها ، ولا بد وحينئذ يظهر لسيادته ما يحتاج لجلبه منه ، وقد كتبنا عن أمره الشريف للمحب السيد محمد بركاش ليتكلم مع نائب البلجيك في ذلك ...». ٢٦ رجب عام ١٢٩٣ ه‍. موس ابن أحمد لطف الله به. ابن زيدان ، الإتحاف ، ج ٢ : ٢٩١.

٢١٧

ثمن هذا المدفع فقيل أربع عشرة مائة ريال ، فقيل : وكم معه من عمارة ، فقال : خمسون بقصد التجريب ، وما عداها فلها ثمن يخصها ، فسئل عن ثمن الصغار ، فقال : إن ذلك عند الباشدور الذي لهم بطنجة ، ووجدنا مكينات هناك تدور ، وكل واحدة جالس قبالتها رجل ، قد ركب جزءا من أجزاء المدفع في محل وأحكم وثاقه ، وهو يدور بدوران المكينة وبيده آلة /١٦٦/ من هند محددة الرأس ، وهو يخرط بها تلك الآلة ، كما يخرط الخراط العود بالحديد. ثم خرجنا من هذه الفابريكة ، وتوجهنا إلى الدار التي يتعلمون فيها الرماية (١) ، فدخلنا إليها فوجدنا فيها بيتا طويلا عريضا ، وفي جداره فرج مربعة مفتوحة يشرف منها على ربوة بعيدة ، فيها أشجار ، وجعل في أسفل تلك الربوة حفيرا أطول من قامة الإنسان ، وفيه ألواح كبيرة مربعة من عود ، يظهر من المحل الذي كنا فيه أن تربيعها قدر ذراع في مثله ، وهي مصبوغة بالسواد ، في وسطها بياض ، تركب هذه الألواح في رؤوس عصي طويلة ، يباشر تركيبها من يكون في ذلك الحفير ، وينصبها للرمي. ووجدنا أناسا بذلك البيت يرمون تلك الألواح من الفرج التي في جداره ، وتكرر رميهم لها ، فما أصابها واحد منهم ، فناولني واحد منهم مكحلة بعدما عمرها من خزنتها ، وأذنني في الرمي بها ، فأخذتها فوجدت نيشان الخزنة ضعيفا جدا لا ينحصر به المرمي ، فحين شايعت بها المرمى ظهر لي في رأي العين أن فورمة المكحلة أعظم من المرمي (٢) ، ولعله من صغر النيشان وشكل الجعبة ، فحين أخرجت المكحلة لم أصب ذلك المرمى ، فلم

__________________

(١) في مكان الرماية الوطني National Tir جربت هذه الأسلحة أمام أنظار أعضاء السفارة المغربية.

M. A. E. R. B) ARCH. HIST. DIP): 518.

(٢) تنبه الجعيدي إلى بعض عيوب هذه الأسلحة البلجيكية وهي في طور التجريب ، وفضل الأسلحة التقليدية المغربية عليها ، وهذا يفسر لنا أن الجنود المغاربة كانوا يفضلون المكاحيل القديمة المحلية على المكاحيل الأوربية الحديثة ، كما يظهر من رسائل السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان بتاريخ غشت ١٨٦٢ م «... وأخبرت أنك كنت دفعت لمخازنية تطوان المكاحيل الرومية ولم تصلح لهم وطلبت أن تفرق عليهم هذه المكاحيل التي تعمل من الطريحية فقد أذناك في ذلك ، فاجمع الرومية التي كنت فرقتها عليهم ...».

٢١٨

تكن له علينا في ذلك مزية والحمد لله. ووددت الآن لو كان معنا مكحلة من مكاحيل غربنا ،لأن أمور الرماية عندنا مما يكاد يستحيله السامع ، كضرب المحمدي الذي يكون في أذن الواقف ، والطائر في حال طيرانه على أحوال متعددة ، ثم خرجنا من هذا /١٦٧/ البيت ، وأوتي بنا إلى آخر ، فوجدنا فيه مربعين ، أحدهما فيه تسع عشرة عمارة ، والآخر فيه سبع وثلاثون ، وأوتي بالحديدات المتحدة عنها ، في كل واحدة تسعة عشر قرطوشا مركبا فيها ، فوضعت تلك الحديدة في قالبها المحفور لها في سطح قعر المدفع ، وشدت على الخزنة ، وكان في رجل الكريطة مسماران معكوفان إلى جهة الأرض ، فضربهما برجليه حتى غاصا في الأرض ، وكان أمامه في بعد جدار مربع مصبوغ بصبغة سوداء ، في وسطه دائرة ببيضاء ثم أخذ يباشر مسامتة المدفع للدائرة البيضاء ، وبعدها رفع تلك اليد من الحديد التي عن اليمين إلى فوق ، فخرجت العمارة كلها ، فكان رجل منهم في الحفير الذي فيه ذلك الجدار ، وبيده قضيب طويل ، وهو يعين لهم المواضع التي أصابها رصاص العمارة ، فكانت كلها حول الدائرة البيضاء ، وتكرر الرمي منه بهذا المدفع وبالآخر ، فما أصابت الدائرة البيضاء ولو رصاصة واحدة (١) ، ومن المشهور عندنا في الغرب أن الطبجية يجعلون

__________________

(١) بعض رجال المخزن المغربي كان يعرف أن الأسلحة التي كان يشتريها كانت عاجزة أو فاسدة أكل الدهر عليها وشرب ، وكلام المؤرخ الناصري في هذا الموضوع واضح «... صاروا من القوة والاستعداد والتفنن في أنواع الآلات الحربية التي حيث صارت آلاتنا عندهم هي والحطب سواء ، والدليل على ذلك أنهم يبيعوننا أنواعا من الآلات الحربية نقضي العجب من جودتها وإتقانها ، ومع ذلك فينقل لنا عنهم أنهم لا يبيعونا منها إلا ما انعدمت فائدته عندهم ، لكونهم ترقوا عنها إلى ما هو أجود منها ، واستنبطوا ما هو أتقن وأنفع ...»، الاستقصا ، ج ٩ : ١٨٤.

رغم أن المخزن المغربي كان يشترط على الشركات الأوربية التي يتعامل معها ضمان حكوماتها لجودة السلعة ، فإن الأسلحة كثير ما كانت تظهر فيها أعطاب غير صالحة للاستعمال كما جاء ذلك في إحدى رسائل القنصل البلجيكي بطنجة للزبيدي.«... إنا نكتب لك اليوم على شأن أمر أوقعني في غبينة كبيرة .. وإنني تغيرت كثيرا لما سمعت أن السلطان أيده الله ليس على خاطره من أجل هذا الحرب (الأسلحة) الذي من بلادي ...» ، سنة ١٨٨٥ م. الجيس المغربي وتطوره في ق ١٩ ، برادة ثريا ، ص. ٢٧٧. د. د. ع ، كلية الآداب بالرباط.

٢١٩

دائرة في جدار أبيض ، وفي مركزها طلاء أسود أو أحمر ، ويضربونه بالمدفع بكورة واحدة ، فيصيبون ذلك الطلاء بخصوصه في بعض الأوقات مع صغر جرمه. وهذه العمارة التي تجعل في تلك المدافع ، لصاحبه الاختيار ، إن شاء أخرجها دفعة واحدة ، فتخرج كالحاضرون المعروف ، وإن شاء أخرج منها رصاصة أو ثنيتين أو أكثر ، وإن شاء أخرجها متتابعة فعل ، فالسبت في يده أي اليد التي يحركها /١٦٨/ إن شاء طوله وإن شاء قصره ، وكذلك إذا أراد أن يضرب بعمارة واحدة الصف المقابل له ، من اليمين إلى اليسار ، يجذب المدفع إليه حالة رفع تلك اليد ، فتجد فمه يدور إلى جهة اليسار حين خروج العمارات ، ثم شكر لهم الباشدور تلك الأعمال ، فلين الأقوال فتأدبوا منكسرين بخضوع غير مستكبرين ، وركبنا الأكداش ورجعنا إلى مستقرنا.

الملاقات مع أخ عظيم الدولة وعامل البلد وصفة داره

وفي يوم الجمعة السابع (١) منه ركبنا وتوجهنا لدار أخ كبير الدولة (٢) ، وتلاقينا به بداره فرأينا منه من الفرح والسرور مثلما وجدناه في كبير الدولة ، وبعدما خرجنا من عنده توجهنا لدار عامل البلد (٣) ، فالقينا فئة كبيرة من العسكر بباب داره متحربة ، وأصحاب الموسيقى يتكلمون بها ، فتلاقينا به في قبة بداره ، وما قصر في البشاشة والتعظيم ، وأحضر موائد القهوة ، وموائد الحلواء المعقودة على الثلج ، فتناولنا من ذلك شيئا خفيفا. ووجدنا عنده بتلك القبة كنانيش فيها الشروط والعهود المعقودة بينهم وبين الدولة الفرنسوية ، ربما يزيد على تسعمائة سنة كما قيل. وهي محفوظة

__________________

(١) ٣٠ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٢) الأمير فليب دوق فلاندر Flander PhiliPPe Conte de وزوجته ، انظر نص برقية الاستدعاء بالإتحاف ، ج ٢ : ٣٠٠.

M. A. E. R. B) ARCH. HIST. DIP): 518.

(٣) بقصر البلدية استقبل الزبيدي من طرف عمدة المدينة وطاف على أهم مرافقها (نفس المرجع).

٢٢٠