تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

 

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)(٢٩)

٢٧ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من الخلق (باطِلاً) خلقا باطلا لا لحكمة بالغة ، أو مبطلين عابثين ، كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (١) وتقديره ذوي باطل أو عبثا ، فوضع باطلا موضعه ، أي ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب ، ولكن للحقّ المبين ، وهو أنا خلقنا نفوسا أودعناها العقل ، ومنحناها التمكين ، وأزحنا عللها ، ثم عرّضناها للمنافع العظيمة بالتكليف ، وأعددنا لها عاقبة وجزاء على حسب أعمالهم (ذلِكَ) إشارة إلى خلقها باطلا (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الظنّ بمعنى الظنون ، أي خلقها للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا ، وإنما جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة مع إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض وما بينهما لقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٢) لأنه لمّا كان إنكارهم للبعث والحساب والثواب والعقاب مؤديا إلى أنّ خلقها عبث وباطل جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه ، لأنّ الجزاء هو الذي سيقت (٣) إليه الحكمة في خلق العالم فمن جحده فقد جحد الحكمة في خلق العالم (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ).

٢٨ ـ (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أم منقطعة ، ومعنى الاستفهام فيها الإنكار ، والمراد أنه لو بطل الجزاء كما يقول الكفار لاستوت أحوال من أصلح وأفسد واتقى وفجر ، ومن سوّى بينهم كان سفيها ولم يكن حكيما.

٢٩ ـ (كِتابٌ) أي هذا كتاب (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) يعني القرآن (مُبارَكٌ) صفة أخرى (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) وأصله ليتدبّروا قرىء به ، ومعناه ليتفكروا فيها ، فيقفوا على ما فيه ويعملوا به ، وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده. لتدبّروا على الخطاب بحذف إحدى التاءين يزيد (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) وليتعظ بالقرآن أولو العقول.

__________________

(١) الأنبياء ، ٢١ / ١٦.

(٢) لقمان ، ٣١ / ٢٥. الزمر ، ٣٩ / ٣٨.

(٣) في (ز) سبقت.

٦١

(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (٣١) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) (٣٢)

٣٠ ـ (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ) أي سليمان ، وقيل داود ، وليس بالوجه ، فالمخصوص بالمدح محذوف (إِنَّهُ أَوَّابٌ) وعلّل كونه ممدوحا بكونه أوابا ، أي كثير الرجوع إلى الله تعالى.

٣١ ـ (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) على سليمان (بِالْعَشِيِ) بعد الظهر (الصَّافِناتُ) الخيول القائمة على ثلاث قوائم ، وقد أقامت الأخرى على طرف حافر (الْجِيادُ) السّراع جمع جواد ، لأنه يجود بالركض ، وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجن (١) وإنما هو في العراب (٢) ، وقيل وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية ، يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها ، وإذا جرت سراعا خفافا في جريها ، وقيل الجياد الطّوال الأعناق من الجيد.

وروي أنّ سليمان عليه‌السلام غزا أهل دمشق ونصيبين (٣) فأصاب ألف فرس ، وقيل ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة ، وقيل خرجت من البحر لها أجنحة ، فقعد يوما بعد ما صلى الظهر على كرسيّه واستعرضها ، فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر ، وكانت فرضا عليه ، فاغتم لما فاته ، فاستردّها ، وعقرها تقربا لله ، وبقي مائة ، فما في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها ، وقيل لما عقرها أبدله الله خيرا منها ، وهي الريح تجري بأمره.

٣٢ ـ (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي آثرت حبّ الخيل عن ذكر ربّي كذا عن الزّجّاج ، فأحببت بمعنى آثرت ، كقوله تعالى : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٤) وعن بمعنى على ، وسمّى الخيل خيرا كأنها نفس الخير لتعلّق الخير بها ، كما قال عليه‌السلام : (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة) (٥) وقال أبو علي : أحببت بمعنى جلست من إحباب البعير وهو بروكه. حبّ الخير أي المال مفعول له

__________________

(١) في (ز) الهجان.

(٢) العراب : الجياد العربية الأصيلة (انظر القاموس ١ / ١٠٢).

(٣) نصيبين : مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام فتحت عام ١٧ ه‍ (معجم البلدان ٥ / ٢٣٣).

(٤) فصلت ، ٤١ / ١٧.

(٥) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

٦٢

 

(رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (٣٤) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (٣٥)

مضاف إلى المفعول (حَتَّى تَوارَتْ) الشمس (بِالْحِجابِ) والذي دلّ على أنّ الضمير للشمس مرور ذكر العشي ولا بدّ للضمير من جري ذكر أو دليل ذكر ، أو الضمير للصافنات أي حتى توارت بحجاب الليل يعني الظلام.

٣٣ ـ (رُدُّوها عَلَيَ) أي قال للملائكة ردوا الشمس علي لأصلي العصر فردّت الشمس له وصلى العصر ، أو ردوا الصافنات (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) فجعل يمسح مسحا ، أي يمسح السيف بسوقها وهي جمع ساق كدار ودور ، وأعناقها يعني يقطعها لأنها منعته عن الصلاة ، تقول مسح علاوته إذا ضرب عنقه ، ومسح المسفّر والكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه ، وقيل إنما فعل ذلك كفارة لها ، أو شكرا لردّ الشمس ، وكانت الخيل مأكولة في شريعته فلم يكن إتلافا ، وقيل مسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) ابتليناه (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ) سرير ملكه (جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) رجع إلى الله ، قيل فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة ، وكان من فتنته أنه ولد له ابن فقالت الشياطين : إن عاش لم ننفك من السخرة ، فسبيلنا أن نقتله أو نخبّله ، فعلم ذلك سليمان عليه‌السلام ، فكان يغذوه في السحابة خوفا من معرّة (١) الشياطين ، فألفى ولده ميتا على كرسيه ، فتنبّه على زلته في أن لم يتوكل فيه على ربّه ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كلّ واحدة منهنّ تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهنّ فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل ، فجيء به على كرسيّه فوضع في حجره ، فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون) (٢) وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان عليه‌السلام فمن أباطيل اليهود.

٣٥ ـ (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً) قدّم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء عليهم‌السلام والصالحين في تقديم الاستغفار على السؤال (لا يَنْبَغِي) لا يتسهّل ولا يكون (لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي دوني. وبفتح الياء مدني وأبو عمرو ، وإنما

__________________

(١) في (ز) مضرة.

(٢) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

٦٣

(فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ ٣٦ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ٣٨ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (٣٩)

سأل بهذه الصفة ليكون معجزة له لا حسدا ، وكان قبل ذلك لم تسخر (١) له الريح والشياطين ، فلما دعا بذلك سخّرت له الريح والشياطين. وأن (٢) يكون معجزة حتى يخرق العادات (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

٣٦ ـ (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) الرياح أبو جعفر (تَجْرِي) حال من الريح (بِأَمْرِهِ) بأمر سليمان (رُخاءً) لينة طيبة لا تزعزع ، وهو حال من ضمير تجري (حَيْثُ) ظرف تجري (أَصابَ) قصد وأراد. والعرب تقول أصاب الصواب وأخطأ (٣) الجواب.

٣٧ ـ (وَالشَّياطِينَ) عطف على الريح ، أي وسخرنا له الشياطين (كُلَّ بَنَّاءٍ) بدل من الشياطين ، كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية (وَغَوَّاصٍ) أي ويغوصون له في البحر لإخراج اللؤلؤ ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر ، والمعنى وسخرنا له كلّ بناء وغواص من الشياطين.

٣٨ ـ (وَآخَرِينَ) عطف على كلّ بناء داخل في حكم البدل (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكفّ عن الفساد. والصّفد : القيد وسمّي به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ، ومنه قول علي رضي الله عنه : من برّك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك.

٣٩ ـ (هذا) الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة (عَطاؤُنا فَامْنُنْ) فأعط منه ما شئت من المنة وهي العطاء (أَوْ أَمْسِكْ) عن الإعطاء (٤) ، وكان إذا أعطى أجر ، وإن منع لم يأثم بخلاف غيره (بِغَيْرِ حِسابٍ) متعلق بعطاؤنا ، وقيل هو حال منه (٥) أي هذا عطاؤنا جمّا كثيرا لا يكاد يقدر على حصره ، أو هذه التسخير عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق أو أمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب ، أي لا حساب عليك في ذلك.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) يسخر.

(٢) في (ظ) و (ز) لن.

(٣) في (ز) فأخطأ.

(٤) في (ظ) و (ز) العطاء.

(٥) ليس في (ظ) و (ز) منه.

٦٤

 

(وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ) (٤٣)

٤٠ ـ (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) لزلفى اسم إنّ ، والخبر له ، والعامل في عند الخبر.

٤١ ـ (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) هو بدل من عبدنا أو عطف بيان (إِذْ) بدل اشتمال منه (نادى رَبَّهُ) دعاه (أَنِّي مَسَّنِيَ) بأن (١) مسّني حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه ، ولو لم يحك لقال بأنه مسّه لأنه غائب (الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ) قراءة العامة ، بنصب يزيد تثقيل نصب ، بنصب كرشد ورشد يعقوب ، بنصب على أصل المصدر هبيرة والمعنى واحد وهو التعب والمشقة (وَعَذابٍ) ألم (٢) ، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب ، وقيل أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله في أنّ يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه وردّه بالصبر الجميل ، وروي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتدّ أحدهم فسأل عنه فقيل : ألقى إليه الشيطان أنّ الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين ، وذكر في سبب بلائه أنه ذبح شاة فأكلها وجاره جائع ، أو رأى منكرا فسكت عنه ، أو ابتلاه الله لرفع الدرجات بلا زلة سبقت منه.

٤٢ ـ (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) حكاية ما أجيب به أيوب عليه‌السلام أي أرسلنا إليه جبريل عليه‌السلام فقال له : اركض برجلك ، أي اضرب برجلك الأرض ، وهي أرض الجابية (٣) ، فضربها ، فنبعت عين فقيل (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أي هذا ماء تغتسل به وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك ، وقيل نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى ، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله تعالى.

٤٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قيل أحياهم الله تعالى بأعيانهم وزاده مثلهم (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) مفعول لهما ، أي الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولي الألباب ، لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه لصبره رغّبهم في الصبر على البلاء.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) بأني.

(٢) ليس في (ز) ألم.

(٣) الجابية : قرية من أعمال دمشق من ناحية الجولان قرب مرج الصفّر (معجم البلدان ٢ / ١٠٦).

٦٥

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (٤٦)

٤٤ ـ (وَخُذْ) معطوف على اركض (بِيَدِكَ ضِغْثاً) حزمة صغيرة من حشيش ، أو ريحان ، أو غير ذلك ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قبضة من الشجر (فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) وكان حلف في مرضه ليضربنّ امرأته مائة إذا برأ فحلّل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ، وهذه الرخصة باقية ، ويجب أن يصيب المضروب كلّ واحدة من المائة ، والسبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة ، فحرج صدره ، وقيل باعت ذؤابتيها برغيفين ، وكانتا متعلّق أيوب عليه‌السلام إذا قام (إِنَّا وَجَدْناهُ) علمناه (صابِراً) على البلاء ، نعم قد شكا إليه (١) ما به واسترحمه لكن الشكوى إلى الله لا تسمّى جزعا ، فقد قال يعقوب عليه‌السلام (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) (٢) على أنه عليه‌السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة حيث كان الشيطان يوسوس إليهم أنه لو كان نبيا لما ابتلي بمثل ما ابتلي به ، وإرادة القوة على الطاعة ، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان (نِعْمَ الْعَبْدُ) أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ).

٤٥ ـ (وَاذْكُرْ عِبادَنا) عبدنا مكي (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) فمن جمع فإبراهيم ومن بعده عطف بيان على عبادنا ، ومن وحّد فإبراهيم وحده عطف بيان له ، ثم عطف ذريته على عبدنا ، ولما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلّبت ، فقيل في كلّ عمل هذا مما عملت أيديهم وإن كان عملا لا تتأتى فيه المباشرة بالأيدي ، أو كان العمال جذمى لا أيدي لهم ، وعلى هذا ورد قوله (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي أولي الأعمال والفكر (٣) ، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ، ولا يجاهدون في الله ، ولا يفكرون (٤) أفكار ذوي الديانات في حكم الزّمنى الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم ، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار لهم ، وفيه تعريض بكلّ من لم يكن من عمّال الله ولا من المستبصرين في دين الله ، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما.

٤٦ ـ (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) جعلناهم لنا خالصين (بِخالِصَةٍ) بخصلة خالصة لا شوب

__________________

(١) في (ز) شكا إلى الله.

(٢) يوسف ، ١٢ / ٨٦.

(٣) في (ز) أولي الأعمال الظاهرة والفكر الباطنة.

(٤) في (ظ) و (ز) يتفكرون.

٦٦

(وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ (٤٨) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ) (٥٠)

فيها (ذِكْرَى الدَّارِ) ذكرى في محلّ النصب أو الرفع بإضمار أعني ، أو هي ، أو الجرّ على البدل من بخالصة والمعنى إنا أخلصناهم بذكر (١) الدار ، والدار هنا : الدار الآخرة ، يعني جعلناهم لنا خالصين بأن جعلناهم يذكّرون الناس الدار الآخرة ويزهدونهم في الدنيا كما هو ديدن الأنبياء عليهم‌السلام ، أو معناه أنهم يكثرون ذكر الآخرة والرجوع إلى الله وينسون ذكر الدنيا ، بخالصة ذكرى الدار على الإضافة مدني ونافع ، وهي من إضافة الشيء إلى ما يبيّنه ، لأنّ الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى ، وذكرى مصدر ومضاف إلى المفعول أي بأن خلص (٢) ذكرى الدار ، وقيل خالصة بمعنى خلوص ، فهي مضافة إلى الفاعل أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهمّ آخر إنما همهم ذكرى الدار لا غير ، وقيل ذكرى الدار الثناء الجميل في الدنيا ، وهذا شيء قد أخلصهم به ، فليس يذكر غيرهم في الدنيا بمثل ما يذكرون به ، يقويه قوله : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٣).

٤٧ ـ (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) المختارين من بين أبناء جنسهم (الْأَخْيارِ) جمع خيّر أو خير على التخفيف كأموات في جمع ميّت أو ميت.

٤٨ ـ (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ) كأنّ حرف التعريف دخل على يسع (وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌ) التنوين عوض عن المضاف إليه أي وكلّهم (مِنَ الْأَخْيارِ).

٤٩ ـ (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) أي هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أبدا ، وإنّ لهم مع ذلك لحسن مرجع ، يعني يذكرون في الدنيا بالجميل ويرجعون في الآخرة إلى مغفرة ربّ جليل. ثم بيّن كيفية حسن ذلك المرجع فقال :

٥٠ ـ (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بدل من حسن مآب (مُفَتَّحَةً) حال من جنات لأنها معرّفة لإضافتها إلى عدن وهو علم ، والعامل فيها ما في للمتقين من معنى الفعل (لَهُمُ الْأَبْوابُ) ارتفاع الأبواب بأنها فاعل مفتحة ، والعائد محذوف أي مفتحة لهم الأبواب منها ، فحذف كما حذف في قوله : (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) (٤) أي لهم ، أو أبوابها إلّا أنّ الأول أجود ، أو هي بدل من الضمير في مفتحة ، وهو ضمير الجنات تقديره

__________________

(١) في (ظ) و (ز) بذكرى.

(٢) في (ظ) و (ز) أي بإخلاصهم ذكرى الدار.

(٣) مريم ، ١٩ / ٥٠.

(٤) النازعات ، ٧٩ / ٣٩.

٦٧

(مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (٥١) وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (٥٣) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ (٥٤) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (٥٦) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) (٥٨)

مفتحة هي الأبواب ، وهو من بدل الاشتمال.

٥١ ـ (مُتَّكِئِينَ) حال من المجرور في لهم ، والعامل مفتحة (فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) أي وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول.

٥٢ ـ (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي قصرن طرفهنّ على أزواجهنّ (أَتْرابٌ) لدات أسنانهنّ كأسنانهم لأنّ التحاب بين الأقران أثبت ، كأن اللّدات سمّين أترابا ، لأن التراب مسّهنّ في وقت واحد.

٥٣ ـ (هذا ما تُوعَدُونَ) وبالياء مكي وأبو عمرو (لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي ليوم تجزى كلّ نفس بما عملت.

٥٤ ـ (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) من انقطاع ، والجملة حال من الرزق ، والعامل الإشارة.

٥٥ ـ (هذا) خبر والمبتدأ محذوف ، أي الأمر هذا ، أو هذا كما ذكر (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) مرجع.

٥٦ ـ (جَهَنَّمَ) بدل منه (يَصْلَوْنَها) يدخلونها (فَبِئْسَ الْمِهادُ) شبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم.

٥٧ ـ (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي هذا حميم وغساق فليذوقوه ، فهذا مبتدأ وحميم خبره ، وغساق عطف على الخبر ، فليذوقوه اعتراض والعذاب هذا فليذوقوه ، ثم ابتدأ فقال حميم وغساق (١) وغسّاق بالتشديد حمزة وعلي وحفص ، والغسّاق بالتشديد والتخفيف ما يغسق من صديد أهل النار ، يقال : غسقت العين إذا سال دمعها ، وقيل الحميم يحرق بحرّه والغسّاق يحرق ببرده.

٥٨ ـ (وَآخَرُ) أي وعذاب آخر ، أو مذوق آخر (مِنْ شَكْلِهِ) من مثل

__________________

(١) ليس في (ز) : وغساق عطف على الخبر. فليذوقوه اعتراض والعذاب هذا فليذوقوه ، ثم ابتدأ فقال حميم وغساق.

٦٨

 

(هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (٥٩) قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (٦٠) قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (٦١) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ (٦٢) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ) (٦٣)

العذاب المذكور ، وأخر بصري ، أي ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق في الشدّة والفظاعة (أَزْواجٌ) صفة لآخر ، لأنه يجوز أن يكون ضروبا.

٥٩ ـ (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار ، أي دخل النار في صحبتكم ، والاقتحام : الدخول في الشيء بشدّة ، والقحمة : الشدّة ، وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض ، أي يقولون هذا ، والمراد بالفوج أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة فيقتحمون معهم العذاب (لا مَرْحَباً بِهِمْ) دعاء منهم على أتباعهم ، تقول لمن تدعو له مرحبا أي أتيت رحبا من البلاد لا ضيّقا ، أو رحبت بلادك رحبا ، ثم تدخل عليه لا في دعاء السوء ، وبهم بيان للمدعوّ عليه (١) (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) داخلوها (٢) ، وهو تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم ، وقيل هذا فوج مقتحم كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم ، ولا مرحبا بهم إنهم صالوا النار كلام الرؤساء ، وقيل هذا كلّه كلام الخزنة.

٦٠ ـ (قالُوا) أي الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحقّ به ، وعلّلوا ذلك بقوله (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) والضمير للعذاب ، أو لصليهم ، أي إنكم دعوتمونا إليه ، فكفرنا باتّباعكم (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي النار.

٦١ ـ (قالُوا) أي الأتباع (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً) أي مضاعفا (فِي النَّارِ) ومعناه ذا ضعف ، ونحوه قوله : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) (٣) وهو أن يزيد على عذابه مثله.

٦٢ ـ (وَقالُوا) الضمير لرؤساء الكفرة (ما لَنا لا نَرى رِجالاً) يعنون فقراء المسلمين (كُنَّا نَعُدُّهُمْ) في الدنيا (مِنَ الْأَشْرارِ) من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى.

٦٣ ـ (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) بلفظ الإخبار عراقي غير عاصم على أنه صفة لرجالا

__________________

(١) في (ظ) و (ز) عليهم.

(٢) في (ظ) و (ز) أي داخلوها.

(٣) الأعراف ، ٧ / ٣٨.

٦٩

(إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٦٩)

مثل كنا نعدّهم من الأشرار ، وبهمزة الاستفهام غيرهم على أنه إنكار على أنفسهم في الاستسخار منهم ، سخريا مدني وحمزة وعليّ وخلف والمفضل (أَمْ زاغَتْ) مالت (عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) هو متصل بقوله ما لنا ، أي ما لنا لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها ، قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة وبين أن يكونوا من أهل النار إلا أنه خفي عليهم مكانهم.

٦٤ ـ (إِنَّ ذلِكَ) الذي حكينا عنهم (لَحَقٌ) لصدق كائن لا محالة ، لا بدّ أن يتكلموا به ، ثم بيّن ما هو فقال : هو (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) ولمّا شبّه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين سمّاه تخاصما ، ولأنّ قول الرؤساء : لا مرحبا بهم ، وقول أتباعهم : بل أنتم لا مرحبا بكم من باب الخصومة فسمّى التقاول كلّه تخاصما لاشتماله على ذلك.

٦٥ ـ (قُلْ) يا محمد لمشركي مكة (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) ما أنا إلا رسول منذر أنذركم عذاب الله تعالى (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) وأقول لكم إنّ دين الحقّ توحيد الله ، وأن نعتقد (١) أن لا إله إلّا الله (الْواحِدُ) بلا ندّ ولا شريك (الْقَهَّارُ) لكلّ شيء.

٦٦ ـ (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) له الملك والرّبوبيّة في العالم كلّه (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب إذا عاقب (الْغَفَّارُ) لذنوب من التجأ إليه.

٦٧ ـ (قُلْ هُوَ) أي هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا ، وأنّ الله واحد لا شريك له (نَبَأٌ عَظِيمٌ) لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. ثمّ :

٦٨ ـ (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) غافلون.

٦٩ ـ (ما كانَ لِي) حفص (مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) احتجّ لصحة نبوّته بأن ما ينبّىء به عن الملإ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط ، ثم علمه ، ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب ، فعلم أنّ ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى.

__________________

(١) في (ظ) وان يعتقد ، وفي (ز) وأن تعتقدوا.

٧٠

(إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٧٠) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) (٧٤)

٧٠ ـ (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي لأنما أنا نذير (١) ، ومعناه ما يوحى إليّ إلا للإنذار ، فحذف اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه ، ويجوز أن يرتفع على معنى ما يوحى إليّ إلا هذا ، وهو أن أنذر وأبلّغ ولا أفرط في ذلك ، أي ما أومر إلا بهذا الأمر وحده وليس لي غير ذلك ، وبكسر إنما يزيد على الحكاية ، أي إلا هذا القول وهو أن أقول لكم إنما أنا نذير مبين ولا أدعي شيئا آخر ، وقيل النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : القرآن ، وعن الحسن : يوم القيامة ، والمراد بالملإ الأعلى أصحاب القصّة : الملائكة وآدم وإبليس لأنهم كانوا في السماء ، وكان التقاول بينهم ، وإذ يختصمون متعلّق بمحذوف إذ المعنى ما كان لي من علم بكلام الملإ الأعلى وقت اختصامهم.

٧١ ـ (إِذْ قالَ رَبُّكَ) بدل من إذ يختصمون ، أي في شأن آدم حين قال تعالى على لسان ملك (لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) وقال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) (٢).

٧٢ ـ (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) فإذا أتممت خلقه (٣) وعدّلته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الذي خلقته ، وأضافه إليه تخصيصا ، كبيت الله وناقة الله ، والمعنى أحييته وجعلته حسّاسا متنفسا (فَقَعُوا) أمر من وقع يقع أي اسقطوا على الأرض ، والمعنى اسجدوا (لَهُ ساجِدِينَ) قيل كان انحناء يدلّ على التواضع ، وقيل كان سجدة لله ، أو كان سجدة التحية.

٧٣ ـ (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) كلّ للإحاطة وأجمعون للاجتماع ، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعا (٤) في وقت واحد غير متفرقين في أوقات.

٧٤ ـ (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) تعظّم عن السجود (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) وصار من الكافرين بإباء الأمر.

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) مبين.

(٢) البقرة ، ٢ / ٣٠.

(٣) في (ز) خلقته.

(٤) في (ز) جميعهم.

٧١

(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (٧٥) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (٧٦) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (٧٨)

٧٥ ـ (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) ما منعك عن السجود (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي بلا واسطة ، امتثالا لأمري وإعظاما لخطابي ، وقد مر أنّ ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيده فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما ، حتى قيل في عمل القلب هو ما عملت يداك ، وحتى قيل لمن لا يدين له يداك أوكتا وفوك نفخ. وحتى لم يبق فرق بين قولك هذا مما عملته وهذا مما عملته يداك ، ومنه قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) (١) ولما خلقت بيديّ (أَسْتَكْبَرْتَ) استفهام إنكار (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) ممن علوت وفقت ، وقيل أستكبرت الآن أم لم تزل مذ كنت من المستكبرين.

٧٦ ـ (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) يعني لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له لأنه مخلوق مثلي فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين ، والنار تغلب الطين وتأكله ، وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي خلقتني من نار مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان (٢).

٧٧ ـ (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) من الجنّة ، أو من السماوات ، أو من الخلقة التي أنت فيها ، لأنه كان يفتخر بخلقته ، فغيّر الله خلقته ، واسودّ بعد ما كان أبيض ، وقبح بعد ما كان حسنا ، وأظلم بعد ما كان نورانيا (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مرجوم أي مطرود ، تكبّر إبليس أن يسجد لمن خلق من طين ، وزلّ عنه أنّ الله أمر به ملائكته وتبعوا أمره إجلالا لخطابه ، وتعظيما لأمره ، فصار مرجوما ملعونا بترك أمره.

٧٨ ـ (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) بفتح الياء مدني ، أي إبعادي من كلّ الخير (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي الجزاء (٣) ، ولا يظنّ أنّ لعنته غايتها يوم الدين ، ثم تنقطع ، لأن معناه أنّ عليه اللعنة في الدنيا وحدها ، فإذا كان يوم الدين اقترن بها العذاب فينقطع الانفراد ، أو لما كان عليه اللعنة في أوان الرحمة فأولى أن تكون عليه في غير أوانها وكيف تنقطع وقد قال الله تعالى : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤).

__________________

(١) يس ، ٣٦ / ٧١.

(٢) ليس في (ز) : من المعطوف عليه في البيان.

(٣) في (ظ) و (ز) أي يوم الجزاء.

(٤) الأعراف ، ٧ / ٤٤.

٧٢

 

(قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (٨٠) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) (٨٧)

٧٩ ـ ٨١ ـ (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) فأمهلني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) الوقت المعلوم الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى ، ويومه اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه ، ومعنى المعلوم أنه معلوم عند الله معيّن لا يتقدّم ولا يتأخر.

٨٢ ـ (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي أقسم بعزة الله وهي سلطانه وقهره.

٨٣ ـ (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وبكسر اللام مكي وبصري وشامي.

٨٤ ـ (قالَ فَالْحَقُ) بالرفع كوفي غير عليّ على الابتداء ، أي الحقّ مني (١) ، أو على الخبر أي أنا الحقّ ، وبالنصب غيرهم (٢) على أنه مقسم به ، كقوله : الله لأفعلنّ (٣) ، يعني حذف عنه الباء فانتصب وجوابه لأملأن (وَالْحَقَّ أَقُولُ) اعتراض بين المقسم به (٤) والمقسم عليه ، وهو منصوب بأقول ومعناه ولا أقول إلا الحقّ ، والمراد بالحقّ إما اسمه عزوجل الذي في قوله : (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) (٥) أو الحقّ الذي هو نقيض الباطل عظّمه الله بإقسامه به.

٨٥ ـ (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) من جنسك ، وهم الشياطين (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) من ذرية آدم (أَجْمَعِينَ) أي لأملأنّ جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك منهم أحدا.

٨٦ ـ (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) الضمير للقرآن أو للوحي (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) من الذين يتصنّعون ويتحلّون بما ليسوا من أهله ، وما عرفتموني (٦) متصنّعا ولا مدّعيا بما ليس عندي حتى أنتحل النبوة وأتقوّل القرآن.

٨٧ ـ (إِنْ هُوَ) ما القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) من الله (لِلْعالَمِينَ) للثقلين أوحي إليّ فأنا

__________________

(١) في (ز) قسمي وهو خطأ والصواب مني.

(٢) في (ز) وغيرهم بالنصب.

(٣) في (ز) كقولك الله لأفعلن كذا.

(٤) ليس في (ز) به.

(٥) النور ، ٢٤ / ٢٥.

(٦) في (ظ) و (ز) وما عرفتموني قط.

٧٣

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨)

أبلغه. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (للمتكلّف ثلاث علامات ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم) (١).

٨٨ ـ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) نبأ القرآن وما فيه من الوعد والوعيد وذكر البعث والنشور (بَعْدَ حِينٍ) بعد الموت ، أو يوم بدر ، أو يوم القيامة ، ختم السورة بالذكر كما افتتحها بالذكر (٢).

__________________

(١) رواه الثعلبي عن سلمة بن نفيل مرفوعا ، والبيهقي في الشعب عن ارطأة قوله ، وأبو نعيم عن وهب بن منبه قوله.

(٢) زاد في (ز) والله الموفق.

٧٤

سورة الزمر

مكية إلّا قوله (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) إلى (تَشْعُرُونَ)

وهي خمس وسبعون آية كوفي وثنتان بصري ومدني

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

(تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (٢) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (٣)

١ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي القرآن ، مبتدأ خبره (مِنَ اللهِ) أي نزل من الله ، أو خبر مبتدأ محذوف والجار صلة التنزيل ، أو غير صلة بل هو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا تنزيل الكتاب هذا من الله (الْعَزِيزِ) في سلطانه (الْحَكِيمِ) في تدبيره.

٢ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) هذا ليس بتكرار لأنّ الأول كالعنوان للكتاب والثاني لبيان ما في الكتاب (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً) حال (لَهُ الدِّينَ) أي ممحضا له الدين (١) من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السرّ ، فالدين منصوب بمخلصا.

٣ ـ (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) : وقرىء الدين بالرفع ، وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا.

٧٥

(لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (٥)

من كلّ شائبة كدر لاطلاعه على الغيوب والأسرار ، وعن قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله ، وعن الحسن : الإسلام (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي آلهة ، وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره والذين عبدوا الأصنام يقولون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) مصدر ، أي تقريبا (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بين المسلمين والمشركين (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) قيل : كان المسلمون إذا قالوا لهم من خلق السماوات والأرض؟ قالوا : الله ، فإذا قالوا لهم : فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا : ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى ، والمعنى أنّ الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي لا يهدي من هو في علمه أنه يختار الكفر ، يعني لا يوفقه للهدى ولا يعينه وقت اختياره الكفر ولكنه يخذله.

وكذبهم قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء بنات الله ، ولذا عقبه محتجا عليهم بقوله :

٤ ـ (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لو جاز اتخاذ الولد على ما تظنون لاختار مما يخلق ما يشاء لا ما تختارون أنتم وتشاؤون (سُبْحانَهُ) نزّه ذاته من أن يكون له أحد (١) ما نسبوا إليه من الأولياء والأولاد ، ودلّ على ذلك بقوله (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) يعني أنه واحد متبرّىء عن انضمام الأعداد ، متعال عن التجزّي (٢) والولاد قهّار غلّاظ (٣) لكلّ شيء ومن الأشياء آلهتهم فأنى يكون له أولياء وشركاء؟.

ثم دلّ بخلق السماوات والأرض ، وتكوير كلّ واحد من الملوين على الآخر ، وتسخير النّيّرين وجريهما لأجل مسمى ، وبثّ الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة ، وخلق الأنعام ، على أنه واحد لا يشارك قهّار لا يغالب بقوله :

٥ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أخذ.

(٢) في (ز) التجزؤ.

(٣) في (ظ) و (ز) غلاب.

٧٦

 

خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (٧)

(اللَّيْلَ) والتكوير اللفّ واللّيّ يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها ، والمعنى أنّ كلّ واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبّه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لفّ عليه ما غيّبه عن مطامح الأبصار ، أو أنّ هذا يكرّ على هذا كرورا متتابعا ، فشبّه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي يوم القيامة (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على عقاب من لم يعتبر بتسخير الشمس والقمر فلم يؤمن بمسخّرهما (الْغَفَّارُ) لمن فكّر واعتبر فآمن بمدبّرهما.

٦ ـ (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي آدم عليه‌السلام (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي حواء من قصيراه (١) ، قيل أخرج ذرية آدم من ظهره كالذرّ ثم خلق بعد ذلك حواء (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) أي جعل ، عن الحسن ، أو خلقها في الجنة مع آدم عليه‌السلام ، ثم أنزلها ، أو لأنها لا تعيش إلا بالنبات ، والنبات لا يقوم إلا بالماء ، وقد أنزل الماء فكأنه أنزلها (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ذكرا وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز ، كما بيّن في سورة الأنعام (٢) ، والزوج اسم لواحد معه آخر ، فإذا انفرد فهو فرد ووتر (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة إلى (٣) تمام الخلق (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن والرحم والمشيمة ، أو ظلمة الصّلب والبطن والرحم (ذلِكُمُ) الذي هذه مفعولاته هو (اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره. ثم بيّن أنه غنيّ عنهم بقوله :

٧ ـ (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) عن إيمانكم ، وأنتم محتاجون إليه لتضرّركم بالكفر وانتفاعكم بالإيمان (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) لأنّ الكفر ليس برضا الله تعالى وإن كان بإرادته (وَإِنْ تَشْكُرُوا) فتؤمنوا (يَرْضَهُ لَكُمْ) أي يرضى الشكر

__________________

(١) قصيراه : ضلعان يليان الترقوتين (القاموس ٢ / ١١٨).

(٢) الآية ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٣) في (ظ) و (ز) ثم إلى.

٧٧

(وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (٩)

لكم ، لأنه سبب فوزكم فيثيبكم عليه الجنة ، يرضه بضم الهاء والإشباع مكي وعليّ ، يرضه بضم الهاء بدون الإشباع نافع وهشام وعاصم غير يحيى وحماد ، وغيرهم يرضه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا يؤخذ (١) أحد بذنب آخر (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) إلى جزاء ربّكم رجوعكم (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بخفيّات القلوب.

٨ ـ (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) هو أبو جهل أو كلّ كافر (ضُرٌّ) بلاء وشدة ، والمسّ في الأعراض مجاز (دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) راجعا إلى الله بالدعاء لا يدعو غيره (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أعطاه (نِعْمَةً مِنْهُ) من الله عزوجل (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي نسي ربّه الذي كان يتضرع إليه ، وما بمعنى من كقوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٢) أو نسي الضرّ الذي كان يدعو الله إلى كشفه (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) أمثالا (لِيُضِلَ) ليضل مكي وأبو عمرو ويعقوب (عَنْ سَبِيلِهِ) أي الإسلام (قُلْ) يا محمد (تَمَتَّعْ) أمر تهديد (بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) أي في الدنيا (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) من أهلها.

٩ ـ (أَمَّنْ) قرأ بالتخفيف مكي ونافع وحمزة على إدخال همزة الاستفهام على من ، وبالتشديد غيرهم على إدخال أم عليه ، ومن مبتدأ خبره محذوف تقديره أمّن (هُوَ قانِتٌ) كغيره أي أمّن هو مطيع كمن هو عاص ، والقانت المطيع لله ، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه ، وهو جري ذكر الكافر قبله ، وقوله بعده قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (آناءَ اللَّيْلِ) ساعاته (ساجِداً وَقائِماً) حالان من الضمير في قانت (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) أي عذاب الآخرة (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي الجنة ، ودلت الآية على أنّ المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء ، يرجو رحمته لا عمله ويحذر عقابه لتقصيره في عمله ، ثم الرجاء إذا جاوز حدّه يكون أمنا ، والخوف إذا جاوز حدّه يكون إياسا وقد قال الله تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ

__________________

(١) في (ز) يؤاخذ.

(٢) الليل ، ٩٢ / ٣.

٧٨

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (١٢)

(الْخاسِرُونَ) (١) وقال : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٢) فيجب أن لا يجاوز أحدهما حدّه (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي يعلمون ويعملون (٣) ، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم ، وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنّون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة حيث جعل القانتين هم العلماء ، أو أريد به التشبيه أي كما لا يستوي العالم والجاهل كذلك لا يستوي المطيع والعاصي (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) جمع لبّ ، أي إنما يتعظ بوعظ الله أولو العقول.

١٠ ـ (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا) بلا ياء عند الأكثر (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) بامتثال أوامره واجتناب نواهيه (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي أطاعوا الله في الدنيا ، وفي يتعلق بأحسنوا لا بحسنة ، معناه الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة أي حسنة لا توصف ، وقد علّقه السّدّيّ بحسنة ففسّر الحسنة بالصحة والعافية ، ومعنى (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) أي لا عذر للمفرطين في الإحسان البتّة حتى إن اعتلّوا بأنهم لا يتمكنون في أوطانهم من التوفّر على الإحسان ، قيل لهم فإنّ أرض الله واسعة وبلاده كثيرة ، فتحوّلوا إلى بلاد أخر ، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على مفارقة أوطانهم وعشائرهم وعلى غيرها من تجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يهتدي إليه حساب الحسّاب ولا يعرف ، وهو حال من الأجر أي موفرا.

١١ ـ (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) بأن أعبد الله (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي أمرت بإخلاص الدين.

١٢ ـ (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) وأمرت بذلك لأجل أن أكون أوّل المسلمين ، أي مقدّمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة ، والمعنى أنّ الإخلاص له السّبقة

__________________

(١) الأعراف ، ٧ / ٩٩.

(٢) يوسف ، ١٢ / ٨٧.

(٣) في (ظ) و (ز) زاد : به.

٧٩

(قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ) (١٧)

في الدين فمن أخلص كان سابقا ، فالأوّل أمر بالعبادة مع الإخلاص ، والثاني بالسبق فلاختلاف جهتيهما نزلا منزلة المختلفين ، فصحّ عطف أحدهما على الآخر.

١٣ ـ (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لمن دعاك بالرجوع إلى دين آبائك ، وذلك أنّ كفار قريش قالوا له عليه‌السلام : ألا تنظر إلى أبيك وجدّك وسادات قومك يعبدون اللات والعزّى فنزلت ردا عليهم.

١٤ ـ (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) وهذه الآية إخبار بأن (١) يخصّ الله وحده بعبادته مخلصا له دينه دون غيره ، والأولى إخبار بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص ، فالكلام أولا واقع في نفس الفعل وإثباته ، وثانيا فيما يفعل الفعل لأجله ولذلك رتّب عليه قوله :

١٥ ـ (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) وهذا أمر تهديد ، وقيل له عليه‌السلام : إن خالفت دين آبائك فقد خسرت ، فنزلت (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ) أي الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بإهلاكها في النار (وَأَهْلِيهِمْ) أي وخسروا أهليهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنهم أضلّوهم فصاروا إلى النار ، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله : (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) حيث صدّر الجملة بحرف التنبيه ، ووسّط الفصل بين المبتدأ والخبر ، وعرّف الخسران ونعته بالمبين ، وذلك لأنهم استبدلوا بالجنة نارا وبالدرجات دركات.

١٦ ـ (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ) أطباق (مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أطباق من النار هي ظلل لآخرين ، أي النار محيطة بهم (ذلِكَ) الذي وصف من العذاب ، أو ذلك الظلل (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) ليؤمنوا به ويجتنبوا مناهيه (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي ، خوّفهم بالنار ثم حذّرهم نفسه.

١٧ ـ (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) الشياطين ، فعلوت من الطغيان كالملكوت

__________________

(١) في (ظ) و (ز) بأنه.

٨٠