تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

سورة النازعات

وهي ست وأربعون آية مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧)

١ ـ ٥ ـ (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) لا وقف إلى هنا ، ولزم هنا لأنه لو وصل لصار يوم ظرف المدبرات ، وقد انقضى تدبير الملائكة في ذلك اليوم. أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد غرقا ، أي إغراقا في النزع ، أي تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها ومواضع أظفارها ، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به ، فتدبر أمرا من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم ، أو بخيل الغزاة التي تنزع في أعنّتها نزعا تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب ، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، من قولك ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد ، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر ، وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه ، أو بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب ، وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كلّه حتى تنحط في أقصى الغرب ، والتي تخرج من برج إلى برج ، والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمرا من علم الحساب ، وجواب القسم محذوف وهو لتبعثنّ لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة.

٦ ـ ٧ ـ (يَوْمَ تَرْجُفُ) تتحرك حركة شديدة ، والرجف : شدة الحركة (الرَّاجِفَةُ) النفخة الأولى ، وصفت بما يحدث بحدوثها لأنها تضطرب بها الأرض حتى يموت كلّ من عليها (تَتْبَعُهَا) حال عن الراجفة (الرَّادِفَةُ) النفخة الثانية لأنها تردف الأولى ،

٤٨١

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (١٠) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (١١) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (١٥) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٦) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (١٧) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصَى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (٢٢) فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى) (٢٥)

وبينهما أربعون سنة ، والأولى تميت الخلق والثانية تحييهم.

٨ ـ ١٢ ـ (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ) قلوب منكري البعث (واجِفَةٌ) مضطربة ، من الوجيف وهو الوجيب ، وانتصاب يوم ترجف بما دلّ عليه قلوب يومئذ واجفة ، أي يوم ترجف وجفت القلوب ، وارتفاع قلوب بالابتداء وواجفة صفتها (أَبْصارُها) أي أبصار أصحابها (خاشِعَةٌ) ذليلة لهول ما ترى ، خبرها (يَقُولُونَ) أي منكرو البعث في الدنيا استهزاء وإنكارا للبعث (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) استفهام بمعنى الإنكار ، أي أنرد بعد موتنا إلى أوّل الأمر فنعود أحياء كما كنا؟. والحافرة : الحالة الأولى ، يقال لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته أي إلى حالته الأولى ، ويقال النقد عند الحافرة أي عند الحالة الأولى وهي الصفقة. أنكروا البعث ثم زادوا استبعادا فقالوا (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) بالية ، ناخرة كوفي غير حفص ، وفعل أبلغ من فاعل يقال نخر العظم فهو نخر وناخر. والمعنى أنرد إلى الحياة بعد أن صرنا عظاما بالية ، وإذا منصوب بمحذوف وهو نبعث (قالُوا) أي منكرو البعث (تِلْكَ) رجعتنا (إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) رجعة ذات خسران ، أو خاسر أصحابها ، والمعنى أنها إن صحت وبعثنا فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا بها ، وهذا استهزاء منهم.

١٣ ـ ١٤ ـ (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) متعلق بمحذوف أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عزوجل فإنها سهلة هينة في قدرته ، فما هي إلا صيحة واحدة ، يريد النفخة الثانية من زجر البعير إذا صاح (١) (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في جوفها ، وقيل الساهرة أرض بعينها بالشأم إلى جنب بيت المقدس ، أو أرض مكة ، أو جهنم.

١٥ ـ ٢٥ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) استفهام يتضمن التنبيه على أن هذا مما

__________________

(١) في (ظ) و (ز) من قولهم زجر البعير إذا صاح عليه.

٤٨٢

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (٢٦) أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (٣٣)

يجب (١) ، والتشريف للمخاطب به (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) حين ناداه (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) المبارك المطهر (طُوىً) اسمه (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) على إرادة القول (إِنَّهُ طَغى) تجاوز الحدّ في الكفر والفساد (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) هل لك ميل إلى أن تتطهر من الشرك والعصيان بالطاعة والإيمان. وبتشديد الزاي حجازي (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) وأرشدك إلى معرفة الله بذكر صفاته فتعرفه (فَتَخْشى) لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة ، قال الله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢) أي العلماء به ، وعن بعض الحكماء : اعرفوا (٣) الله فمن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفة عين ، فالخشية ملاك الأمور من خشي الله أتى منه كلّ خير ومن أمن اجترأ على كلّ شر ، ومنه الحديث : (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل) (٤). بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض ، كما يقول الرجل لضيفه هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه باللطف في القول ويستنزله بالمداراة عن عتوّه كما أمر بذلك في قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) (٥) (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي فذهب ، فأرى موسى فرعون العصا ، أو العصا واليد البيضاء لأنهما في حكم آية واحدة (فَكَذَّبَ) فرعون بموسى والآية الكبرى وسماهما ساحرا وسحرا (وَعَصى) الله تعالى (ثُمَّ أَدْبَرَ) تولى عن موسى (يَسْعى) يجتهد في مكايدته ، أو لما رأى الثعبان أدبر مرعوبا يسرع في مشيته وكان طيّاشا خفيفا (فَحَشَرَ) فجمع السحرة وجنده (فَنادى) في المقام الذي اجتمعوا فيه معه (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) لا ربّ فوقي ، وكانت لهم أصنام يعبدونها (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ) عاقبة الله عقوبة الآخرة ، والنكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم ، ونصبه على المصدر لأن أخذ بمعنى نكل ، كأنه قيل نكل الله به نكال الآخرة أي الإحراق (وَالْأُولى) أي الإغراق ، أو نكال كلمتيه الآخرة وهي أنا ربّكم الأعلى ، والأولى وهي : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (٦) وبينهما أربعون سنة أو ثلاثون أو عشرون.

٢٦ ـ ٣٣ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) الله (أَأَنْتُمْ) يا منكري

__________________

(١) في (ز) زاد : أن يشيع.

(٢) فاطر ، ٣٥ / ٢٨.

(٣) في (ز) أعرف.

(٤) الحاكم والبيهقي في الشعب وأبو نعيم في الحلية ، والترمذي عن أبي هريرة.

(٥) طه ، ٢٠ / ٤٤.

(٦) القصص ، ٢٨ / ٣٨.

٤٨٣

(فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (٣٦) فَأَمَّا مَن طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(٤١)

البعث (أَشَدُّ خَلْقاً) أصعب خلقا وإنشاء (أَمِ السَّماءُ) مبتدأ محذوف الخبر ، أي أم السماء أشد خلقا ، ثم بين كيف خلقها فقال (بَناها) أي الله ، ثم بين البناء فقال (رَفَعَ سَمْكَها) أعلى سقفها ، وقيل جعل مقدار ذهابها في سمت العلو رفيعا مسيرة خمسمائة عام (فَسَوَّاها) فعدّلها مستوية بلا شقوق ولا فطور (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أظلمه (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أبرز ضوء شمسها ، وأضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلمتها والشمس سراجها (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) بسطها ، وكانت مخلوقة غير مدحوّة فدحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام ، ثم فسر البسط فقال (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) بتفجير العيون (وَمَرْعاها) كلأها ، ولذا لم يدخل العاطف على أخرج ، أو أخرج حال بإضمار قد (وَالْجِبالَ أَرْساها) أثبتها ، وانتصاب الأرض والجبال بإضمار دحا وأرسى على شريطة التفسير (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) فعل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم.

٣٤ ـ ٤١ ـ (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) الداهية العظمى التي تطمّ على الداوهي ، أي تعلو وتغلب وهي النفخة الثانية ، أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) بدل من إذا جاءت ، أي إذا رأى أعماله مدونة في كتابه يتذكّرها وكان قد نسيها (ما سَعى) مصدرية ، أي سعيه ، أو موصولة (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) وأظهرت (لِمَنْ يَرى) لكل راء لظهورها ظهورا بيّنا (فَأَمَّا) جواب فإذا ، أي فإذا جاءت الطامة فإنّ الأمر كذلك (مَنْ طَغى) جاوز الحدّ فكفر (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على الآخرة باتباع الشهوات (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) المرجع أي مأواه ، والألف واللام بدل من الإضافة ، وهذا عند الكوفيين ، وعند سيبويه وعند البصريين هي المأوى له (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي علم أنّ له مقاما يوم القيامة لحساب ربه (وَنَهَى النَّفْسَ) الأمارة بالسوء (عَنِ الْهَوى) المردي (١) ، أي زجرها عن اتباع الشهوات ، وقيل هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها ، والهوى ميل النفس إلى شهواتها (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أي المرجع.

__________________

(١) في (ظ) المودّي ، وفي (ز) المؤذي.

٤٨٤

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (٤٤) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (٤٦)

٤٢ ـ ٤٦ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) متى إرساؤها أي إقامتها ، يعني متى يقيمها الله تعالى ويثبتها (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) في شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به ، أي ما أنت من ذكرها لهم وتبيين وقتها في شيء ، كقولك ليس فلان من العلم في شيء ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت (١) ، فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها ، أي أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) منتهى علمها متى تكون لا يعلمها غيره ، أو فيم إنكار لسؤالهم عنها ، أي فيم هذا السؤال ، ثم قال أنت من ذكراها أي إرسالك وأنت آخر الأنبياء علامة من علاماتها فلا معنى لسؤالهم عنها ، ولا يبعد أن يوقف على هذا على فيم ، وقيل فيم أنت من ذكراها متصل بالسؤال ، أي يسألونك عن الساعة أيان مرساها ويقولون أين أنت من ذكرها ، ثم استأنف فقال إلى ربك منتهاها (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف شدائدها. منذر منون يزيد وعباس (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها) أي الساعة (لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي ضحى العشية ، استقلوا مدة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول كقوله : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) (٢) وقوله : (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (٣) وإنما صحّت إضافة الضحى إلى العشية للملابسة بينهما لاجتماعهما في نهار واحد ، والمراد أنّ مدة لبثهم لم تبلغ يوما كاملا ولكن أحد طرفي النهار عشيته أو ضحاه. والله أعلم.

__________________

(١) إسحاق في مسنده عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها.

(٢) الأحقاف ، ٤٦ / ٣٥.

(٣) المؤمنون ، ٢٣ / ١١٣.

٤٨٥

سورة عبس

مكية وهي اثنتان وأربعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى) (٤)

١ ـ ٤ ـ (عَبَسَ) كلح ، أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَتَوَلَّى) أعرض (أَنْ جاءَهُ) ومحله نصب (١) لأنه مفعول له والعامل فيه عبس أو تولى على اختلاف المذهبين (الْأَعْمى) عبد الله بن أم مكتوم (٢) ، وأم مكتوم أم أبيه ، وأبوه شريح بن مالك أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يدعو أشراف قريش إلى الإسلام فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه ، فنزلت ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرمه بعدها ويقول : (مرحبا بمن عاتبني فيه ربي) واستخلفه على المدينة مرتين (٣) (وَما يُدْرِيكَ) وأي شيء يجعلك داريا بحال هذا الأعمى (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) لعل الأعمى يتطهر بما يسمع منك من دنس الجهل ، وأصله يتزكى فأدغمت التاء في الزاي ، وكذا (أَوْ يَذَّكَّرُ) يتعظ (فَتَنْفَعَهُ) نصبه عاصم غير الأعشى جوابا للعل ، وغيره رفعه عطفا على يذّكّر (الذِّكْرى) ذكراك أي موعظتك ،

__________________

(١) في (ظ) و (ز) لأن جاءه ومحله نصب.

(٢) عبد الله بن أم مكتوم : اختلف في اسمه فأهل المدينة يقولون عبد الله وأهل العراق وهشام بن محمد السائب يقولون عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم ، صحابي شجاع ، كان ضرير البصر أسلم بمكة وهاجر إلى المدينة بعد بدر ، كان يؤذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة مع بلال ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستخلفه على المدينة يصلي بالناس في عامة غزواته ، توفي عام ٢٣ ه‍ (الأعلام ٥ / ٨٣).

(٣) ذكره الثعلبي بغير إسناد.

٤٨٦

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (٨) وَهُوَ يَخْشَى (٩) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (١٣) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ) (٢٢)

أي أنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر ولو دريت لما فرط ذلك منك.

٥ ـ ٧ ـ (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) أي من كان غنيا بالمال (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) تتعرض بالإقبال عليه حرصا على إيمانه. تصدّى بإدغام التاء في الصاد حجازي (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام إن عليك إلا البلاغ.

٨ ـ ١٠ ـ (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) يسرع في طلب الخير (وَهُوَ يَخْشى) الله ، أو الكفار (١) ، أو الكبوة كعادة العميان (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) تتشاغل ، وأصله تتلهى ، وروي أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط ولا تصدى لغني. وروي أن الفقراء في مجلس الشورى كانوا أمراء.

١١ ـ ١٦ ـ (كَلَّا) ردع ، أي لا تعد إلى مثله (إِنَّها) إن السورة أو الآيات (تَذْكِرَةٌ) موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) فمن شاء الله أن يذكره (٢) ، أو ذكّر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ ، والمعنى فمن شاء الذكر ألهمه الله تعالى إياه (فِي صُحُفٍ) صفة لتذكرة ، أي أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هي في صحف (مُكَرَّمَةٍ) عند الله (مَرْفُوعَةٍ) في السماء ، أو مرفوعة القدر والمنزلة (مُطَهَّرَةٍ) عن مس غير الملائكة ، أو عما ليس من كلام الله تعالى (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) كتبة ، جمع سافر ، أي الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح (كِرامٍ) على الله أو عن المعاصي (بَرَرَةٍ) أتقياء ، جمع بارّ.

١٧ ـ ٢٢ ـ (قُتِلَ الْإِنْسانُ) لعن (٣) الكافر ، أو هو أمية (٤) أو عتبة (ما أَكْفَرَهُ)

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) أي أذاهم في إتيانك.

(٢) في (ز) فمن شاء أن يذكره ذكره.

(٣) في (ز) لعل ، وهو خطأ.

(٤) أمية : أمية بن خلف الجمحي من مشاهير قادة المشركين في مكة قتل هو وعتبة بن ربيعة في معركة بدر (عيون الأثر ١ / ٣٤٢).

٤٨٧

(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٢) فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ٣٥ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ٣٦ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧)

استفهام توبيخ ، أي أيّ شيء حمله على الكفر ، أو تعجب (١) أي ما أشد كفره (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) من أي حقير خلقه ، وهو استفهام ومعناه التقرير. ثم بين ذلك الشيء فقال (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) على ما يشاء من خلقه (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) نصب السبيل بإضمار يسّر ، أي ثم سهل له سبيل الخروج من بطن أمه ، أو بيّن له سبيل الخير والشر (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) جعله ذا قبر يوارى فيه لا كالبهائم كرامة له ، قبر الميّت دفنه وأقبره (٢) أمره بأن يقبره ومكّنه منه (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أحياه بعد موته.

٢٣ ـ ٣٢ ـ (كَلَّا) ردع للإنسان عن الكفر (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) لم يفعل هذا الكافر ما أمره الله به من الإيمان. ولما عدّد النّعم في نفسه من ابتداء حدوثه إلى آن انتهائه أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه فقال (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) الذي يأكله ويحيا به كيف دبّرنا أمره (أَنَّا) بالفتح كوفي على أنه بدل اشتمال من الطعام ، وبالكسر على الاستنئاف غيرهم (صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) يعني المطر من السحاب (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) بالنبات (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) كالبّرّ والشعير وغيرهما مما يتغذى به (وَعِنَباً) ثمرة الكرم ، أي الطعام والفاكهة (وَقَضْباً) رطبة ، سمّي بمصدر قضبه أي قطعه لأنه يقضب مرة بعد مرة (وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً* وَحَدائِقَ) بساتين (غُلْباً) غلاظ الأشجار ، جمع غلباء (وَفاكِهَةً) لكم (وَأَبًّا) مرعى لدوابكم (مَتاعاً) مصدر ، أي منفعة (لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

٣٣ ـ ٣٧ ـ (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) صيحة القيامة لأنها تصخّ الآذان أي تصمّها ، وجوابه محذوف لظهوره (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) لتبعات بينه وبينهم ، أو لاشتغاله بنفسه (وَصاحِبَتِهِ) وزوجته (وَبَنِيهِ) بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ، ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أحب. قيل أول من يفر من أخيه هابيل ، ومن أبويه إبراهيم ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ) في نفسه (يُغْنِيهِ) يكفيه في الاهتمام به ويشغله عن غيره.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أو هو تعجب.

(٢) في (ز) وأقبره الميت أمره.

٤٨٨

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٤٢)

٣٨ ـ ٤٢ ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) مضيئة من قيام الليل ، أو من آثار الوضوء (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي أصحاب هذه الوجوه ، وهم المؤمنون ضاحكون مسرورون (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) غبار (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) يعلو الغبرة سواد كالدخان ، ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه (أُولئِكَ) أهل هذه الحالة (هُمُ الْكَفَرَةُ) في حقوق الله (الْفَجَرَةُ) في حقوق العباد ، أو لما جمعوا الفجور إلى الكفر جمع إلى سواد وجوههم الغبرة (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

٤٨٩

سورة التكوير

مكية وهي تسع وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (٥)

١ ـ ٢ ـ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ذهب ضوؤها (١) ، من كوّرت العمامة إذا لففتها ، أي يلفّ ضوؤها لفا فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق. وارتفاع الشمس بالفاعلية ، ورافعها فعل مضمر يفسره كورت لأن إذا يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) تساقطت.

٣ ـ (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) عن وجه الأرض وأبعدت ، أو سيرت في الجو تسيير السحاب.

٤ ـ (وَإِذَا الْعِشارُ) جمع عشراء ، وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة (عُطِّلَتْ) أهملت ، عطلها أهلها لاشتغالهم بأنفسهم ، وكانوا يحبسونها إذا بلغت هذه الحالة لعزتها عندهم ويعطلون ما دونها. عطلت بالتخفيف عن البزّي (٢).

٥ ـ (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) جمعت من كل ناحية. قال قتادة : يحشر كلّ شيء

__________________

(١) في (ظ) و (ز) ذهب بضوئها.

(٢) في (ز) عن اليزيدي وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.

٤٩٠

(وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ) (١٤)

حتى الذباب للقصاص ، فإذا قضي بينها ردّت ترابا (١) فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم كالطاوس ونحوه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : حشرها موتها ، يقال إذا أجحفت السّنة بالناس وأموالهم حشرتهم السنة.

٦ ـ (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) سجرت مكي وبصري من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ، أي ملئت وفجّر بعضها إلى بعض حتى تعود بحرا واحدا ، وقيل ملئت نيرانا لتعذيب أهل النار.

٧ ـ (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قرنت كلّ نفس بشكلها : الصالح مع الصالح في الجنة ، والطالح مع الطالح في النار ، أو قرنت الأرواح بالأجساد ، أو بكتبها وأعمالها ، أو نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين.

٨ ـ ٩ ـ (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ) المدفونة حية ، وكانت العرب تئد البنات خشية الإملاق وخوف الاسترقاق (سُئِلَتْ) سؤال تلطف لتقول بلا ذنب قتلت ، أو لتدلّ على قاتلها ، أو هو توبيخ لقاتلها بصرف الخطاب عنه كقوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) (٢) الآية (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) وبالتشديد يزيد ، وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون ، وعلى أن التعذيب لا يكون بلا ذنب.

١٠ ـ (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) فتحت. وبالتخفيف مدني وشامي وعاصم وسهل ويعقوب. والمراد صحف الأعمال ، تطوى صحيفة الإنسان عند موته ثم تنشر إذا حوسب ، ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم.

١١ ـ (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) قال الزجاج : قلعت كما يقلع السقف.

١٢ ـ (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أوقدت إيقادا شديدا. بالتشديد شامي ومدني وعاصم غير حماد ويحيى للمبالغة.

١٣ ـ ١٤ ـ (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أدنيت من المتقين كقوله : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ

__________________

(١) في (ز) أترابا وهو تصحيف.

(٢) المائدة ، ٥ / ١١٦.

٤٩١

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٢٤)

(لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (١) فهذه اثنتا عشرة خصلة ست منها في الدنيا والباقية في الآخرة. ولا وقف مطلقا من أول السورة إلى ما أحضرت ، لأن عامل النصب في إذا الشمس وفيما عطف عليه جوابها وهو (عَلِمَتْ نَفْسٌ) أي كلّ نفس ، ولضرورة انقطاع النفس على كلّ آية جوّز الوقف (ما أَحْضَرَتْ) من خير وشر.

١٥ ـ ١٦ ـ (فَلا أُقْسِمُ) لا زائدة (بِالْخُنَّسِ) بالرواجع ، بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعا إلى أوّله (الْجَوارِ) السيارة (الْكُنَّسِ) الغيّب ، من كنس الوحش إذا دخل كناسه ، قيل هي الدراري الخمسة بهرام وزحل وعطارد والزّهرة والمشترى تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس ، فخنوسها رجوعها ، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس ، وقيل هي جميع الكواكب.

١٧ ـ ٢١ ـ (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أقبل بظلامه ، أو أدبر فهو من الأضداد (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) امتد ضوؤه ، ولما كان إقبال الصبح يلازمه الروح والنسيم جعل ذلك نفسا له مجازا ، وجواب القسم (إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ) أي جبريل عليه‌السلام ، وإنما أضيف القرآن إليه لأنه هو الذي نزل به (كَرِيمٍ) عند ربه (ذِي قُوَّةٍ) قدرة على ما يكلّف لا يعجز عنه ولا يضعف (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) عند الله (مَكِينٍ) ذي جاه ومنزلة. ولما كانت حال المكانة على حسب حال الممكّن (٢) قال : عند ذي العرش ، ليدلّ على عظم منزلته ومكانته (مُطاعٍ ثَمَ) أي في السماوات يطيعه من فيها ، أو عند ذي العرش أي عند الله يطيعه ملائكته المقربون ، يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه (أَمِينٍ) على الوحي.

٢٢ ـ ٢٤ ـ (وَما صاحِبُكُمْ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِمَجْنُونٍ) كما تزعم الكفرة ، وهو عطف على جواب القسم (وَلَقَدْ رَآهُ) رأى محمد جبريل عليهما‌السلام على صورته (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) بمطلع الشمس (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ) وما محمد على الوحي (بِضَنِينٍ) ببخيل ، من الضنّ وهو البخل ، أي لا يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة في الحلوان بل يعلّمه كما علّم ولا يكتم شيئا مما علم. بظنين مكي وأبو عمرو وعلي ، أي بمتهم

__________________

(١) ق ، ٥٠ / ٣١.

(٢) في (ظ) المكن ، وفي (ز) المكين.

٤٩٢

(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (٢٧) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (٢٩)

فينقص شيئا مما أوحي إليه أو يزيد فيه ، من الظنة وهي التهمة.

٢٥ ـ ٢٩ ـ (وَما هُوَ) وما القرآن (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) طريد ، وهو كقوله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) (١) أي ليس هو بقول بعض المسترقة للسمع وبوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافا ، أو ذهابا في بنيّات الطريق أين تذهب؟ مثّلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل ، وقال الزجاج : معناه فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيّنت لكم. وقال الجنيد : فأين تذهبون عنا وإن من شيء إلا عندنا (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ما القرآن إلا عظة للخلق (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) بدل من العالمين (أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي القرآن ذكر لمن شاء الاستقامة ، يعني أن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعوظين جميعا (وَما تَشاؤُنَ) الاستقامة (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) مالك الخلق أجمعين.

__________________

(١) الشعراء ، ٢٦ / ٢١٠.

٤٩٣

سورة الانفطار

مكية وهي تسع عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) (٨)

٨٢ / ١ ـ ٨ ١ ـ ٥ ـ (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) انشقت (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) تساقطت (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) فتح بعضها إلى بعض وصارت البحار بحرا واحدا (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) بحثت وأخرج موتاها ، وجواب إذا (عَلِمَتْ نَفْسٌ) أي كلّ نفس برة وفاجرة (ما قَدَّمَتْ) ما عملت من طاعة (وَأَخَّرَتْ) وتركت فلم تعمل ، أو ما قدمت من الصدقات وما أخرت من الميراث.

٦ ـ ٨ ـ (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) قيل الخطاب لمنكري البعث (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ) أي شيء خدعك حتى ضيّعت ما وجب عليك مع كرم ربّك حيث أنعم عليك بالخلق والتسوية والتعديل. وعنه عليه‌السلام حين تلاها : غره جهله (١). وعن عمر رضي الله عنه : غره حمقه. وعن الحسن : غره شيطانه. وعن الفضيل : لو خوطبت أقول غرتني ستورك المرخاة. وعن يحيى بن معاذ أقول : غرني برّك بي سالفا وآنفا (فَسَوَّاكَ) فجعلك مستوي الخلق سالم الأعضاء (فَعَدَلَكَ) فصيّرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا إحدى العينين أوسع ،

__________________

(١) أبو عبيد في فضائل القرآن بسنده عن صالح بن سمارة قال : بلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية فذكره.

٤٩٤

(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ(١٥) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (١٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩)

ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود ، أو جعلك معتدل الخلق تمشي قائما لا كالبهائم. وبالتخفيف كوفي وهو بمعنى المشدد أي عدّل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت فكنت معتدل الخلقة متناسبا (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) ما مزيد للتوكيد أي ركّبك في أي صورة اقتضتها مشيئته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر ، ولم تعطف هذه الجملة كما عطف ما قبلها لأنها بيان لعدلك ، والجار يتعلق بركّبك على معنى وضعك في بعض الصور وسكّنك فيه (١) ، أو بمحذوف أي ركّبك حاصلا في بعض الصور.

٩ ـ ١٢ ـ (كَلَّا) ردع عن الغفلة عن الله تعالى (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أصلا ، وهو الجزاء ، أو دين الإسلام فلا تصدقون ثوابا ولا عقابا (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) أعمالكم وأقوالكم من الملائكة (كِراماً كاتِبِينَ) يعني أنكم تكذّبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم ، وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء وأنه عند الله من جلائل الأمور ، وفيه إنذار وتهويل للمجرمين ولطف للمتقين. وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال : ما أشدّها من آية على الغافلين.

١٣ ـ ١٩ ـ (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) إن المؤمنين لفي نعيم الجنة (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وإن الكفار لفي النار (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) يدخلونها يوم الجزاء (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي لا يخرجون منها كقوله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) (٢) ثم عظم شأن يوم القيامة فقال (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) فكرر للتأكيد والتهويل ، وبيّنه بقوله (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي لا تستطيع دفعا عنها ولا نفعا لها بوجه وإنما تملك الشفاعة بالإذن. يوم بالرفع مكي وبصري أي هو يوم ، أو بدل من يوم الدين ، ومن نصب فبإضمار اذكر ، أو بإضمار يدانون لأن الدين يدل عليه (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) أي لا أمر إلا لله تعالى وحده فهو القاضي فيه دون غيره.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) مكنك فيها.

(٢) المائدة ، ٥ / ٣٧.

٤٩٥

سورة المطففين

مختلف فيها وهي ست وثلاثون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (٦)

١ ـ ٦ ـ (وَيْلٌ) مبتدأ خبره (لِلْمُطَفِّفِينَ) للذين يبخسون حقوق الناس في الكيل والوزن (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي إذا أخذوا بالكيل من الناس يأخذون حقوقهم وافية تامة ، ولما كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرّهم ويتحامل فيه عليهم أبدل على مكان من للدلالة على ذلك ، ويجوز أن يتعلق على بيستوفون ، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الاختصاص ، أي يستوفون على الناس خاصة. وقال الفراء : من وعلى يعتقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه ، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك ، وإذا قال اكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك. والضمير المنصوب في (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) راجع إلى الناس ، أي كالوا لهم أو وزنوا لهم ، فحذف الجارّ وأوصل الفعل ، وإنما لم يقل أو اتزنوا كما قيل أو وزنوهم اكتفاء ، ويحتمل أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة لأنهم يزعزعون (١) ويحتالون في الملء وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين (يُخْسِرُونَ) ينقصون ، يقال

__________________

(١) في (ز) يدعدعون وهو.

٤٩٦

(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧)

خسر الميزان وأخسره (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني يوم القيامة ، أدخل همزة الاستفهام على لا النافية توبيخا ، وليست هذه للتنبيه ، وفيه إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخمينا أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذّرّة ، ولو ظنوا أنهم يبعثون ما نقصوا في الكيل والوزن. وعن عبد الملك بن مروان أن أعرابيا قال له : لقد سمعت ما قال الله في المطففين ـ أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم ـ الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن؟ ونصب (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) بمبعوثون (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) لأمره وجزائه ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ هنا بكى نحيبا وامتنع من قراءة ما بعده.

٧ ـ ٩ ـ (كَلَّا) ردع وتنبيه ، أي ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب ، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه ، ثم اتبعه وعيد الفجار على العموم فقال (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) صحائف أعمالهم (لَفِي سِجِّينٍ. وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ. كِتابٌ مَرْقُومٌ) فإن قلت قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سجين وفسّر سجينا بكتاب مرقوم فكأنه قيل إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟ قلت : سجين كتاب جامع ، هو ديوان الشرّ دوّن الله فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس ، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه من رقم الثياب علامتها ، والمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان ، وسمّي سجّينا فعّيلا من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم ، أو لأنه مطروح تحت الأرض السابعة في مكان وحش مظلم ، وهو مسكن إبليس وذريته ، وهو اسم علم منقول من وصف كحاتم ، منصرف لوجود سبب واحد وهو العلميّة فحسب.

١٠ ـ ١٧ ـ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) يوم يخرج المكتوب (لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) الجزاء والحساب (وَما يُكَذِّبُ بِهِ) بذلك اليوم (إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) مجاوز للحد

٤٩٧

(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨)

(أَثِيمٍ) مكتسب للآثام (١) (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي القرآن (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أحاديث المتقدمين. وقال الزجاج : أساطير : أباطيل واحدها أسطورة مثل أحدوثة وأحاديث (كَلَّا) ردع للمعتدي الأثيم عن هذا القول (بَلْ) نفي لما قالوا ، ويقف حفص على بل وقيفة (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) غطّاها كسبهم ، أي غلب على قلوبهم حتى غمرها ما كانوا يكسبون من المعاصي. وعن الحسن : الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب. وعن الضحاك : الرّين موت القلب. وعن أبي سليمان (٢) : الرين والقسوة زماما الغفلة ودواؤهما إدمان الصوم فإن وجد بعد ذلك قسوة فليترك الإدام (كَلَّا) ردع عن الكسب الرائن على القلب (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ) أي (٣) عن رؤية ربّهم (يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) لممنوعون والحجب : المنع ، قال الزجاج : في الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربّهم وإلا لا يكون التخصيص مفيدا. وقال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في العقبى عن رؤيته. وقال مالك بن أنس رحمه‌الله : لما حجب أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه. وقيل : عن كرامة ربّهم لأنهم في الدنيا لم يشكروا نعمه فيئسوا في الآخرة عن كرامته مجازاة ، والأول أصح لأن الرؤية أقوى الكرامات فالحجب عنها دليل الحجب عن غيرها (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) ثم بعد كونهم محجوبين عن ربهم لداخلوا (٤) النار (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا العذاب هو الذي كنتم تكذّبون به في الدنيا وتنكرون وقوعه.

١٨ ـ ٢٨ ـ (كَلَّا) ردع عن التكذيب (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) ما كتب من أعمالهم ، والأبرار : المطيعون الذين لا يطفّفون ويؤمنون بالبعث ، لأنه ذكر في مقابلة الفجّار وبيّن الفجار بأنهم المكذّبون بيوم الدين. وعن الحسن : البرّ الذي لا يؤذي

__________________

(١) في (ظ) و (ز) للإثم.

(٢) أبو سليمان : عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي الداراني ، أبو سليمان ، زاهد مشهور من أهل داريا بغوطة دمشق ، أقام مدة في بغداد ، كان من كبار المتصوفين (الأعلام ٧ / ٢٩٣).

(٣) ليس في (ظ) و (ز) أي.

(٤) في (ز) لداخلون.

٤٩٨

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (٣١) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ (٣٢) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) (٣٣)

الذّرّ (لَفِي عِلِّيِّينَ) هو علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كلّ ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين ، منقول من جمع علّيّ ، فعّيل من العلوّ سمّي به لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة ، أو لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون (١) تكريما له (وَما أَدْراكَ) ما الذي أعلمك يا محمد (ما عِلِّيُّونَ) أي شيء هو (٢) (كِتابٌ مَرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) تحضره الملائكة ، قيل يشهد عمل الأبرار مقربو كلّ سماء إذا رفع (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) تنعم في الجنان (عَلَى الْأَرائِكِ) الأسرة في الحجال (يَنْظُرُونَ) إلى كرامة الله ونعمه ، وإلى أعدائهم كيف يعذبون (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) بهجة التنعّم وطراوته (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) شراب خالص (٣) (مَخْتُومٍ. خِتامُهُ مِسْكٌ) تختم أوانيه بمسك بدل الطين الذي يختم به الشراب في الدنيا. أمر الله تعالى بالختم عليه إكراما لأصحابه ، أو ختامه مسك مقطعه رائحة مسك أي توجد رائحة المسك عند خاتمة شربه. خاتمه عليّ (وَفِي ذلِكَ) الرحيق أو النعيم (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) فليرغب الراغبون ، وذا إنما يكون بالمسارعة إلى الخيرات والانتهاء عن السيئات (وَمِزاجُهُ) ومزاج الرحيق (مِنْ تَسْنِيمٍ) هو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنّمه إذا رفعه ، لأنها أرفع شراب في الجنة ، أو لأنها تأتيهم من فوق وتنصبّ في أوانيهم (عَيْناً) حال ، أو نصب على المدح (يَشْرَبُ بِهَا) أي منها (الْمُقَرَّبُونَ) عن ابن مسعود رضي الله عنه (٤) : يشربها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين.

٢٩ ـ ٣٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) كفروا (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) في الدنيا استهزاء بهم (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) يشير بعضهم إلى بعض بالعين طعنا فيهم وعيبا لهم. قيل جاء عليّ رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا وقالوا : أترون هذا الأصلع ، فنزلت قبل أن يصل عليّ إلى رسول

__________________

(١) الكروبيون : المقربون (انظر القاموس ١ / ١٢٣).

(٢) في النسخ المخطوطة إيش وهي لهجة.

(٣) زاد في (ظ) و (ز) لا غش فيه.

(٤) في (ظ) و (ز) عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم. والصواب ما أثبتناه فاللفظ لابن مسعود ، وما رواه ابن عباس قريبا منه وقد ذكر الطبري الروايتين من طرق عدة.

٤٩٩

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ) أي إذا رجع الكفار إلى منازلهم (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) متلذذين بذكرهم والسخرية منهم. وقرأ غير حفص فاكهين أي فرحين (وَإِذا رَأَوْهُمْ) وإذا رأى الكافرون المؤمنين (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي خدع محمد هؤلاء فضلوا وتركوا اللذات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات ، فقد تركوا الحقيقة بالخيال ، وهذا هو عين الضلال (وَما أُرْسِلُوا) وما أرسل الكفار (عَلَيْهِمْ) على المؤمنين (حافِظِينَ) يحفظون عليهم أحوالهم ويرقبون أعمالهم ، بل أمروا بإصلاح أنفسهم واشتغالهم بذلك أولى بهم من تتبع غيرهم وتسفيه أحلامهم.

٣٤ ـ ٣٦ ـ (فَالْيَوْمَ) أي يوم القيامة (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) ثمّ كما ضحكوا منهم هنا مجازاة (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) حال من يضحكون (١) ، أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصّغار بعد العزة والاستكبار وهم على الأرائك آمنون ، وقيل يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم : هلموا إلى الجنة فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم فيضحك المؤمنون منهم (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) هل جوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا إذا فعل بهم ما ذكر (٢).

__________________

(١) ليس في (ز) من يضحكون.

(٢) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٠٠