تفسير البغوي - ج ٥

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٥

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

تصديق زيد وتكذيب عبد الله بن أبي فلما نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأذن زيد وقال : «يا زيد إن الله قد صدقك وأوفى بإذنك» وكان عبد الله بن أبي أتى بقرب المدينة ، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله حتى أناخ [راحلته](١) على مجامع طريق (٢) المدينة ، فلما جاء عبد الله بن أبي قال : [ما](٣) وراءك ، قال : ما لك ويلك؟ قال : لا والله لا تدخلها أبدا إلا بإذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولتعلمن اليوم من الأعزّ من الأذل ، فشكا عبد الله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما صنع ابنه ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن خل عنه حتى يدخل ، فقال : أما إذا جاء أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنعم ، فدخل فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات ، قالوا : فلما نزلت الآية وبان كذب عبد الله بن أبي قيل له : يا أبا حباب إنه قد نزل فيك أي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن فآمنت ، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي ، إلا أن أسجد لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) الآية.

ونزل : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ، يتفرقوا ، (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فلا يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته ، (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ، أن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) ، من (٤) غزوة بني المصطلق ، (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ، فعزة الله قهره من دونه ، وعزّة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها ، وعزّة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم. (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ولو علموا ما قالوا هذه المقالة.

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ) ، لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) قال المفسرون يعني الصلوات الخمس نظيره قوله : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧] (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي من شغله ماله وولده عن ذكر الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) ، قال ابن عباس : يريد زكاة الأموال ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ، فيسأل الرجعة ، (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) ، هلا أخرتني أمهلتني ، وقيل : (لا) صلة فيكون الكلام بمعنى التمني أي لو أخرتني ، (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) ، فأتصدق وأزكي مالي ، (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، أي من المؤمنين نظيره ، قوله تعالى : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) [الرعد : ٢٣] ، هذا قول مقاتل وجماعة ، وقالوا : نزلت الآية في المنافقين. وقيل : نزلت الآية في المؤمنين. والمراد بالصلاح هنا الحج.

وروى الضحاك وعطية عن ابن عباس أنه قال : ما من أحد يموت وكان له مال لم يؤد زكاته وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت. وقرأ هذه الآية. وقال : (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).

قرأ أبو عمرو «وأكون» بالواو ونصب النون على جواب التمني وعلى لفظ فأصدق ، قال : إنما حذفت الواو من المصحف اختصارا ، وقرأ الآخرون وأكن بالجزم عطفا على قوله فأصدق لو لم يكن فيه الفاء لأنه لو لم

__________________

(١) سقط من المطبوع.

(٢) في المخطوط «طرق».

(٣) سقط من المطبوع.

(٤) تصحف في المطبوع «عن».

١٠١

يكن فيه الفاء لكان جزما يعني إن أخرتني أصدق وأكن ولأنه مكتوب في المصحف بحذف الواو.

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١) قرأ أبو بكر يعملون بالياء وقرأ الآخرون بالتاء.

[والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه](١) ،

سورة التغابن

وقال عطاء هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) إلى آخرهن (٢) [مدنية] ، وهي ثماني عشرة آية.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢) ، قال ابن عباس : إن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا.

[٢٢١٧] وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الغلام الذي قتله الخضر عليه‌السلام طبع كافرا».

وقال جلّ ذكره (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧].

[٢٢١٨] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا

__________________

[٢٢١٧] ـ تقدم في سورة الكهف عند آية : ٧٤.

[٢٢١٨] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ حماد هو ابن زيد.

ـ وهو في «شرح السنة» ٦٩ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٦٥٩٥ عن سليمان بن حرب بهذا الإسناد.

(١) زيادة عن المخطوط (ب)

(٢) زيادة عن المخطوط (أ)

١٠٢

محمد بن إسماعيل ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد عن عبيد (١) الله بن أبي بكر [بن أنس](٢) عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وكل الله بالرحم ملكا فيقول : أي ربّ نطفة ، أي ربّ علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال : يا رب أذكر أم أنثى ، أشقي أم سعيد؟ فما الرزق فما الأجل؟ فيكتب ذلك (٣) في بطن أمه».

وقال جماعة : معنى الآية إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، لأن الله تعالى ذكر الخلق ثم وصفهم بفعلهم ، فقال (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، كما قال الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [النور : ٤٥] فالله خلقهم والمشي فعلهم ثم اختلفوا في تأويلها.

فروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : فمنكم كافر في حياته مؤمن في العاقبة ، ومنكم مؤمن في حياته كافر في العاقبة. وقال عطاء بن أبي رياح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب. وقيل : فمنكم كافر بأن الله تعالى خلقه وهو مذهب الدهرية ، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه. وجملة القول فيه : أن الله خلق الكافر ، وكفره فعلا له وكسبا ، وخلق المؤمن ، وإيمانه فعلا له وكسبا ، فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته. فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدره عليه وعلمه منه ، والكافر بعد خلق الله تعالى إياه يختار الكفر لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدره عليه وعلمه منه ، وهذا طريق أهل السنة والجماعة من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

(وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ) ، يخاطب كفار مكة ، (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) ، يعني الأمم الخالية ، (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) ، يعني ما لحقهم من العذاب في الدنيا ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، في الآخرة.

(ذلِكَ) ، العذاب ، (بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) ، ولم يقل يهدينا لأن البشر وإن كان لفظه واحد فإنه في معنى الجمع ، وهو اسم الجنس لا واحد له من لفظه ، وواحده إنسان ، ومعناه ينكرون ويقولون آدمي مثلنا يهدينا ، (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) ، عن إيمانهم ، (وَاللهُ غَنِيٌ) ، عن خلقه ، (حَمِيدٌ) ، في أفعاله ، ثم أخبر عن إنكارهم البعث.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ

__________________

ـ وأخرجه البخاري ٣١٨ و ٣٣٣٣ ومسلم ٢٦٤٦ من طريق حماد بن زيد به.

(١) تصحف في المطبوع «عبيد».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «كذلك».

١٠٣

اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))

فقال جلّ ذكره : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ) ، يا محمد ، (بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) ، وهو القرآن ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) ، يعني يوم القيامة يجمع فيه أهل السموات والأرض ، (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) ، وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ ، والمراد بالمغبون من غبن عن أهله ومنازله في الجنة فيظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان ، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، قرأ أهل المدينة والشام نكفر وندخله ، وفي سورة الطلاق [١١] ندخله بالنون فيهن وقرأ الآخرون بالياء ، (خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٠).

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، بإرادته وقضائه ، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) ، فيصدق أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله ، (يَهْدِ قَلْبَهُ) ، يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلّم لقضائه ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٢).

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).

قال ابن عباس : هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا إلى المدينة فمنعهم أزواجهم وأولادهم ، وقالوا صبرنا على إسلامكم فلا نصبر على فراقكم فأطاعوهم ، وتركوا الهجرة ، فقال تعالى (فَاحْذَرُوهُمْ) (١) أن تطيعوهم وتدعو الهجرة ، (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، هذا فيمن أقام على الأهل والولد ولم يهاجر فإذا هاجر رأى الذين سبقوه بالهجرة وقد فقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجته وولده الذين ثبطوه عن الهجرة ، وإن لحقوا في دار الهجرة لم ينفق عليهم ولم يصبهم بخير ، فأمرهم الله عزوجل بالعفو عنهم والصفح.

وقال عطاء بن يسار : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي : كان ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه ، وقالوا إلى من تدعنا فيرق لهم ويقيم ، فأنزل الله (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) بحملهم إياكم على ترك الطاعة ، فاحذروهم أن تقبلوا منهم ، (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) فلا تعاقبوهم على خلافهم إياكم فالله غفور رحيم.

__________________

(١) سقط من المخطوط.

١٠٤

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، بلاء واختبار وشغل عن الآخرة ، يقع بسببها الإنسان في العظائم ومنع الحق وتناول الحرام ، (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) ، قال بعضهم : لما ذكر الله العداوة أدخل فيه من للتبعيض ، فقال : إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم لأن كلهم ليسوا بأعداء ، ولم يذكر من في قوله : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) لأنها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب. وكان عبد الله بن مسعود يقول : لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس منكم أحد يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن ليقل : اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.

[٢٢١٩] أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري أنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الفضل الفقيه أنا أبو الحسن أحمد بن إسحاق الفقيه ثنا أحمد بن بكر بن يوسف ثنا علي بن الحسين (١) أنا الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة قال سمعت أبي بريدة يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطبنا فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال : «صدق الله (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما».

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، أي أطقتم ، هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) ، الله ورسوله ، (وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) ، أي أنفقوا من أموالكم خيرا لأنفسكم. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) حتى يعطي حق الله من ماله (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨).

__________________

[٢٢١٩] ـ إسناده حسن ، علي بن الحسين بن واقد صدوق ، روى له مسلم في المقدمة ، وأبوه وثقه غير واحد ، وروى له مسلم لكن استنكر أحمد بعض حديثه. فالحديث حسن ، والله أعلم.

ـ أخرجه الترمذي ٣٧٧٤ والحاكم ١ / ٢٨٧ وابن حبان ٦٠٣٩ والبيهقي ٣ / ٢١٨ من طرق عن علي بن الحسين بن واقد به.

ـ وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، مع أن علي بن الحسين روى له مسلم في المقدمة فقط ، لكنه توبع.

ـ وأخرجه أبو داود ١١٠٩ والنسائي ٣ / ١٠٨ و ١٩٢ وابن ماجه ٣٦٠٠ وابن أبي شيبة ٨ / ٣٦٨ و ١٢ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠ وأحمد ٥ / ٣٥٤ وابن خزيمة ١٠٨٢ وابن حبان ٦٠٣٨ والبيهقي ٦ / ١٦٥ من طرق عن الحسين بن واقد.

ـ وانظر «أحكام القرآن» ٢١٣٤ و «الجامع لأحكام القرآن» ٦٠٠٥ و «الكشاف» ١١٩١ بتخريجنا ، والله الموفق.

(١) تصحف في المطبوع «الحسن».

١٠٥

سورة الطلاق

مدنية [وهي اثنتا عشرة آية](١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، نادى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خاطب أمته لأنه السيد المقدم ، فخطاب الجميع معه ، وقيل : مجازه يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء ، أي إذا أردتم تطليقهن ، كقوله عزوجل : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨] أي إذا أردت القراءة. (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ، أي لطهرهن الذي يحصينه (٢) من عدتهن ، وكان ابن عباس وابن عمر يقرءان (فطلقوهن في قبل عدتهن) ، نزلت هذه الآية في عبد الله بن عمر كان قد طلق امرأته في حال الحيض.

[٢٢٢٠] أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنا زاهر بن أحمد الفقيه أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فقال : مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى

__________________

[٢٢٢٠] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ أبو مصعب هو أحمد بن أبي بكر.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٣٤٤ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «الموطأ» ٢ / ٥٧٦ عن نافع به.

ـ وأخرجه البخاري ٥٢٥١ ومسلم ١٤٧١ وأبو داود ٢١٧٩ والنسائي ٦ / ١٣٨ والشافعي ٢ / ٣٢ ـ ٣٣ وأحمد ٢ / ٦٣ والدارمي ٢ / ١٦٠ وعبد الرزاق ١٠٩٥٢ والبيهقي ٧ / ٣٢٣ و ٤١٤ من طرق عن مالك به.

ـ وأخرجه مسلم ١٤٧١ ح ٢ والنسائي ٦ / ٢١٢ ـ ٢١٣ و ١٣٧ ـ ١٣٨ وابن ماجه ٢٠١٩ وأحمد ٢ / ١٠٢ والطيالسي ١٨٥٣ وابن أبي شيبة ٥ / ٢ ـ ٣ والطحاوي في «المعاني» ٣ / ٥٣ وابن الجارود ٧٣٤ وابن حبان ٤٢٦٣ والدارقطني ٤ / ٧ والبيهقي ٧ / ٣٢٤ من طرق عبيد الله بن عمر بن نافع به.

ـ وأخرجه البخاري ٥٣٣٢ ومسلم ١٤٧١ ح ٣ وأبو داود ٢١٨٠ والنسائي ٦ / ٢١٣ وأحمد ٢ / ٦ و ٦٤ و ١٢٤ وعبد الرزاق ١٠٩٥٣ و ١٠٩٥٤ والطيالسي ١٨٥٣ والطحاوي ٣ / ٥٣ والدارقطني ٤ / ٩ والبيهقي ٧ / ٣٢٤ من طرق عن نافع أن ابن عمر طلق امرأته ، وهي حائض ، فسأل عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن يرحبها ، ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر ثم يطلقها قبل أن يمسها ....».

(١) زيد في المطبوع.

(٢) في المطبوع «بالذي يقضينه».

١٠٦

تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.

[٢٢٢١] ورواه سالم عن ابن عمر [أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر بن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١) فقال : «فمره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا».

[٢٢٢٢] ورواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر : ولم يقولا : (ثم تحيض ثم تطهر).

[٢٢٢٣] أخبرنا عبد الوهّاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز [بن](٢) أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا مسلم وسعيد بن سالم عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزّة يسأل عبد الله بن عمر وأبو الزبير يسمع فقال : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا فقال ابن عمر : طلق عبد الله بن عمر امرأته حائضا؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك» ، قال ابن عمر : وقال الله عزوجل : «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن أو لقبل عدتهن» الشافعي يشك.

[٢٢٢٤] ورواه حجاج بن محمد عن ابن جريج. وقال قال ابن عمر : وقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن».

(فصل) اعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه.

لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإن شاء طلق قبل أن يمس» والطلاق السني أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه ، وهذا في حق امرأة تلزمها العدة بالأقراء ، فأما إذا طلق غير المدخول بها في حال الحيض أو طلق الصغيرة التي لم تحض قط أو الآيسة بعد ما جامعها ، أو طلق الحامل بعد ما جامعها ، أو في حال رؤية الدم لا يكون

__________________

[٢٢٢١] ـ صحيح. أخرجه مسلم ٤١٧١ ح ٥ والترمذي ١١٧٦ وأبو داود ٢١٨١ والنسائي ٦ / ١٤١ وابن ماجه ٢٠٢٣ وأحمد ٢ / ٢٦ و ٥٨ و ٦١ و ٨١ والدارمي ٢ / ١٦٠ والطحاوي ٣ / ٥١ وأبو يعلى ٥٤٤٠ وابن الجارود ٧٣٦ والدارقطني ٤ / ٦ والبيهقي ٧ / ٣٢٥ من طرق عن وكيع عن سفيان عن محمد بن عبد الرحمن عن سالم به.

[٢٢٢٢] ـ رواية يونس بن جبير هي عند البخاري ٥٢٥٨ و ٥٣٣٣ ومسلم ١٤٧١ ح ٩ و ١٠ وأبي داود ٢١٨٤ والترمذي ١٠٧٥ والنسائي ٦ / ١٤١ وابن ماجه ٢٠٢٢ وأحمد ٢ / ٤٣ و ٥١ و ٧٩ وعبد الرزاق ١٠٩٥٩ والطيالسي ١٦٠٣ والطحاوي ٣ / ٥٢ والبيهقي ٧ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

ـ ورواية أنس بن سيرين هي عند البخاري ٥٢٥٢ ومسلم ١٤٧١ ح ١٢ وأحمد ٢ / ٦١ و ٧٤ و ٧٨ والطحاوي ٣ / ٥١ والبيهقي ٧ / ٣٢٦.

[٢٢٢٣] ـ صحيح. رجاله ثقات سوى مسلم وهو ابن خالد الزنجي ، لكن تابعه سعيد بن سالم ، وهو صدوق.

ـ الربيع هو ابن سليمان ، الشافعي هو محمد بن إدريس ، ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز ، أبو الزبير هو محمد بن مسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٣٤٥ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «مسند الشافعي» ٢ / ٣٣ ـ ٣٤ عن مسلم وسعيد بن سالم بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ١٤٧١ ح ١٤ والنسائي ٦ / ٣٩ أحمد ٢ / ٨٠ والطحاوي ٣ / ٥١ والبيهقي ٧ / ٣٢٣ من طريق ابن جريج به.

[٢٢٢٤] ـ هذه الرواية عند مسلم برقم : ١٤٧١ ح ١٤.

(١) سقط من المطبوع.

(٢) سقط من المطبوع.

١٠٧

بدعيا ولا سنة ولا بدعة في طلاق هؤلاء (١) لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» والخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه لا يكون بدعيا لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها ، ولو لا جوازه في جميع الأحوال لا شبه أن يتعرف الحال ، ولو طلق امرأته في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصدا يعصي الله تعالى.

ولكن يقع الطلاق لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر ابن عمر بالمراجعة ولو لا وقوع الطلاق لكان لا يأمره بالمراجعة ، وإذا راجعها في حال الحيض يجوز أن يطلقها في الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس.

كما رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر ، وما رواه نافع عن ابن عمر : «ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر» فاستحباب استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا يكون مراجعته إياها للطلاق كما يكره النكاح للطلاق ، ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث عند بعض أهل العلم ، حتى لو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثا لا يكون بدعيا وهو قول الشافعي وأحمد ، وذهب بعضهم إلى أنه بدعة وهو قول مالك وأصحاب الرأي.

قوله عزوجل : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) ، أي عدد أقرائها فاحفظوها ، قيل : أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثا. وقيل : للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى ، (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) ، أراد به إذا كان المسكن الذي طلقها فيه للزوج لا يجوز أن يخرجها منه ، (وَلا يَخْرُجْنَ) ، ولا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض عدتها ، فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت ، فإن وقعت ضرورة بأن خافت هدما أو غرقا لها أن تخرج إلى منزل آخر ، وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن فيجوز لها الخروج نهارا ولا يجوز ليلا.

[٢٢٢٥] فإن رجالا استشهدوا بأحد فقالت نساؤهم : نستوحش في بيوتنا ، فأذن لهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتحدثن عند إحداهن ، فإذا كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها.

[٢٢٢٦] وأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخالة جابر حين طلقها زوجها أن تخرج لجذاذ نخلها.

وإذا لزمتها العدة في السفر تعتد في أهلها ذاهبة وجائية ، والبدوية تتبوّأ حيث يتبوأ أهلها في العدة ، لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ، قال ابن عباس : الفاحشة المبينة أن تبدو (٢) على أهل زوجها فيحل إخراجها ، وقال جماعة : أراد بالفاحشة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ، ثم ترد إلى منزلها ، ويروى ذلك عن ابن مسعود ، وقال قتادة : معناه إلا أن يطلقها على نشوزها فلها أن تتحول من بيت زوجها. والفاحشة : النشوز. وقال ابن عمر والسدي : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) ، يعني ما ذكر من سنة الطلاق وما بعدها ، (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ

__________________

[٢٢٢٥] ـ لم أقف عليه بعد.

[٢٢٢٦] ـ صحيح. أخرجه مسلم ١٤٨٣ وأبو داود ٢٢٩٧ والنسائي ٦ / ٢٠٩ وابن ماجه ٢٠٣٤ والحاكم ٢ / ٢٠٧ من طرق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله قال : طلقت خالتي ، فأرادت أن تجذّ نخلها ، فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «بلى فجدّي نخلك ، فإنك عسى أن تصدقي ، أو تفعلي معروفا» لفظ مسلم.

(١) زيد في المطبوع.

(٢) تصحف في المطبوع «تبدأ». وفي المخطوط «تبدو» والمثبت عن الطبري ٣٤٢٥٧ وهو من البذاء ، الكلام القبيح.

١٠٨

يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ، يوقع في قلب الزوج مراجعتها بعد الطلقة والطلقتين ، وهذا يدل على أن المستحب أن يفرق الطلقات ، ولا يوقع الثلاث دفعة واحدة حتى إذا ندم أمكنه المراجعة.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢))

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، أي قربن من انقضاء عدتهن ، (فَأَمْسِكُوهُنَ) ، أي راجعوهن ، (بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتبين منكم ، (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، على الرجعة أو الفراق أمر بالإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق ، (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) ، أيها الشهود ، (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً).

قال عكرمة والشعبي والضحاك : ومن يتق الله فيطلق للسنة يجعل له مخرجا إلى الرجعة.

[٢٢٢٧] وأكثر المفسرين قالوا : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنا له يسمى مالكا فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أسر العدو ابني وشكا إليه أيضا الفاقة ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتق الله واصبر ، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» ، ففعل الرجل ذلك ، فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو ، فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه.

[٢٢٢٨] وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : فغفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى

__________________

[٢٢٢٧] ـ خبر حسن أو يشبه الحسن بطرقه وشواهده.

ـ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٢٧ و «الوسيط» ٤ / ٣١٣ نقلا عن المفسرين بدون إسناد.

ـ وله شاهد عن ابن مسعود ، وسيأتي.

ـ وورد أيضا من حديث جابر أخرجه الحاكم ٢ / ٤٩٢ والواحدي ٨٢٨ وصححه ، وتعقبه الذهبي بقوله : بل منكر ، وعباد رافضي جبل ، وعبيد متروك قاله الأزدي.

ـ وورد من مرسل سالم بن أبي الجعد ، أخرجه الطبري ٣٤٢٨٨ و ٣٤٢٨٩ وإسناده حسن إلى سالم.

ـ وورد من مرسل السدي ، أخرجه الطبري ٣٤٢٨٧ وإسناده لا بأس به.

ـ رووه بألفاظ متقاربة ، والمعنى متحد ، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها.

ـ وانظر ما يأتي.

[٢٢٢٨] ـ أخرجه الثعلبي كما في «تخريج الكشاف» ٤ / ٥٥٦ من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره نحوه ولم يسمّ الابن ، وهذا إسناد واه بمرة ، الكلبي متروك متهم ، وأبو صالح ، ضعفه غير واحد.

ـ وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» ٩ / ٨٤ من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس فذكره مطوّلا ، وهذا إسناد واه بمرة ، جويبر متروك ، والضحاك لم يلق ابن عباس.

ـ وورد عن ابن إسحاق معضلا ، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٤ / ٤٤٨ ـ ٤٤٩ ، وانظر ما بعده.

ـ وورد من حديث ابن مسعود.

ـ أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٦ / ١٠٦ ، ورجاله ثقات ، لكنه منقطع ، أبو عبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود.

ـ وكرره البيهقي ٦ / ١٠٧ عن أبي عبيدة مرسلا ، وسنده قوي.

ـ الخلاصة : هو حديث حسن أو يقرب من الحسن بمجموع طرقه وشواهده ، وأحسن ما روي فيه حديث ابن مسعود ، ليس له علة إلا الانقطاع ، فهو ضعيف فحسب ، وإذا انضم إليه مرسل سالم ومرسل السدي ، صار حسنا كما هو مقرر في هذا الفن ، لكن في المتن بعض الاضطراب ، لذا قلت : هو حسن أو يشبه الحسن ، والله أعلم.

١٠٩

أبيه ، وهي أربعة آلاف شاة. فنزلت : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) في ابنه.

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣))

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ، ما ساق من الغنم.

[٢٢٢٩] وقال مقاتل : أصاب غنما ومتاعا ثم رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره الخبر ، وسأله أيحل له أن يأكل ما أتى به ابنه؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، فأنزل الله هذه الآية.

قال ابن مسعود : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) هو أن يعلم أنه من قبل الله وأن الله رازقه. وقال الربيع بن خثيم : (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من كل شيء ضاق على الناس. وقال أبو العالية : (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من كل شدة. وقال الحسن : (مَخْرَجاً) عما نهاه الله عنه.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ، يتق الله فيما نابه كفاه ما أهمه.

[٢٢٣٠] وروينا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا».

(إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) ، قرأ طلحة بن مصرف وحفص عن عاصم (بالِغُ أَمْرِهِ) بالإضافة ، وقرأ الآخرون (بالِغُ) بالتنوين (أَمْرِهِ) نصب ، أي منفذ أمره ممض في خلقه قضاءه. (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) ، أي جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه. قال مسروق : في هذه الآية (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) ، توكل عليه أو لم يتوكل ، غير أن المتوكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا.

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))

قوله عزوجل : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) ، فلا يرجون أن يحضن ، (إِنِ ارْتَبْتُمْ) ، أي شككتم فلم تدروا ما عدتهن ، (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) ، قال مقاتل : لما نزلت : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] ، قال خلاد بن النعمان بن القيس الأنصاري : يا رسول الله فما عدة من لا تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى؟ فأنزل الله : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) يعني القواعد اللائي قعدن عن الحيض (إِنِ ارْتَبْتُمْ) شككتم في حكمهن (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ). (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) ، يعني الصغائر اللائي لم يحضن فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر أما الشابة التي كانت تحيض فارتفع حيضها قبل بلوغها سن الآيسات ، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن عدتها لا تنقضي حتى يعاودها الدم فتعتد بثلاثة أقراء أو تبلغ سن الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر ، وهو قول عثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود ، وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي وأصحاب الرأي ، وحكي عن عمر : أنها تتربص تسعة (١)

__________________

[٢٢٢٩] ـ ذكره المصنف هاهنا تعليقا عن مقاتل ، وإسناده إليه أول الكتاب ، وهذا معضل ، وانظر ما قبله.

ـ وانظر «الكشاف» ١٢٠١ و «الجامع لأحكام القرآن» ٦٠٢١ و «فتح القدير» ٢٥٣٦ بتخريجنا ، ولله الحمد والمنة.

[٢٢٣٠] ـ تقدم في سورة آل عمران ، عند آية : ١٦٠.

(١) في المخطوط «أربعة» والمثبت عن المطبوع وط والقرطبي ١٨ / ١٤٧ بتحقيقي.

(٢) في المخطوط «أربعة» والمثبت عن المطبوع وط والقرطبي ١٨ / ١٤٧ بتحقيقي.

١١٠

أشهر فإن لم تحض تعتد بثلاثة أشهر وهو قول مالك. وقال الحسن : تتربص سنة فإن لم تحض تعتد بثلاثة أشهر (٢). وهذا كله في عدة الطلاق ، أما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشر سواء كانت ممن تحيض أو لا تحيض ، وأما الحامل فعدتها بوضع الحمل سواء طلقها زوجها أو مات عنها لقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ).

[٢٢٣١] أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان أنا الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بليال فمر بها أبو السنابل بن بعكك فقال : قد تصنعت للأزواج إنها أربعة أشهر وعشر ، فذكرت ذلك سبيعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «كذب أبو السنابل ، أو ليس كما قال أبو السنابل ، قد حللت فتزوجي».

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) ، أي يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة.

(ذلِكَ) ، يعني ما ذكر من الأحكام ، (أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً).

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦))

(أَسْكِنُوهُنَ) ، يعني مطلقات نسائكم (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) ، (مِنْ) صلة أي أسكنوهن حيث سكنتم ، (مِنْ وُجْدِكُمْ) ، سعتكم وطاقتكم يعني إن كان موسرا يوسع عليها في المسكن والنفقة ، وإن كان فقيرا فعلى قدر الطاقة ، (وَلا تُضآرُّوهُنَ) ، لا تؤذوهن ، (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) ، مساكنهن فيخرجن ، (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ، فيخرجن من عدتهن.

فصل

اعلم أن المعتدة الرجعية تستحق على الزوج النفقة والسكنى ما دامت في العدة وتعني بالسكنى مئونة السكنى فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكا للزوج يجب على الزوج أن يخرج منها ويترك الدار لها مدة عدتها ، وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة وإن كانت عارية ورجع المعير فعليه أن يكتري لها دارا تسكنها ، فأما المعتدة البائنة بالخلع أو بالطلقات الثلاث أو باللعان فلها السكنى حاملا كانت أو حائلا عند أكثر أهل العلم. روي عن ابن عباس أنه قال : لا سكنى لها إلا أن تكون حاملا وهو قول الحسن وعطاء والشعبي.

__________________

[٢٢٣١] ـ صحيح ، رجاله ثقات ، الشافعي ثقة إمام ، وقد توبع من دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

ـ سفيان هو ابن عيينة ، الزهري هو محمد بن مسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٣٨١ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «سنن الشافعي» ٢ / ٥١ ـ ٥٢ عن سفيان بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٥٣١٩ و ٥٣٢٠ ومسلم ١٤٨٤ وأبو داود ٢٣٠٦ والنسائي ٦ / ١٩٤ و ١٩٦ وابن ماجه ٢٠٢٨ ومالك ٢ / ٥٩٠ وأحمد ٦ / ٤٣٢ وابن حبان ٤٢٩٤ وعبد الرزاق ١١٧٢٢ والطبراني ٢٤ / (٧٤٥ ـ ٧٥٠) والبيهقي ٧ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩ من طرق عن الزهري به بألفاظ متقاربة.

١١١

واختلفوا في نفقتها فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها إلا أن تكون حاملا [روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وعطاء والشعبي](١) ، وبه قال الشافعي وأحمد ومنهم من أوجبها بكل حال روي ذلك عن ابن مسعود ، وهو قول إبراهيم النخعي وبه قال الثوري وأصحاب الرأي وظاهر القرآن يدل على أنها لا تستحق إلا أن تكون حاملا لأن الله تعالى قال : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) والدليل عليه من جهة السنة.

[٢٢٣٢] ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن (٢) عبد الرحمن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب بالشام فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته ، فقالت : والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك له ، فقال لها : «ليس لك عليه نفقة» وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال : «تلك امرأة يغشاها أصحابي فاعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني» قالت : فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد» قالت فكرهته ، ثم قال : «انكحي أسامة بن زيد» فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به.

واحتج من لم يجعل لها السكنى بحديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرها أن تعتد في بيت عبد الله ابن أم مكتوم ولا حجة فيه.

[٢٢٣٣] لما روي عن عائشة أنها قالت : كانت فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها.

__________________

[٢٢٣٢] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ أبو مصعب هو أحمد بن أبي بكر.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٣٦٨ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «الموطأ» ٢ / ٥٨٠ عن عبد الله بن يزيد بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ١٤٨٠ ح ٣٦ وأبو داود ٢٢٨٤ والنسائي ٦ / ٧٥ ـ ٧٦ وأحمد ٦ / ٤١٢ والشافعي ٢ / ١٨ ـ ١٩ و ٥٤ وابن حبان ٤٢٩٠ ابن الجارود ٧٦٠ والطبراني ٢٤ / (٩١٣) والبيهقي ٧ / ١٣٥ و ١٧٧ و ١٨١ و ٤٧١ من طرق عن مالك به.

ـ وأخرجه مسلم ١٤٨٠ ح ٣٨ وأبو داود ٢٢٨٥ و ٢٢٨٦ و ٢٢٨٧ والنسائي ٦ / ١٤٥ والطبراني ٢٤ / (٩٢٠) وابن حبان ٤٢٥٣ والبيهقي ٧ / ١٧٨ من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة به.

ـ وأخرجه مسلم ١٤٨٠ ح ٤٨ والنسائي ٦ / ١٥٠ والترمذي ١١٣٥ وابن ماجه ٢٠٣٥ وأحمد ٦ / ٤١١ وابن حبان ٤٢٥٤ والطبراني ٢٤ / (٩٢٩) والبيهقي ٧ / ١٣٦ و ٤٧٣ من طرق عن سفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم عن فاطمة بنت قيس به مطوّلا ومختصرا.

[٢٢٣٣] ـ حسن. أخرجه أبو داود ٢٢٩٢ من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه قال : لقد عابت ذلك عائشة أشد العيب ـ يعني حديث فاطمة بنت قيس ـ وقالت : إن فاطمة ـ كانت في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها ، فلذلك رخّص لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ـ وإسناده حسن لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد.

ـ وعلقه البخاري في «صحيحه» بإثر ٥٣٢٦.

ـ ويشهد له رواية مسلم ١٤٨٢ عن فاطمة بنت قيس فإن فيه : «قالت : أخاف أن يقتحم علي».

(١) سقط من المخطوط.

(٢) تصحف في المطبوع «عن».

١١٢

وقال سعيد بن المسيب : إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها وكان للسانها ذرابة أما المعتدة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملا ، والمعتدة عن وفاة الزوج لا نفقة لها حاملا كانت أو حائلا عند أكثر أهل العلم.

وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أن لهذه النفقة إن كانت حاملا من التركة حتى تضع ، وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري ، واختلفوا في سكناها وللشافعي رضي الله عنه فيه قولان أحدهما لا سكنى لها بل تعتد حيث تشاء ، وهو قول علي وابن عباس وعائشة ، وبه قال عطاء والحسن وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه ، والثاني : لها السكنى وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر ، وبه قال مالك وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق ، واحتج من أوجب لها السكنى بما.

[٢٢٣٤] أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن سعد (١) بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم ، فقتلوه فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة ، فقالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعيت له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف قلت»؟ قالت : فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي ، فقال : «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا ، قالت : فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به.

فمن قال بهذا القول قال : إذنه لفريعة أولا بالرجوع إلى أهلها صار منسوخا بقوله آخرا : «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» ومن لم يوجب السكنى قال أمرها بالمكث في بيتها آخرا استحبابا لا وجوبا.

قوله عزوجل : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) ، أي أرضعن أولادكم ، (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ، على إرضاعهن ، (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) ، ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف ، وقال الكسائي (٢) : شاوروا ، قال

__________________

ـ وانظر «أحكام القرآن» ٢١٤٣ و ٢١٤٤ لابن العربي بتخريجي.

[٢٢٣٤] ـ جيد. إسناده قوي ، رجاله ثقات سوى زينب بنت كعب بن عجرة ، وثقها ابن حبان ، وروى عنها سعد بن إسحاق ، وسليمان بن محمد ابنا كعب بن عجرة ، وذكرها ابن الأثير وابن فتحون في الصحابة ، ثم هي بنت صحابي ، وهو كعب بن عجرة ، وزوجة صحابي جليل وهو أبو سعيد الخدري ، وبهذا يعلم أن قول علي المديني : لم يرو عنها سوى سعد بن إسحاق. إشارة إلى جهالتها ، غير سديد.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٣٧٩ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «الموطأ» ٢ / ٥٩١ عن سعد بن إسحاق بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه أبو داود ٢٣٠٠ والترمذي ١٢٠٤ والنسائي في «التفسير» ٦٤ والشافعي ٢ / ٥٣ ـ ٥٤ والدارمي ٢ / ١٦٨ وابن حبان ٤٢٩٢ من طرق عن مالك به.

ـ وأخرجه الترمذي بإثر ١٢٠٤ والنسائي ٦ / ١٩٩ و ٢٠٠ وابن ماجه ٢٠٣١ وأحمد ٦ / ٣٧٠ و ٤٢٠ ـ ٤٢١ وابن سعد ٨ / ٣٦٨ وابن الجارود ٧٥٩ والبيهقي ٧ / ٤٣٤ و ٤٣٥ من طرق عن سعد بن إسحاق به.

ـ وصححه الحاكم ٢ / ٢٠٨ ووافقه الذهبي.

(١) تصحف في المطبوع «سعيد».

(٢) في المطبوع «الشافعي».

١١٣

مقاتل : بتراضي الأب والأم على أجر مسمى ، والخطاب للزوجين جميعا يأمرهم أن يأتوا بالمعروف وبما هو الأحسن ولا يقصدوا الضرار ، (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) ، في الرضاع والأجرة فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرتها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه ، ولكنه يستأجر للصبي مرضعا غير أمه وذلك قوله : (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى).

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) ، على قدر غناه ، (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) ، من المال ، (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً) ، في النفقة ، (إِلَّا ما آتاها) ، أعطاها من المال ، (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) ، بعد ضيق وشدة غنى وسعة.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

قوله عزوجل : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ) ، عصت وطغت ، (عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) ، أي وأمر رسله ، (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) ، بالمناقشة والاستقصاء ، قال مقاتل : حاسبها بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب ، وهو قوله (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) ، منكرا فظيعا وهو عذاب النار لفظهما ماض ومعناهما الاستقبال ، وقيل : في الآية تقديم وتأخير مجازها فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر البلايا وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا.

(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) ، جزاء أمرها ، وقيل : ثقل عاقبة كفرها ، (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) ، خسرانا في الدنيا والآخرة.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) (١٠) ، يعني القرآن.

(رَسُولاً) بدلا من الذكر ، وقيل : أنزل إليكم قرآنا وأرسل رسولا وقيل مع الرسول ، وقيل : الذكر هو الرسول. وقيل : ذكرا أي شرفا ثم بين ما هو فقال : (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) ، يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [في العدد](١) (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) ، بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى ، قال أهل المعاني : هو ما يدير فيهن من عجيب تدبيره فينزل المطر ويخرج النبات ، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ، ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاتها وينقلها من

__________________

(١) زيد في المطبوع وط.

١١٤

حال إلى حال. وقال قتادة : في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه. (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) ، فلا يخفى عليه شيء.

سورة التحريم

مدنية [وهي اثنتا عشرة آية](١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، وسبب نزولها ما.

[٢٢٣٥] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عبيد الله بن إسماعيل ثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الحلواء والعسل وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه فيدنو منهن فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها شربة فقلت أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة ، وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له يا رسول الله أكلت مغافير (٢) فإنه سيقول لا فقولي له : ما هذه الريح ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي له جرست نحلة العرفط (٣) ، سأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية ، فلما دخل على سودة قالت سودة : والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أباديه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب فرقا منك ، فلما دنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : يا رسول الله أكلت مغافير ، قال : «لا» قالت : فما بال هذه الريح قال : «سقتني حفصة شربة عسل» قالت : جرست نحله العرفط ، سأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية ، فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك ، ودخل على صفية فقالت مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة قالت له : يا رسول الله ألا أسقيك منه قال : «لا حاجة لي به» قالت تقول سودة : سبحان الله لقد حرمناه ، قالت : قلت لها اسكتي.

__________________

[٢٢٣٥] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ، فقد تفرد عن عبيد الله ، ويقال : عبيد.

ـ أبو أسامة هو حماد بن أسامة ، هشام هو ابن عروة بن الزبير.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٦٩٧٢ عن عبيد الله بن إسماعيل بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ١٤٧٤ ح ٢١ وأبو داود ٣٧١٥ وأبو يعلى ٤٨٩٦ من طرق عن أبي أسامة به.

ـ وأخرجه الواحدي في «الأسباب» ٨٣٢ من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة به.

(١) زيد في المطبوع.

(٢) بقلة أو صمغة فيها حلاوة ، واحدها : مغفور.

(٣) جرست : أكلت ، العرفط : نبت له ريح كريح الخمر.

١١٥

[٢٢٣٦] وأخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا الحسن بن محمد [بن](١) الصّبّاح ثنا الحجاج عن ابن جريج قال : زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا فتواصيت (٢) أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير ، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال : «لا بأس شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له» فنزلت : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) إلى قوله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) لعائشة وحفصة. (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) لقوله : بل شربت عسلا.

[٢٢٣٧] وبهذا الإسناد قال : حدثنا محمد بن إسماعيل أنا إبراهيم بن موسى أنا هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء بإسناده وقال قال : «لا ولكن كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له ، وقد حلفت فلا تخبري بهذا أحدا» يبتغي بذلك مرضات أزواجه.

[٢٢٣٨] وقال المفسرون : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بين نسائه ، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زيارة أبيها فأذن لها ، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة ، فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقا ، فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجهه يقطر عرقا ، وحفصة تبكي فقال : «ما يبكيك؟» فقالت : إنما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي أما رأيت لي حرمة وحقا ، ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أليست هي جاريتي أحلها الله لي اسكتي فهي حرام عليّ ألتمس بذلك رضاك ، فلا تخبري بذلك امرأة

__________________

[٢٢٣٦] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ، حيث تفرد عن الحسن البخاري. ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

ـ حجاج هو ابن محمد ، ابن جريج ، هو عبد الملك بن عبد العزيز ، عطاء هو ابن أبي رباح.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٣٥١ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٥٢٦٧ عن الحسن بن محمد بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٦٦٩١ ومسلم ١٤٧٤ وأبو داود ٣٧١٤ والنسائي ٦ / ١٥١ و ٧ / ١٣ و ٧١ وأحمد ٦ / ٢٢١ من طرق عن الحجاج به.

ـ وأخرجه البخاري ٤٩١٢ من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج به.

[٢٢٣٧] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ، حيث تفرد البخاري عن هشام بن يوسف ، وباقي الإسناد على شرط الشيخين.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٤٩١٢ عن إبراهيم بن موسى بهذا الإسناد.

[٢٢٣٨] ـ ورد من وجوه متعددة بألفاظ متقاربة ، وهو صحيح بشواهده.

ـ أخرجه الواحدي ٨٣١ من طريق عبد الله بن شبيب قال : حدثنا إسحاق بن محمد حدثنا عبد الله بن عمر قال : حدثني أبو النضر مولى عمر بن عبد الله عن علي بن عباس عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأم ولده مارية .... فذكره بنحوه.

ـ وفي إسناده عبد الله بن شبيب ، وهو ضعيف.

ـ وأخرجه الطبري ٣٤٩٧ من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : من المرأتان؟ قال : عائشة وحفصة ، وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم القبطية .... فذكره بنحوه ، وإسناده ضعيف ، فيه عنعنة ابن إسحاق.

ـ وله شواهد كثيرة موصولة ومرسلة ، وهي مستوفاة في «أحكام القرآن» ٢١٥٦ بتخريجي.

(١) سقط من المطبوع.

(٢) في المطبوع «فتواطيت».

١١٦

منهن» فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت : ألا أبشرك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حرم عليه أمته مارية ، وقد أراحنا الله منها وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى حلف أن لا يقربها ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) يعني العسل ومارية (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وأمره أن يكفر يمينه ويراجع أمته ، فقال :

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣))

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) ، أي بيّن وأوجب أن تكفروها إذا حنثتم وهي ما ذكر في سورة المائدة [٨٩] (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) ، وليكم وناصركم ، (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

واختلف أهل العلم في لفظ التحريم ، فقال قوم : ليس هو بيمين فإن قال لزوجته أنت علي حرام أو حرمتك فإن نوى به طلاقا فهو طلاق ، وإن نوى به ظهارا فظهار ، وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ ، وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقا عتقت ، وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين ، فإن قال لطعام حرمته على نفسي فلا شيء عليه ، وهذا قول ابن مسعود وإليه ذهب الشافعي ، وذهب جماعة إلى أنه يمين ، فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها ، كما لو حلف أن لا يطأها وإن حرم طعاما فهو كما لو حلف أن لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكل ، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة ، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة رضي الله عنه.

[٢٢٣٩] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا معاذ بن فضالة ثنا هشام عن يحيى عن ابن حكيم وهو يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في الحرام يكفّر ، وقال ابن عباس : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١].

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) ، وهو تحريم فتاته على نفسه ، وقوله لحفصة : «لا تخبري بذلك أحدا» وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : أسرّ أمر الخلافة بعده فحدثت به حفصة. قال الكلبي : أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي. وقال ميمون بن مهران : أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي. (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) ، أخبرت به حفصة عائشة ، (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) ، أي أطلع الله تعالى نبيه على أنها أنبأت به ، (عَرَّفَ بَعْضَهُ) ، قرأ [أبو](١) عبد الرحمن السلمي والكسائي عرف بتخفيف الراء أي عرف بعض الفعل الذي فعلته من إفشاء سره ، أي غضب من ذلك عليها وجازاها به ،

__________________

[٢٢٣٩] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ، فقد تفرد عن معاذ.

ـ هشام هو ابن عبد الله ، يحيى هو ابن أبي كثير.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٣٥٠ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٤٩١١ عن معاذ بن فضالة بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٥٢٦٦ ومسلم ١٤٧٣ من طريقين عن يحيى بن كثير به.

(١) سقط من المطبوع.

١١٧

من قول القائل لمن أساء إليه لأعرفن لك ما فعلت ، أي لأجازينك عليه ، وجازاها به عليه بأن طلقها.

[٢٢٤٠] فلما بلغ ذلك عمر قال : لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء جبريل وأمره بمراجعتها فاعتزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه شهرا وقعد في مشربة أم إبراهيم مارية ، حتى نزلت آية التخيير.

[٢٢٤١] وقال مقاتل بن حيان : لم يطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة وإنما هم بطلاقها فأتاه جبريل عليه‌السلام ، وقال : لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من جملة نسائك في الجنة ، فلم يطلقها.

وقرأ : الآخرون (عَرَّفَ) بالتشديد أي عرف حفصة بعد ذلك الحديث ، أي أخبرها ببعض القول الذي كان منها ، (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) ، يعني لم يعرفها إياه ، ولم يخبرها به. قال الحسن : ما استقصى كريم قط ، قال الله تعالى : (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).

__________________

[٢٢٤٠] ـ لم أقف عليه بهذا السياق. وأخرج أبو يعلى ١٧٢ والبزار ١٥٠٢ و ١٥٠٣ والطبراني في «الكبير» ٢٣ / ١٨٩ والطحاوي في «المشكل» ٤٦١٣ من حديث ابن عمر قال : «دخل عمر على حفصة ، وهي تبكي فقال لها : ما يبكيك ، لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلقك ، إنه قد كان طلقك مرة ، ثم راجعك من أجلي ، ولله لأن كان طلقك مرة أخرى لا كلمتك أبدا».

ـ وانظر ما بعده.

[٢٢٤١] ـ أصل الحديث صحيح ، لكن قول مقاتل «لم يطلقها» باطل ، لم يتابع عليه.

ـ ذكره المصنف هاهنا عن مقاتل بن حيان معلقا ، وسنده إليه في أول الكتاب ، وهذا واه بمرة ، ليس بشيء ، وقد خولف مقاتل.

ـ فأخرج الحاكم ٤ / ١٥ وابن سعد في «الطبقات» ٨ / ٨٤ والدارمي ٢٢٦٥ والطحاوي في «المشكل» ٤٦١٥ من حديث أنس «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة تطليقة ، فأتاه جبريل فقال : يا محمد طلقت حفصة تطليقة ، وهي صوامة قوامة وهي زوجتك في الدنيا وفي الجنة».

ـ وأخرج الطحاوي ١٦١٤ من طريق موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ، فأتاه جبريل فقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة».

ـ وأخرج الطبراني ١٧ (٨٠٤) نحوه من حديث عقبة بلفظ «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فوضع التراب على رأسه ، وقال : ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعدها ، فنزل جبريل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر».

ـ قال الهيثمي في «المجمع» ٤ / ٣٣٤ : وفيه عمرو بن صالح الحضرمي ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات.

ـ وأخرج الحاكم ٤ / ١٥ (٦٧٥٣) وابن سعد ٨ / ٦٧ والطبراني ١٨ / (٩٣٤) عن قيس بن زيد «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة بنت عمر فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون فبكت وقالت : والله ما طلقني عن شبع ، وجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قال لي جبريل عليه‌السلام : راجع حفصة ، فإنها صوّامة قوامة ، وإنها زوجتك في الجنة».

ـ وسكت عليه الحاكم ، وكذا الذهبي ، وكذا الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤ / ٥٦٣ ورجاله ثقات غير قيس بن زيد فهو تابعي صغير مجهول ـ وأن عثمان بن مظعون توفي قبل أحد ، وقبل أن يتزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة.

ـ وأخرج أبو داود ٢٢٨٣ والنسائي ٦ / ٢١٣ وابن ماجه ٢٠١٦ والدارمي ٢٢٦٤ وأبو يعلى ١٧٤ والحاكم ٢ / ١٩٧ وابن حبان ٤٢٧٥ والطحاوي في «المشكل» ٤٦١١ والبيهقي ٧ / ٣٢١ ـ ٣٢٢ من طرق عن يحيى بن زكريا عن ابن أبي داود عن صالح بن صالح عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ثم راجعها».

ـ الخلاصة : قول مقاتل «لم يطلقها» باطل ، ليس بشيء ، والصحيح أنه طلقها كما في الروايات المذكورة ، وهو خبر حسن صحيح بطرقه وشواهده لكن بالألفاظ التي أوردتها ، وانظر «أحكام القرآن» ٢١٣٨ بتخريجي.

١١٨

[٢٢٤٢] وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى الكراهية في وجه حفصة أراد أن يتراضاها فأسر إليها شيئين : تحريم الأمة على نفسه وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر رضي الله عنهما ، وأطلع الله تعالى نبيه عليه ، عرف حفصة وأخبرها ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم الأمة وأعرض عن بعض يعني ذكر الخلافة ، كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينتشر ذلك في الناس ، (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) ، أي أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة بما أظهره الله عليه ، (قالَتْ) ، حفصة ، (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) ، أي من أخبرك بأني أفشيت السر؟ (قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ).

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤))

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) ، أي من التعاون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيذاء يخاطب عائشة وحفصة ، (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) ، أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما التوبة. قال ابن زيد : مالت قلوبكما بأن سرهما ما كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اجتناب جاريته.

[٢٢٤٣] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو اليمان أنا شعيب [عن](١) الزهري أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور أنا عبد الله بن عباس قال : لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللتين قال الله تعالى لهما : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) ، حتى حج فحججت معه وعدل وعدلت معه بإداوة

__________________

[٢٢٤٢] ـ لا أصل له.

ـ أخرجه ابن سعد ٨ / ١٤٩ ـ ١٥٠ عن ابن عباس بنحوه ، وفيه الواقدي ، وهو متروك.

ـ وأخرج الدار قطني ٤ / ١٥٣ والطبراني في «الكبير» ١٢٦٤٠ من حديث ابن عباس في قوله عزوجل : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قال : اطلعت حفصة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أم إبراهيم عليه‌السلام فقال : «لا تخبري عائشة» ، وقال لها : «إن أباك وأباها سيملكان ، أو سيليان بعدي ، فلا تخبري عائشة» فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة ....».

ـ وفي إسناده الكلبي ، وهو كذاب.

ـ وورد من حديث علي ، أخرجه ابن عدي ٣ / ٤٣٦ ، وكرره عن ابن عباس ومدارهما على سيف بن عمر ، وهو متروك متهم ، وبه أعله ابن عدي.

ـ والصواب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخبر على من سيخلفه ، وإنما هناك أمارات على أنه أبو بكر ، والله أعلم.

ـ الخلاصة : هذا خبر باطل لا أصل له ، والصحيح في ذلك ما رواه الشيخان من وجوه شربه عليه‌السلام العسل عند زينب ، وكذا يليه في الصحة خبر مارية المتقدم برقم ٢٢٣٨.

ـ وانظر «الكشاف» ١٢٠٧ و «فتح القدير» ٢٥٥١ و «الجامع لأحكام القرآن» ٦٠٣٦ بتخريجي والله الموفق.

[٢٢٤٣] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ أبو اليمان هو الحكم بن نافع ، شعيب هو ابن أبي حمزة ، الزهري هو محمد بن مسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ٣٩٦٥ بهذا الإسناد مختصرا.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٥١٩١ عن أبي اليمان بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٢٤٦٨ ومسلم ١٤٧٩ ح ٣٤ و ٣٥ والترمذي ٣٣١٨ وأحمد ١ / ٣٣ و ٣٤ مختصرا وابن حبان ٤٢٦٨ والبيهقي ٧ / ٣٧ ـ ٣٨ من طريق الزهري به.

ـ وانظر ما تقدم عند آية : ٢٨ من سورة الأحزاب.

(١) زيادة عن المخطوط.

١١٩

فتبرز ثم جاء ، فسكبت على يديه من الإداوة ، فتوضأ فقلت له : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللتان قال الله عزوجل لهما : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)؟ فقال : وا عجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة. ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال : إني كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت حدثته بما حدث من خبر ، ذلك اليوم من الأمر أو غيره وإذا نزل فعل مثل ذلك ، وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ولم تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. فأفزعني فقلت خابت من فعلت منهن بعظيم ، ثم جمعت علي ثيابي فدخلت على حفصة ، فقلت : أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم حتى الليل؟ فقالت : نعم ، فقلت : خبت (١) وخسرت أفتأمنين أن يغضب الله تعالى لغضب رسوله فتهلكي لا تستكثري على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تراجعيه في شيء ، ولا تهجريه وسليني ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد عائشة ، قال عمر : وكنا تحدثنا أن غسان تنعل (٢) الخيل لتغزونا فنزل صاحبي [الأنصاري](٣) يوم نوبته ، فرجع [إلينا](٤) عشاء فضرب بابي ضربا شديدا وقال : أثمّ هو ، ففزعت فخرجت إليه فقال : قد حدث اليوم أمر عظيم؟ فقلت : ما هو أجاءت غسان؟ قال : لا بل أعظم منه وأطول طلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه ، فقلت : قد خابت حفصة وخسرت كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون ، فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشربة له فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي ، فقلت : ما يبكيك أولم أكن حذرتك؟ أطلقكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : لا أدري ها هو ذا [معتزل](٥) في المشربة ، فخرجت فجئت المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم ، فجلست معهم قليلا ثم غلبني ما أجد ، فجئت المشربة التي فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت لغلام له أسود : استأذن لعمر ، فدخل فكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم رجع إليّ فقال : قد كلمت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرتك له فصمت ، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت فقلت للغلام : استأذن لعمر ، فدخل ثم رجع إليّ فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت : استأذن لعمر ، فاستأذن ثم رجع إليّ فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فلما وليت منصرفا فإذا الغلام يدعوني ، فقال : قد أذن لك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش ، قد أثّر الرمال بجنبه متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف ، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم : يا رسول الله أطلقت نساءك؟ فرفع إلى بصره فقال : لا ، فقلت : الله أكبر ، ثم قلت وأنا قائم : أستأنس يا رسول الله لو رأيتني ، وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قلت : يا رسول الله لو رأيتني ، ودخلت على حفصة فقلت لها لا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد عائشة ، فتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبسمة أخرى ، فجلست حين رأيته يتبسم فرفعت بصري في بيته فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة ، فقلت : يا رسول الله ادع الله تعالى فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع

__________________

(١) تصحف في المطبوع «خابت».

(٢) تصحف في المطبوع «تبعث».

(٣) زيادة عن المخطوط وصحيح البخاري.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

١٢٠