تفسير البغوي - ج ٥

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٥

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

أحمد بن عبد الله ثنا محمد بن عبد الله ثنا عبد الله بن عمر بن أبان ثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) فقال : «سبحان ربي الأعلى».

وقال قوم : معناه نزّه ربك الأعلى عمّا يصفه به الملحدون ، وجعلوا الاسم صلة ، ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحدا إلا أن أحدا لا يقول : سبحان اسم الله ، وسبحان اسم ربنا ، إنما يقولون : سبحان الله وسبحان ربنا ، وكان معنى (سبح اسم ربك الأعلى) : سبح ربك. وقال آخرون : نزه تسمية ربك بأن تذكره وأنت له معظم ولذكره محترم ، وجعلوا الاسم بمعنى التسمية.

وقال ابن عباس : سبح أي صل بأمر ربك الأعلى.

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٢) ، قال الكلبي : خلق كل ذي روح فسوى اليدين والرجلين والعينين. قال الزجاج : خلق الإنسان مستويا ، ومعنى سوى : عدل قامته.

(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) ، قرأ الكسائي قدر بتخفيف الدال ، وشددها الآخرون ، وهما بمعنى واحد.

وقال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر والسعادة والشقاوة ، وهدى الأنعام لمراتعها.

وقال مقاتل والكلبي : قدر لكل شيء مسلكه فهدى ، عرّفها كيف يأتي الذكر الأنثى.

وقيل : قدر الأرزاق فهدى لاكتساب الأرزاق والمعاش.

وقيل : خلق المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها.

وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج من الرحم.

قال الواسطي : قدر السعادة والشقاوة عليهم ، ثم يسر لكل واحد من الطائفتين (١) سلوك سبيل ما قدر عليه.

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) (٤) ، أنبت العشب وما ترعاه النعم ، من بين أخضر وأصفر وأحمر وأبيض.

(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤))

(فَجَعَلَهُ) ، بعد الخضرة ، (غُثاءً) ، هشيما بالياء ، كالغثاء الذي تراه فوق السيل. (أَحْوى) ، أسود بعد الخضرة ، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس اسود.

__________________

ـ وكرره ٣٦٩٧٣ من طريق زياد بن عبد الله عن ابن عباس موقوفا ، وإسناده ضعيف.

ـ وورد مرفوعا من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري ٣٦٩٧٢ ، وهذا مرسل ، وهو بصيغة التمريض.

ـ الخلاصة : ورد مرفوعا ، وموقوفا ، وهو أصح ، ولم يصب الألباني إذ أورده في «صحيح أبي داود» برقم : ٧٨٥ وجزم بصحته؟!

(١) تصحف في المخطوط «الطائعين».

٢٤١

(سَنُقْرِئُكَ) ، سنعلمك بقراءة جبريل عليك ، (فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ، أن تنساه وما نسخ الله تلاوته من القرآن ، كما قال : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) [البقرة : ١٠٦] ، والإنساء نوع من النسخ.

[٢٣٣١] وقال مجاهد والكلبي : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه جبريل لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأولها مخافة أن ينساها ، فأنزل الله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) ، فلم ينس بعد ذلك شيئا.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) ، من القول والفعل ، (وَما يَخْفى) ، منهما ، والمعنى : أنه يعلم السر والعلانية.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) (٨) ، قال مقاتل : نهون عليك عمل الجنة ، وهو معنى قول ابن عباس : نيسرك لأن تعمل خيرا ، واليسرى عمل الخير. وقيل : نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السمحة. وقيل : هو متصل بالكلام الأول معناه : أنه يعلم الجهر مما تقرأه على جبريل إذا فرغ من التلاوة ، (وما يخفى) ما تقرأه (١) في نفسك مخافة النسيان ، ثم وعده فقال : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) (٨) ، أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه.

(فَذَكِّرْ) ، عظ بالقرآن ، (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) ، الموعظة والتذكير ، والمعنى : نفعت أو لم تنفع ، ولم يذكر الحالة الثانية ، كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، وأراد الحر والبرد جميعا.

(سَيَذَّكَّرُ) ، سيتعظ ، (مَنْ يَخْشى) ، الله عزوجل.

(وَيَتَجَنَّبُهَا) ، أي يتجنب الذكرى ويتباعد عنها ، (الْأَشْقَى) ، الشقي في علم الله.

(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) (١٢) ، العظيمة والفظيعة لأنها أعظم وأشد حرا من نار الدنيا.

(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) ، فيستريح ، (وَلا يَحْيى) ، حياة تنفعه.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (١٤) ، تطهر من الشرك وقال : لا إله إلا الله ، هذا قول عطاء وعكرمة ، ورواية الوالبي وسعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال الحسن : من كان عمله زاكيا. وقال آخرون : هو صدقة الفطر روي عن أبي سعيد الخدري في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (١٤) قال : أعطى صدقة الفطر.

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (١٥) ، قال خرج إلى العيد فصلى صلاته ، وكان ابن مسعود يقول : رحم الله امرأ تصدق ثم صلى ، ثم يقرأ هذه الآية.

وقال نافع : كان ابن عمر إذا صلى الغداة يعني من يوم العيد قال : يا نافع خرجت الصدقة فإن قلت نعم مضى إلى المصلى ، وإن قلت لا قال فالآن فأخرج فإنما نزلت هذه الآية في هذا (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (١٥) ، وهو قول أبي العالية وابن سيرين.

__________________

[٢٣٣١] ـ واه بمرة ، ذكره المصنف هاهنا عن مجاهد والكلبي معلقا ، وسنده إليهما في أول الكتاب ، أما مجاهد فتفسيره عند المصنف من رواية مسلم بن خالد الزنجي ، وهو ضعيف ، وأما الكلبي ، فهو كذاب ، لا يشتغل بحديثه.

ـ والذي صح في ذلك ما تقدم في سورة القيامة.

(١) في المطبوع «تقرأ».

٢٤٢

وقال بعضهم : لا أدري ما وجه هذا التأويل لأن هذه السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. قلت (١) : يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم كما قال : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) (٢) ، [البلد : ٢]. فالسورة مكية ، وظهر أثر الحل يوم الفتح حتى

[٢٣٣٢] قال عليه الصلاة والسلام : «أحلت لي ساعة من نهار» وكذلك نزل بمكة : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥) [القمر : ٤٥].

[٢٣٣٣] قال عمر بن الخطاب : كنت لا أدري أي جمع يهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثب في الدرع ويقول : «سيهزم الجمع ويولون الدبر».

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (١٥) أي وذكر ربه فصلى ، وقيل : الذكر تكبيرات العيد والصلاة صلاة العيد ، وقيل : الصلاة هاهنا الدعاء.

(بَلْ تُؤْثِرُونَ) ، قرأ أبو عمرو ويعقوب بالياء يعني الأشقين الذين ذكروا وقرأ الآخرون بالتاء دليله قراءة أبي بن كعب «بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا».

(وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) ، قال عرفجة الأشجعي : كنا عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية فقال لنا : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قلنا : لا. قال : لأن الدنيا أحضرت وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها ، وأن الآخرة نعتت لنا وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل.

(إِنَّ هذا) ، يعني ما ذكر من قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (١٤) ، إلى أربع آيات ، (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) ، أي الكتب الأولى التي أنزلت قبل القرآن ذكر فيها فلاح المتزكي والمصلي وإيثار الخلق الحياة الدنيا ، وأن على الآخرة وأن الآخرة خير وأبقى.

ثم بيّن الصحف فقال : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩) ، قال عكرمة والسدي : هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى.

[٢٣٣٤] أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا محمد بن

__________________

[٢٣٣٢] ـ يأتي في سورة النصر عند آية : (١) من حديث أبي هريرة.

[٢٣٣٣] ـ تقدم في سورة القمر.

[٢٣٣٤] ـ صحيح. دون ذكر المعوّذتين ، فإنه حسن.

ـ إسناده حسن ، رجاله رجال البخاري ومسلم ، لكن سعيد فيه كلام لذا قال الحافظ في «التقريب» : صدوق. وشيخه أيضا ، يحيى بن أيوب فيه كلام ، وقال عنه الحافظ : صدوق ربما أخطأ.

ـ وهو في «شرح السنة» ٩٦٨ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه الحاكم ١ / ٣٠٥ و ٢ / ٥٢٠ والطحاوي في «المعاني» ١ / ٢٨٥ وابن حبان ٢٤٣٢ والدارقطني ٢ / ٣٥ من طرق عن سعيد بن كثير بن عفير به.

ـ وأخرجه ابن حبان ٢٤٤٨ من طريق ابن أبي مريم عن يحيى بن أيوب به.

ـ وأخرجه الترمذي ٤٦٣ والحاكم ٢ / ٥٢٠ ـ ٥٢١ والبيهقي ٣ / ٣٨ والبغوي ٩٦٩ من طريق إسحاق بن إبراهيم بن حبيب عن محمد بن سلمة الحراني عن خصيف عن عبد العزيز بن جريج عن عائشة بنحوه ، وإسناده ضعيف ، خصيف سيئ الحفظ ، وعبد العزيز لم يسمع من عائشة كما قال الحافظ في «التقريب».

(١) ما بين المعقوفتين في المطبوع. «قال الشيخ الإمام محيي السنة رحمه‌الله» وزيد في نسخة «ط» زيادة أكبر والمثبت عن المخطوط ، وهو الصواب ، فإن السلف لا يمتدحون أنفسهم بأعلى أوصافه ، وهو تصرف من النساخ.

٢٤٣

أحمد [بن محمد (١)] بن معقل (٢) الميداني ثنا محمد بن يحيى ثنا سعيد بن كثير [بن عفير](٣) ثنا يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة. قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما بسبح اسم ربك الأعلى ، وقل يا أيها الكافرون ، وفي الوتر بقل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس.

سورة الغاشية

مكية [وهي ست وعشرون آية](٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦))

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) (١) ، يعني قد أتاك حديث القيامة تغشى كل شيء بالأهوال.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) ، يعني يوم القيامة ، (خاشِعَةٌ) ، ذليلة.

(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (٣) ، قال عطاء عن ابن عباس : يعني الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام من عبدة الأوثان وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم لا يقبل الله منهم اجتهادا في ضلالة ، يدخلون النار يوم القيامة ، وهو قول سعيد بن جبير وزيد بن أسلم ، ومعنى النصب الدأب في العمل بالتعب.

وقال عكرمة والسدي : عاملة في الدنيا بالمعاصي ، ناصبة في الآخرة في النار.

وقال بعضهم : عاملة في النار ناصبة فيها.

قال الحسن : لم تعمل لله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار بمعالجة السلاسل ، والأغلال ، وبه قال قتادة : وهي رواية العوفي عن ابن عباس.

قال ابن مسعود : تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، قال الكلبي : يجرون على وجوههم

__________________

ـ وورد بدون ذكر المعوذتين من حديث أبي بن كعب ، أخرجه أبو داود ١٤٢٣ والنسائي ٣ / ٢٤٤ وابن ماجه ١١٧١ والحاكم ٢ / ٢٥٧ وإسناده حسن ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

ـ ومن حديث ابن عباس ، أخرجه الترمذي ٤٦٢ وابن ماجه ١١٧٢ وإسناده على شرط الشيخين.

ـ الخلاصة : ذكر المعوذتين حسن ، وأصل الحديث صحيح ، وجعله الألباني في «صحيح ابن ماجه» ٩٦٣ من غير تفصيل؟!

(١) زيادة عن «شرح السنة».

(٢) تصحف في المطبوع «مغفل».

(٣) زيادة عن «شرح السنة».

(٤) زيد في المطبوع.

٢٤٤

في النار. وقال الضحاك : يكلفون ارتقاء جبل من حديد في النار والكلام خرج على الوجوه والمراد منها أصحابها.

(تَصْلى ناراً) ، قرأ أهل البصرة وأبو بكر (تَصْلى) بضم التاء اعتبارا بقوله : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) (٥) ، وقرأ الآخرون بفتح التاء ، (حامِيَةً) ، قال ابن عباس : قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله.

(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) (٥) ، متناهية في الحرارة قد أوقدت عليها جهنم منذ خلقت ، فدفعوا إليها وردا عطاشا. قال المفسرون : لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت ، هذا شرابهم ثم ذكر طعامهم.

فقال : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) (٦) ، قال مجاهد وعكرمة وقتادة : هو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض ، تسميه قريش الشبرق فإذا هاج سموها الضريع ، وهو أخبث طعام وأبشعه. وهو رواية العوفي عن ابن عباس. قال الكلبي : لا تقربه دابة إذا يبس. قال ابن زيد : أما في الدنيا فإن الضريع الشوك اليابس الذي يبس له ورق ، وهو في الآخرة شوك من نار ، جاء في الحديث عن ابن عباس : الضريع شيء في النار يشبه الشوك أمر من الصبر ، وأنتن من الجيفة وأشد حرا من النار ، قال أبو الدرداء والحسن : إن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة ، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة ، ثم يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة ولا مريئة ، كلما أدنوه من وجوههم ، سلخ جلود وجوههم وشواها فإذا وصل إلى بطونهم قطعها فذلك قوله ؛ (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ١٥].

قال المفسرون : فلما نزلت هذه الآية قال المشركون : إن إبلنا لتسمن على الضريع ، وكذبوا في ذلك ، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطبا تسمى شبرقا فإذا يبس لا يأكله شيء.

(لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧))

فأنزل الله (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (٧).

ثم وصف أهل الجنة فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) (٨) ، قال مقاتل في نعمة وكرامة.

(لِسَعْيِها) ، في الدنيا ، (راضِيَةٌ) ، في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها.

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) (١١). لغوا وباطلا قرأ أهل مكة والبصرة لا يسمع بالياء وضمها ، (لاغِيَةً) رفع ، وقرأ نافع بالتاء وضمها (لاغِيَةً) رفع ، وقر الآخرون بالتاء وفتحها (لاغِيَةً) بالنصب على الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) (١٣) ، قال ابن عباس : ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة ما لم يجيء أهلها ، فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها ثم ترتفع إلى مواضعها.

(وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) (١٤) ، عندهم جمع كوب ، وهو الإبريق الذي لا عروة له.

(وَنَمارِقُ) ، وسائد ومرافق ، (مَصْفُوفَةٌ) ، بعضها بجنب بعض واحدتها نمرقة بضم النون.

٢٤٥

(وَزَرابِيُ) ، يعني البسط العريضة قال ابن عباس : هي الطنافس التي لها حمل واحدتها زربية (مَبْثُوثَةٌ) ، مبسوطة ، وقيل : متفرقة في المجالس.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧).

قال أهل التفسير : لما نعت الله تعالى في هذه السورة ما في الجنة عجب من ذلك أهل الكفر وكذبوه ، فذكر لهم الله تعالى صنعه فقال : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧) ، وكانت الإبل من أعظم عيش (١) العرب ، لهم فيها منافع كثيرة فكما (٢) صنع لهم ذلك في الدنيا صنع لأهل الجنة فيها ما صنع وتكلمت الحكماء في وجه تخصيص الإبل من بين سائر الحيوانات.

فقال مقاتل : لأنهم لم يروا بهيمة قط أعظم منها ، ولم يشاهدوا الفيل إلا الشاذ منهم.

وقال الكلبي : لأنها تنهض بحملها وهي باركة ، وقال قتادة : ذكر الله ارتفاع سرر الجنة وفرشها ، فقالوا : كيف نصعدها فأنزل الله هذه الآية.

وسئل الحسن عن هذه الآية وقيل له : الفيل أعظم في الأعجوبة؟ فقال : أما الفيل فالعرب بعيدة العهد بها ، ثم هو لا خير فيه لا يركب ظهرها ولا يؤكل لحمها ولا يحلب درها ، والإبل من أعز مال للعرب وأنفسه تأكل النوى والقت (٣) وتخرج اللبن. وقيل : إنها مع عظمها تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف. حتى إن الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث شاء ، وكان شريح القاضي يقول : اخرجوا بنا إلى الكناسة (٤)(٥) حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) (١٨) ، عن الأرض حتى لا ينالها شيء يغير عمد.

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) (١٩) ، على وجه الأرض مرساة لا تزول.

(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠) ، بسطت ، قال عطاء عن ابن عباس : هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل أو يرفع مثل السماء أو ينصب مثل الجبال أو يسطح مثل الأرض غيري؟

(فَذَكِّرْ) أي عظ يا محمد (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢) ، بمسلط فتقتلهم وتكرههم على الإيمان نسختها آية القتال.

(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) ، استثناء منقطع عما قبله معناه لكن من تولى ، (وَكَفَرَ) ، بعد التذكير.

(فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) (٢٤) وهو أن يدخله النار وإنما قال الأكبر لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر.

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) (٢٥) ، رجوعهم بعد الموت ، يقال : آب يئوب أوبا وإيابا ، وقرأ أبو جعفر

__________________

(١) في المطبوع «أعظم عيسى» والمثبت عن المخطوط ، ويدل عليه سياق الطبري والواحدي.

(٢) في المخطوط «فلما».

(٣) تصحف في المخطوط «القب».

(٤) في المخطوط «الكنانية» والمثبت عن المطبوع و «الوسيط» ٤ / ٤٧٦.

(٥) تصحف في المطبوع وط «فعل» والمثبت عن المخطوط ، و «معاني القرآن» ٥ / ٣١٩ للزجاج ، و «الوسيط».

٢٤٦

(إِيابَهُمْ) بتشديد الياء وهو شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج فإنه قال يقال : أيب إيابا على فيعل فيعالا.

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦) ، يعني جزاءهم بعد المرجع إلى الله عزوجل.

سورة الفجر

مكية وهي ثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣))

(وَالْفَجْرِ) (١) أقسم الله عزوجل بالفجر ، روى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو انفجار الصبح كل يوم. وهو قول عكرمة : وقال عطية : عند صلاة الصبح. وقال قتادة : هو فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة. وقال الضحاك : فجر ذي الحجة لأنه قرن به الليالي العشر.

(وَلَيالٍ عَشْرٍ) (٢) ، روي عن ابن عباس : أنها العشر الأول من ذي الحجة. وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدي والكلبي : وقال أبو روق عن الضحاك : هي العشر الأول من شهر رمضان. وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : هي العشر الأواخر من شهر رمضان. وقال يمان بن رياب (١) هي العشر الأول من المحرم التي عاشرها يوم عاشوراء.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (٣) ، قرأ حمزة والكسائي الوتر بكسر الواو ، وقرأ الآخرون بفتحها ، واختلفوا في الشفع والوتر ، قيل : الشفع الخلق ، قال الله تعالى : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) (٨) [النبأ : ٨] والوتر : هو الله عزوجل. روي ذلك عن أبي سعيد الخدري ، وهو قول عطية العوفي ، وقال مجاهد ومسروق : الشفع الخلق كله ، كما قال الله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذاريات : ٤٩] ، الكفر والإيمان ، والهدى والضلالة ، والسعادة والشقاوة ، والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والبر والبحر ، والشمس والقمر ، والجن والإنس ، والوتر هو الله ، قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) [الإخلاص : ١] ، قال الحسن وابن زيد : الشفع والوتر الخلق كله منه شفع ومنه وتر. وروى قتادة عن الحسن قال : هو العدد منه شفع ومنه وتر.

[٢٣٣٥] وقال قتادة : هي الصلوات منها شفع ومنها وتر. وروي ذلك عن عمران بن حصين مرفوعا.

__________________

[٢٣٣٥] ـ ورد مرفوعا وموقوفا ومقطوعا ، والصحيح موقوف.

ـ أثر قتادة أخرجه الطبري ٣٧١٠٠ عن قتادة قوله.

ـ وورد مرفوعا من حديث عمران بن حصين «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في هذه الآية : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال : هي الصلاة منها شفع ، ومنها وتر».

ـ أخرجه الترمذي ٣٣٤٢ والطبري ٣٧٠٩٩ والحاكم ٢ / ٥٢٢ وأحمد ٤ / ٤٣٧ من طريق عمران بن عصام عن شيخ من أهل البصرة عن عمران بن حصين به.

(١) في المطبوع «يمن بن رباب».

٢٤٧

وروى عطية عن ابن عباس : الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب.

وعن عبد الله بن الزبير قال : الشفع يوم النفر الأول والوتر يوم النفر الأخير.

روي أن رجلا سأله عن الشفع والوتر والليالي العشر ، فقال : أما الشفع والوتر فقول الله عزوجل : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣] فهما الشفع والوتر ، وأما الليالي العشر فالثمان وعرفة النحر.

وقال مقاتل بن حيان : الشفع الأيام والليالي والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة.

وقال الحسين بن الفضل : الشفع درجات الجنة لأنها ثمان ، والوتر دركات النار لأنها سبع ، كأنه أقسم بالجنة والنار ، وسئل أبو بكر الوراق عن الشفع والوتر فقال : الشفع تضاد أوصاف المخلوقين من العز والذل ، والقدرة والعجز ، والقوة والضعف ، والعلم والجهل ، والبصر والعمى ، والحياة والموت ، والوتر انفراد صفات الله عزّ بلا ذلّ ، وقدرة بلا عجز ، وقوة بلا ضعف. وعلم بلا جهل ، وحياة بلا موت.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨))

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤) ، أي إذا سار وذهب كما قال : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) (٣٣) [المدثر : ٣٣] ، وقال قتادة : إذا جاء وأقبل وأراد كل ليلة. وقال مجاهد وعكرمة والكلبي : هي ليلة المزدلفة ، قرأ أهل الحجاز والبصرة يسري بالياء في الوصل ويقف ابن كثير ويعقوب بالياء أيضا ، والباقون يحذفونها في الحالين ، فمن (١) حذف فلوفاق رءوس الآي ، ومن أثبت فلأنها لام الفعل ، والفعل لا يحذف منه في الوقف. نحو قوله : هو يقضي وأنا أقضي ، وسئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء ، فقال : الليل لا يسري ولكن يسرى فيه ، فهو مصروف فلما صرفه بخسه حقه من الإعراب ، كقوله : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] ، ولم يقل بغية لأنها صرفت (٢) من باغية.

(هَلْ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكرت ، (قَسَمٌ) ، أي مقنع ومكتفى في القسم ، (لِذِي حِجْرٍ) ، لذي عقل سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عمالا يحل ولا ينبغي ، كما يسمى عقلا لأنه يعقله عن القبائح ، ونهى لأنه ينهى عما لا ينبغي ، وأصل الحجر المنع وجواب القسم قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (١٤) [الفجر : ١٤] ، واعترض بين القسم وجوابه قوله عزوجل :

(أَلَمْ تَرَ) ، قال الفراء : ألم تخبر. وقال الزجاج : ألم تعلم ومعناه التعجب. (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ

__________________

ـ وإسناده ضعيف فيه راو لم يسم ، ومع ذلك صححه الحاكم! ووافقه الذهبي! ـ وأخرجه الطبري ٣٧٠٩٧ عن عمران بن عصام بن عمران بن حصين به وإسناده منقطع ، حيث سقط منه الرجل المجهول.

ـ وورد موقوفا على عمران ، أخرجه عبد الرزاق ٣٥٩٧ والطبري ٣٧٠٩٤ و ٣٧٠٩٥ وإسناده على شرط البخاري ومسلم ، وهو الصحيح ، ورجح ابن كثير ٤ / ٥٤١ الوقف ، وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٦٣٢٠ و «فتح القدير» ٢٧٠٩ بتخريجي.

(١) في المطبوع «عن».

(٢) في المطبوع «لأنه صرف».

٢٤٨

إِرَمَ) ، يخوّف أهل مكة يعني كيف أهلكهم ، وهم كانوا أطول أعمارا وأشد قوة من هؤلاء ، واختلفوا في إرم فقال سعيد بن المسيب إرم (ذاتِ الْعِمادِ) : دمشق ، وبه قال عكرمة ، وقال القرظي هي الإسكندرية ، وقال مجاهد : هي أمة. وقيل : معناها القديمة. وقال قتادة ومقاتل : هم قبيلة من عاد.

قال مقاتل : كان فيهم الملك وكانوا بمهرة وكان عاد أباهم فنسبهم إليه وهو إرم بن عاد بن شيم بن سام بن نوح. وقال محمد بن إسحاق هو جد عاد وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.

وقال الكلبي : إرم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود [وأهل السواد](١) وأهل الجزيرة ، كان يقال : عاد إرم وثمود إرم ، فأهلك الله عادا ثم ثمود وبقي أهل السواد والجزيرة ، وكانوا أهل عمد وخيام وماشية سيارة في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا أهل جنان وزروع ومنازلهم بوادي القرى ، وهي التي يقول الله فيها.

(الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) (٨) ، وسموا ذات العماد لهذا لأنهم كانوا أهل عمد سيارة ، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبي ، ورواية عطاء عن ابن عباس ، وقال بعضهم : سموا ذات العماد لطول قامتهم. قال ابن عباس : يعني طولهم مثل العماد. وقال مقاتل : كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا. وقوله : (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) ، أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة ، وهم الذين قالوا : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥] ، وقيل : سموا ذات العماد لبناء بناه بعضهم فشيد عمده ، ورفع بناءه ، يقال : بناه شداد بن عاد على صفة لم يخلق في الدنيا مثله وسار إليه في قومه ، فلما كان منه على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى قومه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا.

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠))

(وَثَمُودَ) ، أي وبثمود (الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ) ، قطعوا الحجر ، صخرة واحدتها (بِالْوادِ) ، يعني وادي القرى كانوا يقطعون الجبال فيجعلون فيها بيوتا ، وأثبت ابن كثير ويعقوب الياء في الوادي وصلا ووقفا على الأصل ، وأثبتها ورش وصلا والآخرون بحذفها في الحالين على وفق رءوس الآي.

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) (١٠) ، سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد ، وقد ذكرناه في سورة (ص).

[٢٣٣٦] أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا ابن فنجويه ثنا مخلد بن جعفر ثنا الحسين بن علويه ثنا إسماعيل بن عيسى ثنا إسحاق بن بشر عن ابن سمعان عن عطاء عن ابن عباس : أن فرعون إنما سمي «ذي الأوتاد» لأنه كانت له امرأة ، وهي امرأة خازنة حزقيل (٢) ، وكان مؤمنا كتم إيمانه مائة سنة ، وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون.

__________________

[٢٣٣٦] ـ موقوف واه بمرة ، والأشبه أنه إسرائيلي.

ـ إسناده ساقط ، إسحاق بن بشر أبو حذيفة صاحب كتاب «المبتدأ» كذاب يضع الحديث ، قاله أبو بكر بن أبي شيبة وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم ، وتقدم ذكره ، وتفرد به عن ابن عباس بهذا السياق ، وشيخه ابن سمعان عبد الله بن سمعان متروك.

ـ وهذا الخبر من الإسرائيليات.

ـ وقد تقدم ذكر خبر ماشطة فرعون في سورة ص.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) تكرر في المخطوط «حزبيل».

٢٤٩

فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون (١) إذ سقط المشط من يدها ، فقالت : تعس من كفر بالله ، فقالت بنت فرعون : وهل لك من إله غير أبي؟ فقالت : إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له ، فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي ، فقال : ما يبكيك؟ قالت : الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهها وإله السموات والأرض واحد لا شريك له ، فأرسل إليها فسألها عن ذلك ، فقالت : صدقت ، فقال لها : ويحك اكفري بإلهك وأقري بأني إلهك ، قالت : لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب ، وقال لها : اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين ، فقالت له : ولو عذبتني سبعين شهرا ما كفرت بالله ، وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على قرب منها ، وقال لها : اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على قلبك ، وكانت رضيعا ، فقالت : لو ذبحت من على وجه الأرض على في ما كفرت بالله عزوجل ، فأتى بابنتها الصغرى فلما اضطجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالا ، فقالت : يا أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتا في الجنة ، اصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله وكرامته ، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فأسكنها الله الجنة.

قال : وبعث في طلب زوجها حزقيل فلم يقدروا عليه ، فقيل لفرعون : إنه قد رؤي في موضع كذا في جبل كذا ، فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون ، فلما رأيا ذلك انصرفا ، فقال حزقيل : اللهم إنك تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر على أحد فأيما هذان الرجلين كتم عليّ فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤله ، وأيما هذين الرجلين أظهر علي فعجّل عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار ، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن ، وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رءوس الملإ ، فقال له فرعون : وهل كان معك غيرك؟ قال : نعم فلان ، فدعا به فقال : أحق ما يقول هذا؟ قال : لا ما رأيت مما قال شيئا فأعطاه فرعون وأجزل وأما الآخر فقتله ، ثم صلبه ، قال : وكان فرعون قد تزوج امرأة من نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة ، فقالت : وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي فرعون وأنا مسلمة وهو كافر؟ فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها ، فقالت : يا فرعون أنت شر (٢) الخلق وأخبثهم عمدت إلى الماشطة فقتلتها ، قال : فلعلّ بك الجنون الذي كان بها قالت ما بي من جنون ، وإن إلهي وإلهك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له ، فمزق عليها ثيابها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما ، فقال لهما : ألا تريان أن الجنون كان بالماشطة أصابها ، قالت : أعوذ بالله من ذلك إني أشهد أن ربي وربك ورب السموات والأرض واحد لا شريك له ، فقال أبوها : يا آسية ألست من خير نساء العالمين (٣) وزوجك إله العالمين (٤)؟ قالت : أعوذ بالله من ذلك ، إن كان ما يقول حقا فقولا له أن يتوجني تاجا تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله ، فقال لهما فرعون : اخرجا عني ، فمدها بين أربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها بابا إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون ، فعند ذلك قالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم : ١١] ، فقبض الله روحها وأسكنها الجنة.

__________________

(١) سقط من المخطوط.

(٢) في المطبوع «أشر».

(٣) في المطبوع وط «العماليق» والمثبت عن المخطوطتين.

وفرعون ليس من العماليق أصلا.

(٤) في المطبوع وط «العماليق» والمثبت عن المخطوطتين.

٢٥٠

(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥))

(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) (١١) ، يعني عادا وثمود وفرعون عملوا في الأرض بالمعاصي وتجبروا.

(فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) (١٣) ، قال قتادة : يعني لونا من العذاب صبه عليهم ، قال أهل المعاني : هذا على الاستعارة لأن السوط عندهم غاية العذاب ، فجرى ذلك لكل نوع من العذاب. وقال الزجاج : جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب.

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (١٤) ، قال ابن عباس : يعني بحيث يرى ويسمع ويبصر ما تقول وتفعل وتهجس به العباد. قال الكلبي : عليه طريق العباد لا يفوته أحد. قال مقاتل : ممر الناس عليه والمرصاد ، والمرصد : الطريق. وقيل : مرجع الخلق إلى حكمه وأمره وإليه مصيرهم. وقال الحسن وعكرمة : يرصد أعمال بني آدم. والمعنى : أنه لا يفوته شيء من أعمال العباد كما لا يفوت من هو بالمرصاد. وقال السدي : أرصد [الله النار](١) على طريقهم حتى يهلكهم.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ) ، امتحنه ، (رَبُّهُ) ، بالنعمة ، (فَأَكْرَمَهُ) ، بالمال ، (وَنَعَّمَهُ) ، بما وسع عليه ، (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) ، بما أعطاني.

(وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١))

(وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) ، بالفقر ، (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) ، قرأ أبو جعفر وابن عامر فقدر بتشديد الدال ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، وهما لغتان أي ضيق عليه رزقه. وقيل : قدر بمعنى قتر وأعطاه قدر ما يكفيه. (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) ، أذلني بالفقر. وهذا يعني به الكافر تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال والحظ في الدنيا وقلته. قال الكلبي ومقاتل : نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر فرد الله على من ظن أن سعة الرزق إكرام وإن الفقر إهانة.

فقال : (كَلَّا) لم أبتله بالغنى لكرامته ولم أبتله بالفقر لهوانه ، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا تدور على المال وسعة الرزق ، ولكن الفقر والغنى بتقديره فيوسع على الكافر لا لكرامته ، ويقدر على المؤمن لا لهوانه ، إنما يكرم المرء بطاعته ويهينه بمعصيته. قرأ أهل الحجاز والبصرة أكرمني وأهانني ، بإثبات الياء في الوصل ، ويقف ابن كثير ويعقوب بالياء ، أيضا والآخرون يحذفونها وصلا ووقفا. (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) ، قرأ أهل البصرة (يكرمون ، ويحضون ، ويأكلون ، ويحبون) بالياء فيهن ، وقرأ الآخرون بالتاء ، (لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) لا تحسنون إليه. وقيل : لا تعطونه حقه. قال مقاتل : كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف وكان يدفعه عن حقه.

(وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (١٨) ، أي لا تأمرون بإطعامه ، وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة تحاضون بفتح الحاء وألف بعدها أي لا يحض بعضكم بعضا عليه.

__________________

(١) زيد في المخطوط.

٢٥١

(وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) ، أي الميراث ، (أَكْلاً لَمًّا) ، شديدا وهو أن يأكل نصيبه ونصيب غيره ، وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ، ويأكلون نصيبهم. قال ابن زيد : الأكل اللم الذي يأكل كل شيء يجده لا يسأل عنه إحلال هو أم حرام ، ويأكل الذي له ولغيره ، يقال : لممت على الخوان إذا أتيت ما عليه فأكلته.

(وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٢٠). أي كثيرا يعني يحبون جمع المال ويولعون به ، يقال : جم الماء في الحوض إذا كثر واجتمع.

(كَلَّا) ، ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر.

وقال مقاتل : أي لا يفعلون ما أمروا به من إكرام اليتيم وإطعام المسكين ، ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم ، فقال عزّ من قائل : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) ، مرة بعد مرة وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر فلم يبق على ظهرها شيء.

(وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨))

(وَجاءَ رَبُّكَ) ، قال الحسن : جاء أمره وقضاؤه (١). وقال الكلبي : ينزل (٢) حكمه ، (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) ، قال عطاء : يريد صفوف الملائكة ، وأهل كل سماء صف على حدة. قال الضحاك : أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفا محيطين (٣) بالأرض ومن فيها فيكون سبع صفوف.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) ، قال عبد الله بن مسعود ومقاتل في هذه الآية : تقاد جهنم بسبعين [ألف] زمام كل زمام [بيد](٤) سبعين ألف ملك يقودونها ، لها تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش. (يَوْمَئِذٍ) يعني يوم يجاء بجهنم ، (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) ، يتعظ ويتوب الكافر ، (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) ، قال الزجاج : يظهر التوبة ومن أين له التوبة.

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٢٤) ، أي قدمت الخير والعمل الصالح لحياتي في الآخرة ، أي لآخرتي التي لا موت فيها.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) (٢٦) ، قرأ الكسائي ويعقوب (لا يُعَذِّبُ) ، (وَلا يُوثِقُ) بفتح الذال والثاء على معنى لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ ، ولا يوثق كوثاقه يومئذ ، وقيل : هو رجل بعينه. وهو أمية بن خلف. يعني لا يعذب كعذاب هذا الكافر أحد ، ولا يوثق كوثاقه أحد ، وقرأ الآخرون بكسر الذال والثاء ، أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ ، ولا يوثق

__________________

(١) لا يصح مثل هذا عن الحسن ، ومذهب السلف إثبات الصفات ، من غير تكييف ولا تعطيل ولا تشبيه ، ليس كمثله شيء.

(٢) في المخطوط «تنزيل».

(٣) في المطبوع «مختلطين».

(٤) سقط من المطبوع.

(٥) العبارة في النسخ قبل لفظ «كل» لذا كان السياق غير متسق.

٢٥٢

كوثاقة أحد ، يعني لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب ، والوثاق وهو الإسار في السلاسل والأغلال.

قوله عزوجل : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٢٧) ، إلى ما وعد الله المصدقة بما قال الله. قال مجاهد : المطمئنة التي أيقنت أن الله تعالى ربها وصبرت جأشا لأمره وطاعته. وقال الحسن : المؤمنة الموقنة. وقال عطية : الراضية بقضاء الله تعالى. وقال الكلبي الأمنة من عذاب الله. وقيل المطمئنة بذكر الله ، بيانه قوله : (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) [الرعد : ٢٨] ، واختلفوا في وقت هذه المقالة ، فقال قوم : يقال لها ذلك عند الموت فيقال لها :

(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) إلى الله ، (راضِيَةً) ، بالثواب ، (مَرْضِيَّةً) ، عنك ، وقال الحسن : إذا أراد الله قبضها اطمأنت إلى الله ورضيت عن الله ورضي الله عنها.

قال عبد الله بن عمرو : إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله عزوجل ملكين وأرسل إليه بتحفة من الجنة ، فيقال لها : اخرجي أيتها النفس المطمئنة ، اخرجي إلى روح وريحان ورب عنك راض ، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه ، والملائكة على أرجاء السماء يقولون : قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة. فلا تمر بباب إلا فتح لها ولا بملك إلا صلى عليها ، حتى يؤتى بها الرحمن فتسجد ، ثم يقال لميكائيل : اذهب بهذه فاجعلها (١) مع أنفس المؤمنين ، ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعا عرضه وسبعون ذراعا طوله ، وينبذ له الرعان ، وإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره ، وإن لم يكن جعل له نوره مثل الشمس في قبره ، ويكون مثله مثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه. وإذا توفي الكافر أرسل الله إليه ملكين وأرسل [إليه](٢) قطعة من بجاد أنتن من كل نتن وأخشن من كل خشن ، فيقال : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم ورب عليك غضبان (٣).

وقال أبو صالح في قوله : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) (٢٨) ، قال : هذا عند خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)).

وقال آخرون : إنما يقال لها ذلك عند البعث ارجعي إلى ربك ، أي إلى صاحبك وجسدك ، فيأمر الله الأرواح أن ترجع إلى الأجساد ، وهذا قول عكرمة وعطاء والضحاك ، ورواية العوفي عن ابن عباس.

وقال الحسن : ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته راضية عن الله بما أعد لها مرضية رضي عنها ربها.

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) (٢٩) ، أي مع عبادي في جنتي. وقيل : في جملة عبادي الصالحين المطيعين المصطفين ، نظيره : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل : ١٩].

(وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠) ، وقال بعض أهل الإشارة : يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا ارجعي إلى الله بتركها ، والرجوع إلى الله هو سلوك سبيل الآخرة.

وقال سعيد بن جبير : مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته ، فجاء طائر لم ير على صورة خلقه

__________________

(١) في المخطوط «فأدخلها».

(٢) زيادة من المخطوط.

(٣) عزاه المصنف لعبد الله بن عمرو بن العاص قوله ، ولبعضه شواهد في المرفوع ، وتقدمت.

٢٥٣

فدخل نعشه ، فلم ير خارجا منه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر ، ولم يدر (١) من قرأها : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠).

سورة البلد

مكية وهي عشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤))

(لا أُقْسِمُ) ، يعني أقسم ، (بِهذَا الْبَلَدِ) ، يعني مكة.

(وَأَنْتَ حِلٌ) ، أي حلال ، (بِهذَا الْبَلَدِ) ، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ليس عليك ما على الناس فيه من الإثم أحل الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة يوم الفتح ، حتى قاتل وقتل وأمر بقتل ابن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، ومقيس بن ضبابة وغيرهما ، فأحل دماء قوم وحرّم دماء قوم.

[٢٣٣٧] فقال : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

[٢٣٣٨] ثم قال : «إن الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة».

والمعنى : أن الله تعالى لما أقسم بمكة دل ذلك على عظيم قدرها مع حرمتها فوعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يحلها له حتى يقاتل فيها ، وأن يفتحها على يده فهذا وعد من الله عزوجل بأن يحلها له. قال شرحبيل بن سعد : ومعنى قوله وأنت حلّ بهذا البلد ، قال : يحرمون أن يقتلوا بها صيدا ويستحلون إخراجك وقتلك؟

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) (٣) ، يعني آدم عليه‌السلام وذريته.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٤) ، روى الوالبي عن ابن عباس : في نصب. قال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وقال قتادة ؛ في مشقة فلا تلقاه إلا يكابد أمر الدنيا [والآخرة](٢). وقال سعيد بن جبير : في شدة. وقال عطاء عن ابن عباس : في شدة خلق حمله وولادته ورضاعه ، وفطامه

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير القرآن العظيم» ٤ / ٦٠٦ والطبراني ١٠٥٨١.

ـ وقال الهيثمي ٩ / ٢٨٥ : رجاله رجال الصحيح. قلت : فيه مروان بن شجاع ، وهو وإن روى له البخاري ، فقد قال أبو حاتم : ليس بحجة ، وقال ابن حبان : يروي المقلوبات ، والمتن غريب جدا.

[٢٣٣٧] ـ تقدم في سورة الحج عند آية : ٢٥.

[٢٣٣٨] ـ تقدم في سورة المائدة عند آية : ٩٧.

(١) في المطبوع «ندر».

(٢) زيادة عن المخطوط وكتب الأثر.

٢٥٤

وفصاله ومعاشه وحياته وموته. وقال عمرو بن دينار : عد نبات أسنانه. قال يمان : لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم وهو مع ذلك أضعف الخلق. وأصل الكبد : الشدة. وقال مجاهد وعكرمة وعطية والضحاك : يعني منتصبا معتدل القامة ، وكل شيء خلق فإنه يمشي مكبا [إلا الإنسان فإنه خلق منتصبا](١) وهي رواية مقسم عن ابن عباس : وأصل الكبد الاستواء والاستقامة. وقال ابن كيسان : منتصبا رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله له في خروجه انقلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال مقاتل : في كبد أي في قوة نزلت في أبي الأشد واسمه أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان شديدا قويا يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعا ويبقى موضع قدميه.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١))

(أَيَحْسَبُ) ، يعني أبا الأشد من قوته ، (أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) ، أي يظن من شدته أن لن يقدر عليه الله تعالى. وقيل : هو الوليد بن المغيرة.

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ) ، يعني أنفقت ، (مالاً لُبَداً) ، أي كثيرا بعضه على بعض من التلبيد في عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قرأ أبو جعفر لبدا بتشديد الباء على جمع لا بد ، مثل راكع وركع ، وقرأ الآخرون بالتخفيف على جمع لبدة ، وقيل على الواحد مثل قثم وحطم.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) (٧) ، قال سعيد بن جبير وقتادة : أيظن أن الله لم يره ، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه ، وأين أنفقه؟ وقال الكلبي : إنه كان كاذبا في قوله أنفقت كذا وكذا ، ولم يكن أنفق جميع ما قال يقول أيظن أن الله عزوجل لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته ثم ذكره نعمه ليعتبر.

فقال : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) (٩) ، قال قتادة : نعم الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكره (٢).

[٢٣٣٠] وجاء في الحديث : «إن الله عزوجل يقول ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد

__________________

[٢٣٣٠] ـ ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «الوسيط» ٤ / ٤٩٠ عن عبد الحميد المدني عن أبي حازم مرسلا.

ـ ثم رأيته مسندا موصولا.

ـ أخرجه الديلمي في زهر الفردوس ٤ / ٢٥٥ عن نصر بن محمد بن علي الخياط أخبرنا أبي أخبرنا أبو بكر بن روز به حدثنا حامد بن حماد بن المبارك بنصيبين حدثنا إسحاق بن سيار حدثنا قتيبة حدثنا عبد الحميد بن سليمان عن أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ «يقول الله عزوجل : يا ابن آدم إن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك ، فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبقهما عليه».

ـ وهذا إسناد ساقط ، وعلته حامد بن حماد ، قال الذهبي في «الميزان» ١ / ٤٤٧ : عن إسحاق بن سيار بخبر موضوع هو آفته.

ـ وفيه عبد الحميد بن سليمان المدني ، وهو ضعيف متروك.

ـ وقال ابن كثير ٤ / ٦٠٨ : وقد روى ابن عساكر في ترجمة أبي الربيع الدمشقي عن مكحول مرسلا .... فذكر نحوه ، قلت : لم يذكر ابن كثير الإسناد ، وهو واه بكل حال ، فهو مرسل ، ومراسيل مكحول واهية ، والخبر منكر.

(١) زيادة عن «الوسيط» ٤ / ٤٨٨ وبها يتضح مراد ابن عباس.

(٢) في المطبوع «تشكر».

٢٥٥

أعنتك عليه بطبقتين فأطبق ، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك ، فقد أعنتك عليه بطبقتين ، فأطبق ، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك بطبقتين فأطبق».

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠) ، قال : أكثر المفسرين طريق الخير والشر ، والحق والباطل ، الهدى والضلالة ، كقوله ؛ (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) [الإنسان : ٣] وقال محمد بن كعب عن ابن عباس : وهديناه النجدين قال الثديين ، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك : والنجد : طريق ارتفاع.

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (١١) ، يقول : فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام السغبان ، فيكون خيرا له من إنفاقه على عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا قول ابن زيد وجماعة.

وقيل : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (١١) ، أي لم يقتحمها ولا جاوزها. والاقتحام : الدخول في الأمر الشديد ، وذكر العقبة هاهنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر ، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة ، تقول : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة ولا الإطعام (١) ، وهذا معنى قول قتادة وقيل : إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بعقبة فإذا أعتق رقبة وأطعم كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها.

وروي عن ابن عمر : أن هذه العقبة جبل في جهنم ، وقال الحسن وقتادة : عقبة شديدة في النار دون الجسر ، فاقتحموها بطاعة الله تعالى.

وقال مجاهد والضحاك والكلبي : هي صراط يضرب على جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلا وصعودا وهبوطا ، وإن بجنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان ، فناج مسلم ، وناج مخدوش ، ومكردس في النار منكوس ، فمن الناس من يمر كالبرق الخاطف ، ومنهم من يمر كالريح العاصف ، ومنهم من يمرّ كالفارس ، ومنهم من يمر عليه كالرجل يعدو ، ومنهم من يمر كالرجل يسير ، ومنهم من يزحف زحفا ، ومنهم الزالون ، ومنهم من يكردس في النار.

قال ابن زيد : يقول فهلا سلك الطريق التي فيها النجاة ثم بين ما هي فقال :

(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧))

(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) (١٢) ، ما اقتحم العقبة ، قال سفيان بن عيينة : كل شيء ، قال : وما أدراك فإنه أخبر به ، وما قال : وما يدريك فإنه لم يخبر به.

(فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ) ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي فك بفتح الكاف ، رقبة نصب ، أو أطعم بفتح الهمزة والميم على الماضي ، وقرأ الآخرون (فَكُ) برفع الكاف ، (رَقَبَةٍ) جرا ، (أَوْ إِطْعامٌ) على المصدر ، وأراد بفك الرقبة إعتاقها وإطلاقها ، ومن أعتق رقبة كانت الرقبة فداءه من النار.

[٢٣٤٠] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ثنا أبو جعفر بن

__________________

[٢٣٤٠] ـ صحيح. إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن صالح ، لكن توبع ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم ، سوى عمر بن علي تفرد عنه مسلم.

(١) في المطبوع «ولا طعام».

٢٥٦

محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ثنا حميد بن زنجويه ثنا عبد الله بن صالح حدثني الليث بن سعد حدثني ابن الهاد عن عمر بن علي بن حسين عن سعيد بن مرجانة (١) قال : سمعته يحدث عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار ، حتى يعتق فرجه بفرجه».

[٢٣٤١] أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور السمعاني أنا أبو جعفر الرياني ثنا حميد بن زنجويه ثنا محمد بن كثير العبدي ثنا عيسى بن عبد الرحمن السّلمي عن طلحة بن مصرّف اليامي عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة ، قال : «لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة ، أعتق النسمة وفك الرقبة» ، قال : قلت أوليست (٢) واحدا؟ قال : «لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ، والمنحة الوكوف ، والفيء على ذي الرحم الظالم ، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير».

وقال عكرمة قوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ) (١٣) ، يعني فك رقبة من الذنوب بالتوبة (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (١٤) ، مجاعة ، يقال : سغب يسغب سغبا إذا جاع.

(يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) (١٥) ، أي ذا قرابة يريد يتيما بينك وبينه قرابة.

(أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (١٦) ، قد لصق بالتراب من فقره وضره. وقال مجاهد عن ابن عباس : هو المطروح في التراب لا يقيه شيء ، والمتربة مصدر ترب يترب تربا ومتربة إذا افتقر.

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، ثم بين أن هذا القرب إنما تنفع مع الإيمان ، وقيل : (ثُمَ) بمعنى الواو ، (وَتَواصَوْا) ، أوصى بعضهم بعضا ، (بِالصَّبْرِ) ، على فرائض الله وأوامره ، (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) ، برحمة الناس.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

__________________

ـ ابن الهاد هو يزيد.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٤٠٩ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ١٥٠٩ من طريق قتيبة عن الليث بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٢٥١٧ و ٦٧١٥ ومسلم ١٥٠٩ والترمذي ١٥٤١ والنسائي في «الكبرى» ٤٨٧٤ وأحمد ٢ / ٤٢٠ و ٤٢٢ و ٤٢٩ و ٤٣٠ و ٥٢٥ وابن حبان ٤٣٠٨ وابن الجارود ٩٦٨ والطحاوي في «المشكل» ٧٢٤ والبيهقي ١٠ / ٢٧١ و ٢٧٢ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٢٩٢ من طرق عن سعيد بن مرجانة به.

[٢٣٤١] ـ إسناده صحيح ، رجاله ثقات.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٤١٢ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ٦٩ وأحمد ٤ / ٢٩٩ والطيالسي ٧٣٩ وابن حبان ٣٧٤ والبيهقي ١٠ / ٢٧٢ و ٢٧٣ وفي «شعب الإيمان» ٤٣٣٥ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٤٩١ من طرق عن عيسى بن عبد الرحمن به.

ـ وصححه الحاكم ٢ / ٢١٧ (٣٨٦١) ووافقه الذهبي.

ـ وقال الهيثمي في «المجمع» ٤ / ٢٤٠ : رواه أحمد ورجاله ثقات.

(١) تصحف في المطبوع «حارثة».

(٢) في المطبوع «أوليسا».

٢٥٧

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٢٠) ، مطبقة عليهم أبوابها لا يدخل فيها روح ولا يخرج منها غم ، قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص بالهمزة هاهنا ، وفي الهمزة [٨] وقرأ الآخرون بلا همز وهما لغتان ، يقال : آصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته ، وقيل : معنى الهمزة المطبقة وغير الهمزة المغلقة.

سورة الشمس

مكية [هي خمس عشرة آية](١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤))

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) (١) ، قال مجاهد والكلبي : ضوءها ، الضحى : حين تطلع الشمس ، فيصفو ضوؤها. قال قتادة : هو النهار كله. وقال مقاتل : حرها ، كقوله في «طه» (وَلا تَضْحى) ، يعني لا يؤذيك الحر.

(وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (٢) ، تبعها وذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس ، تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور. وقال الزجاج : وذلك حين استدار يعني كمل ضوؤه فصار تابعا للشمس في الإنارة وذلك في الليالي البيض.

(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) (٣) ، يعني إذا جلى الظلمة كناية عن غير مذكور لكونه معروفا.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) (٤) ، يعني يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق.

(وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨))

(وَالسَّماءِ وَما بَناها) (٥) ، قال الكلبي ومن بناها وخلقها كقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ، أي من طاب قال عطاء : يريد والذي بناها ، وقال الفراء والزجاج : (ما) بمعنى المصدر ، أي وبنائها كقوله ؛ (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) [يس : ٢٧].

(وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) (٦) ، بسطها.

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) (٧) ، عدل خلقها وسوى أعضاءها قال عطاء يريد جميع ما خلق من الجن والإنس.

(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨) ، قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة : بيّن لها الخير والشر.

وقال في رواية عطية : علمها الطاعة والمعصية. وروى الكلبي عن أبي صالح عنه : عرّفها ما تأتي من الخير

__________________

(١) زيد في المطبوع.

٢٥٨

وما تتقي من الشر. وقال سعيد بن جبير : ألزمها فجورها وتقواها. قال ابن زيد : جعل فيها ذلك يعني بتوفيقه إياها للتقوى ، وخذلانه إياها للفجور. واختار الزجاج هذا ، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان ، وهذا يبيّن أن الله عزوجل خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور.

[٢٣٤٢] أنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الله ثنا موسى بن محمد ثنا علي بن عبد الله أنا عبد الله بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن إبراهيم أنا عزرة (١) بن ثابت الأنصاري ، ثنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن الأسود الديلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس ويكادحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى عليهم (٢) من قدر سبق؟ أو فيما يستقبلون مما آتاهم به نبيهم وأكدت عليهم الحجة؟ قلت : بل شيء قد قضي عليهم ، قال : فهل يكون ذلك ظلما؟ قال : ففزعت منه فزعا شديدا ، وقلت : إنه ليس شيء إلا وهو خلقه وملك يده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فقال لي : سددك الله إنما سألتك لأختبر عقلك أن رجلا من جهينة أو مزينة أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكادحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم [به](٣) نبيهم وأكدت به عليهم الحجة؟ فقال : «لا بل شيء قد قضي عليهم ومضى فيهم» ، قال قلت : ففيم العمل إذا؟ قال : «من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها ، وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨).

[٢٣٤٣] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ثنا علي بن الجعد ثنا زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جابر قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال [يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ، أرأيت عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال : بل للأبد ، قال](٤) : يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أو فيما يستقبل؟ قال : «لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» ، قال :

__________________

[٢٣٤٢] ـ إسناده صحيح على شرط مسلم.

ـ وأخرجه مسلم ٢٦٥٠ والطيالسي ٧٤٢ وابن أبي عاصم في «السنة» ١٧٤ وأحمد ٤ / ٤٣٨ والطبري ٣٧٣٨٢ والبيهقي في «الاعتقاد» ص ٩٥ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٤٩٧ من طرق عن عزرة بن ثابت بهذا الإسناد.

[٢٣٤٣] ـ إسناده على شرط الصحيح.

ـ أبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس.

ـ وهو في «شرح السنة» ٧٣ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ٢٦٤٨ وأحمد ٣ / ٢٩٢ و ٢٩٣ من طرق عن زهير بن معاوية به.

ـ وأخرجه الآجري في «الشريعة» ٣٤٨ وابن حبان ٣٣٧ من طريقين عن أبي الزبير به.

ـ وأخرجه أحمد ٣ / ٣٠٤ من طريق محمد بن المنكدر عن جابر به.

ـ وأخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» ١٦٧ من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن سراقة بن مالك قال : قلت يا رسول الله .... فذكره.

ـ وإسناده صحيح على شرط مسلم ، وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٩٥ وقال : رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح.

(١) تصحف في المطبوع «عروة».

(٢) في المطبوع وط «فيهم».

(٣) زيادة عن المخطوط و «الوسيط».

(٤) سقط من المخطوط.

٢٥٩

ففيم ، العمل؟ قال زهير : فقال كلمة خفيت علي فسألت عنها نسيبي (١) بعد ، فذكر أنه سمعها ، فقال : «اعملوا فإن كلا ميسر لما خلق له» (٢).

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) (٩) ، وهذا موضع القسم أي فازت وسعدت نفس زكاها الله ، أي أصلحها وطهرها من الذنوب ووفقها للطاعة.

(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠) ، أي خابت وخسرت نفس أضلها الله فأفسدها ، وقال الحسن : معناه قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عزوجل ، (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠) أهلكها وأضلها وحملها على المعصية ، فجعل الفعل للنفس ، ودسّاها أصله : دسسها من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء ، فأبدلت السين الثانية ياء ، والمعنى هاهنا : أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية.

[٢٣٤٤] أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني أنا أبو محمد (٣) محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي أنا عبد الله بن محمد بن مسلم ثنا أبو بكر الجوربذي (٤) ثنا أحمد بن حرب ثنا أبو معاوية عن عاصم عن أبي عثمان وعبد الله بن الحارث عن زيد بن أرقم قال لا أقول لكم إلا ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا : «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهرم (٥) وعذاب القبر ، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن نفس لا تشبع ومن قلب لا يخشع ، ومن دعوة لا يستجاب لها».

قوله عزوجل : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) (١١) ، بطغيانها وعدوانها أي الطغيان حملهم على التكذيب.

(إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) (١٢) ، أي قام ، والانبعاث : هو الإسراع في الطاعة للباعث ، أي كذبوا بالعذاب وكذبوا صالحا لما انبعث أشقاها وهو : قدار بن سالف ، وكان أشقر أزرق العينين قصيرا قام لعقر الناقة.

__________________

[٢٣٤٤] ـ صحيح ، أحمد بن حرب صدوق ، وقد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

ـ أبو معاوية هو محمد بن خازم ، عاصم هو ابن سليمان الأحول ، أبو عثمان هو النهدي اسمه عبد الرحمن بن ملّ.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٣٥٢ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ٢٧٢٢ عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن أبي معاوية بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه الترمذي ٣٥٧٢ من طريق أبي معاوية به مختصرا.

ـ وأخرجه النسائي ٨ / ٢٦٠ و ٢٨٥ من طريقين محاضر عن عاصم الأحول عن عبد الله بن الحارث عن زيد بن أرقم به.

ـ وله شواهد منها :

ـ حديث أنس : عند البخاري ٤٧٠٧ ومسلم ٢٧٠٦.

ـ وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه الترمذي ٣٤٨٢ وقال : حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

ـ وحديث عائشة عند أحمد ٦ / ٢٠٩ (٢٥٢٢٩) والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٤٩٨.

(١) تصحف في المطبوع «نسبي».

(٢) العبارة في المطبوع «فكل ميسر لما خلق له» والمثبت عن المخطوط و «شرح السنة».

(٣) زيد في المطبوع «بن».

(٤) تصحف في المطبوع «الجور بردي».

(٥) في المخطوط «الهم».

٢٦٠