تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ)(٧٤)

صاحبه لم يقصد الوزن ، ولا بدّ منه ، على أنه عليه‌السلام قال لقيت بالسكون ، وفتح الباء في كذب وخفض الباء في المطلب ، ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال (إِنْ هُوَ) أي المعلّم (إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي ما هو إلّا ذكر من الله يوعظ به الإنس والجنّ ، وما هو إلا قرآن كتاب سماوي ، يقرأ في المحاريب ، ويتلى في المتعبدات ، وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين ، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين.

٧٠ ـ (لِيُنْذِرَ) القرآن أو الرسول ، لتنذر مدني وشامي وسهل ويعقوب (مَنْ كانَ حَيًّا) عاقلا متأملا ، لأن الغافل كالميت ، أو حيا بالقلب (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) وتجب كلمة العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) الذين لا يتأملون وهم في حكم الأموات.

٧١ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) أي مما تولّينا نحن إحداثه ولم يقدر على تولّيه غيرنا (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي خلقناها لأجلهم فملّكناها إياهم ، فهم متصرفون فيها تصرّف الملّاك ، مختصون بالانتفاع بها ، أو فهم لها ضابطون قاهرون.

٧٢ ـ (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) وصيّرناها منقادة لهم ، وإلا فمن كان يقدر عليها لو لا تذليله تعالى وتسخيره لها ، ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبّح بقوله : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (١) (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) وهو ما يركب (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي سخرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها.

٧٣ ـ (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) من الجلود والأوبار وغير ذلك (وَمَشارِبُ) من اللبن ، وهو جمع مشرب ، وهو موضع الشرب ، أو الشراب (أَفَلا يَشْكُرُونَ) الله على إنعام الأنعام.

٧٤ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي لعلّ أصنامهم تنصرهم إذا حزبهم أمر.

__________________

(١) الزخرف ، ٤٣ / ١٣.

٢١

(لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (٧٥) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (٧٦)

٧٥ ـ (لا يَسْتَطِيعُونَ) أي آلهتهم (نَصْرَهُمْ) نصر عابديهم (وَهُمْ لَهُمْ) أي الكفار للأصنام (جُنْدٌ) أعوان وشيعة (مُحْضَرُونَ) يخدمونهم ويذبّون عنهم ، أو اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم ، والأمر على خلاف ما توهموا ، حيث هم يوم القيامة جند معدّون لهم محضرون لعذابهم ، لأنهم يجعلون وقودا للنار (١).

٧٦ ـ (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) وبضم الياء وكسر الزاي نافع ، من حزنه وأحزنه ، يعني فلا يهمنّك (٢) تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من عداوتهم (وَما يُعْلِنُونَ) وإنا مجازوهم عليه ، فحقّ مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة حتى ينقشع عنه الهمّ ولا يرهقه الحزن ، ومن زعم أنّ من قرأ أنّا نعلم بالفتح فسدت صلاته ، وإن اعتقد معناه كفر ، فقد أخطأ لأنه يمكن حمله على حذف لام التعليل وهو كثير في القرآن والشعر وفي كلّ كلام ، وعليه تلبية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الحمد والنعمة لك ، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي رحمة الله عليهما ، وكلاهما تعليل ، فإن قلت إن كان المفتوح بدلا من قولهم كأنه قيل : فلا يحزنك أنا نعلم ما يسرّون وما يعلنون ففساده ظاهر قلت : هذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول فقد تبيّن أنّ تعلّق الحزن بكون الله عالما ، وعدم تعلّقه لا يدوران على كسر إنّ وفتحها وإنما يدوران على تقديرك فتفضل إن فتحت بأن تقدّر معنى التعليل ولا تقدّر معنى البدل ، كما أنك تفضّل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدّر معنى المفعولية ، ثم إن قدّرته كاسرا أو فاتحا على ما عظم فيه الخطب ذلك القائل فما فيه إلا نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن على علمه تعالى بسرّهم وعلانيتهم ، والنهي عن حزنه ليس إثباتا لحزنه بذلك كما في قوله : (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (٣) (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٤) (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (٥) ونزل في أبي بن خلف حين أخذ عظما باليا وجعل يفتّه بيده ويقول : يا محمد أترى الله يحيي

__________________

(١) في (ظ) و (ز) وقود النار.

(٢) في (ظ) و (ز) يهمك.

(٣) القصص ، ٢٨ / ٨٦.

(٤) الأنعام ، ٦ / ١٤ ، يونس ، ١٠ / ١٠٥. القصص ، ٢٨ / ٨٧.

(٥) القصص ، ٢٨ / ٨٨.

٢٢

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ)(٨٠)

هذا بعد ما رم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نعم ويبعثك ويدخلك جهنم) (١).

٧٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) مذرة (٢) خارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) بيّن الخصومة ، أي فهو على مهانة أصله ودناءة أوله يتصدى لمخاصمة ربّه وينكر قدرته على إحياء الميت بعد ما رمّت عظامه ، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به وهو كونه منشأ من موات ، وهو ينكر إنشاءه من موات وهو غاية المكابرة.

٧٨ ـ (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) بفتّه العظم (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) من المنيّ ، فهو أغرب من إحياء العظم ، المصدر مضاف إلى المفعول أي خلقنا إياه (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) هو اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرّمّة والرّفات ولهذا لم يؤنث ، وقد وقع خبرا لمؤنث ، ومن يثبت الحياة في العظام ويقول إنّ عظام الميتة نجسة لأنّ الموت يوثر فيها من قبل أنّ الحياة تحلّها يتشبّث بهذه الآية ، وهي عندنا طاهرة وكذا الشعر والعصب لأنّ الحياة لا تحلّها فلا يؤثر فيها الموت ، والمراد بإحياء العظام في الآية ردّها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حيّ حساس.

٧٩ ـ (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) خلقها (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي ابتداء (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ) مخلوق (عَلِيمٌ) لا تخفى عليه أجزاؤه وإن تفرقت في البرّ والبحر فيجمعه ويعيده كما كان.

٨٠ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) تقدحون ، ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر مع مضادة النار الماء وانطفائها به ، وهي الزناد التي توري بها الأعراب ، وأكثرها من المرخ والعفار ، وفي أمثالهم في كلّ شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار لأنّ المرخ شجر سريع

__________________

(١) قال ابن حجر : هكذا ذكره الحلبي عن قتادة بغير سند. وأخرج نحوه البيهقي في الشعب ، وأخرج الحاكم نحوه وقال إن العاص بن وائل هو الذي فت العظم ، وقال ابن مردويه أن أبا جهل هو الذي جاء بالعظم البالي.

(٢) مذرة : فاسدة.

٢٣

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٣)

الوري والعفار شجر تقدح منه النار ، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهي أنثى فتنقدح النار بإذن الله ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من شجرة إلا وفيها النار إلا العنّاب لمصلحة الدقّ للثياب ، فمن قدر على جمع الماء والنار في الشجر قدر على المعاقبة بين الموت والحياة في البشر ، وإجراء أحد الضدين على الآخر بالتعقيب أسهل في العقل من الجمع معا بلا ترتيب ، والأخضر على اللفظ وقرىء الخضراء على المعنى.

ثم بيّن أنّ من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظم شأنهما فهو على خلق الأناسيّ أقدر بقوله :

٨١ ـ (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) في الصغر بالإضافة إلى السماوات والأرض ، أو أن يعيدهم لأنّ المعاد مثل المبتدأ وليس به (بَلى) أي قل بلى هو قادر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ) الكثير المخلوقات (الْعَلِيمُ) الكثير المعلومات.

٨٢ ـ (إِنَّما أَمْرُهُ) شأنه (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) أن يكوّنه (فَيَكُونُ) فيحدث أي فهو كائن موجود لا محالة ، فالحاصل أنّ المكونات بتخليقه وتكوينه ولكن عبّر عن إيجاده بقوله كن من غير أن كان منه كاف ونون ، وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد ، كأنه يقول كما لا يثقل قول كن عليكم فكذا لا يثقل على الله ابتداء الخلق وإعادتهم ، فيكون شامي وعليّ عطف على يقول ، وأما الرفع فلإنها جملة من مبتدأ وخبر لأنّ تقديرها فهو يكون معطوفة على مثلها وهي أمره أن يقول له كن.

٨٣ ـ (فَسُبْحانَ) تنزيه مما وصفه به المشركون وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا (الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي ملك كلّ شيء وزيادة الواو والتاء للمبالغة ، يعني هو مالك كلّ شيء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تعادون بعد الموت بلا فوت ، ترجعون يعقوب. قال عليه الصلاة والسلام : (إنّ لكلّ شيء قلبا وإنّ قلب القرآن يس من قرأ يس يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين

٢٤

مرة) (١) ، وقال عليه‌السلام : (من قرأ يس أمام حاجته قضيت له) (٢) وقال عليه‌السلام : (من قرأها إن كان جائعا أشبعه الله ، وإن كان ظمآن أرواه الله ، وإن كان عريانا ألبسه الله ، وإن كان خائفا أمّنه الله ، وإن كان مستوحشا آنسه الله ، وإن كان فقيرا أغناه الله وإن كان في السجن أخرجه الله ، وإن كان أسيرا خلّصه الله ، وإن كان ضالا هداه الله ، وإن كان مديونا قضى الله دينه من خزائنه) (٣) وتدعى الدافعة ، والقاضية ، تدفع عنه كلّ سوء وتقضي له كلّ حاجة.

__________________

(١) ابن مردويه والثعلبي من حديث أبي بن كعب.

(٢) الدارمي بمعناه.

(٣) لم أجده.

٢٥

سورة الصافات

مكية وهي مائة وإحدى ، أو اثنتان وثمانون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (٢) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (٣) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) (٥)

١ ـ ٣ ـ (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) أقسم سبحانه وتعالى بطوائف الملائكة أو بنفوسهم الصّافات أقدامها في الصلاة ، فالزاجرات السحاب سوقا ، أو عن المعاصي بالإلهام ، فالتاليات لكلام الله من الكتب المنزّلة وغيرها وهو قول ابن عباس وابن مسعود ومجاهد ، أو بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات ، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح ، فالتاليات آيات الله والدارسات شرائعه ، أو بنفوس الغزاة في سبيل الله التي تصفّ الصفوف وتزجر الخيل للجهاد ، وتتلو الذكر مع ذلك ، وصفا مصدر مؤكد وكذلك زجرا ، والفاء تدل على ترتيب الصفات في التفاضل ، فتفيد الفضل للصفّ ثم للزجر ثم للتلاوة ، أو على العكس ، وجواب القسم :

٤ ـ (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) قيل هو جواب قولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) (١).

٥ ـ (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ربّ (وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) أي مطلع (٢) الشمس وهي ثلثمائة وستون مشرقا ، وكذلك

__________________

(١) ص ، ٣٨ / ٥.

(٢) في (ظ) و (ز) مطالع.

٢٦

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (٦) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (٧) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ) (٨)

المغرب (١) ، تشرق الشمس كلّ يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب منها ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين ، وأما : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (٢) فإنه أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما ، وأما : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (٣) فإنه أراد به الجهة فالمشرق جهة والمغرب جهة.

٦ ـ (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) القربى منكم تأنيث الأدنى (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) حمزة وحفص (٤) على البدل من زينة ، والمعنى إنّا زيّنّا السماء الدنيا بالكواكب ، بزينة الكواكب أبو بكر على البدل من محلّ بزينة ، أو على إضمار أعني ، أو على إعمال المصدر منونا في المفعول ، بزينة الكواكب غيرهم بإضافة المصدر إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وأصله بزينة الكواكب ، أو على إضافته إلى المفعول أي بأن زان الله الكواكب وحسّنها ، لأنها إنما زيّنت السماء لحسنها في أنفسها وأصله بزينة الكواكب لقراءة أبى بكر.

٧ ـ (وَحِفْظاً) محمول على المعنى ، لأن المعنى إنّا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشياطين ، كما قال : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) (٥) أو الفعل المعلل مقدر كأنه قيل وحفظا من كلّ شيطان زيّنّاها (٦) بالكواكب ، أو معناه حفظناها حفظا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) خارج من الطاعة ، والضمير في :

٨ ـ (لا يَسَّمَّعُونَ) لكلّ شيطان ، لأنه في معنى الشياطين ، يسّمّعون كوفي غير أبي بكر ، وأصله يتسمعون ، والتسمع تطلّب السماع يقال تسمع فسمع (٧) ، وينبغي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ اقتصاصا لما عليه حال المسترقة للسمع ، وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة أو يتسمعوا ، وقيل أصله لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت في جئتك أن تكرمني ، فبقي أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها كما في

__________________

(١) في (ز) المغارب.

(٢) الرحمن ، ٥٥ / ١٧.

(٣) الشعراء ، ٢٦ / ٢٨. المزمل ، ٧٣ / ٩.

(٤) في (ز) حفص وحمزة.

(٥) الملك ، ٦٧ / ٥.

(٦) في (ز) قد زيناها.

(٧) زاد في (ظ) و (ز) أو فلم يسمع.

٢٧

(دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (٩) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ) (١١)

قوله (١) : ألا أيّ هذا (٢) الزاجري أحضر الوغى ، وفيه تعسف يجب صون القرآن عن مثله فإنّ كلّ واحد من الحذفين غير مردود على انفراده ، ولكن اجتماعهما منكر ، والفرق بين سمعت فلانا يتحدث وسمعت إليه يتحدث وسمعت حديثه وإلى حديثه أنّ المعدّى بنفسه يفيد الإدراك والمعدّى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك (إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي الملائكة لأنهم يسكنون السماوات ، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض (وَيُقْذَفُونَ) يرمون بالشهب (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جميع جوانب السماء من أي جهة صعدوا للاستراق.

٩ ـ (دُحُوراً) مفعول له أي ويقذفون للدحور ، وهو الطرد أو مدحورين على الحال ، أو لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى ، فكأنه قيل يدحرون أو قذفا (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) دائم من الوصوب ، أي أنهم في الدنيا مرجومون بالشّهب ، وقد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع ومن في :

١٠ ـ (إِلَّا مَنْ) في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون ، أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي (خَطِفَ الْخَطْفَةَ) أي سلب السلبة ، يعني أخذ شيئا من كلامهم بسرعة (فَأَتْبَعَهُ) لحقه (شِهابٌ) أي نجم رجم (ثاقِبٌ) مضيء.

١١ ـ (فَاسْتَفْتِهِمْ) فاستخبر كفار مكّة (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أي أقوى خلقا من قولهم شديد الخلق ، وفي خلقه شدّة ، أو أصعب خلقا وأشقّه على معنى الردّ لإنكارهم البعث ، وأنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) يريد ما ذكر من خلائقه من الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما ، وجيء بمن تغليبا للعقلاء على غيرهم ، ويدلّ عليه قراءة من قرأ أم من عدّدنا بالتشديد والتخفيف (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) لاصق أو لازم ، وقرىء به ، وهذا شهادة عليهم بالضعف ، لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة ، أو احتجاج عليهم بأنّ الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً) (٣) وهذا

__________________

(١) من معلقة طرفة بن العبد ، وتمام البيت : وأن أشهد اللذات هل أنت مخلد.

(٢) في (ظ) و (ز) أيهذا.

(٣) الرعد ، ١٣ / ٥. النمل ، ٢٧ / ٦٧.

٢٨

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (١٥) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ (١٨) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ)(١٩)

المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث.

١٢ ـ (بَلْ عَجِبْتَ) من تكذيبهم إياك (وَيَسْخَرُونَ) هم منك ومن تعجّبك ، أو عجبت من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث ، بل عجبت حمزة وعليّ أي استعظمت ، والعجب روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء ، فجرّد لمعنى الاستعظام في حقّه تعالى ، لأنه لا يجوز عليه الروعة ، أو معناه قل يا محمد بل عجبت.

١٣ ـ (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتّعظون به.

١٤ ـ (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) معجزة كانشقاق القمر ونحوه (يَسْتَسْخِرُونَ) يستدعي بعضهم من بعض (١) أن يسخر منها ، أو يبالغون في السخرية.

١٥ ـ (وَقالُوا إِنْ هذا) ما هذا (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر.

١٦ ـ (أَإِذا) استفهام إنكار (مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي انبعث إذا كنا ترابا وعظاما.

١٧ ـ (أَوَآباؤُنَا) معطوف على محل إن واسمها ، أو على الضمير في مبعوثون ، المعنى أيبعث أيضا آباؤنا على زيادة الاستبعاد ، يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل ، أو آباؤنا بسكون الواو مدني وشامي أي أيبعث واحد منا على المبالغة في الإنكار (الْأَوَّلُونَ) الأقدمون.

١٨ ـ (قُلْ نَعَمْ) تبعثون. نعم عليّ ، وهما لغتان (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) صاغرون.

١٩ ـ (فَإِنَّما هِيَ) جواب شرط مقدر تقديره إذا كان كذلك فما هي إلّا (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) وهي لا ترجع إلى شيء إنما هي مبهمة موضحها خبرها ، ويجوز فإنما البعثة زجرة واحدة وهي النفخة الثانية ، والزجرة الصيحة من قولك زجر الراعي الإبل أو الغنم إذا صاح عليها (فَإِذا هُمْ) أحياء بصراء (يَنْظُرُونَ) إلى سوء أعمالهم ، أو ينتظرون ما يحلّ بهم.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) بعضهم بعضا.

٢٩

(وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (٢٤) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ) (٢٧)

٣٧ / ٢٠ ـ ٢٧ ٢٠ ـ (وَقالُوا يا وَيْلَنا) الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة (هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي اليوم الذي ندان فيه ، أي نجازى بأعمالنا.

٢١ ـ (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) يوم القضاء والفرق بين فرق الهدى والضلال (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ثم يحتمل أن يكون هذا يوم الدين إلى قوله احشروا من كلام الكفرة بعضهم مع بعض ، وأن يكون من كلام الملائكة لهم ، وأن يكون يا ويلنا هذا يوم الدين من كلام الكفرة ، وهذا يوم الفصل من كلام الملائكة جوابا لهم.

٢٢ ـ (احْشُرُوا) خطاب الله للملائكة (الَّذِينَ ظَلَمُوا) كفروا (وَأَزْواجِهِمْ) وأشباههم (١) ، أو قرناءهم من الشياطين ، أو نساءهم الكافرات ، والواو بمعنى مع وقيل للعطف ، وقرىء بالرفع عطفا على الضمير في ظلموا (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ).

٢٣ ـ (مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام (فَاهْدُوهُمْ) دلّوهم ، عن الأصمعي (٢) هديته في الدين هدى وفي الطريق هداية (إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) طريق النار.

٢٤ ـ (وَقِفُوهُمْ) احبسوهم (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) عن أقوالهم وأفعالهم.

٢٥ ـ (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) أي لا ينصر بعضكم بعضا ، وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعد ما كانوا متناصرين في الدنيا ، وقيل هو جواب لأبي جهل حيث قال يوم بدر : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (٣) وهو في موضع النصب على الحال ، أي ما لكم غير متناصرين.

٢٦ ـ (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) منقادون أو قد أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز ، وكلّهم مستسلم غير منتصر.

٢٧ ـ (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي التابع على المتبوع (يَتَساءَلُونَ) يتخاصمون.

__________________

(١) في (ز) أي وأشباههم.

(٢) الأصمعي : هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع ، أبو سعيد الأصمعي ، راوية العرب وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان ولد عام ١٢٢ ه‍ وتوفي عام ٢١٦ ه‍ (الأعلام ٤ / ١٦٢).

(٣) القمر ، ٥٤ / ٤٤.

٣٠

(قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (٣٥)

٢٨ ـ (قالُوا) أي الأتباع للمتبوعين (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) عن القوة والقهر ، إذ اليمين موصوفة بالقوة وبها يقع البطش ، أي أنكم (١) تحملوننا على الضلال وتقسروننا عليه.

٢٩ ـ (قالُوا) أي الرؤساء (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) بل (٢) أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر غير ملجئين.

٣٠ ـ (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) تسلّط نسلبكم به تمكنكم واختياركم (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) بل كنتم قوما مختارين الطغيان.

٣١ ـ (فَحَقَّ عَلَيْنا) فلزمنا جميعا (قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة لعلمه بحالنا ، ولو حكى الوعيد كما هو لقال : إنكم لذائقون ، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلّمون بذلك عن أنفسهم ونحوه قوله (٣) : لقد (٤) زعمت هوازن قلّ مالي. ولو حكى قولها لقال : قلّ مالك.

٣٢ ـ (فَأَغْوَيْناكُمْ) فدعوناكم إلى الغيّ (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا.

٣٣ ـ (فَإِنَّهُمْ) فإنّ الأتباع والمتبوعين جميعا (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) كما كانوا مشتركين في الغواية.

٣٤ ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (٥) إنا مثل ذلك الفعل نفعل بكلّ مجرم.

٣٥ ـ (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) إنهم كانوا إذا سمعوا بكلمة التوحيد استكبروا وأبوا إلا الشرك.

__________________

(١) في (ز) أنكم كنتم.

(٢) في (ز) أي بل.

(٣) لم أصل إلى أصله.

(٤) في (ز) فقد.

(٥) زاد في (ظ) و (ز) أي بالمشركين.

٣١

(وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (٤١) فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (٤٤) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ) (٤٥)

٣٦ ـ (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا) بهمزتين شامي وكوفي (لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعنون محمدا عليه‌السلام.

٣٧ ـ (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) ردّ على المشركين (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) كقوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) (١).

٣٨ ـ ٣٩ ـ (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ. وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بلا زيادة.

٤٠ ـ (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) بفتح اللام كوفي ومدني وكذا ما بعده ، أي لكن عباد الله على الاستثناء المنقطع.

٤١ ـ ٤٢ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَواكِهُ) فسّر الرزق المعلوم بالفواكه ، وهي كلّ ما يتلذّذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة ، يعني أنّ رزقهم كلّه فواكه ، لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأنّ أجسادهم محكمة مخلوقة للأبد ، فما يأكلونه للتلذّذ ، ويجوز أن يراد رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر ، وقيل معلوم الوقت كقوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٢) والنفس إليه أسكن (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) معظّمون (٣).

٤٣ ـ (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يجوز أن يكون ظرفا ، وأن يكون حالا ، وأن يكون خبرا بعد خبر ، وكذا :

٤٤ ـ (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) التقابل أتمّ للسرور وآنس.

٤٥ ـ (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) بغير همز أبو عمرو وحمزة في الوقف وغيرهما بالهمزة ، يقال للزجاجة فيها الخمر كاس ، وتسمى الخمر نفسها كاسا ، وعن

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ٩٧. آل عمران ، ٣ / ٣. المائدة ، ٥ / ٤٦ و ٤٨. فاطر ، ٣٥ / ٣١. الأحقاف ، ٤٦ / ٣٠.

(٢) مريم ، ١٩ / ٦٢.

(٣) في (ظ) معطون ، في (ز) منعمون.

٣٢

(بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (٤٦) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ) (٥٢)

الأخفش : كلّ كاس في القرآن فهي الخمر ، وكذا في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما (مِنْ مَعِينٍ) من شراب معين ، أو من نهر معين ، وهو الجاري على وجه الأرض الظاهر للعيون ، وصف بما وصف به الماء لأنه يجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء ، قال الله تعالى : (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) (١).

٤٦ ـ (بَيْضاءَ) صفة للكاس (لَذَّةٍ) وصفت باللذة كأنها نفس اللذة وعينها ، أو ذات لذة (لِلشَّارِبِينَ).

٤٧ ـ (لا فِيها غَوْلٌ) أي لا تغتال عقولهم كخمور الدنيا ، وهو من غاله يغوله غولا إذا أهلكه وأفسده (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) يسكرون من نزف الشارب إذا ذهب عقله ، ويقال للسكران نزيف ومنزوف ، ينزفون عليّ وحمزة أي لا يسكرون ، أو لا ينزف شرابهم من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه.

٤٨ ـ (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ لا يمددن طرفا إلى غيرهم (عِينٌ) جمع عيناء أي نجلاء واسعة العين.

٤٩ ـ (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) مصون ، شبههنّ ببيض النعام المكنون في الصفاء ، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور. وعطف :

٥٠ ـ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) يعني أهل الجنة (عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) عطف (٢) على يطاف عليهم ، والمعنى يشربون ويتحادثون على الشراب كعادة الشّرب قال (٣) :

وما بقيت من اللذات إلّا

أحاديث الكرام على المدام

فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى عليهم (٤) في الدنيا ، إلا أنه جيء به ماضيا على ما عرف في أخباره.

٥١ ـ ٥٢ ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ) بهمزتين شامي وكوفي (لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بيوم الدين.

__________________

(١) محمد ، ٤٧ / ١٥.

(٢) ليس في (أ) عطف.

(٣) لم أصل إليه.

(٤) في (ز) لهم وعليهم.

٣٣

(أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (٥٥) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ) (٦١)

٥٣ ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) لمجزيّون من الدّين وهو الجزاء.

٥٤ ـ (قالَ) ذلك القائل (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) إلى النار لأريكم ذلك القرين قيل : إنّ في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار ، أو قال الله تعالى لأهل الجنة : هل أنتم مطّلعون إلى النار فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار.

٥٥ ـ (فَاطَّلَعَ) المسلم (فَرَآهُ) أي قرينه (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) في وسطها.

٥٦ ـ (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) إن مخففة من الثقيلة ، وهي تدخل على كاد كما تدخل على كان ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، والإرداء الإهلاك. وبالياء في الحالين يعقوب.

٥٧ ـ (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) وهي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك.

٥٨ ـ ٥٩ ـ (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ* إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) الفاء للعطف على محذوف تقديره أنحن المخلّدون (١) منعّمون فما نحن بميتين ولا معذبين ، والمعنى أنّ هذه حال المؤمنين ، وهو أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى بخلاف الكفار ، فإنهم فيما يتمنون فيه الموت كلّ ساعة. وقيل لحكيم : ما شرّ من الموت قال : الذي يتمنى فيه الموت. وهذا قول يقوله المؤمن تحدثا بنعمة الله بمسمع من قرينه ليكون توبيخا له وزيادة تعذيب. وموتتنا نصب على المصدر ، والاستثناء متصل تقديره ولا نموت إلّا مرة ، أو منقطع وتقديره لكن الموتة الأولى قد كانت في الدنيا. ثم قال لقرينه تقريعا له :

٦٠ ـ (إِنَّ هذا) أي الأمر الذي نحن فيه (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ثم قال الله عزوجل :

٦١ ـ (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) وقيل هو أيضا من كلامه.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) مخلدون.

٣٤

(أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) (٦٨)

٦٢ ـ (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً) تمييز (أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) أي نعيم الجنة وما فيها من اللذات والطعام والشراب خير نزلا أم شجرة الزقوم خير نزلا ، والنّزل ما يقام للنازل بالمكان من الرزق. والزقوم : شجرة مرّ يكون بتهامة.

٦٣ ـ (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) محنة وعذابا لهم في الآخرة ، أو ابتلاء لهم في الدنيا ، وذلك أنهم قالوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟ فكذّبوا.

٦٤ ـ (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) قيل منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.

٦٥ ـ (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها ، وشبّه برؤوس الشياطين للدلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر ، لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس لاعتقادهم أنه شرّ محض ، وقيل الشيطان حية عرفاء قبيحة المنظر هائلة جدا.

٦٦ ـ (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) من الشجرة ، من (١) طلعها (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) فمالئون بطونهم لما يغلبهم من الجوع الشديد.

٦٧ ـ (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) على أكلها (لَشَوْباً) لخلطا ولمزاجا (مِنْ حَمِيمٍ) ماء حار يشوي وجوههم ويقطّع أمعاءهم ، كما قال في صفة شراب أهل الجنة : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) (٢) والمعنى ثم إنهم يملئون البطون من شجرة الزقوم ، وهو حار يحرق بطونهم ويعطشهم فلا يسقون إلا بعد ملىء تعذيبا لهم بذلك العطش ، ثم يسقون ما هو أحرّ وهو الشراب المشوب بالحميم.

٦٨ ـ (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي أنهم يذهب بهم عن مقارّهم ومنازلهم في الجحيم ، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم ، فيأكلون إلى أن

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أي من.

(٢) المطففين ، ٨٣ / ٢٧.

٣٥

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ (٧٢) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (٧٣) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) (٧٥)

يتملّوا (١) ، ويسقون بعد ذلك ، ثم يرجعون إلى دركاتهم ، ومعنى التراخي في ذلك ظاهر.

٦٩ ـ ٧٠ ـ إنّهم ألفوا آبائهم ظالّين. فهم على آثارهم يهرعون علّل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد الآباء في الدّين واتباعهم إياهم في الضلال وترك اتباع الدليل. والإهراع : الإسراع الشديد كأنهم يحثّون حثا.

٧١ ـ (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) قبل قوم (٢) قريش (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) يعني الأمم الخالية بالتقليد وترك النظر والتأمل.

٧٢ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أنبياء حذّروهم العواقب.

٧٣ ـ (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الذين (٣) أنذروا وحذّروا ، أي أهلكوا جميعا.

٧٤ ـ (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي إلّا الذين آمنوا منهم وأخلصوا لله دينهم ، أو أخلصهم الله لدينه على القراءتين.

ولما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذرين أتبع ذلك ذكر نوح ودعاءه إياه حين أيس من قومه بقوله :

٧٥ ـ (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) دعانا لننجّيه من الغرق ، وقيل أريد به قوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (٤) (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) اللام الداخلة على نعم جواب قسم محذوف ، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره ولقد نادانا نوح فو الله لنعم المجيبون نحن ، والجمع دليل العظمة والكبرياء ، والمعنى إنا أجبناه أحسن الإجابة ، ونصرناه على أعدائه ، وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون.

__________________

(١) في (ظ) يملوا ، وفي (ز) يمتلئوا.

(٢) في (ظ) و (ز) قومك.

(٣) في (ز) أي الذين.

(٤) القمر ، ٥٤ / ١٠.

٣٦

(وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (٨٣) إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٤)

٧٦ ـ (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) ومن آمن به وأولاده (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) غم (١) الغرق.

٧٧ ـ (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وقد فني غيرهم ، قال قتادة : الناس كلهم من ذرية نوح ، وكان لنوح عليه‌السلام ثلاثة أولاد سام وهو أبو العرب وفارس والروم ، وحام وهو أبو السودان من المشرق إلى المغرب ، ويافث وهو أبو التّرك ويأجوج ومأجوج.

٧٨ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) من الأمم هذه الكلمة ، وهي :

٧٩ ـ (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي كقولك قرأت سورة أنزلناها (فِي الْعالَمِينَ) أي ثبّت هذه التحية فيهم جميعا ، ولا يخلو أحد منهم منها ، كأنه قيل ثبّت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلّمون عليه عن آخرهم.

٨٠ ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) علّل مجازاته بتلك التكرمة السنية بأنه كان محسنا.

٨١ ـ (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) ثم علّل كونه محسنا بأنه كان عبدا مؤمنا ليريك جلالة محل الإيمان ، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم.

٨٢ ـ (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي الكافرين.

٨٣ ـ (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي من شيعة نوح أي ممن شايعه على أصول الدين ، أو شايعه على التصلّب في دين الله ومصابرة المكذبين ، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة ، وما كان بينهما إلا نبيان هود وصالح.

٨٤ ـ (إِذْ جاءَ رَبَّهُ) إذ تعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة ، يعني وإنّ ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربّه (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من الشرك ، أو من آفات القلوب

__________________

(١) في (ز) وهو.

٣٧

(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٨٩)

لإبراهيم ، أو بمحذوف وهو اذكر ، ومعنى المجيء بقلبه ربّه أنه أخلص لله قلبه وعلم الله ذلك منه فضرب المجيء مثلا لذلك.

٨٥ ـ ٨٦ ـ (إِذْ) بدل من الأولى (قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ. أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أإفكا مفعول له تقديره أتريدون آلهة من دون الله إفكا ، وإنما قدّم المفعول به على الفعل للعناية ، وقدّم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهمّ عنده أن يكافحهم أنهم (١) على إفك وباطل في شركهم ، ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به ، أي أتريدون إفكا ، ثم فسّر الإفك بقوله آلهة دون الله على أنها إفك في نفسها ، أو حالا ، أي أتريدون آلهة من دون الله آفكين.

٨٧ ـ (فَما ظَنُّكُمْ) أيّ شيء ظنّكم (بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وأنتم تعبدون غيره ، وما رفع بالابتداء والخبر ظنّكم ، أو فما ظنّكم به ما ذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره وعلمتم أنه المنعم على الحقيقة فكان حقيقا بالعبادة.

٨٨ ـ (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أي نظر في النجوم راميا ببصره إلى السماء متفكرا في نفسه كيف يحتال ، أو أراهم أنه ينظر في النجوم لاعتقادهم علم النجوم ، فأوهمهم أنه استدل بأمارة على أنه يسقم.

٨٩ ـ (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي مشارف للسّقم ، وهو الطاعون ، وكان أغلب الأسقام عليهم ، وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه ، فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد ، ففعل بالأصنام ما فعل ، وقالوا علم النجوم كان حقا ثم نسخ الاشتغال بمعرفته ، والكذب حرام إلا إذا عرّض ، والذي قاله إبراهيم عليه‌السلام معراض من الكلام ، أي سأسقم ، أو من في عنقه الموت سقيم (٢) ، ومنه المثل كفى بالسلامة داء. ومات رجل فجأة فقالوا مات وهو صحيح ، فقال أعرابي أصحيح من الموت في عنقه ، أو أراد إني سقيم النفس لكفركم ، كما يقال أنا مريض القلب من كذا.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) بأنهم.

(٢) في (ز) أمن الموت في عنقه سقيم.

٣٨

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ (٩٢) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (٩٦)

٩٠ ـ (فَتَوَلَّوْا) فأعرضوا (عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي مولّين الأدبار.

٩١ ـ (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) فمال إليهم سرّا (فَقالَ) استهزاء (أَلا تَأْكُلُونَ) وكان عندها طعام.

٩٢ ـ (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) والجمع بالواو والنون لما أنه خاطبها خطاب من يعقل.

٩٣ ـ (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً) فأقبل عليهم مستخفيا ، كأنه قال فضربهم ضربا لأنّ راغ عليهم بمعنى ضربهم ، أو فراغ عليهم يضربهم ضربا ، أو فراغ عليهم ضربا (١) أي ضاربا (بِالْيَمِينِ) أي ضربا شديدا بالقوة ، لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما ، أو بالقوة والمتانة ، أو بسبب الحلف الذي سبق منه ، وهو قوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) (٢).

٩٤ ـ (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) إلى إبراهيم (يَزِفُّونَ) يسرعون من الزفيف وهو الإسراع. يزفون حمزة من أزفّ إذا دخل في الزفيف إزفافا ، فكأنه قد رآه بعضهم يكسرها وبعضهم لم يره ، فأقبل من رآه مسرعا نحوه ، ثم جاء من لم يره يكسرها ، فقال لمن رآه : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٣) فأجابوه على سبيل التعريض بقولهم : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) (٤) ثم قالوا بأجمعهم نحن نعبدها وأنت تكسرها ، فأجابهم بقوله :

٩٥ ـ (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) بأيديكم.

٩٦ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي (٥) وخلق ما تعلمونه من الأصنام ، أو ما مصدرية أي وخلق أعمالكم ، وهو دليلنا في خلق الأفعال ، أي الله خالقكم وخالق أعمالكم فلم تعبدون غيره.

__________________

(١) ليس في (ز) أو فراغ عليهم ضربا.

(٢) الأنبياء ، ٢١ / ٥٧.

(٣) الأنبياء ، ٢١ / ٥٩.

(٤) الأنبياء ، ٢١ / ٦٠.

(٥) ليس في (ز) أي.

٣٩

(قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢)

٩٧ ـ (قالُوا ابْنُوا لَهُ) أي لأجله (بُنْياناً) من الحجر طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) في النار الشديدة ، وقيل : كلّ نار بعضها فوق بعض فهي جحيم.

٩٨ ـ (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) بإلقائه في النار (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) المقهورين عند الإلقاء ، فخرج من النار.

٩٩ ـ (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) إلى موضع أمرني بالذهاب إليه (سَيَهْدِينِ) سيرشدني إلى ما فيه صلاحي في ديني ويعصمني ويوفقني. سيهديني فيهما يعقوب.

١٠٠ ـ (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) بعض الصالحين يريد الولد ، لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد.

١٠١ ـ (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) انطوت البشارة على ثلاث : على أنّ الولد غلام ذكر ، وأنه يبلغ أوان الحلم ، لأنّ الصبيّ لا يوصف بالحلم ، وأنه يكون حليما ، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) ثم استسلم لذلك.

١٠٢ ـ (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه. ومعه لا يتعلق ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حدّ السعي ، ولا بالسعي لأن صلة المصدر لا تتقدّم عليه ، فبقي أن يكون بيانا ، كأنه لمّا قال فلما بلغ السعي أي الحدّ الذي يقدر فيه على السعي قيل : مع من؟ قال : مع أبيه ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة (قالَ يا بُنَيَ) حفص ، والباقون بكسر الياء (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) وبفتح الياء فيهما حجازي وأبو عمرو ، قيل له في المنام اذبح ابنك ، ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة ، وإنما لم يقل رأيت لأنه رأى مرة بعد مرة ، فقد قيل رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له : إنّ الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثمّ سمّي يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فمن ثمّ سمّي يوم عرفة ، ثم رأى مثل ذلك في

٤٠