تفسير البغوي - ج ٥

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٥

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

ويحجون ، فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقه وإلى ركبتيه ، ثم يقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ، فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا به أحدا ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها أحدا فيه خير ممن أمرتنا به ، كان أبو سعيد الخدري يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٤٠) [النساء : ٤٠] ، فيقول الله : شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة ، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى [الشجر](١) ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر ، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض ، قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله من النار الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ، ثم يقول : «ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا : أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين ، فيقول : لكم عندي أفضل من هذا فيقولون : يا ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا».

وروى محمد بن إسماعيل هذا الحديث عن يحيى بن بكير عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم بهذا المعنى.

[٢٢٦٣] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد](٢) المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا آدم ثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد (٣) بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا».

قوله عزوجل : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) ، يعني الكفار والمنافقون ، تصير أصلابهم كصياصي البقر فلا يستطيعون السجود.

__________________

[٢٢٦٣] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري حيث تفرد عن آدم دون مسلم ، وقد توبع ، ومن فوقه ، رجال البخاري ومسلم.

ـ آدم هو ابن أبي إياس ، الليث هو ابن سعد.

ـ وهو في «شرح السنة» ٤٢٢١ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٤٩١٩ عن آدم بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٧٤٣٩ ابن حبان ٧٣٧٧ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٧٤٥.

ـ وأخرجه مسلم ١٨٣ من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم به مطوّلا.

ـ وأخرجه أحمد ٣ / ١٦ ـ ١٧ من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن زيد بن أسلم به مطوّلا.

ـ وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٧٣ من طريق هشام بن سعد عن زيد به.

ـ وقد ورد في أثناء الحديث المتقدم.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) تصحف في المطبوع «يزيد».

١٤١

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣))

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) ، وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم من السجود ووجوههم أشد بياضا من الثلج ، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين ، (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) ، يغشاهم ذلة الندامة والحسرة ، (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) ، قال إبراهيم التيمي : يعني إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة. وقال سعيد بن جبير : كانوا يسمعون حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون ، (وَهُمْ سالِمُونَ) ، أصحاء فلا يأتونه ، قال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا عن الذين يتخلفون عن الجماعات.

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١))

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) ، أي فدعني والمكذبين بالقرآن ، وخل بيني وبينهم. قال الزجاج : معناه لا تشغل قلبك به وكله إلي فإني أكفيك أمره ، (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) ، سنأخذهم بالعذاب ، (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ، فعذبوا يوم بدر.

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٤٥) ، (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٦) (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤٧) (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) ، اصبر على أذاهم لقضاء ربك ، (وَلا تَكُنْ) ، في الضجر والعجلة ، (كَصاحِبِ الْحُوتِ) ، وهو يونس بن متى ، (إِذْ نادى) ، ربه وهو في بطن الحوت ، (وَهُوَ مَكْظُومٌ) ، مملوء غما.

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ) ، أدركته (نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، حين رحمه وتاب عليه ، (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) ، لطرح بالفضاء من بطن الحوت ، (وَهُوَ مَذْمُومٌ) ، يذم ويلام بالذنب.

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) ، اصطفاه ، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) ، وذلك أن الكفار أرادوا أن يصيبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعين فنظر إليه قوم من قريش وقالوا ما رأينا مثله ولا مثل حججه. وقيل : كانت العين في بني أسد حتى كانت الناقة والبقرة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول يا جارية خذي المكتل والدراهم فأتينا بشيء من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت ، فتنحر. وقال الكلبي :كان رجل من العرب يمكث لا يأكل [ولا يشرب](١) يومين أو ثلاثا ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه ، فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة وعدة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعين ويفعل به مثل ذلك ، فعصم الله نبيه وأنزل : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) ، أي ويكاد ، ودخلت اللام في (لَيُزْلِقُونَكَ) لمكان أن ، وقرأ أهل المدينة (لَيُزْلِقُونَكَ) بفتح الياء ، والآخرون بضمها ، وهما لغتان ، يقال : زلقه يزلقه زلقا وأزلقه يزلقه إزلاقا. قال ابن عباس : معناه ينفذونك ، يقال : زلق السهم إذا أنفذ ، قال السدي : يصيبونك بعيونهم. قال النضر بن شميل : يعينونك (٢). وقيل : يزيلونك. وقال الكلبي : يصدعونك. وقيل : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة. قال ابن قتيبة : ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المخطوط «ب» «وحده» «يعيبونك».

١٤٢

يعجبه ، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء ، يكاد يسقطك.

وقال الزجاج : يعني من شدة عداوتهم يكادون ينظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك ، وهذا مستعمل في الكلام يقول القائل : نظر إلي نظرا يكاد يصرعني ، ونظرا يكاد يأكلني ، يدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن. وهو قوله : (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) ، وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهية فيحدون إليه النظر بالبغضاء ، (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) ، أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن.

(وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

فقال الله تعالى : (وَما هُوَ) ، يعني القرآن ، (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ، قال ابن عباس : موعظة للمؤمنين. قال الحسن : دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية.

[٢٢٦٤] أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «العين حق» ونهى عن الوشم.

[٢٢٦٥] أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ثنا السيد أبو الحسن بن محمد بن الحسين بن داود العلوي ، أنا أبو نصر محمد بن حمدويه بن سهل المروزي ثنا محمود بن آدم المروزي ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال : «نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين».

__________________

[٢٢٦٤] ـ إسناده صحيح ، أحمد بن يوسف ثقة روى له مسلم ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ٣٠٨٣ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «المصنف» ١٩٧٧٨ عن معمر بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٥٧٤٠ و ٥٩٤٤ وأحمد ٢ / ٣١٩ ومسلم ٢١٨٧ وابن حبان ٥٥٠٣ من طرق عن عبد الرزاق به.

ـ وانظر ما تقدم في سورة يوسف عند آية : ٦٧.

[٢٢٦٥] ـ المرفوع صحيح.

ـ إسناده لا بأس به ، رجاله ثقات مشاهير غير عروة بن عامر وثقه ابن حبان ، وقال الحافظ : مختلف في صحبته.

ـ قلت : لا يصح ، فروايته عن عبيد ، وهو ولد في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس له إدراك لذا عده غير واحد في عداد التابعين ، وقد وثقه العجلي.

ـ فالإسناد لين ، لكن المرفوع صحيح بشاهده الآتي.

ـ وهو في «شرح السنة» ٣١٣٦ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه الترمذي ٢٠٥٩ وابن ماجه ٣٥١٠ وأحمد ٦ / ٤٣٨ من طريق سفيان بن عيينة به.

ـ وقال الترمذي : وهذا حديث حسن صحيح.

ـ وله شاهد من حديث ابن عباس :

ـ أخرجه مسلم ٢١٨٨ والترمذي ٢٠٦٢ وابن أبي شيبة ٨ / ٥٩ وابن حبان ٦١٠٧ و ٦١٠٨ والطبراني ١٠٩٠٥ والطحاوي في «المشكل» ٢٨٩٢ والبيهقي ٩ / ٣٥١ من طريقين عن وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عنه.

ـ الخلاصة : المرفوع صحيح بشاهده ، وفي الباب أحاديث.

١٤٣

سورة الحاقة

مكية [وهي اثنتان وخمسون آية](١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣))

(الْحَاقَّةُ) ، يعني القيامة سميت حاقة لأنها حقت فلا كاذبة لها. وقيل : لأن فيها حواق الأمور وحقائقها ، ولأن فيها يحق الجزاء على الأعمال ، أي يجب ، يقال : حق عليه الشيء إذا وجب يحق حقوقا ، قال الله تعالى : (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١] قال الكسائي : الحاقة يوم الحق.

(مَا الْحَاقَّةُ) (٢). هذا استفهام معناه التفخيم لشأنها ، كما يقال : زيد ما زيد ، على التعظيم لشأنه.

(وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) (٣) ، أي أنك لا تعلمها إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠))

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) (٤) ، قال ابن عباس وقتادة : بالقيامة سميت قارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة. وقيل : كذبت بالعذاب الذي أوعدهم نبيهم حتى نزل فقرع قلوبهم.

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (٥) ، أي بطغيانهم وكفرهم. قيل : هي مصدر ، وقيل : نعت ، أي بأفعالهم الطاغية ، وهذا معنى قول مجاهد : كما قال : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) (١١) [الشمس : ١١] وقال قتادة : بالصيحة الطاغية ، وهي التي جاوزت مقادير الصياح فأهلكتهم. وقيل : طغت على الخزان كما طغى الماء على قوم نوح.

(وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) (٦) ، عتت على خزائنها فلم تطعهم ولم يكن لهم عليها سبيل ، وجاوزت المقدار فلم يعرفوا كم خرج منها.

(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ). أرسلها عليهم. وقال مقاتل : سلطها عليهم. (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) ، قال وهب : هي الأيام التي تسميها العرب أيام العجوز ذات برد ورياح شديدة. قيل : سميت عجوزا لأنها في عجز الشتاء. وقيل : سميت بذلك لأن عجوزا من قوم عاد دخلت سربا فتبعتها الريح ، فقتلتها اليوم الثامن من نزول العذاب وانقطع العذاب. (حُسُوماً) ، قال مجاهد وقتادة : متتابعة ليس فيها فترة ، فعلى هذا هو حسم الكي ، وهو أن يتابع على موضع الداء بالمكواة حتى يبرأ ، ثم قيل لكل شيء توبع (٢) :

__________________

(١) زيد في المطبوع.

(٢) في المخطوط «يقطع».

١٤٤

حاسم ، وجمعه حسوم ، مثل شاهد وشهود ، وقال الكلبي ومقاتل : حسوما دائمة. وقال النضر بن شميل : حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم ، والحسم : القطع والمنع ومنه حسم الداء. قال الزجاج : [الذي توجبه الآية فعلى معنى] تحسمهم حسوما تفنيهم وتذهبهم. وقال عطية [حسوما](١) شؤما كأنها حسمت الخير عن أهلها. (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها) ، أي في تلك الليالي والأيام (صَرْعى) ، هلكى جمع صريع ، (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) ، ساقطة ، وقيل : خالية الأجواف.

(فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٨) ، أي من نفس باقية يعني لم يبق منهم أحد.

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) ، قرأ أهل البصرة والكسائي بكسر القاف ، وفتح الباء أي ومن معه من جنوده وأتباعه ، وقرأ الآخرون بفتح القاف وسكون الباء ، أي ومن قبله من الأمم الكافرة ، (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) ، يعني أي قرى قوم لوط يريد أهل المؤتفكات. وقيل : يريد الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم ، [أي أهلكوا بذنوبهم] (بِالْخاطِئَةِ) ، أي بالخطيئة والمعصية وهي الشرك.

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) ، يعني لوطا وموسى ، (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) ، نامية ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : شديدة. وقيل : زائدة على عذاب الأمم.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧))

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) ، أي عتا وجاوز حده حتى علا على كل شيء وارتفع فوقه يعني زمن نوح عليه‌السلام. (حَمَلْناكُمْ) ، أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم ، (فِي الْجارِيَةِ) ، في السفينة التي تجري في الماء.

(لِنَجْعَلَها) ، أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا من إغراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه ، (لَكُمْ تَذْكِرَةً) ، عبرة وعظة (وَتَعِيَها) ، قرأ القواس عن ابن كثير وسليم عن حمزة باختلاس العين ، وقرأ الآخرون بكسرها أي تحفظها (أُذُنٌ واعِيَةٌ) ، أي : حافظة لما جاء من عند الله. قال قتادة : أذن سمعت وعقلت ما سمعت. قال الفراء : لتحفظها كل أذن فتكون عبرة وموعظة لمن يأتي بعد.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) ، وهي النفخة الأولى.

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) ، رفعت [من](٢) أماكنها ، (فَدُكَّتا) ، كسرتا ، (دَكَّةً) ، كسرة ، (واحِدَةً) ، فصارتا هباء منبثا (٣).

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١٥) ، قامت القيامة.

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (١٦) ، ضعيفة قال الفراء : وهيها تشققها.

(وَالْمَلَكُ) ، يعني الملائكة ، (عَلى أَرْجائِها) ، نواحيها وأقطارها [على](٤) ما لم ينشق منها. واحدها : رجا [مقصور](٥) وتثنيته رجوان. قال الضحاك : تكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها. (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) ، أي فوق رءوسهم يعني الحملة ، (يَوْمَئِذٍ) ،

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «منثورا» والمثبت عن المخطوطتين.

(٤) سقط من المطبوع.

(٥) زيادة عن المخطوط.

١٤٥

يوم القيامة ، (ثَمانِيَةٌ) ، أي ثمانية أملاك.

[٢٢٦٦] جاء في الحديث : «إنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى ، فكانوا ثمانية ، على صورة الأوعال ، ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء».

[٢٢٦٧] وجاء في الحديث : «لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر».

[٢٢٦٨] أخبرنا أبو بكر بن الهيثم الترابي أنا أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي أنا محمد بن يحيى الخالدي أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ثنا عبد الرزاق ثنا يحيى بن العلاء البجلي (١) عن عمه شعيب بن خالد

__________________

[٢٢٦٦] ـ ضعيف. أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» ١٤٨ والطبري ٣٤٧٩٣ من طريق محمد بن إسحاق قال : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم .... فذكره دون عجزه «على صورة الأوعال ما بين ....». وهذا معضل.

ـ وأخرجه البيهقي في «البعث» في «النشور» ٦٦٩ والطبراني في «المطوّلات» ٣٦ من حديث أبي هريرة في أثناء حديث الصور الطويل دون عجزه.

ـ وفي إسناده إسماعيل بن رافع وهو ضعيف ، قال ابن عدي : أحاديثه كلها فيها نظر وإلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء ا ه.

ـ وعجزه يأتي في أثناء حديث العباس الآتي بعد حديث واحد ، ولا يصح.

[٢٢٦٧] ـ لا أصل له في المرفوع.

ـ أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٣٣١٤ وأبو الشيخ في «العظمة» ٤٨٥ عن وهب بن منبه قوله.

ـ وإسناده ضعيف جدا ، فيه عبد المنعم بن إدريس.

ـ ومع ذلك هو من الإسرائيليات المردودة ، وهب بن منبه يروي عن كتب الأقدمين.

ـ ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل هو من مجازفات الإسرائيليين.

[٢٢٦٨] ـ ضعيف ، وحسبه الوقف.

ـ إسناده واه بمرة ، يحيى بن العلاء متهم بالوضع ، وسماك بن حرب اختلط بأخرة ، وعبد الله بن عميرة ، لم يسمع من العباس ، فهو منقطع ، و

ورد من وجه آخر ، لا يحتج به.

ـ وأخرجه أبو داود ٤٧٢٤ والترمذي ٣٣٢٠ وابن أبي عاصم في «السنة» ٥٧٧ وأبو الشيخ في «العظمة» ٢٠٦ من طرق عن عبد الرحمن بن سعد عن عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس به.

ـ وأخرجه أبو داود ٤٧٢٣ وابن ماجه ١٩٣ وأحمد ١ / ٢٠٧ والآجري في «الشريعة» ٦٧٤ و ٦٧٥ من طرق عن الوليد بن أبي ثور عن سماك ، بالإسناد المذكور.

ـ وأخرجه أحمد ١ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧ من طريق يحيى بن العلاء عن شعيب بن خالد عن سماك بن حرب بالإسناد السابق وفي إسناده يحيى بن العلاء منهم بوضع الحديث كما تقدم.

ـ وأخرجه الآجري في «الشريعة» ٦٧٦ من طريق إبراهيم بن طهمان عن سماك بالإسناد السابق.

ـ وأخرجه أبو داود ٤٧٢٣ من طريق عمرو بن أبي قيس عن سماك بالإسناد المذكور.

ـ وورد موقوفا ، أخرجه الحاكم ٢ / ٥٠٠ وأبو يعلى ٦٧١٢ وإسناده لين لأجل شريك لكنه أشبه من المرفوع.

ـ وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وروى الوليد بن ثور عن سماك نحوه ورفعه وروى شريك عن سماك بعض هذا الحديث ، أوقفه ، ولم يرفعه ، وعبد الرحمن هو ابن عبد الله بن سعد الرازي.

ـ الخلاصة : مدار هذه الطرق على سماك ، وقد اختلط ، عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس ، وقال البخاري :

لا نعرف له سماعا من الأحنف.

ـ فالمرفوع ضعيف والصحيح موقوف ، وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٦٠٩٤ بتخريجي.

(١) في المطبوع «الراعي».

١٤٦

ثنا سماك بن حرب عن عبد الله بن عميرة عن العباس بن عبد المطلب قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبطحاء فمرت سحابة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدرون ما هذا؟ قلنا السحاب ، قال : والمزن ، قلنا : والمزن ، قال : والعنان ، فقلنا : والعنان ، فسكتنا فقال : هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وكذلك غلظ كل سماء خمسمائة سنة ، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض ، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن كما بين السماء والأرض ، فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك ، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء».

ويروى هذا عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس. وروي عن ابن عباس أنه قال : (فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله.

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) ، على الله ، (لا تَخْفى) ، قرأ [حمزة والكسائي لا يخفى](١) بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، (مِنْكُمْ خافِيَةٌ) ، أي فعلة خافية. قال الكلبي : لا يخفى على الله منكم شيء. قال أبو موسى : يعرض الناس ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما العرضة الثالثة فعندها تطاير الصحف فأخذ بيمينه وأخذ بشماله.

وذلك قوله عزوجل : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (١٩) ، الهاء في (كِتابِيَهْ) هاء الوقف.

(إِنِّي ظَنَنْتُ) علمت وأيقنت ، (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) ، أي أحاسب في الآخرة.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ) ، يعني حالة من العيش ، (راضِيَةٍ) ، مرضية كقوله : (ماءٍ دافِقٍ) يريد يرضاها بأن لقي الثواب وأمن العقاب.

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) (١٠) ، رفيعة.

(قُطُوفُها دانِيَةٌ) (٢٣) ، ثمارها قريبة لمن يتناولها في كل أحواله ينالها قائما وقاعدا ومضطجعا يقطعون كيف شاءوا.

ويقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ) ، قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة ، (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) ، الماضية يريد أيام الدنيا.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤))

__________________

(١) سقط من المطبوع.

١٤٧

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) ، قال ابن السائب : تلوى يده اليسرى من صدره خلف ظهره ثم يعطى كتابه. وقيل : تنزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره ثم يعطى كتابه. (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) ، يتمنى أنه لم يؤت كتابه لما يرى فيه من قبائح أعماله.

(وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) (٢٧) ، يقول يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية [الفارغة](١) من كل ما بعدها ، والقاطعة للحياة ، فلم أحي بعدها. والقاضية موت لا حياة بعده يتمنى أنه لم يبعث للحساب. قال قتادة : يتمنى الموت وإن لم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت.

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) (٢٨) ، لم يدفع عني من عذاب الله شيئا.

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) (٢٩) ، ضلت عني حجتي ، عن أكثر المفسرين ، وقال ابن زيد : زال عني ملكي وقوتي. قال مقاتل : يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك يقول الله لخزنة جهنم :

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) (٣٠) ، اجمعوا يده إلى عنقه.

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) (٣١) ، أي أدخلوه الجحيم.

(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) (٣٢) ، فأدخلوه فيها. قال ابن عباس : سبعون ذراعا بذراع الملك ، فتدخل (٢) في دبره وتخرج (٣) من منخره. وقيل : تدخل في فيه وتخرج من دبره. وقال نوف البكالي : سبعون ذراعا كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة ، وكان في رحبة الكوفة. وقال سفيان : كل ذراع سبعون ذراعا. قال الحسن : الله أعلم أي ذراع هو.

[٢٢٦٩] أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أن رضراضة (٤) مثل هذه ، وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة ، لبلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة التي لسارت أربعين خريفا الليل والنهار. قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها».

__________________

[٢٢٦٩] ـ إسناده ضعيف لضعف أبي السمح ، واسمه دراج بن سمعان ، فقد روى مناكير كثيرة ، وهذا منها.

ـ وهو في «شرح السنة» ٤٣٠٧ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «الزهد» ٢٩٠ «زيادات نعيم بن حماد» عن سعيد بن يزيد بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه الترمذي ٢٥٨٨ وأحمد ٢ / ١٩٧ والطبري ٣٤٨٢٢ من طرق عن ابن المبارك به.

ـ وقال الترمذي : هذا حديث إسناده حسن صحيح ، وسعيد بن يزيد هو مصري ، وقد روى عنه الليث بن سعد وغير واحد من الأئمة.

ـ وأخرجه الحاكم ٢ / ٤٣٨ ـ ٤٣٩ والبيهقي في «البعث» ٥٨١ من طرق عبد الله بن يزيد عن سعيد بن يزيد به.

ـ وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! في حين عقب الذهبي على الحاكم في غير موضوع بقوله : دراج ذو مناكير.

ـ الخلاصة : الحديث ضعيف ، والوقف أشبه ، وكونه مما تلقاه عبد الله بن عمرو عن أهل الكتاب.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «فيدخل».

(٣) في المطبوع «يخرج».

(٤) في المطبوع «رضاضة» وفي المخطوط «رصاصة» والمثبت عن «شرح السنة».

١٤٨

وعن كعب قال : لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها.

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٣٤) ، لا يطعم المسكين في الدنيا ولا يأمر أهله بذلك.

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥))

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) (٣٥) ، قريب ينفعه ويشفع له.

(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٣٦) ، وهو صديد أهل النار مأخوذ من الغسل كأنه غسالة جروحهم وقروحهم. قال الضحاك والربيع : هو شجر يأكله أهل النار.

(لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) (٣٧) ، أي الكافرون.

(فَلا أُقْسِمُ) ، لا رد لكلام المشركين كأنه قال : ليس كما يقول المشركون أقسم ، (بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ) (٣٩) أي بما ترون وبما لا ترون. قال قتادة : أقسم بالأشياء كلها فيدخل فيه جميع المخلوقات والموجودات. وقال : أقسم بالدنيا والآخرة. وقيل : ما تبصرون ما على وجه الأرض وما لا تبصرون ما في بطنها. وقيل : ما تبصرون من الأجسام وما لا تبصرون من الأرواح. وقيل : ما تبصرون : الإنس وما لا تبصرون : الملائكة والجن. وقيل : النعم الظاهرة والباطنة. وقيل : ما تبصرون ما أظهر الله للملائكة واللوح والقلم ، وما لا تبصرون ما استأثر بعلمه فلم يطلع عليه أحدا.

(إِنَّهُ) يعني القرآن ، (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ، أي تلاوة رسول كريم يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٤٢) ، قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يؤمنون ويذكرون ، بالياء فيهما ، وقرأ الآخرون بالتاء ، وأراد بالقليل نفي إيمانهم أصلا كقولك لمن لا يزورك (١) : قلما تأتينا ، وأنت تريد لا تأتينا أصلا.

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ) ، تخرّص (٢) واختلق ، (عَلَيْنا) ، محمد ، (بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) ، وأتى بشيء من عند نفسه.

(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (٤٥) ، قيل (من) صلة ، مجازه ، لأخذناه وانتقمنا منه باليمين أي بالحق ، كقوله : (كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) [الصافات : ٢٨] ، أي : من قبل الحق. وقال ابن عباس : لأخذناه بالقوة والقدرة.

قال الشماخ يمدح عرابة ملك اليمن (٣).

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين (٤)

أي بالقوة عبر عن القوة باليمين (٥) لأن قوة كل شيء في ميامنه. وقيل : معناه لأخذنا بيده اليمنى ، وهو مثل معناه : لأذللناه ، وأهناه كالسلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من يريد (٦) ، يقول لبعض أعوانه :

__________________

(١) في المطبوع «يزول».

(٢) في المطبوع «كحرض».

(٣) في المخطوط «اليمين».

(٤) في المطبوع «باليمن».

(٥) في المطبوع «اليمن».

(٦) في المخطوط (ب) «يريده» وفي المطبوع «بين يديه» والمثبت عن ط والمخطوط (أ)

١٤٩

خذ بيده فأقمه.

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٤٦) ، قال أبو عباس : أي نياط القلب ، وهو قول أكثر المفسرين : وقال مجاهد : الحبل الذي في الظهر. وقيل هو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب ، فإذا انقطع مات صاحبه.

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٤٧) ، مانعين يحجزوننا عن عقوبته ، والمعنى : أن محمدا لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه بأنه لو تكلفه لعاقبناه ولا يقدر أحد على دفع عقوبتنا عنه ، وإنما قال : (حاجِزِينَ) بالجمع هو فعل واحد ردا على معناه كقوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥].

(وَإِنَّهُ) ، يعني القرآن ، (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) ، أي لعظة لمن اتقى عقاب الله.

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠) ، يوم القيامة يندمون على ترك الإيمان به.

(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (٥١) ، أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢).

سورة المعارج

مكية [وهي أربع وأربعون آية](١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١))

(سَأَلَ سائِلٌ) ، قرأ أهل المدينة والشام (سَأَلَ) بغير همز وقرأ الآخرون بالهمز ، فمن همز فهو من السؤال ، ومن قرأ بغير همز قيل : هو لغة في السؤال ، يقول : سال يسال مثل خاف يخاف ، يعني سال يسال خفف الهمزة وجعلها ألفا. وقيل : هو من السيل ، والسائل واد من أودية جهنم ، يروى ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والأول أصح. واختلفوا في الباء في قوله : (بِعَذابٍ) ، قيل : هي بمعنى (عن) كقوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] أي عنه خبير ، ومعنى الآية سأل سائل عن عذاب ، (واقِعٍ) ، نازل كائن على من ينزل ولمن ذلك العذاب.

(لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤))

__________________

(١) زيد في المطبوع.

١٥٠

فقال الله مبينا مجيبا لذلك السائل : (لِلْكافِرينَ) ، وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعذاب قال بعضهم لبعض : من أهل هذا العذاب؟ ولمن هو؟ سلوا عنه محمدا فسألوه فأنزل الله : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) (٢) أي هو للكافرين ، هذا قول الحسن وقتادة. وقيل : الباء صلة ومعنى الآية : دعا داع وسأل سائل عذابا واقعا للكافرين أي على الكافرين ، اللام بمعنى على ، وهو النضر بن الحارث حيث دعا على نفسه وسأل العذاب ، فقال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) [الأنفال : ٣٢] ، الآية ، فنزل به ما سأل يوم بدر فقتل صبرا. وهذا قول ابن عباس ومجاهد. (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي للعذاب مانع.

(مِنَ اللهِ) ، أي بعذاب من الله ، (ذِي الْمَعارِجِ) ، قال ابن عباس : أي ذي السموات ، سماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها. وقال سعيد بن جبير : ذي الدرجات. وقال قتادة : ذي الفواضل والنعم ، ومعارج الملائكة.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) ، قرأ الكسائي يعرج بالياء ، وهي قراءة ابن مسعود ، وقرأ الآخرون (تَعْرُجُ) بالتاء ، (وَالرُّوحُ) ، يعني جبريل عليه‌السلام ، (إِلَيْهِ) أي إلى الله عزوجل : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ، من سني (١) الدنيا لو صعد غير الملك من بني آدم من منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله تعالى من فوق السماء السابعة ، لما صعد في أقل من خمسين ألف سنة والملك يقطع ذلك كله في ساعة واحدة. وروى ليث عن مجاهد أن مقدار هذا خمسين ألف سنة. وقال محمد بن إسحاق : لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة. وقال عكرمة وقتادة : هو يوم القيامة. وقال الحسن أيضا : هو يوم القيامة. وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، ليس يعني به أن مقدار طوله هذا دون غيره لأن يوم القيامة له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود ، ولو كان له آخر لكان منقطعا. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : هو يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.

[٢٢٧٠] أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي أنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي أنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ثنا عبد الله بن سعيد ثنا أسد بن موسى ثنا ابن لهيعة عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فما أطول

__________________

[٢٢٧٠] ـ حسن بشاهده.

ـ إسناده ضعيف ، ابن لهيعة ودراج ضعيفان ، لكن للحديث شاهد.

ـ ابن لهيعة هو عبد الله ، دراج هو ابن سمعان ، أبو الهيثم هو سليمان بن عمرو.

ـ وهو في «شرح السنة» ٤٢١٣ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه أحمد ٣ / ٧٥ وأبو يعلى ١٣٩٠ من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة به.

ـ وأخرجه الطبري ٣٤٨٦٧ وابن حبان ٧٣٣٤ من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن درّاج به ، وقد توبع ابن لهيعة هاهنا فانحصرت العلة في دراج.

ـ وله شاهد من حديث أبي هريرة ، أخرجه ابن حبان ٧٣٣٣ وأبو يعلى ٦٠٢٥ وإسناده على شرط البخاري ومسلم ، وهو صحيح إن كان سمعه يحيى بن أبي كثير من أبي سلمة ، فهو وإن روى عنه ، فإنه كثير الإرسال أيضا ، وبكل حال الحديث حسن.

(١) في المخطوطتين «سنين».

١٥١

هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا».

وقيل : معناه لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة. وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل : وقال عطاء : ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا. وروى محمد بن الفضل عن الكلبي قال : يقول لو ولّيت حساب ذلك اليوم الملائكة والجنّ والإنس وطوقتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة ، وأنا أفرغ منها في ساعة من النهار. وقال يمان : هو يوم القيامة فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة. وفيه تقديم وتأخير كأنه قال : ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه.

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤))

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (٥) ، يا محمد على تكذيبهم ، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) (٦) ، يعني العذاب ، (وَنَراهُ قَرِيباً) (٧) ، لأن ما هو آت قريب ، وهو يوم القيامة.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) (٨) ، كعكر الزيت. وقال الحسن : كالفضة إذا أذيبت.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (٩) ، كالصوف المصبوغ. ولا يقال : عهن إلا للمصبوغ. وقال مقاتل : كالصوف المنفوش. وقال الحسن : كالصوف الأحمر وهو أضعف الصوف ، وأول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا ثم عهنا منفوشا ثم تصير هباء منثورا.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (١٠) ، قرأ البزي عن ابن كثير (وَلا يَسْئَلُ) بضم الياء أي لا يسأل حميم عن حميم ، أي لا يقال له أين حميمك؟ وقرأ الآخرون بفتح الياء ، أي لا يسأل قريب قريبا لشغله بشأن نفسه.

(يُبَصَّرُونَهُمْ) ، يرونهم وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته فلا يسأله ، ويبصر حميمه فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه. قال ابن عباس : يتعارفون ساعة من النهار ثم لا يتعارفون بعده. وقيل : يبصرونهم يعرفونهم أي يعرف الحميم حميمه حتى يعرفه ، ومع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه. وقال السدي : يعرفونهم أما المؤمن فببياض وجهه ، وأما الكافر فبسواد وجهه ، (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) ، يتمنى المشرك ، (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ).

(وَصاحِبَتِهِ) ، زوجته ، (وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ) ، عشيرته التي فصل منهم. قال مجاهد : قبيلته وقال غيره : أقربائه الأقربين. (الَّتِي تُؤْوِيهِ) ، أي تعنيه ويأوي إليها.

(وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، يود لو يفتدي بهم جميعا ، (ثُمَّ يُنْجِيهِ) ، ذلك الفداء من عذاب الله.

(كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣))

(كَلَّا) ، لا ينجيه من عذاب الله شيء ، ثم ابتدأ فقال : (إِنَّها لَظى) ، وهي اسم من أسماء جهنم وقيل : هي الدركة الثانية ، سميت بذلك لأنها تتلظى أي تتلهب.

١٥٢

(نَزَّاعَةً لِلشَّوى) (١٦) ، قرأ حفص عن عاصم (نَزَّاعَةً) نصب على الحال والقطع ، وقرأ الآخرون بالرفع أي هي نزاعة للشوى ، وهي الأطراف : اليدان ، والرجلان ، وسائر الأطراف. وقال مجاهد : لجلود الرأس. وروى إبراهيم بن المهاجر عنه : تنزع اللحم دون العظام. قال مقاتل : تنزع النار الأطراف فلا تترك لحما ولا جلدا. وقال الضحاك : تنزع الجلد واللحم عن العظام. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : للعصب والعقب. وقال الكلبي : لأم الرأس تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان ، ثم تعود لأكله فتأكله فذلك دأبها. وقال قتادة : لمكارم خلقه وأطرافه. قال أبو العالية : لمحاسن وجهه. وقال ابن جرير : الشوى جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا ، يقال : رمى فأشوى إذا أصاب الأطراف ولم يصب المقتل.

(تَدْعُوا) ، النار إلى نفسها ، (مَنْ أَدْبَرَ) ، عن الإيمان ، (وَتَوَلَّى) ، عن الحق فتقول إلي يا مشرك إلي يا منافق إليّ إليّ. قال ابن عباس : تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. حكي عن الخليل : أنه قال : تدعو أي تعذب. وقال : قال أعرابي لآخر : دعاك الله أي عذبك الله.

(وَجَمَعَ) ، أي جمع المال ، (فَأَوْعى) ، أمسكه في الوعاء ولم يؤد حق الله منه.

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (١٩) ، روى السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : الهلوع الحريص على ما لا يحل له. وقال سعيد بن جبير : شحيحا. وقال عكرمة : ضجورا. وقال الضحاك والحسن : بخيلا. وقال قتادة : جزوعا. وقال مقاتل : ضيّق القلب. والهلع : شدة الحرص ، وقلة الصبر. وقال عطية عن ابن عباس : تفسيره ما بعد.

وهو قوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٢١) ، يعني إذا أصابه الفقر لم يصبر ، وإذا أصابه المال لم ينفق. قال ابن كيسان : خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره ، ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره.

ثم استثنى فقال : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٢٢) ، استثنى الجمع من الواحد لأن الإنسان في معنى الجمع كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٢ ، ٣] ..

(الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) (٢٣) ، يقيمونها في أوقاتها يعنى الفرائض.

[٢٢٧٠] م أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير أخبره قال : سألنا عقبة بن عامر عن قول الله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) (٢٣) أهم الذين يصلون أبدا؟ قال : لا ولكنهم إذا صلوا لم يلتفتوا عن يمينهم ولا عن شمائلهم ولا من خلفهم.

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ

__________________

[٢٢٧٠] ـ م موقوف. إسناده لا بأس به لأنه من رواية ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، وقد سمع منه قبل الاختلاط.

١٥٣

(٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩))

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣))، قرأ حفص عن عاصم ويعقوب بشهاداتهم على الجمع ، وقرأ الآخرون بشهاداتهم على التوحيد. (قائِمُونَ) أي يقومون فيها بالحق ولا يكتمونها ولا يغيرونها.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (٣٥).

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي فما بال الذين كفروا ، كقوله : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٤٩) [المدثر : ٤٩] ، (قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) ، مسرعين مقبلين إليك مادي أعناقهم ومديمي النظر إليك متطلعين نحوك ، نزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمعون كلامه ويستهزءون به ويكذبونه ، فقال الله تعالى : ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك وهم لا ينتفعون بما يستمعون.

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) (٣٧) ، حلقا وفرقا ، والعزين : جماعات في تفرقة واحدتها عزّة.

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (٣٨) ، قال ابن عباس : معناه أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي كما يدخلها المسلمون ويتنعم فيها وقد كذب نبي؟

(كَلَّا) ، لا يدخلونها ، ثم ابتدأ فقال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ، أي من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، نبّه الناس على أنهم خلقوا من أصل واحد وإنما يتفاضلون ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة.

[٢٢٧١] أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أحمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ثنا موسى بن محمد بن علي ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا صفوان بن صالح ثنا الوليد بن مسلم ثنا حريز (١) بن عثمان الرحبي عن عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بسر (٢) بن جحّاش قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبصق يوما في كفه ووضع عليها إصبعه فقال : يقول الله عزوجل «ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ،

__________________

[٢٢٧١] ـ إسناده ضعيف ، رجاله ثقات سوى عبد الرحمن بن ميسرة ، فقد وثقه العجلي وابن حبان على قاعدتهما في توثيق المجاهيل ، وقال علي المديني : مجهول ، والقول قول ابن المديني ، فإنه إمام هذا الشأن.

ـ وأخرجه البيهقي في «الشعب» ٣٤٧٣ عن جعفر بن محمد الفريابي بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه ابن ماجه ٢٧٠٧ وأحمد ٤ / ٢١٠ والطبراني ١١٩٣ من طرق عن حريز بن عثمان به.

ـ وأخرجه الطبراني ١١٩٤ من طريق ثور بن يزيد الرحبي عن عبد الرحمن بن ميسرة به.

ـ وقال البوصيري في «الزوائد» : إسناده صحيح؟! ـ واضطرب الألباني فحسن إسناده في «الصحيحة» ١٠٩٩ في حين صححه برقم ١١٤٣؟!! ومما تمسك به الألباني قول أبي داود : شيوخ حريز كلهم ثقات ، وفيما قاله نظر ، فابن المديني نص على الرجل بعينه في حين عبارة أبي داود عامة ، على أن علي المديني أثبت وأعلم في الرجال من أبي داود ، وقاعدة أبي داود فيها نظر أيضا ، فإن شعبة أثبت من حريز ، وهو مع تعنته في الرجال روى عن ضعفاء ومثل هذا كثير.

ـ قلت : ولفظ «بصق في كفه» غريب ، بل هو منكر ، وراويه لا يحتمل التفرد بمثل هذا.

(١) تصحف في المطبوع «جرير».

(٢) يصحف في المطبوع «بشر».

١٥٤

حتى إذا سويتك وعدلتك ، ومشيت بين بردين ، والأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق ، وأنى أوان الصدقة»؟

وقيل : معناه إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقيل : (ما) بمعنى (من) ، مجازه : إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون لا كالبهائم.

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) ، يعني مشرق كل يوم من أيام السنة ومغربه ، (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) ، على أن نخلق أمثل منهم وأطوع الله ، ورسوله (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ).

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) ، في باطلهم ، (وَيَلْعَبُوا) ، في دنياهم ، (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ، نسختها آية القتال.

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) ، أي القبور ، (سِراعاً) ، إلى إجابة الداعي ، (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) ، قرأ ابن عامر وحفص (نُصُبٍ) بضم النون والصاد ، وقرأ الآخرون بفتح النون وسكون الصاد ، يعنون إلى شيء منصوب ، يقال : فلان نصب عيني. وقال الكلبي : إلى علم ودراية. ومن قرأ بالضم. قال مقاتل والكسائي : يعني إلى أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. كقوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) قال الحسن : يسرعون إليها أيهم يستلمها أولا. (يُوفِضُونَ) ، أي يسرعون.

(خاشِعَةً) ، ذليلة خاضعة (أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) ، يغشاهم هوان ، (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ، يعني يوم القيامة.

سورة نوح

مكية [وهي ثمان وعشرون آية](١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨))

__________________

(١) زيد في المطبوع.

١٥٥

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) ، بأن أنذر قومك ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، المعنى : إنا أرسلناه لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا.

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢) ، أنذركم وأبيّن لكم. رسالة الله بلغة تعرفونها.

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) (٣) (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ، (مِنْ) صلة أي يغفر لكم ذنوبكم. وقيل : يعني ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان ، وذلك بعض ذنوبهم ، (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، أن يعافيكم إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم ، (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، يقول آمنوا قبل الموت ، تسلموا من العذاب ، فإن أجل الموت إذا جاء لا يؤخر ولا يمكنكم الإيمان.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) ، نفارا وإدبارا عن الإيمان.

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) ، إلى الإيمان بك ، (لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ، لئلا يسمعوا دعوتي ، (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) ، غطوا بها وجوههم لئلا يروني ، (وَأَصَرُّوا) ، على كفرهم. (وَاسْتَكْبَرُوا) ، عن الإيمان بك ، (اسْتِكْباراً).

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) (٨) ، معناه : بالدعاء. قال ابن عباس : بأعلى صوتي.

(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣))

(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) ، أي كررت الدعاء معلنا ، (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) ، قال ابن عباس : يريد الرجل بعد الرجل أكلمه سرا بيني وبينه ، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك.

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١١) ، وذلك أن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ، فهلكت أولادهم وأموالهم ومواشيهم ، فقال لهم نوح : استغفروا ربكم من الشرك ، أي استدعوا المغفرة بالتوحيد ، يرسل السماء عليكم مدرارا. وروى مطرف عن الشعبي أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج يستسقي بالناس ، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع ، فقيل له : ما سمعناك استسقيت؟ فقال : طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر ، ثم قرأ : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً).

(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) ، قال عطاء : يكثر أموالكم وأولادكم ، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١٣) ، قال ابن عباس ومجاهد : لا ترون لله عظمة. وقال سعيد بن جبير : ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته. وقال الكلبي : لا تخافون لله عظمة (١) والرجاء : بمعنى الخوف ، والوقار : العظمة ، اسم من التوقير وهو التعظيم. قال الحسن : لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. قال ابن

__________________

(١) في المطبوع «الله حق عظمته».

١٥٦

كيسان ؛ ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرا.

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٤) ، تارات ، حالا (١) بعد حال ، نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى تمام الخلق.

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) ، قال الحسن : يعني في السماء الدنيا ، كما يقال أتيت بني تميم وإنما أتى بعضهم ، وفلان متوار في دور (٢) بني فلان وإنما هو في دار بني واحدة. وقال عبد الله بن عمرو : إن الشمس والقمر وجوههما إلى السموات وضوء الشمس ونور القمر فيهن وأقفيتهما إلى الأرض. ويروي هذا عن ابن عباس.

(وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) ، مصباحا مضيئا.

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧) ، أراد مبدأ خلق أبي البشر آدم خلقه من الأرض ، والناس ولده ، قوله : (نَباتاً) اسم جعل في موضع المصدر أي إنباتا ، قال الخليل : مجازه فنبتم نباتا.

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) ، بعد الموت ، (وَيُخْرِجُكُمْ) ، منها يوم البعث أحياء ، (إِخْراجاً).

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) (١٩) ، فرشها وبسطها لكم.

(لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٢٠) ، طرقا واسعة.

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) ، لم يجيبوا دعوتي ، (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) ، يعني اتبع السفلة والفقراء القادة والرؤساء الذين هم لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا وعقوبة في الآخرة.

(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) (٢٢) ، أي كبيرا عظيما ، يقال : كبير وكبار ، بالتخفيف ، وكبار بالتشديد ، شدد للمبالغة ، وكلها بمعنى واحد كما يقال : أمر عجيب وعجاب وعجاب بالتشديد وهو أشد في المبالغة واختلفوا في مكرهم. قال ابن عباس : قالوا قولا عظيما. قال الضحاك : افتروا على الله [كذبا](٣) وكذبوا رسله. وقيل منع الرؤساء اتباعهم عن الإيمان بنوح وحرضوهم على قتله.

(وَقالُوا). لهم (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) ، أي لا تتركوا عبادتها ، (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا) ، قرأ أهل المدينة [ودا](٤) بضم الواو والباقون بفتحها ، (وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) ، هذه أسماء آلهتهم. قال محمد بن كعب : هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح ، فلما ماتوا كان لهم أتباع يقتدون بهم ويأخذون بعدهم مأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم : لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ، ففعلوا ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس : إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم ، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صور أولئك القوم من المسلمين.

[٢٢٧٢] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا

__________________

[٢٢٧٢] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ هشام هو ابن عبد الله ، ابن جريج هو عبد الملك بن سعيد العزيز ، عطاء هو ابن أبي رباح.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٤٩٢٠ عن إبراهيم بن موسى بهذا الإسناد.

(١) في المطبوع «حال».

(٢) في المخطوط «ديار».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

١٥٧

محمد بن إسماعيل ثنا إبراهيم بن موسى ثنا هشام عن ابن جريج وقال عطاء عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح [تعبد](١) في العرب بعده ، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.

وروي عن ابن عباس : أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب ، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب ، وكانت للعرب أصنام أخر ، فاللات كانت لثقيف ، والعزى لسليم وغطفان وجشم ، ومناة لقديد ، وإساف ونائلة وهبل لأهل مكة.

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) ، أي ضل بسبب الأصنام كثير من الناس كقوله عزوجل : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦] ، وقال مقاتل : أضل كبراؤهم كثيرا من الناس. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) ، هذا دعاء عليهم بعد ما أعلم الله نوحا أنهم لا يؤمنون ، وهو قوله : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦].

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) ، أي من خطيئاتهم ، و (ما) صلة ، وقرأ أبو عمرو (خَطاياهُمْ) وكلاهما جمع خطيئة ، (أُغْرِقُوا) ، بالطوفان ، (فَأُدْخِلُوا ناراً) ، قال الضحاك هي في حالة واحدة في الدنيا يغرقون من جانب ويحترقون من جانب ، وقال مقاتل : فأدخلوا نارا في الآخرة ، (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) ، لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله الواحد القهار.

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢٦) ، أحدا يدور في الأرض فيذهب ويجيء أصله من الدوران ، وقال القتيبي : إن أصله من الدار أي نازل دار.

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) ، قال ابن عباس والكلبي ومقاتل : كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير عليه ، (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ، قال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وغيرهم : إنما قال نوح هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة. وقيل : سبعين سنة وأخبر الله نوحا أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا فحينئذ دعا عليهم نوح فأجاب الله دعاءه ، وأهلكهم كلهم ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب لأن الله تعالى قال : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) [الفرقان : ٣٧] ، ولم يوجد التكذيب من الأطفال.

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) ، واسم أبيه لمك بن متوشلخ واسم أمه سمحاء بنت أنوش وكانا مؤمنين ، (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) ، داري ، (مُؤْمِناً) ، وقال الضحاك والكلبي : مسجدي. وقيل : سفينتي.

__________________

(١) سقط من المطبوع.

١٥٨

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ، هذا عام في كل من آمن بالله وملائكته وصدق الرسل ، (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) ، هلاكا ودمارا فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم [عن آخرهم](١).

سورة الجن

مكية [وهي ثمان وعشرون آية](٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤))

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) ، وكانوا تسعة من جنس نصيبين. وقيل : سبعة ، استمعوا قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرنا خبرهم في سورة الأحقاف [٢٩] (فَقالُوا) ، لما رجعوا إلى قومهم (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) ، قال ابن عباس : بليغا ، أي قرآنا ذا عجب يعجب منه لبلاغته.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) ، يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان ، (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً).

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) ، قرأ أهل الشام والكوفة غير أبي بكر عن عاصم (وَأَنَّهُ تَعالى) بفتح الهمزة وكذلك ما بعده إلى قوله : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) ، وقرأ الآخرون بكسرهن وفتح أبو جعفر منها وأنه وهو ما كان مردودا على الوحي ، وكسر ما كان حكاية عن الجن ، والاختيار كسر الكل لأنه من قول الجن لقومهم ، فهو معطوف على قوله : (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) ، وقالوا : (وَأَنَّهُ تَعالى) ومن فتح [رده](٣) على قوله : (فَآمَنَّا بِهِ) وآمنا بكل ذلك ، ففتح أن لوقع الإيمان عليه ، (جَدُّ رَبِّنا) جلال ربنا وعظمته ، قاله مجاهد وعكرمة وقتادة ، يقال : جد الرجل أي أعظم ، ومنه قول أنس : إذا كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا ، أي عظم قدره ، وقال السدي : (جَدُّ رَبِّنا) أي أمر ربنا : وقال الحسن : غنى ربنا. ومنه قيل للجد : حظ ، ورجل مجدود. وقال ابن عباس : قدرة ربنا. قال الضحاك : فعله. وقال القرظي : آلاؤه ونعماؤه على خلقه. وقال الأخفش : علا ملك ربنا. (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) ، قيل : تعالى جل جلاله وعظمته عن أن يتخذ صاحبة وولدا.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) ، جاهلنا ، قال مجاهد وقتادة : هو إبليس ، (عَلَى اللهِ شَطَطاً) ، كذبا وعدوانا وهو وصفه بالشريك والولد.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩))

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) سقط من المطبوع.

١٥٩

(وَأَنَّا ظَنَنَّا) ، حسبنا ، (أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) ، قرأ يعقوب «تقوّل» بفتح الواو وتشديدها (عَلَى اللهِ كَذِباً) ، أي كنا نظنهم صادقين في قولهم إن لله صاحبة وولدا حتى سمعنا القرآن.

قال الله تعالى (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) ، وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في أرض قفرة قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح.

[٢٢٧٣] أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا ابن فنجويه ثنا عبد الله بن يوسف ابن أحمد بن مالك حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق المروزي حدثنا موسى بن سعيد بن النعمان بطرسوس (١) ثنا فروة بن أبي المغراء (٢) الكندي ثنا القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي سائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم ، فوثب الراعي فقال : يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه ، يقول : يا سرحان أرسله فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة ، فأنزل الله عزوجل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) ، (فَزادُوهُمْ) ، يعني زاد الإنس والجن باستعاذتهم بقادتهم ، (رَهَقاً) ، قال ابن عباس : إثما وقال مجاهد : طغيانا. وقال مقاتل : غيّا. قال الحسن : شرا. قال إبراهيم : عظمة وذلك أنهم كانوا يزدادون بهذا التعوذ طغيانا ، يقولون : سدنا الجن والإنس ، والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم.

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) ، يقول الله تعالى إن الجن ظنوا ، (كَما ظَنَنْتُمْ) ، يا معشر الكفار من الإنس ، (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) ، بعد موته.

(وَأَنَّا) ، يقول الجن ، (لَمَسْنَا السَّماءَ) ، قال الكلبي : السماء الدنيا ، (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) ، من الملائكة (وَشُهُباً) ، من النجوم.

(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها). من السماء ، (مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) ، أي كنا نستمع ، (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) ، أرصد له ليرمي به ، قال ابن قتيبة : إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة ، وكانوا يسترقون في بعض الأحوال ، فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من

__________________

[٢٢٧٣] ـ ضعيف جدا ، والمتن منكر.

ـ إسناده ضعيف جدا ، فيه عبد الرحمن بن إسحاق ، وهو ضعيف متروك ، وأبوه إسحاق بن الحارث ، ضعفه أحمد وغيره ، ولم يرو عنه سوى ابنه.

ـ وقال ابن حبان : منكر الحديث ، فلا أدري التخليط منه أو من ابنه.

ـ وأخرجه العقيلي ١ / ١٠١ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية ، والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٣٦٤ من طريق فروة به.

ـ وأخرجه الطبراني في «الكبير» ١٩ / ١٩١ ـ ١٩٢ وأبو الشيخ في «العظمة» ١١٢٢ من طريق القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق به.

ـ وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٢٩ وقال : وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي ، وهو ضعيف.

ـ والظاهر أنه خفي عليه حال أبيه إسحاق ، وقد ضعفه أحمد وغيره كما نقل الذهبي في «الميزان» ١ / ١٨٩.

ـ الخلاصة : الإسناد ضعيف جدا ، والمتن منكر.

(١) تصحف في المطبوع «بن برطوس».

(٢) تصحف في المطبوع «المفر».

١٦٠