تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ١٩ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ ٢٠ أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) (٢١)

الجهّال ودينهم المبنيّ على هوى وبدعة ، وهم رؤساء قريش حين قالوا : ارجع إلى دين آبائك.

١٩ ـ (إِنَّهُمْ) إنّ هؤلاء الكافرين (لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) وهم موالوه ، وما أبين الفصل (١) بين الولايتين.

٢٠ ـ (هذا) أي القرآن (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب ، كما جعل روحا وحياة (وَهُدىً) من الضلالة (وَرَحْمَةٌ) من العذاب (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) لمن آمن وأيقن بالبعث.

٢١ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) أم منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان (اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) اكتسبوا المعاصي والكفر ، ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله أي كاسبهم (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) أن نصيّرهم ، وهو من جعل المتعدّي إلى مفعولين ، فأولهما الضمير والثاني الكاف في (كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) والجملة التي هي (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) بدل من الكاف ، لأنّ الجملة تقع مفعولا ثانيا ، فكانت في حكم المفرد ، سواء عليّ وحمزة وحفص بالنصب على الحال من الضمير في نجعلهم ، ويرتفع محياهم ومماتهم بسواء ، وقرأ الأعمش ومماتهم بالنصب جعل محياهم ومماتهم ظرفين كمقدم الحاجّ ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا وأن يستووا مماتا لافتراق أحوالهم أحياء حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات وأولئك على اقتراف السيئات ، ومماتا حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والكرامة وأولئك على اليأس من الرحمة والندامة ، وقيل معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة في الرزق والصحة ، وعن تميم الداري (٢) رضي الله عنه أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام فبلغ هذه الآية فجعل يبكي ويردد إلى الصباح ، وعن الفضيل أنه بلغها فجعل يرددها ويبكي ويقول : يا فضيل ليت شعري من

__________________

(١) في (ز) الفضل.

(٢) تميم الداري : هو تميم بن أوس بن خارجة الداري ، صحابي من لخم أسلم سنة ٩ ه‍ كان أول من أسرج السراج بالمسجد توفي في فلسطين عام ٤٠ ه‍ (الأعلام ٢ / ٨٧).

٢٠١

(وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢٤)

أي الفريقين أنت (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بئس ما يقضون إذ حسبوا (١) أنهم كالمؤمنين ، فليس من أقعد على بساط الموافقة كمن أقعد في (٢) مقام المخالفة بل نفرّق بينهم فنعلي المؤمنين ونخزي الكافرين.

٢٢ ـ (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ليدلّ على قدرته (وَلِتُجْزى) معطوف على هذا المعلّل المحذوف (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

٢٣ ـ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي هو مطواع لهوى النفس يتّبع ما يدعوه (٣) إليه ، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) منه باختياره الضلال ، أو أنشأ فيه فعل الضلال على علم منه بذلك (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) فلا يقبل وعظا (وَقَلْبِهِ) فلا يعتقد حقا (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) فلا يبصر عبرة ، غشوة حمزة وعليّ (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) من بعد إضلال الله إياه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) بالتخفيف حمزة وعلي وحفص ، وغيرهم بالتشديد ، فأصل الشر متابعة الهوى والخير كلّه في مخالفته فنعم ما قال (٤) :

إذا طلبتك النفس يوما بشهوة

وكان إليها للخلاف طريق

فدعها وخالف ما هويت فإنما

هواك عدوّ والخلاف صديق

٢٤ ـ (وَقالُوا ما هِيَ) أي ما الحياة ، لأنهم وعدوا حياة ثانية (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) التي نحن فيها (نَمُوتُ وَنَحْيا) نموت نحن ونحيا ببقاء أولادنا ، أو يموت بعض ويحيا بعض ، أو نكون مواتا نطفا في الأصلاب ونحيا بعد ذلك ، أو يصيبنا الأمران الموت والحياة ، يريدون الحياة في الدنيا والموت بعدها وليس وراء ذلك حياة ، وقيل هذا كلام من يقول بالتناسخ ، أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في موات فيحيا به (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) كانوا يزعمون أنّ مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس

__________________

(١) في (ز) إذا حسبوا.

(٢) في (ز) على.

(٣) في (ظ) و (ز) تدعوه.

(٤) لم أصل إليه.

٢٠٢

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩)

وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح بإذن الله ، وكانوا يضيفون كلّ حادثة تحدث إلى الدهر والزمان ، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان ومنه قوله عليه‌السلام : (لا تسبّوا الدهر فإنّ الله هو الدهر) (١) أي فإنّ الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) وما يقولون ذلك من علم ويقين ولكن من ظن وتخمين.

٢٥ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي القرآن ، يعني ما فيه من ذكر البعث (بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ) وسمّي قولهم حجّة وإن لم يكن حجّة لأنه في زعمهم حجّة (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) أي أحيوهم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعوى البعث ، وحجّتهم خبر كان واسمها أن قالوا ، والمعنى ما كان حجّتهم إلا مقالتهم : ائتوا بآبائنا ، وقرىء حجتهم بالرفع على أنها اسم كان وأن قالوا الخبر.

٢٦ ـ (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) في الدنيا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) فيها عند انتهاء أعماركم (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي يبعثكم يوم القيامة جميعا ، ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على الإتيان بآبائكم ضرورة (لا رَيْبَ فِيهِ) أي في الجمع (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) قدرة الله على البعث لإعراضهم عن التفكّر في الدلائل.

٢٧ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) عامل النصب في يوم تقوم يخسر ، ويومئذ بدل من يوم تقوم.

٢٨ ـ (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) جالسة على الركب ، يقال : جثا فلان يجثو إذا جلس على ركبتيه ، وقيل جاثية مجتمعة (كُلَّ أُمَّةٍ) بالرفع على الابتداء ، كلّ بالفتح يعقوب على الإبدال من كلّ أمة (تُدْعى إِلى كِتابِهَا) إلى صحائف أعمالها فاكتفى باسم الجنس ، فيقال لهم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا.

٢٩ ـ (هذا كِتابُنا) أضيف الكتاب إليهم لملابسته إياهم ، لأنّ أعمالهم مثبتة

__________________

(١) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ لمسلم.

٢٠٣

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (٣١) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ)(٣٤)

فيه ، وإلى الله تعالى لأنّه مالكه والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ) يشهد عليكم بما عملتم (بِالْحَقِ) من غير زيادة ولا نقصان (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي نستكتب الملائكة أعمالكم ، وقيل نسخت واستنسخت بمعنى ، وليس ذلك بنقل من كتاب بل معناه نثبت.

٣٠ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) جنته (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ).

٣١ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فيقال لهم (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) والمعنى ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان بها (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) كافرين.

٣٢ ـ (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالجزاء (حَقٌّ وَالسَّاعَةُ) بالرفع عطف على محلّ إنّ واسمها. والساعة حمزة عطف على وعد الله (لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي شيء الساعة (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) أصله نظن ظنا ، ومعناه إثبات الظنّ فحسب ، فأدخل حرفا (١) النفي والاستثناء ليفاد إثبات الظنّ مع نفي ما سواه ، وزيد نفي ما سوى الظن توكيدا بقوله (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ).

٣٣ ـ (وَبَدا لَهُمْ) وظهر لهؤلاء الكفار (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) قبائح أعمالهم ، أو عقوبات أعمالهم السيئات كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢) (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ونزل بهم جزاء استهزائهم.

٣٤ ـ (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي نترككم في العذاب كما تركتم عدّة لقاء يومكم ، وهي الطاعة ، وإضافة اللقاء إلى اليوم كإضافة المكر في

__________________

(١) في (ظ) و (ز) حرف.

(٢) الشورى ، ٤٢ / ٤٠.

٢٠٤

(ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧)

قوله : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (١) أي نسيتم لقاء الله تعالى في يومكم هذا ولقاء جزائه (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أي منزلكم (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ).

٣٥ ـ (ذلِكُمْ) العذاب (بِأَنَّكُمُ) بسبب أنّكم (اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) لا يخرجون حمزة وعليّ (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربّهم ، أي يرضوه.

٣٦ ـ (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي فاحمدوا الله الذي هو ربّكم وربّ كلّ شيء من السماوات والأرض والعالمين ، فإنّ مثل هذه الربوبية العامة توجب الحمد والثناء على كلّ مربوب.

٣٧ ـ (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وكبّروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته في السماوات والأرض (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه (الْحَكِيمُ) في أحكامه.

__________________

(١) سبأ ، ٣٤ / ٣٣.

٢٠٥

سورة الأحقاف

مكية وهي خمس وثلاثون آية

بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (٤)

٤٦ / ١ ـ ٤ ١ ـ ٣ ـ (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) ملتبسا بالحكمة (١) (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه وهو يوم القيامة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا) عما أنذروه من هول ذلك اليوم الذي لا بدّ لكلّ مخلوق من انتهائه إليه (مُعْرِضُونَ) لا يؤمنون به ولا يهتمّون بالاستعداد له ، ويجوز أن تكون ما مصدرية ، أي عن إنذارهم ذلك اليوم.

٤ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تعبدونه من الأصنام (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي شيء خلقوا مما في الأرض إن كانوا آلهة (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) شركة مع الله في خلق السماوات (٢) (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أي من قبل هذا الكتاب ، وهو القرآن ، يعني أنّ هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك ، وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك ، فأتوا

__________________

(١) في (ز) بالحق.

(٢) زاد في (ظ) و (ز) والأرض.

٢٠٦

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (٧)

بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنّ الله أمركم بعبادة الأوثان.

٥ ـ (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي أبدا.

٦ ـ (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) أي الأصنام لعبدتها (وَكانُوا) أي الأصنام (بِعِبادَتِهِمْ) بعبادة عبدتهم (كافِرِينَ) يقولون ما دعوناهم إلى عبادتنا ، ومعنى الاستفهام في من أضلّ إنكار أن يكون في الضّلّال كلّهم أبلغ ضلالا من عبدة الأوثان حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على كلّ شيء ويدعون من دونه جمادا لا يستجيب لهم ولا قدرة له على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا لهم أعداء ، وكانوا عليهم ضدّا ، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرّة ، لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم ، ولما أسند إليهم ما يسند إلى أولي العلم من الاستجابة والغفلة قيل من وهم ، ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة ، طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها ، ونحوه قوله تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) (١).

٧ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) جمع بينة وهي الحجّة والشاهد ، أو واضحات مبينات (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) المراد بالحق الآيات وبالذين كفروا المتلوّ عليهم فوضع الظاهران موضع الضميرين للتسجيل عليهم بالكفر وللمتلوّ بالحق (لَمَّا جاءَهُمْ) أي بادهوه (٢) بالجحود ساعة أتاهم وأول ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر أمره في البطلان لا شبهة فيه.

__________________

(١) فاطر ، ٣٥ / ١٤.

(٢) بادهوه : فاجأوه.

٢٠٧

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠))

٨ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا إلى ذكر قولهم : إنّ محمدا (١) افتراه أي اختلقه وأضافه إلى الله كذبا ، والضمير للحق والمراد به الآيات (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي إن افتريته على سبيل الفرض عاجلني الله بعقوبة الافتراء عليه فلا تقدرون على كفّه عن معاجلتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه؟ (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله والطعن في آياته وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يشهد لي بالصدق والبلاغ ، ويشهد عليكم بالجحود والإنكار ، ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) موعدة بالغفران والرحمة إن تابوا عن الكفر وآمنوا.

٩ ـ (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي بديعا كالخفّ بمعنى الخفيف ، والمعنى إني لست بأول مرسل فتنكروا نبوّتي (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان. وعن الكلبي (٢) : قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى نكون على هذا؟ فقال : (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأترك بمكة أم أؤمر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها ـ يعني في منامه ـ ذات نخيل وشجر). وما في ما يفعل يجوز أن يكون موصولة منصوبة وأن تكون استفهامية مرفوعة ، وإنما دخل لا في قوله ولا بكم مع أنّ يفعل مثبت غير منفي لتناول النفي فيما أدري ما وما في حيزه (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

١٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي

__________________

(١) في (ز) زاد : عليه‌السلام. مع أن القول قول المشركين وهو من زيادة الناسخ للتبرك ولا محل لها هنا ، وهذا كثير في المخطوط والمطبوع.

(٢) قال الإمام الحوت : قال أحمد في «تفسير الكلبي» : من أوله إلى آخره كذب ، قيل له : أفيحل النظر فيه؟ قال : لا. (أسنى المطالب ص ٣٦٨).

٢٠٨

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (١١)

(إِسْرائِيلَ) هو عبد الله بن سلام عند الجمهور ، ولهذا قيل إنّ هذه الآية مدنية لأنّ إسلام ابن سلام بالمدينة. روي أنه لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة نظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذّاب ، قال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبي : ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة ، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته) فقال : أشهد أنك رسول الله حقا (١) (عَلى مِثْلِهِ) الضمير للقرآن ، أي مثله في المعنى ، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك ، ويجوز أن يكون المعنى إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك ، يعني كونه من عند الله (فَآمَنَ) الشاهد (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان به ، وجواب الشرط محذوف تقديره إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين ، ويدلّ على هذا المحذوف (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) والواو الأولى عاطفة لكفرتم على فعل الشرط ، وكذلك الواو الآخرة (٢) عاطفة لاستكبرتم على شهد شاهد ، وأما الواو في وشهد فقد عطفت جملة قوله شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم على جملة قوله كان من عند الله وكفرتم به ، والمعنى قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله فإيمانه به مع استكباركم عنه وعن الإيمان به ألستم أضلّ الناس وأظلمهم؟

١١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لأجلهم ، وهو كلام كفار مكّة قالوا : (٣) عامة من يتّبع محمدا السّقّاط ، يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) العامل في إذ محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم ، وقوله (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) مسبب عنه ، وقولهم إفك قديم أي كذب

__________________

(١) أخرجه البخاري من رواية حميد عن أنس وأتم منه.

(٢) في (ظ) و (ز) الأخيرة.

(٣) زاد في (ظ) و (ز) إن.

٢٠٩

(وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١٥)

متقادم كقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١).

١٢ ـ (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي القرآن (كِتابُ مُوسى) أي التوراة ، وهو مبتدأ ومن قبله ظرف واقع خبرا مقدما عليه ، وهو ناصب (إِماماً) على الحال نحو في الدار زيد قائما ، ومعنى إماما قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإمام (وَرَحْمَةً) لمن آمن به وعمل بما فيه (وَهذا) القرآن (كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لكتاب موسى ، ولما بين يديه وتقدّمه من جميع الكتب (لِساناً عَرَبِيًّا) حال من ضمير الكتاب في مصدّق والعامل فيه مصدّق أو من كتاب لتخصصه بالصفة ويعمل فيه معنى الإشارة ، وجوّز أن يكون مفعولا لمصدّق أي يصدّق ذا لسان عربي وهو الرسول (لِيُنْذِرَ) أي الكتاب ، لتنذر حجازي وشامي (الَّذِينَ ظَلَمُوا) كفروا (وَبُشْرى) في محلّ النصب معطوف على محل لينذر لأنه مفعول له (لِلْمُحْسِنِينَ) للمؤمنين المطيعين.

١٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) على توحيد الله وشريعة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في القيامة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) عند الموت.

١٤ ـ (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) حال من أصحاب الجنة والعامل فيه معنى الإشارة الذي دلّ عليه أولئك (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) جزاء مصدر لفعل دلّ عليه الكلام أي جوّزوا جزاء.

١٥ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) كوفي ، أي وصينا (٢) بأن يحسن بوالديه إحسانا ، حسنا غيرهم أي وصيناه بوالديه أمرا ذا حسن أو بأمر ذي حسن ، فهو في

__________________

(١) الأنعام ، ٦ / ٢٥. الأنفال ، ٨ / ٣١. النحل ، ١٦ / ٢٤. المؤمنون ، ٢٣ / ٨٣. الفرقان ، ٢٥ / ٥. النمل ، ٢٧ / ٦٨. الأحقاف ، ٤٦ / ١٧. المطففين ، ٨٣ / ١٣.

(٢) في (ظ) و (ز) وصيناه.

٢١٠

(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (١٦)

موضع البدل من قوله بوالديه ، وهو من بدل الاشتمال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) بفتح الكافين حجازي وأبو عمرو ، وهما لغتان في معنى المشقّة ، وانتصابه على الحال أي ذات كره أو على أنه صفة للمصدر أي حملا ذا كره (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) ومدة حمله وفطامه (ثَلاثُونَ شَهْراً) وفيه دليل على أنّ أقلّ مدة الحمل ستة أشهر لأنّ مدة الرضاع إذا كانت حولين لقوله تعالى : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (١) بقيت للحمل ستة أشهر ، وبه قال أبو يوسف ومحمد رحمهما‌الله ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : المراد به الحمل بالأكفّ. وفصله يعقوب ، والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) هو جمع لا واحد له من لفظه ، وكان سيبويه يقول واحده شدة وبلوغ الأشدّ أن يكتهل ويستوفي السنّ التي تستحكم فيها قوته وعقله ، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين ، وعن قتادة : ثلاث وثلاثون سنة ، ووجهه أن يكون ذلك أول الأشدّ وغايته الأربعون (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) المراد به نعمة التوحيد والإسلام ، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه لأنّ النعمة عليهما نعمة عليه (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) قيل : هي الصلوات الخمس (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي اجعل ذريتي موقعا للصلاح ومظنة له (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) من كلّ ذنب (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) من المخلصين.

١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) حمزة وعليّ وحفص ، يتقبّل ويتجاوز أحسن غيرهم (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) هو كقولك أكرمني الأمير في ناس من أصحابه تريد أكرمني في جملة من أكرم منهم ونظمني في عدادهم ، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد لأنّ قوله نتقبّل ونتجاوز وعد من الله لهم بالتقبّل والتجاوز ، قيل نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي أبيه أبي قحافة وأمّه أم الخير وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم ، فإنه آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، ودعا لهما وهو ابن أربعين سنة ، ولم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ٢٣٣.

٢١١

(وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٧)

ووالداه وبنوه وبناته غير أبي بكر رضي الله عنهم (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) في الدنيا.

١٧ ـ (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) مبتدأ خبره أولئك الذين حقّ عليهم القول ، والمراد بالذي قال الجنس القائل ذلك القول ، ولذلك وقع الخبر مجموعا ، وعن الحسن : هو في الكافر العاقّ لوالديه المكذّب بالبعث ، وقيل نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر (١) رضي الله عنه قبل إسلامه ، ويشهد لبطلانه كتاب معاوية (٢) إلى مروان (٣) ليأمر الناس بالبيعة ليزيد (٤) ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر لقد جئتم بها هرقلية ، أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان : يا أيها الناس هذا الذي قال الله تعالى فيه : والذي قال لوالديه أف لكما. فسمعت عائشة رضي الله عنها فغضبت وقالت : والله ما هو به ولو شئت أن أسميه لسميته ولكنّ الله تعالى لعن أباك وأنت في صلبه فأنت فضض من لعنة الله (٥) ، أي قطعة (أُفٍّ لَكُما) مدني وحفص ، أفّ مكي وشامي ، أفّ غيرهم وهو صوت إذا صوّت به الإنسان علم أنه متضجر كما إذا قال حسّ علم أنه متوجّع ، واللام للبيان أي هذا التأفيف لكما خاصة ولأجلكما دون غيركما (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أن أبعث وأخرج من الأرض (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) ولم يبعث منهم أحد (وَهُما) أبواه (يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يقولان الغياث بالله منك ومن قولك ، وهو استعظام لقوله ، ويقولان له (وَيْلَكَ) دعاء عليه بالثبور ، والمراد به الحثّ والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك (آمِنْ) بالله وبالبعث (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث (حَقٌ) صدق (فَيَقُولُ) لهما

__________________

(١) عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، صحابي ابن صحابي ، كان من أشجع قريش ، شاعرا ، حضر اليمامة وشهد غزو إفريقية وحضر وقعة الجمل ، ولد قبل الإسلام وتوفي عام ٥٣ ه‍ (الأعلام ٣ / ٣١١).

(٢) معاوية بن أبي سفيان ، مؤسس الدولة الأموية في الشام أسلم يوم فتح مكة ولد عام ٢٠ ق. ه. اختلف مع الإمام علي على دم سيدنا عثمان ، تسلم الخلافة عام ٤١ ه‍ وفي عهده بلغت فتوحاته المحيط الأطلسي توفي عام ٦٠ ه‍ (الأعلام ٧ / ٢٦١).

(٣) مروان : هو مروان بن الحكم بن أبي العاص ، أول من ملك من بني أمية وإليه ينسب بنو مروان ولد بمكة عام ٢ ه‍ ونشأ بالطائف وتوفي عام ٦٥ ه‍ (الأعلام ٧ / ٢٠٧).

(٤) يزيد : هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ولد عام ٢٥ ه‍ ، ولي الخلافة عام ٦٠ ه‍ وفي عهده استشهد الحسين بن علي رضي الله عنهما ، توفي عام ٦٤ ه‍ (الأعلام ٨ / ١٨٩).

(٥) النسائي ، والحاكم بألفاظ متقاربة.

٢١٢

(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٢١)

ما هذا القول (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

١٨ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (١) (فِي أُمَمٍ) في جملة أمم (قَدْ خَلَتْ) مضت (٢) (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ).

١٩ ـ (وَلِكُلٍ) من الجنسين المذكورين الأبرار والفجار (دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشرّ ، أو من أجل ما عملوا منهما ، وقيل (٣) درجات وقد جاء : الجنة درجات والنار دركات ، على وجه التغليب (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) بالياء مكي وبصري وعاصم (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وليوفّيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم ، قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات ، فاللام متعلقة بمحذوف.

٢٠ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) عرضهم على النار تعذيبهم بها من قولهم عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به ، وقيل المراد عرض النار عليهم من قولهم عرضت الناقة على الحوض يريدون عرض الحوض عليها فقلبوا (أَذْهَبْتُمْ) أي يقال لهم أذهبتم ، وهو ناصب الظرف (طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) أي ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم وقد ذهبتم به وأخذتموه ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظّكم شيء منها ، وعن عمر رضي الله عنه : لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا ولكني أستبقي طيباتي (٤) (وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) بالطيبات (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي الهوان وقرىء به (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) تتكبرون (فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي باستكباركم وفسقكم.

٢١ ـ (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) أي هودا (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) جمع حقف وهو

__________________

(١) هود ، ١١ / ١١٩. السجدة ، ٣٢ / ١٣.

(٢) في (ظ) و (ز) قد مضت.

(٣) في (ز) وإنما قال.

(٤) الطبري ، وفيه : وألينكم لباسا.

٢١٣

(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)(٢٥)

رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء ، من احقوقف الشيء إذا اعوجّ. عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو واد بين عمان ومهرة (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) من قبل هود ومن خلف هود ، وقوله وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه وقع اعتراضا بين أنذر قومه وبين (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) والمعنى واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم ، وقد أنذر من تقدّمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك.

٢٢ ـ (قالُوا) أي قوم هود (أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) لتصرفنا ، فالأفك الصرف ، يقال أفكه عن رأيه (عَنْ آلِهَتِنا) عن عبادتها (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من معاجلة العذاب على الشرك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في وعدك (١).

٢٣ ـ (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ) بوقت مجيء العذاب (عِنْدَ اللهِ) ولا علم لي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) وبالتخفيف أبو عمرو ، أي الذي هو شأني أن أبلّغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي ولكنكم جاهلون لا تعلمون أنّ الرسل بعثوا منذرين لا مقترحين ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه.

٢٤ ـ (فَلَمَّا رَأَوْهُ) الضمير يرجع إلى ما تعدنا أو هو مبهم وضح أمره بقوله (عارِضاً) إما تمييزا أو حالا ، والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) روي أنّ المطر قد احتبس عنهم ، فرأوا سحابة استقبلت أوديتهم ، فقالوا : هذا سحاب يأتينا بالمطر ، وأظهروا لذلك (٢) فرحا ، وإضافة مستقبل وممطر مجازية غير معرّفة بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفا للنكرة (بَلْ هُوَ) أي قال هود بل هو ، ويدلّ عليه قراءة من قرأ : قال هود بل هو (مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب ، ثم فسره فقال (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ).

٢٥ ـ (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجمّ الكثير ، فعبر عن

__________________

(١) في (ز) وعيدك.

(٢) في (ز) من ذلك.

٢١٤

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٧)

الكثرة بالكلّية (بِأَمْرِ رَبِّها) ربّ الريح (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) عاصم وحمزة وخلف ، أي لا يرى شيء إلا مساكنهم. غيرهم لا ترى إلا مساكنهم ، الخطاب للرائي من كان (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي مثل ذلك نجزي من أجرم مثل جرمهم ، وهو تحذير لمشركي العرب. عن ابن عباس رضي الله عنهما : اعتزل هود عليه‌السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلذّه الأنفس وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة.

٢٦ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) إن نافية ، أي فيما ما مكّنّاكم فيه إلّا أنّ إن أحسن في اللفظ لما في مجامعة ما مثلها من التكرير المستبشع ألا ترى أنّ الأصل في مهما ما ما فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء ، وقد جعلت إن صلة وتؤوّل بأنّا مكّنّاهم في مثل ما مكّنّاكم فيه ، والوجه هو الأول لقوله تعالى : (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) (١) (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً) (٢) وما بمعنى الذي أو نكرة موصوفة (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) أي آلات الدرك والفهم (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي من شيء من الإغناء ، وهو القليل منه (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) إذ نصب بقوله فما أغنى وجرى مجرى التعليل لاستواء مؤدّي التعليل والظرف في قولك ضربته لإساءته وضربته إذ أساء ، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه إلّا أنّ إذ وحيث غلّبتا دون سائر الظروف في ذلك (وَحاقَ بِهِمْ) ونزل بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) جزاء استهزائهم ، وهذا تهديد لكفار مكة. ثم زادهم تهديدا بقوله :

٢٧ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ) يا أهل مكّة (مِنَ الْقُرى) نحو حجر ثمود وقرى قوم لوط ، والمراد أهل القرى ، ولذلك قال (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي كررنا عليهم الحجج وأنواع العبر لعلّهم يرجعون عن الطغيان إلى الإيمان فلم يرجعوا.

__________________

(١) مريم ، ١٩ / ٧٤.

(٢) غافر ، ٤٠ / ٨٢.

٢١٥

(فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ) (٢٩)

٢٨ ـ (فَلَوْ لا) فهلّا (نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) القربان ما تقرّب به إلى الله تعالى أي اتخذوهم شفعاء متقرّبا بهم إلى الله تعالى حيث قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (١) وأحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين محذوف أي اتخذوهم ، والثاني آلهة ، وقربانا حال (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) غابوا عن نصرتهم (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم ، أي وذلك أثر أفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب.

٢٩ ـ (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً) أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك ، والنفر دون العشرة (مِنَ الْجِنِ) جنّ نصيبين (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) منه عليه الصلاة والسلام (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن أي كانوا منه بحيث يسمعون (قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) اسكتوا مستمعين.

روي أنّ الجنّ كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ورجموا بالشّهب ، قالوا : ما هذا إلا لنبأ حدث ، فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جنّ نصيبين أو نينوى منهم زوبعة ، فضربوا حتى بلغوا تهامة ، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة ، فوافقوا (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلي أو في صلاة الفجر ، فاستمعوا لقراءته (٣).

وعن سعيد بن جبير : ما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجنّ ولا رآهم ، وإنما كان يتلو في صلاته ، فمروا به ، فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر ، فأنبأه الله باستماعهم (٤). وقيل بل أمر الله (٥) رسوله أن ينذر الجنّ ويقرأ عليهم ، فصرف إليه نفرا منهم ، فقال :

__________________

(١) يونس ، ١٠ / ١٨.

(٢) في (ظ) و (ز) فوافوا.

(٣) متفق عليه بمعناه من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس دون أوله ودون قوله (وكانوا تسعة نفر أحدهم زوبعة) ودون قوله : (في جوف الليل يصلي) ودون قوله : (من نينوى).

(٤) متفق عليه من رواية سعيد بن جبير وهو في الذي قبله.

(٥) في (ظ) و (ز) بل الله أمر.

٢١٦

(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٣)

(إني أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فمن يتبعني) قالها ثلاثا ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : لم يحضره ليلة الجنّ أحد غيري ، فانطلقنا حتى إذا كنّا بأعلى مكة في شعب الحجون ، فخطّ لي خطا وقال : (لا تخرج منه حتى أعود إليك) ثم افتتح القرآن ، وسمعت لغطا شديدا ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (هل رأيت شيئا)؟ قلت : نعم. رجالا سودا ، فقال : (أولئك جنّ نصيبين) وكانوا اثني عشر ألفا والسورة التي قرأها عليهم : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (١) (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القراءة (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) إياهم.

٣٠ ـ (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) وإنما قالوا من بعد موسى لأنهم كانوا على اليهودية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجنّ لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه‌السلام (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) إلى الله تعالى (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ).

٣١ ـ (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار لهذه الآية ، وقال مالك وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد رحمهم‌الله : لهم الثواب والعقاب ، وعن الضّحّاك : أنهم يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون لقوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (٢).

٣٢ ـ (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي لا ينجى منه مهرب (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

٣٣ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) هو

__________________

(١) العلق ، ٩٦ / ١. وهذا الحديث لم يذكر في سياق واحد بل ذكر مفرقا عند الطبري والحاكم والطبراني والدارقطني ، وما ذكر من مجموع هذه الأحاديث إلا اسم السورة.

(٢) الرحمن ، ٥٥ / ٥٦ و ٧٤.

٢١٧

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (٣٥)

كقوله : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (١) ويقال عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه (بِقادِرٍ) محلّه الرفع لأنه خبر أنّ يدلّ عليه قراءة عبد الله قادر ، وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أول الآية ، على أنّ وما في حيزها ، وقال الزّجّاج : لو قلت ما ظننت أنّ زيدا بقائم جاز ، كأنه قيل أليس الله بقادر ألّا ترى إلى وقوع بلى مقرّرة للقدرة على كلّ شيء من البعث وغيره لا لرؤيتهم (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى) هو جواب للنفي (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

٣٤ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) فيقال (٢) لهم (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) وناصب الظرف القول المضمر ، وهذا إشارة إلى العذاب (قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بكفركم في الدنيا.

٣٥ ـ (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) أولو الجدّ والثبات والصبر (مِنَ الرُّسُلِ) من للتبعيض ، والمراد بأولي العزم ما ذكر في الأحزاب : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (٣) ويونس ليس منهم لقوله : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (٤) وكذا آدم لقوله : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٥) أو للبيان فيكون أولو العزم صفة الرسل كلّهم (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) لكفار قريش بالعذاب أي لا تدع لهم بتعجيله فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي أنهم يستقصرون حينئذ مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها ساعة من نهار (بَلاغٌ) هذا بلاغ ، أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة ، أو هذا تبليغ من الرسول (فَهَلْ يُهْلَكُ) هلاك عذاب ، والمعنى فلن (٦) يهلك بعذاب الله (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي المشركون الخارجون عن الاتعاظ به والعمل بموجبه. قال عليه‌السلام : (من قرأ سورة الأحقاف كتب الله له عشر حسنات بعدد كلّ رملة في الدنيا) (٧).

__________________

(١) ق ، ٥٠ / ٣٨.

(٢) في (ظ) و (ز) يقال.

(٣) الأحزاب ، ٣٣ / ٧.

(٤) القلم ، ٦٨ / ٤٨.

(٥) طه ، ٢٠ / ١١٥.

(٦) في (أ) فلم.

(٧) الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبيّ بن كعب رضي الله عنه.

٢١٨

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وقيل سورة القتال مدنية وقيل مكية وهي

ثمان وثلاثون آية أو تسع وثلاثون آية (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (٢)

١ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام ، أو صدّوا غيرهم عنه ، قال الجوهري (٢) : صدّ عنه يصدّ صدودا أعرض ، وصدّه عن الأمر صدّا منعه وصرفه عنه ، وهم المطعمون يوم بدر ، أو أهل الكتاب ، أو عام في كلّ من كفر وصدّ (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أبطلها وأحبطها ، وحقيقته جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبّلها ويثيب عليها كالضالة من الإبل ، وأعمالهم ما عملوه في كفرهم من صلة الأرحام وإطعام الطعام وعمارة المسجد الحرام ، أو ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصدّ عن سبيل الله.

٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) هم ناس من قريش ، أو من الأنصار ، أو من أهل الكتاب ، أو عام (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) وهو القرآن وتخصيص الإيمان بالمنزل على رسوله من بين ما يجب الإيمان به لتعظيم شأنه ، وأكّد ذلك بالجملة

__________________

(١) في (ظ) وقيل سورة القتال ثمان وثلاثون آية أو تسع وثلاثون ، وقيل مدنية أو مكية.

(٢) الجوهري : إسماعيل بن حماد الجوهري ، أبو نصر ، لغوي من الأئمة ، أشهر كتبه «الصحاح» أول من حاول الطيران ومات في سبيله عام ٣٩٣ ه‍ (الأعلام ١ / ٣١٣).

٢١٩

(ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (٤)

الاعتراضية ، وهي قوله (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي القرآن ، وقيل إنّ دين محمد هو الحقّ إذ لا يرد عليه النسخ وهو ناسخ لغيره (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين ، وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النّصرة والتأييد.

٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) ذلك مبتدأ وما بعده خبره ، أي ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين وتكفير سيئات الثاني ، والإصلاح كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهو الشيطان وهؤلاء الحقّ وهو القرآن (كَذلِكَ) مثل ذلك الضرب (يَضْرِبُ اللهُ) أي يبيّن الله (لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) والضمير راجع إلى الناس ، أو إلى المذكورين من الفريقين على معنى أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم ، وقد جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكافرين ، واتباع الحقّ مثلا لعمل المؤمنين ، أو جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز الأبرار.

٤ ـ (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من اللقاء وهو الحرب (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أصله فاضربوا الرقاب ضربا ، فحذف الفعل وقدّم المصدر ، فأنيب منابه مضافا إلى المفعول ، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد ، لأنك تذكر المصدر وتدلّ على الفعل بالنصبة التي فيه ، وضرب الرقاب عبارة عن القتل لا أنّ الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء ، ولأن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، فوقع عبارة عن القتل وإن ضرب غير رقبته (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم فيهم القتل (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) فأسروهم ، والوثاق بالفتح والكسر (١) اسم ما يوثق به ، والمعنى فشدوا وثاق الأسرى حتى لا يفلتوا منكم (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) أي بعد أن تأسروهم (وَإِمَّا فِداءً) منّا وفداء منصوبان بفعليهما مضمرين ، أي فإما تمنون منّا وإما (٢) تفدون فداء ، والمعنى التخيير

__________________

(١) أي بفتح الواو أو كسرها.

(٢) في (ظ) و (ز) أو.

٢٢٠