تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) (٢١)

(قَدَّمَ) من عمل عمله (وَأَخَّرَ) ما لم يعمله.

١٤ ـ ١٥ ـ (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) شاهد ، والهاء للمبالغة كعلّامة ، أو أنّثه لأنه أراد به جوارحه إذ جوارحه تشهد عليه ، أو هو حجة على نفسه ، والبصيرة : الحجة ، قال الله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) (١) وتقول لغيرك أنت حجة على نفسك ، وبصيرة رفع بالابتداء ، وخبره على نفسه تقدم عليه ، والجملة خبر الإنسان ، كقولك زيد على رأسه عمامة ، والبصيرة على هذا يجوز أن يكون الملك الموكل عليه (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أرخى ستوره ، والمعذار السّتر ، وقيل ولو جاء بكل معذرة ما قبلت منه ، فعليه من يكذّب عذره ، والمعاذير ليس بجمع معذرة لأن جمعها معاذر بل هي اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر.

١٦ ـ ١٩ ـ (لا تُحَرِّكْ بِهِ) بالقرآن (لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) بالقرآن ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذ في القراءة قبل فراغ جبريل كراهة أن يتفلّت منه ، فقيل له : لا تحرّك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ لتعجل به (٢) ، لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلّت منك. ثم علل النهي عن العجلة بقوله (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك (وَقُرْآنَهُ) وإثبات قراءته في لسانك ، والقرآن القراءة ونحوه : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (٣) (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي قرأه عليك جبريل ، فجعل قراءة جبريل قراءته (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي قراءته عليك (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي (٤) إذا أشكل عليك شيء من معانيه.

٢٠ ـ ٢١ ـ (كَلَّا) ردع عن إنكار البعث ، أو ردع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العجلة وإنكار لها عليه ، وأكده بقوله (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) كأنه قيل بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه ، تعجلون في كل شيء ومن ثمّ تحبّون العاجلة الدنيا وشهواتها (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) الدار الآخرة ونعيمها فلا تعملون لها ، والقراءة بالتاء فيهما (٥) مدني وكوفي.

__________________

(١) الأنعام ، ٦ / ١٠٤.

(٢) ليس في (ز) لتعجل به.

(٣) طه ، ٢٠ / ١١٤.

(٤) ليس في (ظ) و (ز) أي.

(٥) في (ظ) و (ز) فيهما بالتاء.

٤٦١

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (٢٥) كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (٣٠) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)(٣٥)

٢٢ ـ ٢٣ ـ (وُجُوهٌ) هي وجوه المؤمنين (يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) حسنة ناعمة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة ، وحمل النظر على الانتظار لأمر ربّها أو لثوابه لا يصح لأنه يقال نظرت فيه أي تفكرت ونظرته انتظرته ، ولا يعدّى بإلى إلا بمعنى الرؤية مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار.

٢٤ ـ ٢٥ ـ (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) كالحة شديدة العبوس (١) وهي وجوه الكفار (تَظُنُ) تتوقع (أَنْ يُفْعَلَ بِها) فعل هو في شدته (فاقِرَةٌ) داهية تقصم فقار الظهر.

٢٦ ـ ٣٠ ـ (كَلَّا) ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة ، كأنه قيل ارتدعوا عن ذلك وتنبّهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلّدين (إِذا بَلَغَتِ) أي الروح ، وجاز وإن لم يجر لها ذكر لأن الآية تدلّ عليها (التَّراقِيَ) العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال ، جمع ترقوة (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) يقف حفص على من وقيفة ، أي قال حاضر والمحتضر بعضهم لبعض أيكم يرقيه مما به ، من الرّقية من حدّ ضرب ، أو هو من كلام الملائكة أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ من الرقيّ من حدّ علم (وَظَنَ) أيقن المحتضر (أَنَّهُ الْفِراقُ) أنّ هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) التوت ساقاه عند موته ، وعن سعيد بن المسيب : هما ساقاه حين تلفّان في أكفانه ، وقيل شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة على أنّ الساق مثل في الشدة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : همّان (٢) همّ الأهل والولد ، وهمّ القدوم على الواحد الصمد (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) هو مصدر ساقه أي مساق العباد إلى حيث أمر الله إمّا إلى الجنة أو إلى النار.

٣١ ـ ٣٥ ـ (فَلا صَدَّقَ) بالرسول والقرآن (وَلا صَلَّى) الإنسان ، في قوله :

__________________

(١) في (ظ) و (ز) العبوسة.

(٢) في (ظ) و (ز) هما همان.

٤٦٢

(أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (٤٠)

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) (١) (وَلكِنْ كَذَّبَ) بالقرآن (وَتَوَلَّى) عن الإيمان ، أو فلا صدّق ماله يعني فلا زكاه (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) يتبختر وأصله يتمطّط أي يتمدّد لأن المتبختر يمدّ خطاه فأبدلت الطاء ياء لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة (أَوْلى لَكَ) بمعنى ويل لك ، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره (فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) كرّر للتأكيد ، كأنه قال ويل لك فويل ، ثم ويل لك فويل (٢) ، وقيل ويل لك يوم الموت وويل لك في القبر وويل لك حين البعث وويل لك في النار.

٣٦ ـ ٤٠ ـ (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أيحسب الكافر أن يترك مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يجازى (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) بالياء ابن عامر وحفص ، أي يراق المنيّ في الرّحم ، وبالتاء يعود إلى النطفة (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) أي صار المنيّ قطعة دم جامد بعد أربعين يوما (فَخَلَقَ فَسَوَّى) فخلق الله منه بشرا سويا (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣) أي من المنيّ الصنفين (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أليس الفعّال لهذه الأشياء بقادر على الإعادة ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأها يقول : (سبحانك بلى) (٤).

__________________

(١) الآية ٣ من هذه السورة.

(٢) في (ظ) و (ز) زاد لك بعد فويل في المرتين.

(٣) في (ظ) و (ز) : (فَجَعَلَ مِنْهُ) من الإنسان (الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى).

(٤) أبو داود ، كنز العمال ٧ / ١٧٩٠٥ ، زاد في (ز) والله أعلم.

٤٦٣

سورة الإنسان

مكية وهي إحدى وثلاثون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(٣)

١ ـ (هَلْ أَتى) قد مضى (عَلَى الْإِنْسانِ) آدم عليه‌السلام (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) أربعون سنة مصورا قبل نفخ الروح فيه (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) لم يذكر اسمه ولم يدر ما يراد به لأنه كان طينا يمرّ به الزمان ، ولو كان (١) غير موجود لم يوصف بأنه قد أتى عليه حين من الدهر ، ومحل لم يكن شيئا مذكورا النصب على الحال من الإنسان ، أي أتى عليه حين من الدهر غير مذكور.

٢ ـ (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي ولد آدم ، وقيل الأول ولد آدم أيضا ، وحين من الدهر على هذا مدة لبثه في بطن أمه إلى أن صار شيئا مذكورا بين الناس (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) نعت أو بدل منها ، أي من نطفة قد امتزج فيها الماءان ، ومشجه ومزجه بمعنى ، ونطفة أمشاج كبرمة أعشار ، فهو لفظ مفرد غير جمع ، ولذا وقع صفة للمفرد (نَبْتَلِيهِ) حال أي خلقناه مبتلين له (٢) ، أي مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي (٣) (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ذا سمع وبصر.

٣ ـ (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) بيّنا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع (إِمَّا شاكِراً)

__________________

(١) ليس في (ز) كان.

(٢) ليس في (ظ) و (ز) له.

(٣) في (ز) والنهي له.

٤٦٤

(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (٤) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (٥) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (٨)

مؤمنا (وَإِمَّا كَفُوراً) كافرا حالان من الهاء في هديناه ، أي إن شكر وكفر فقد هديناه السبيل في الحالين ، أو من السبيل أي عرّفناه السبيل إمّا سبيلا شاكرا وأمّا سبيلا كفورا ، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز ولمّا ذكر الفريقين أتبعهما ما أعدّ لهما فقال :

٤ ـ (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) جمع سلسلة ، بغير تنوين حفص ومكي وأبو عمرو وحمزة ، وبه ليناسب أغلالا وسعيرا إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب غيرهم (وَأَغْلالاً) جمع غلّ (وَسَعِيراً) نارا موقدة. وقال :

٥ ـ (إِنَّ الْأَبْرارَ) جمع برّ أو بار كربّ وأرباب وشاهد وأشهاد وهم الصادقون في الإيمان ، أو الذين لا يؤذون الذرّ ولا يضمرون الشرّ (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) خمر فنفس الخمر تسمى كأسا ، وقيل الكأس الزجاجة إذا كان فيها خمر (كانَ مِزاجُها) ما تمزج به (كافُوراً) ماء كافور وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده.

٦ ـ (عَيْناً) بدل منه (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) أي منها ، أو الباء زائدة ، أو هو محمول على المعنى أي يلتذ بها ، أو يروي بها ، وإنما قال أولا بحرف من وثانيا بحرف الباء لأنّ الكأس مبتدأ شربهم وأول غايته ، وأمّا العين فيها يمزجون شرابهم ، فكأنه قيل يشرب عباد الله بها الخمر (يُفَجِّرُونَها) يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم (تَفْجِيراً) سهلا لا يمتنع عليهم.

٧ ـ (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) بما أوجبوا على أنفسهم ، وهو جواب من عسى (١) يقول ما لهم يرزقون ذلك؟ والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفّر على أداء الواجبات لأنّ من وفّى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ) شدائده (مُسْتَطِيراً) منتشرا ، من استطار الفجر.

٨ ـ (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) أي حبّ الطعام مع (٢) الاشتهاء والحاجة إليه ،

__________________

(١) زاد في (ز) أن.

(٢) في (ز) من.

٤٦٥

(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا (٩) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (١٠) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (١١) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ١٢ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) (١٣)

أو على حبّ الله (مِسْكِيناً) فقيرا عاجزا عن الاكتساب (وَيَتِيماً) صغيرا لا أب له (وَأَسِيراً) مأسورا مملوكا أو غيره. ثم علّلوا إطعامهم فقالوا :

٩ ـ (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي لطلب ثوابه ، أو هو بيان من الله عزوجل عما في ضمائرهم لأنّ الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئا (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً) هدية على ذلك (وَلا شُكُوراً) ثناء ، وهو مصدر كالشكر.

١٠ ـ (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا) أي إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافاة بالصدقة ، أو إنا نخاف من ربّنا فتصدقنا (١) لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) وصف اليوم بصفة أهله من الأشقياء نحو نهارك صائم ، والقمطرير : الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه.

١١ ـ (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) صانهم من شدائده (وَلَقَّاهُمْ) أعطاهم بدل عبوس الفجّار (نَضْرَةً) حسنا في الوجوه (وَسُرُوراً) فرحا في القلوب.

١٢ ـ (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) بصبرهم على الإيثار. نزلت في عليّ وفاطمة وفضة جارية لهما لما مرض الحسن والحسين رضي الله عنهما نذروا صوم ثلاثة أيام ، فاستقرض عليّ رضي الله عنه من يهوديّ ثلاثة أصوع من الشعير ، فطحنت فاطمة رضي الله عنها كلّ يوم صاعا وخبزت ، فآثروا بذلك ثلاث عشايا على أنفسهم مسكينا ويتيما وأسيرا ولم يذوقوا إلا الماء في وقت الإفطار (٢) (جَنَّةً) بستانا فيه مأكل هنيء (وَحَرِيراً) فيه ملبس بهي (٣).

١٣ ـ (مُتَّكِئِينَ) حال من هم في جزاهم (فِيها) في الجنة (عَلَى الْأَرائِكِ) الأسرّة ، جمع الأريكة (لا يَرَوْنَ) حال من الضمير المرفوع في متكئين غير رائين (فِيها) في الجنة (شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير فظلّها دائم

__________________

(١) في (ظ) و (ز) فنتصدق.

(٢) قال ابن حجر : قال الحكيم الترمذي : هذا حديث مزوّق مفتعل لا يروج إلا على أحمق جاهل. ورواه ابن الجوزي في الموضوعات وقال : وهذا لا نشك في وضعه.

(٣) في (ز) ملبسا بهيا.

٤٦٦

(وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (١٤) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) (١٦)

وهواؤها معتدل لا حرّ شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي ، وفي الحديث : (هواء الجنة سجسج لا حرّ ولا قرّ) (١). فالزمهرير البرد الشديد ، وقيل القمر ، أي الجنة مضيئة لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر.

١٤ ـ (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) قريبة منهم ظلال أشجارها ، عطفت على جنة أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها كأنهم وعدوا بجنتين لأنهم وصفوا بالخوف بقوله : إنا نخاف من ربنا : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٢) (وَذُلِّلَتْ) سخّرت للقائم والقاعد والمتكىء ، وهو حال من دانية ، أي تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها عليهم ، أو معطوفة عليها ، أي ودانية عليهم ظلالها ومذلّلة (قُطُوفُها) ثمارها جمع قطف (تَذْلِيلاً).

١٥ ـ (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) أي يدير عليهم خدمهم كؤوس الشراب ، والآنية جمع إناء وهو وعاء الماء (وَأَكْوابٍ) أي من فضّة ، جمع كوب وهو إبريق لا عروة له (كانَتْ قَوارِيرَا) كان تامة أي كوّنت فكانت قوارير بتكوين الله ، نصب على الحال.

١٦ ـ (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أي مخلوقة من فضة ، فهي جامعة لبياض الفضة وحسنها وصفاء القوارير وشفيفها حيث يرى ما فيها من الشراب من خارجها ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : قوارير كلّ أرض من تربتها وأرض الجنة فضة. قرأ نافع والكسائي وعاصم وفي رواية أبي بكر بالتنوين فيهما. وحمزة وابن عامر وأبو عمرو وحفص بغير تنوين فيهما. وابن كثير بتنوين الأول ، والتنوين في الأول لتناسب الآي المتقدمة والمتأخرة وفي الثاني لاتباعه الأول ، والوقف على الأول قد قيل ولا يوثق به ، لأن الثاني بدل من الأول (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) صفة لقوارير من فضة ، أي أهل الجنة قدّروها على أشكال مخصوصة ، فجاءت كما قدّروها تكرمة لهم ، أو السقاة جعلوها على قدر ريّ شاربيها (٣) ، فهي ألذّ لهم وأخفّ عليهم. وعن مجاهد : لا تفيض ولا تغيض.

__________________

(١) أشار إليه ابن الأثير في «النهاية في غريب الحديث والأثر» وقال عند كلمة سجسج : فيه (ظل الجنة سجسج) أي معتدل لا حرّ ولا قرّ. ومنه حديث ابن عباس (وهواؤها سجسج) (٢ / ٣٤٣).

(٢) الرحمن ، ٥٥ / ٤٦.

(٣) في (ز) شاربها.

٤٦٧

(وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا (١٧) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (١٩) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (٢٠) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) (٢١)

١٧ ـ ١٨ ـ (وَيُسْقَوْنَ) أي الأبرار (فِيها) في الجنة (كَأْساً) خمرا (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً. عَيْناً) بدل من زنجبيلا (فِيها) في الجنة (تُسَمَّى) تلك العين (سَلْسَبِيلاً) سميت العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها ، والعرب تستلذّه وتستطيبه ، وسلسبيلا لسلاسة انحدارها وسهولة مساغها. قال أبو عبيدة : ماء سلسبيل أي عذب طيب.

١٩ ـ (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين ، أو ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدما لأهل الجنة (مُخَلَّدُونَ) لا يموتون (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ) لحسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) وتخصيص المنثور لأنه أزين في النظر من المنظوم.

٢٠ ـ (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) ظرف ، أي في الجنة وليس لرأيت مفعول ظاهر ولا مقدّر ليشيع في كلّ مرئيّ ، تقديره وإذا اكتسبت الرؤية في الجنة (رَأَيْتَ نَعِيماً) كثيرا (وَمُلْكاً كَبِيراً) واسعا ، يروى أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقيل ملك لا يعقبه هلك ، أو لهم فيها ما يشاؤون ، أو تسلّم عليهم الملائكة ويستأذنون في الدخول عليهم.

٢١ ـ (عالِيَهُمْ) بالنصب على أنه حال من الضمير في يطوف عليهم ، أي يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب. وبالسكون مدني وحمزة على أنه مبتدأ خبره (ثِيابُ سُندُسٍ) أي ما يعلوهم من ملابسهم ثياب سندس رقيق الديباج (خُضْرٌ) جمع أخضر (وَإِسْتَبْرَقٌ) غليظ يرفعهما حملا على الثياب نافع وحفص ، ويجرّهما حمزة وعليّ حملا على سندس ، وبرفع الأول وجرّ الثاني أو عكسه غيرهم (وَحُلُّوا) عطف على ويطوف (أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) وفي سورة الملائكة : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) (١) قال ابن المسيب : لا أحد من أهل الجنة إلّا وفي يده ثلاثة أسورة ، واحدة من فضة وأخرى من ذهب وأخرى من لؤلؤ (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ) أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص ، وقيل إنّ الملائكة يعرضون عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم ويقولون لقد طال أخذنا من الوسائط فإذا هم بكاسات تلاقي أفواههم

__________________

(١) الحج ، ٢٢ / ٢٣. فاطر ، ٣٥ / ٣٣.

٤٦٨

(إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) (٢٦)

بغير أكف من غيب إلى عبد (شَراباً طَهُوراً) ليس برجس كخمر الدنيا لأن كونها رجسا بالشرع لا بالعقل ولا تكليف ثمّ ، أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة (١) وتدوسه الأقدام الدّنسة. يقال لأهل الجنة :

٢٢ ـ (إِنَّ هذا) النعيم (كانَ لَكُمْ جَزاءً) لأعمالكم (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) محمودا مقبولا مرضيّا عندنا حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير لا نريد منكم جزاء ولا شكورا.

٢٣ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإن تأكيد بعد تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليستقرّ في نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إذا كان هو المنزّل لم يكن تنزيله مفرقا إلا حكمة وصوابا ، ومن الحكمة الأمر بالمصابرة.

٢٤ ـ (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) عليك بتبليغ الرسالة واحتمال الأذية ، وتأخير نصرتك على أعدائك من أهل مكة (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) من الكفرة للضّجر من تأخر (٢) الظفر (آثِماً) راكبا لما هو (٣) إثم داعيا لك إليه (أَوْ كَفُوراً) فاعلا لما هو كفر ، داعيا لك إليه ، لأنهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل ما هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر فنهي أن يساعدهم على الأوّلين دون الثالث ، وقيل الآثم عتبة ، لأنه كان ركّابا للمآثم والفسوق. والكفور : الوليد لأنه كان غاليا في الكفر والجحود ، والظاهر أنّ المراد كلّ آثم وكافر ، أي لا تطع أحدهما ، وإذا نهي عن طاعة أحدهما لا بعينه فقد نهي عن طاعتهما معا ومتفرقا ، ولو كان بالواو لجاز أن يطيع أحدهما لأنّ الواو للجمع فيكون منهيّا عن طاعتهما معا لا عن طاعة أحدهما (٤) ، وقيل أو بمعنى ولا ، أي ولا تطع آثما ولا كفورا.

٢٥ ـ ٢٦ ـ (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) صلّ له (بُكْرَةً) صلاة الفجر (وَأَصِيلاً) صلاة

__________________

(١) الأيدي الوضرة : الوضر : وسخ الدسم أو اللبن أو غسالة السقاء والقصعة ونحوهما (القاموس ٢ / ١٥٤).

(٢) في (ز) تأخير.

(٣) في (ز) هوى.

(٤) زاد في (ز) وإذا نهي عن طاعة أحدهما لا بعينه كان عن طاعتهما جميعا أنهى.

٤٦٩

(إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ٢٧ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (٢٨) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٢٩) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٣٠) يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (٣١)

الظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) وبعض الليل فصلّ صلاة العشاءين (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) تهجد (١) له هزيعا طويلا من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه.

٢٧ ـ (إِنَّ هؤُلاءِ) الكفرة (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) يؤثرونها على الآخرة (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) قدّامهم أو خلف ظهورهم (يَوْماً ثَقِيلاً) شديدا لا يعبئون به ، وهو القيامة لأن شدائده تثقل على الكفار.

٢٨ ـ (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا) أحكمنا (أَسْرَهُمْ) خلقهم ، عن ابن عباس والفرا رضي الله عنهم (٢) (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدّلنا أمثالهم في الخلقة من يطيع.

٢٩ ـ ٣٠ ـ (إِنَّ هذِهِ) السورة (تَذْكِرَةٌ) عظة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) بالتقرب إليه بالطاعة له واتباع رسوله (وَما تَشاؤُنَ) اتخاذ السبيل إلى الله. وبالياء مكي وشامي وأبو عمرو. ومحل (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) النصب على الظرف ، أي إلا وقت مشيئة الله ، وإنما يشاء الله ذلك ممن علم منه اختياره ذلك ، وقيل هو لعموم المشيئة في الطاعة والعصيان والكفر والإيمان فيكون حجة لنا على المعتزلة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يكون منهم من الأحوال (حَكِيماً) مصيبا في الأقوال والأفعال.

٣١ ـ (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ) هم المؤمنون (فِي رَحْمَتِهِ) جنته لأنها برحمته تنال ، وهو حجة على المعتزلة لأنهم يقولون قد شاء أن يدخل كلّا في رحمته لأنه شاء إيمان الكلّ ، والله تعالى أخبر أنه يدخل من يشاء في رحمته ، وهو الذي علم منه أنه يختار الهدى (وَالظَّالِمِينَ) الكافرين لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها ، ونصب بفعل مضمر يفسّره (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) نحو أوعده وكافأه (٣).

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أي تهجد.

(٢) في (ظ) و (ز) ابن عباس رضي الله عنهما والفرا.

(٣) في (ظ) و (ز) أوعد وكافأ.

٤٧٠

سورة المرسلات

مكية وهي خمسون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) (٦)

١ ـ ٦ ـ (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً. فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً. وَالنَّاشِراتِ نَشْراً. فَالْفارِقاتِ فَرْقاً. فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً) أقسم سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة أرسلهنّ بأوامره فعصفن في مضيّهنّ ، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهنّ في الجوّ عند انحطاطهن بالوحي ، أو نشرن الشرائع في الأرض ، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين ففرقن بين الحقّ والباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء عليهم‌السلام عذرا للمحقين أو نذرا للمبطلين ، أو أقسم برياح عذاب أرسلهنّ فعصفن ، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه ، كقوله : (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) (١) فألقين ذكرا ، إما عذرا للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها ، وأما نذرا للذين لا يشكرون وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن ملقيات للذكر باعتبار السببية ، عرفا حال ، أي متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضه بعضا ، أو مفعول له ، أي أرسلن للإحسان والمعروف ، وعصفا ونشرا مصدران ، أو نذرا أبو عمرو وكوفي غير أبي بكر وحماد ، والعذر والنذر مصدران من عذر إذا محا الإساءة ومن أنذر إذا خوّف على فعل كالكفر والشكر ، وانتصابهما على البدل من ذكرا أو على المفعول له.

__________________

(١) الروم ، ٣٠ / ٤٨.

٤٧١

(إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (٢١) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ) (٢٤)

٧ ـ ١٤ ـ (إِنَّما تُوعَدُونَ) إنّ الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة (لَواقِعٌ) لكائن نازل لا ريب فيه ، وهو جواب القسم ، ولا وقف إلى هنا لوصل الجواب بالقسم (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) محيت أو ذهب بنورها ، وجواب فإذا محذوف والعامل فيها جوابها ، وهو وقع (١) الفصل ، ونحوه ، والنجوم فاعل فعل يفسّره طمست (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) فتحت فكانت أبوابا (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) قلعت من أماكنها (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي وقّتت كقراءة أبي عمرو ، أبدلت الهمزة من الواو ، ومعنى توقيت الرسل تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أخّرت وأمهلت ، وفيه تعظيم لليوم وتعجيب من هوله ، والتأجيل من الأجل كالتوقيت من الوقت (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بيان ليوم التأجيل ، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) تعجيب آخر وتعظيم لأمره.

١٥ ـ ١٩ ـ (وَيْلٌ) مبتدأ وإن كان نكرة ، لأنه في أصله مصدر (٢) منصوب ساد مسدّ فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعوّ عليه ونحوه : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (٣) (يَوْمَئِذٍ) ظرفه (لِلْمُكَذِّبِينَ) بذلك اليوم ، خبره : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) الأمم الخالية المكذبة (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) مستأنف بعد وقف ، وهو وعيد لأهل مكة ، أي ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين لأنهم كذّبوا مثل تكذيبهم (كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل الشنيع (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) بكلّ من أجرم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بما أوعدنا.

٢٠ ـ ٢٤ ـ (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) حقير ، وهو النطفة (فَجَعَلْناهُ) أي الماء (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) مقرّ يتمكن فيه ، وهو الرّحم ، ومحلّ (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) الحال ، أي

__________________

(١) في (ز) وقوع.

(٢) في (أ) مقصور.

(٣) الأنعام ، ٦ / ٥٤. الأعراف ، ٧ / ٤٦. الرعد ، ١٣ / ٢٤. القصص ، ٢٨ / ٥٥. الزمر ، ٣٩ / ٧٣.

٤٧٢

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا (٢٦) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا (٢٧) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ) (٣٤)

مؤخر إلى مقدار من الوقت معلوم قد علمه الله وحكم به ، وهو تسعة أشهر أو ما فوقها أو ما دونها (فَقَدَرْنا) فقدّرناه ذلك تقديرا (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) فنعم المقدّرون له نحن ، أو فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن ، والأول أحقّ لقراءة نافع وعليّ بالتشديد ، ولقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (١) (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بنعمة الفطرة.

٢٥ ـ ٢٨ ـ (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) هو من (٢) كفت الشيء إذا ضمّه وجمعه ، وهو اسم ما يكفت كقولهم الضّمام لما يضمّ ، وبه انتصب (أَحْياءً وَأَمْواتاً) كأنه قيل كافتة أحياء وأمواتا ، أو بفعل مضمر يدلّ عليه كفاتا وهو تكفت ، أي تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها ، والتنكير فيهما للتفخيم ، أي تكفت أحياء لا يعدّون وأمواتا لا يحصرون (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت (شامِخاتٍ) عاليات (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) عذبا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذه النعم(٣).

٢٩ ـ ٣٤ ـ (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي يقال للكافرين يوم القيامة سيروا إلى النار التي كنتم تكذّبون بها (٤) (انْطَلِقُوا) تكرير للتأكيد (٥) (إِلى ظِلٍ) دخان جهنم (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) يتشعب لعظمه ثلاث شعب ، وهكذا الدخان العظيم يتفرق ثلاث فرق (لا ظَلِيلٍ) نعت ظل أي لا مظلّ من حرّ ذلك اليوم وحرّ النار (وَلا يُغْنِي) في محل الجرّ ، أي وغير مغن لهم (مِنَ اللهَبِ) من حرّ اللهب شيئا (إِنَّها) أي النار (تَرْمِي بِشَرَرٍ) هو ما تطاير من النار (كَالْقَصْرِ) في العظم ، وقيل هو الغليظ من الشجر ، الواحدة قصرة (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ) كوفي غير أبي بكر ، جمع جمل جمالات ، غيرهم جمع الجمع (صُفْرٌ) جمع أصفر أي أسود تضرب إلى الصفرة وشبّه الشرر بالقصر لعظمه وارتفاعه وبالجمال للعظم والطول واللون (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأنّ هذه صفتها.

__________________

(١) عبس ، ٨٠ / ١٩.

(٢) ليس في (ز) من.

(٣) في (ظ) و (ز) النعمة.

(٤) في (ظ) و (ز) بها تكذبون.

(٥) في (ظ) و (ز) للتوكيد.

٤٧٣

(هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ) (٤٧)

٣٥ ـ ٣٧ ـ (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) وقرىء بنصب اليوم ، أي هذا الذي قصّ عليكم واقع يومئذ ، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية وعن قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (١) فقال : في ذلك اليوم مواقف في بعضها يختصمون وفي بعضها لا ينطقون ، أو لا ينطقون بما ينفعهم ، فجعل نطقهم كلا نطق ، (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) في الاعتذار (فَيَعْتَذِرُونَ) عطف على يؤذن منخرط في سلك النفي ، أي لا يكون لهم إذن واعتذار (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا اليوم.

٣٨ ـ ٤٠ ـ (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين المحقّ والمبطل والمحسن والمسيء بالجزاء (جَمَعْناكُمْ) يا مكذبي محمد (وَالْأَوَّلِينَ) والمكذبين قبلكم (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) حيلة في دفع العذاب (فَكِيدُونِ) فاحتالوا عليّ بتخليص أنفسكم من العذاب ، والكيد متعد تقول كدت فلانا إذا احتلت عليه (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالبعث.

٤١ ـ ٤٥ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) عن (٢) عذاب الله (فِي ظِلالٍ) جمع ظلّ (وَعُيُونٍ) جارية في الجنة (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي لذيذة مشتهاة (كُلُوا وَاشْرَبُوا) في موضع الحال من ضمير المتقين في الظرف الذي هو في ظلال ، أي هم مستقرون في ظلال ، مقولا لهم ذلك (هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) فأحسنوا تجزوا بهذا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالجنة.

٤٦ ـ ٤٧ ـ (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) كلام مستأنف خطاب للمكذبين في الدنيا على وجه التهديد كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٣) (قَلِيلاً) لأنّ متاع الدنيا قليل (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) كافرون ، أي إنّ كلّ مجرم يأكل ويتمتع أياما قلائل ثم يبقى في الهلاك الدائم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالنّعم.

__________________

(١) الزمر ، ٣٩ / ٣١.

(٢) في (ز) من.

(٣) فصلت ، ٤١ / ٤٠.

٤٧٤

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠)

٤٨ ـ ٥٠ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) اخشعوا لله وتواضعوا إليه بقبول وحيه واتباع دينه ودعوا هذا الاستكبار (لا يَرْكَعُونَ) لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصّرون على استكبارهم ، أو إذا قيل لهم صلّوا لا يصلّون (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالأمر والنهي (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) أي إن لم يؤمنوا بالقرآن مع أنّه آية مبصرة ومعجزة باهرة من بين الكتب السماوية فبأي كتاب بعده يؤمنون؟ (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

٤٧٥

سورة النبأ

مكية وهي أربعون آية

(عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (٦) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (٨) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) (١١)

١ ـ ٥ ـ (عَمَ) أصله عن ما ، وقرىء بها ، ثم أدغمت النون في الميم فصار عما ، وقرىء بها ، ثم حذفت الألف تخفيفا لكثرة الاستعمال في الاستفهام وعليه الاستعمال الكثير ، وهذا استفهام تفخيم للمستفهم عنه لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا ، أو يسألون غيرهم من المؤمنين ، والضمير لأهل مكة ، كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث ، ويسألون المؤمنين عنه على طريق الاستهزاء (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) أي البعث ، وهو بيان للشأن المفخم وتقديره عم يتساءلون يتساءلون عن النبإ العظيم (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) فمنهم من يقطع بإنكاره ، ومنهم من يشك ، وقيل الضمير للمسلمين والكافرين وكانوا جميعا يتساءلون عنه ، فالمسلم يسأل ليزداد خشية ، والكافر يسأل استهزاء (كَلَّا) ردع عن الاختلاف أو التساؤل هزؤا (سَيَعْلَمُونَ) وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون عيانا أن ما يتساءلون عنه حق (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) كرر الردع للتشديد ، وثم يشعر بأنّ الثاني أبلغ من الأول وأشد.

٦ ـ ١١ ـ (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ) لمّا أنكروا البعث قيل لهم : ألم يخلق من أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة ، فلم تنكرون قدرته على البعث وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات؟! أو قيل لهم لم فعل هذه الأشياء والحكيم لا يفعل عبثا؟ وإنكار

٤٧٦

(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (١٣) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (١٧) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (١٨) وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) (٢٠)

البعث يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعل (مِهاداً) فراشا فرشها (١) لكم حتى سكنتموها (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) للأرض لئلا تميد بكم (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) ذكرا وأنثى (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) قطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم ، والسبت : القطع (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) سترا يستركم عن العيون إذا أردتم إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) وقت معاش تتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم.

١٢ ـ ١٦ ـ (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً) سبع سماوات (شِداداً) جمع شديدة ، أي محكمة قوية لا يؤثر فيها مرور الزمان ، أو غلاظا غلظ كلّ واحد (٢) مسيرة خمسمائة سنة (٣) (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) مضيئا وقادا أي جامعا للنور والحرارة ، والمراد الشمس (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) أي السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر ، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض ، أو الرياح لأنها تنشىء السحاب وتدرّ أخلافه فيصح أن تجعل مبدأ للإنزال ، وقد جاء أن الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب (ماءً ثَجَّاجاً) منصبّا بكثرة (لِنُخْرِجَ بِهِ) بالماء (حَبًّا) كالبرّ والشعير (وَنَباتاً) وكلأ (وَجَنَّاتٍ) بساتين (أَلْفافاً) ملتفة الأشجار ، واحدها لف كجذع وأجذاع ، أو لفيف كشريف وأشراف ، أو لا واحد له كأوزاع ، أو هي جمع الجمع فهي جمع لفّ ، واللف جمع لفّاء وهي شجرة مجتمعة ، ولا وقف من ألم نجعل إلى ألفافا ، والوقف الضروري على أوتادا ومعاشا.

١٧ ـ ٢٠ ـ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) بين المحسن والمسيء والمحق والمبطل (كانَ مِيقاتاً) وقتا محدودا ومنتهى معلوما لوقوع الجزاء ، أو ميعادا للثواب والعقاب (يَوْمَ يُنْفَخُ) بدل من يوم الفصل ، أو عطف بيان (فِي الصُّورِ) في القرن (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) حال أي جماعات مختلفة ، أو أمما كلّ أمة مع رسولها (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) خفيف كوفي ، أي شقّت لنزول الملائكة (فَكانَتْ أَبْواباً) فصارت ذات أبواب وطرق وفروج ،

__________________

(١) في (ظ) و (ز) فرشناها.

(٢) في (ظ) و (ز) واحدة.

(٣) في (ظ) و (ز) عام.

٤٧٧

(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (٢١) لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (٢٢) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥) جَزَاء وِفَاقًا (٢٦) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (٢٩) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) (٣٠)

وما لها اليوم من فروج (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) عن وجه الأرض (فَكانَتْ سَراباً) (١).

٢١ ـ ٢٥ ـ (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) طريقا عليه ممر الخلق ، فالمؤمن يمر عليها ، والكافر يدخلها ، وقيل المرصاد الحدّ الذي يكون فيه الرصد ، أي هي حدّ الطاغين الذين يرصدون فيه للعذاب ، وهي مآبهم ، أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها لأنّ مجازهم عليها (لِلطَّاغِينَ مَآباً) للكافرين مرجعا (لابِثِينَ) ماكثين حال مقدرة من الضمير في للطاغين. حمزة لبثين ، واللبث أقوى إذ اللابث من وجد منه اللبث وإن قل ، واللبث من شأنه اللبث والمقام في المكان (فِيها) في جهنم (أَحْقاباً) ظرف جمع حقب وهو الدهر ، ولم يرد به عدد محصور بل الأبد ، كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يستعمل الحقب والحقبة إلا إذا أريد تتابع الأزمنة وتواليها ، وقيل الحقب ثمانون سنة ، وسئل بعض العلماء عن هذه الآية فأجاب : بعد عشرين سنة لابثين فيها أحقابا (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) أي غير ذائقين حال من ضمير لابثين ، فإذا انقضت هذه الأحقاب التي عذّبوا فيها بمنع البرد والشراب ، بدّلوا بأحقاب أخر فيها عذاب آخر ، وهي أحقاب بعد أحقاب لا انقطاع لها ، وقيل هو من حقب عامنا إذا قلّ مطره وخيره ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب ، فينتصب حالا عنهم أي لابثين فيها حقبين جهدين ، ولا يذوقون فيها بردا ولا شرابا تفسير له ، وقوله (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) استثناء منقطع أي لا يذوقون في جهنم أو في الأحقاب بردا روحا ينفّس عنهم حرّ النار أو نوما ، ومنه منع البرد البرد ، ولا شرابا يسكّن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميما ماء حارا يحرق ما يأتي عليه ، وغساقا ماء يسيل من صديدهم. وبالتشديد كوفي غير أبي بكر.

٢٦ ـ ٣٠ ـ (جَزاءً) جوزوا جزاء (وِفاقاً) موافقا لأعمالهم ، مصدر بمعنى الصفة أو ذا وفاق ، ثم استأنف معللا فقال (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) لا يخافون

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) أي هباء تخيل الشمس أنه ماء.

٤٧٨

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (٣١) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (٣٢) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (٣٣) وَكَأْسًا دِهَاقًا (٣٤) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (٣٥) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا (٣٦) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) (٣٨)

محاسبة الله إياهم ، أو لم يؤمنوا بالبعث ليرجوا (١) حسابا (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) تكذيبا ، وفعّال في باب فعّل كلّه فاش (وَكُلَّ شَيْءٍ) نصب بمضمر يفسره (أَحْصَيْناهُ كِتاباً) مكتوبا في اللوح ، حال أو مصدر في موضع إحصاء ، أو أحصينا في معنى كتبنا لأن الأحصاء يكون بالكتابة غالبا ، وهذه الآية اعتراض لأن قوله (فَذُوقُوا) مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات ، أي فذوقوا جزاءكم ، والالتفات شاهد على شدة الغضب (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) في الحديث : (هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار) (٢).

٣١ ـ ٣٨ ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) مفعل من الفوز ، يصلح مصدرا أي نجاة من كلّ مكروه وظفرا بكل محبوب ، ويصلح للمكان وهو الجنة ثم أبدل منه بدل البعض من الكل فقال (حَدائِقَ) بساتين فيها أنواع الشجر المثمر ، جمع حديقة (وَأَعْناباً) كروما ، عطف على حدائق (وَكَواعِبَ) نواهد (أَتْراباً) لدّات مستويات في السن (وَكَأْساً دِهاقاً) مملوءة (لا يَسْمَعُونَ فِيها) في الجنة ، حال من ضمير خبر إنّ (لَغْواً) باطلا (وَلا كِذَّاباً) الكسائي خفيف بمعنى مكاذبة ، أي لا يكذب بعضهم بعضا ولا يكاذبه (جَزاءً) مصدر ، أي جزاهم جزاء (مِنْ رَبِّكَ عَطاءً) مصدر ، أو بدل من جزاء (حِساباً) صفة يعني كافيا ، أو على حسب أعمالهم (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) بجرهما ابن عامر وعاصم بدلا من ربك ، ومن رفعهما فربّ خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ خبره الرحمن ، أو الرحمن صفته ، ولا يملكون خبر ، أو هما خبران والضمير في (لا يَمْلِكُونَ) لأهل السماوات والأرض ، وفي (مِنْهُ خِطاباً) لله تعالى ، أي لا يملكون الشفاعة من عذابه تعالى إلا بإذنه ، أو لا يقدر أحد أن يخاطبه تعالى خوفا (يَوْمَ يَقُومُ) إن جعلته ظرفا للا يملكون لا تقف على خطابا ، وإن جعلته

__________________

(١) في (ز) فيرجوا.

(٢) ابن أبي حاتم والثعلبي من رواية جسر بن فرقد السبخي عن الحسن : سألت أبا بزرة الأسلمي فذكره ، وجسر ضعيف. ورواه الطبراني والبيهقي في الشعب موقوفا.

٤٧٩

(ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (٣٩) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) (٤٠)

ظرفا للا يتكلمون تقف (الرُّوحُ) جبريل عند الجمهور ، وقيل هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقا أعظم منه (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) حال ، أي مصطفين (لا يَتَكَلَّمُونَ) أي الخلائق ثمّ خوفا (١) (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) في الكلام ، أو في (٢) الشفاعة (وَقالَ صَواباً) حقا ، بأن قال المشفوع له لا إله إلا الله في الدنيا ، أو لا يؤذن إلا لمن يتكلم بالصواب في أمر الشفاعة.

٣٩ ـ ٤٠ ـ (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) الثابت وقوعه (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) مرجعا بالعمل الصالح (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) أيها الكفار (عَذاباً قَرِيباً) في الآخرة ، لأن ما هو آت قريب (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) الكافر لقوله : إنا أنذرناكم عذابا قريبا (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من الشر لقوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) (٣) وتخصيص الأيدي لأن أكثر الأعمال تقع بها وإن احتمل أن لا يكون للأيدي مدخل فيما ارتكب من الآثام (وَيَقُولُ الْكافِرُ) وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة الذم ، أو المرء عام وخصّ منه الكافر ، وما قدمت يداه ما عمل من خير وشر ، أو هو المؤمن لذكر الكافر بعده وما قدم من خير ، وما استفهامية منصوبة بقدّمت ، أي ينظر أي شيء قدمت يداه ، أو موصولة منصوبة بينظر ، يقال نظرته يعني نظرت إليه ، والراجع من الصلة محذوف أي ما قدمته (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف ، أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم أبعث ، وقيل يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتصّ للجماء من القرناء ثم يردّه ترابا فيود الكافر حاله ، وقيل الكافر إبليس يتمنى أن يكون كآدم مخلوقا من التراب ليثاب ثواب أولاده المؤمنين (٤).

__________________

(١) زاد في (ز) من.

(٢) ليس في (ظ) و (ز) في.

(٣) الأنفال ، ٨ / ٥٠ ـ ٥١.

(٤) زاد في (ز) والله أعلم.

٤٨٠