تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) (١)

فارقتهم ، ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، وقد علمت أنّ الله ينزل عليهم بأسه ، وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا ، فصدقه وقبل عذره ، فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ففاضت عينا عمر رضي الله عنه (١) ، فنزل :

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) عدّي اتخذ إلى مفعوليه ، وهما عدوّي وأولياء ، والعدوّ فعول من عدا كعفوّ من عفا ، ولكنه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد ، وفيه دليل على أنّ الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان (تُلْقُونَ) حال من الضمير في لا تتخذوا ، والتقدير لا تتخذوهم أولياء ملقين (إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أو مستأنف بعد وقف على التوبيخ ، والإلقاء عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم ، والباء في بالمودة زائدة مؤكدة للتعدّي كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٢) أو ثابتة على أنّ مفعول تلقون محذوف معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم (وَقَدْ كَفَرُوا) حال من لا تتخذوا أو من تلقون ، أي لا تتولوهم أو توادّونهم وهذه حالهم (بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) دين الإسلام والقرآن (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوّهم ، أو حال من كفروا (أَنْ تُؤْمِنُوا) تعليل ليخرجون أي يخرجونكم من مكة لإيمانكم (بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) متعلق بلا تتخذوا ، أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي ، وقول النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه (جِهاداً فِي سَبِيلِي) مصدر في موضع الحال ، أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي (وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) ومبتغين مرضاتي (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تفضون إليهم بمودتكم سرا ، أو تسرّون

__________________

(١) رواه الطبري بنحوه عن علي رضي الله عنه وعن عروة بن الزبير وقتادة.

(٢) البقرة ، ٢ / ١٩٥.

٣٦١

(إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٤)

إليهم أسرار رسول الله بسبب المودة ، وهو استئناف (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) والمعنى أيّ طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أنّ الإخفاء والإعلان سيان في علمي وأنا مطلع رسولي على ما تسرّون (وَمَنْ يَفْعَلْهُ) أي هذا الإسرار (مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) فقد أخطأ طريق الحقّ والصواب.

٢ ـ (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) خالصي العداوة ، ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) بالقتل والشتم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) وتمنّوا لو ترتدّون عن دينكم ، فإذا موادّة أمثالهم خطأ عظيم منكم ، والماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع ففيه نكتة ، كأنه قيل ودّوا قبل كلّ شيء كفركم وارتدادكم ، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضارّ الدنيا والدين من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض ، وردّكم كفارا أسبق المضارّ عندهم وأولها ، لعلمهم أنّ الدين أعزّ عليكم من أرواحكم ، لأنكم بذّالون لها دونه ، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أهم شيء عند صاحبه.

٣ ـ (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) قراباتكم (وَلا أَوْلادُكُمْ) الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ، ثم قال (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) وبين أقاربكم وأولادكم ، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (١) الآية فما لكم ترفضون حق الله مرعاة لحقّ من يفرّ منكم غدا. يفصل عاصم. يفصّل حمزة وعلي والفاعل هو الله عزوجل ، يفصّل ابن ذكوان ، غيرهم يفصل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم على أعمالكم.

٤ ـ (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ) قدوة في التبرّي من الأهل (حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) أي في أقواله ، ولهذا استثنى منها إلا قول إبراهيم (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين ، وقيل

__________________

(١) عبس ، ٨٠ / ٣٤.

٣٦٢

(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٥ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(٧)

كانوا أنبياء (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) جمع بريء كظريف وظرفاء (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ) بالأفعال (وَالْبَغْضاءُ) بالقلوب (أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) فحينئذ نترك عداوتكم (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) وذلك لموعدة وعدها إياه ، أي اقتدوا به في أقواله ولا تأتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي من هداية ومغفرة وتوفيق ، وهذه الجملة لا تليق بالاستثناء ألا ترى إلى قوله : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) (١) ولكن المراد استثناء جملة قوله لأبيه ، والقصد إلى موعد الاستغفار له ، وما بعده تابع له ، كأنه قال : أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) متصل بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة الأسوة الحسنة ، وقيل معناه قولوا ربّنا ، فهو ابتداء أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أقبلنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) المرجع.

٥ ـ (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا تسلّطهم علينا فيفتنوننا بعذاب (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الغالب الحاكم.

٦ ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) ثم كرر الحثّ على الائتساء بإبراهيم عليه‌السلام وقومه تقريرا وتأكيدا عليهم ، ولذا جاء به مصدرا بالقسم ، لأنه الغاية في التأكيد ، وأبدل عن قوله لكم قوله لمن كان يرجو الله ، أي ثوابه أي يخشى الله ، وعقبه بقوله (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن أمرنا ووالى (٢) الكفار (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن الخلق (الْحَمِيدُ) المستحقّ للحمد ، فلم يترك نوعا من التأكيد إلا جاء به.

ولما نزلت (٣) هذه الآيات وتشدّد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين أطمعهم في تحوّل الحال إلى خلافه ، فقال :

٧ ـ (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي من أهل مكة من أقربائكم (مَوَدَّةً) بأن يوفقهم للإيمان ، فلما يسّر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم ،

__________________

(١) الفتح ، ٤٨ / ١١.

(٢) في (ز) يعرض عن أمرنا ويوال الكفار.

(٣) في (ز) أنزلت.

٣٦٣

(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠)

فأسلم قومهم وتم بينهم التحاب ، وعسى وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج عسى أو لعلّ فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك ، أو أريد به إطماع المؤمنين (وَاللهُ قَدِيرٌ) على تقليب القلوب وتحويل الأحوال وتسهيل أسباب المودة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن أسلم من المشركين.

٨ ـ (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) تكرموهم وتحسنوا إليهم قولا وفعلا ، ومحلّ أن تبرّوهم جر على البدل من الذين لم يقاتلوكم ، وهو بدل اشتمال ، والتقدير عن برّ الذين (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم ، وإذا نهي عن الظلم في حقّ المشرك فكيف في حق المسلم؟ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

٩ ـ (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) هو بدل من الذين قاتلوكم ، والمعنى لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء ، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) منكم (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) حيث وضعوا التولي غير موضعه.

١٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) سماهنّ مؤمنات لنطقهنّ بكلمة الشهادة ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهنّ بالامتحان (مُهاجِراتٍ) نصب على الحال (فَامْتَحِنُوهُنَ) فابتلوهنّ بالنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهنّ. وعن ابن عباس : امتحانها أن تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) منكم ، فإنكم وإن رزتم (١) أحوالهن لا تعلمون ذلك حقيقة وعند الله حقيقة

__________________

(١) رازه : جربه (القاموس ٢ / ١٧٧).

٣٦٤

(وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ) (١١)

العلم به (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) العلم الذي تبلغه طاقتكم ، وهو الظنّ الغالب بظهور الأمارات ، وتسمية الظنّ علما يؤذن بأنّ الظنّ الغالب وما يفضي إليه القياس جار مجرى العلم وصاحبه غير داخل في قوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١) (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) فلا تردوهنّ إلى أزواجهنّ المشركين (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) أي لا حلّ بين المؤمنة والمشرك لوقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) وأعطوا أزواجهنّ مثل ما دفعوا إليهنّ من المهور. نزلت الآية بعد صلح الحديبية ، وكان الصلح قد وقع على أن يرد على أهل مكة من جاء مؤمنا منهم ، فأنزل الله هذه الآية بيانا لأن ذلك في الرجال لا في النساء ، لأن المسلمة لا تحلّ للكافر ، وقيل نسخت هذه الآية الحكم الأول (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) ثم نفى عنهم الجناح في تزوّج هؤلاء المهاجرات (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهنّ لأن المهر أجر البضع ، وبه احتجّ أبو حنيفة رضي الله عنه على أن لا عدة على المهاجرة (وَلا تُمْسِكُوا) ولا تمسّكوا بصري (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) العصمة ما يعتصم به من عقد وسبب ، والكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة ، أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية. قال ابن عباس رضي الله عنهما : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّنّ بها من نسائه ، لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ممن تزوّجها (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوّجها منّا (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ) أي جميع ما ذكر في هذه الآية (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) كلام مستأنف ، أو حال من حكم الله على حذف الضمير ، أي يحكمه الله ، أو جعل الحكم حاكما على المبالغة ، وهو منسوخ فلم يبق سؤال المهر لا منّا ولا منهم (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

١١ ـ (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) وإن انفلت أحد منهنّ إلى الكفار ، وهو في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أحد (فَعاقَبْتُمْ) فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم عن الزّجّاج (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم ولحقن بدار الحرب مهور زوجاتهم من هذه الغنيمة (وَاتَّقُوا اللهَ

__________________

(١) الإسراء ، ١٧ / ٣٦.

٣٦٥

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (١٢)

(الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) وقيل هذا الحكم منسوخ أيضا.

١٢ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) حال (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) يريد وأد البنات (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك ، كنّى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذبا ، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين ، وفرجها الذي تلده به بين الرّجلين (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) طاعة الله ورسوله (فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) عما مضى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) بتمحيق ما سلف (رَحِيمٌ) بتوفيق ما ائتنف.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا ، وعمر قاعد أسفل منه يبايعهن عنه بأمره يبلّغهنّ عنه ، وهند بنت عتبة (١) امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة ، فقال عليه‌السلام : (أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا). فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئا ، فقال عليه‌السلام : (ولا يسرقن) ، فقالت هند إنّ أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات ، فقال أبو سفيان : ما أصبت فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفها ، فقال لها : (إنك لهند) قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك ، فقال : (ولا يزنين). فقالت : أوتزني الحرة؟ فقال : (ولا يقتلن أولادهن) ، فقالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة قد قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى ، وتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (ولا يأتين ببهتان) ، فقالت : والله إنّ البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال : (ولا يعصينك في معروف) فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء (٢) ، وهو يشير إلى أنّ طاعة الولاة لا تجب في المنكر.

__________________

(١) هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، صحابية ، قرشية أم الخليفة معاوية بن أبي سفيان شهدت اليرموك وحضت على قتال الروم ماتت عام ١٤ ه‍ (الأعلام ٨ / ٩٨).

(٢) رواه الطبري بغير هذا السياق من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة.

٣٦٦

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) (١٣)

١٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ختم السورة بما بدأ به ، قيل : هم المشركون (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) من ثوابها لأنهم ينكرون البعث (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) أي كما يئسوا ، إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أن يرجعوا إليهم ، أو كما يئس أسلافهم الذين هم في القبور من الآخرة ، أي هؤلاء كسلفهم ، وقيل : هم اليهود أي لا تتولوا قوما مغضوبا عليهم قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة كما يئس الكفار من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء ، وقيل : من أصحاب القبور بيان للكفار ، أي كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

٣٦٧

سورة الصف

مدنية وهي أربع عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (٣)

١ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) روي أنهم قالوا قبل أن يؤمروا بالجهاد : لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لعملناه ، فنزلت آية الجهاد (١) ، فتباطأ بعضهم ، فنزلت.

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) لم هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجرّ في قولك بم وفيم وممّ وعمّ وإلام وعلام ، وإنما حذفت الألف لأن ما واللام أو غيرها كشيء واحد وكثر (٢) الاستعمال في كلام المستفهم ، وقد جاء استعمال الأصل قليلا قال (٣) : على ما قام يشتمني جرير. والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان ، ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف.

__________________

(١) رواه الدارمي والترمذي والحاكم وابن حبان وأبو يعلى وأحمد والبيهقي جميعهم عن الأوزاعي بسنده عن عبد الله بن سلام ورواه الطبري عن ابن عباس.

(٢) في (ظ) و (ز) وهو كثير.

(٣) لم أصل إلى أصله.

٣٦٨

(كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ)(٦)

٣ ـ (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) قصد في كبر التعجب من غير لفظه ، كقوله (١) : غلت ناب كليب بواؤها. ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره ، وأسند إلى أن تقولوا ، ونصب مقتا على التمييز ، وفيه دلالة على أنّ قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، والمعنى كبر قولكم ما لا تفعلون مقتا عند الله ، واختير لفظ المقت لأنه أشدّ البغض ، وعن بعض السلف أنه قيل له حدّثنا ، فقال : أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله. ثم أعلم الله عزوجل ما يحبّه فقال :

٤ ـ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) أي صافين أنفسهم ، مصدر وقع موقع الحال (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) لاصق بعضه ببعض ، وقيل أريد به استواء نياتهم في حرب عدوّهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رصّ بعضه إلى بعض ، وهو حال أيضا.

٥ ـ (وَإِذْ) منصوب باذكر (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) بجحود الآيات والقذف بما ليس فيّ (وَقَدْ تَعْلَمُونَ) في موضع الحال ، أي لم تؤذونني عالمين علما يقينا (أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) وقضية علمكم بذلك توقيري وتعظيمي لا أن تؤذوني (فَلَمَّا زاغُوا) مالوا عن الحقّ (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) من الهداية ، أو لما تركوا أوامره نزع نور الإيمان من قلوبهم ، أو فلما اختاروا الزيغ أزاغ الله قلوبهم ، أي خذلهم وحرمهم توفيق اتباع الحقّ (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق.

٦ ـ (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ولم يقل يا قوم كما قال موسى ،

__________________

(١) لم أصل إلى أصله.

٣٦٩

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ٨ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ٩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (١٠)

لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) أي أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة ، وفي حال تبشيري برسول يأتي من بعدي ، يعني أن ديني التصديق (١) بكتب الله وأنبيائه جميعا ممن تقدّم وتأخر ، بعدي حجازي وأبو عمرو وأبو بكر ، وهو اختيار الخليل وسيبويه ، وانتصب مصدقا ومبشرا بما في الرسول من معنى الإرسال (فَلَمَّا جاءَهُمْ) عيسى أو محمد عليهما‌السلام (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ساحر حمزة وعليّ.

٧ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وأيّ الناس أشدّ ظلما ممن يدعوه ربّه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين ، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله ، بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق هذا سحر والسحر كذب وتمويه.

٨ ـ (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) هذا تهكّم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هذا سحر ، مثّلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه ، والمفعول محذوف ، واللام للتعليل ، والتقدير يريدون الكذب ليطفئوا نور الله بأفواههم أي بكلامهم (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) مكي وحمزة وعليّ وحفص ، متمّ نوره غيرهم ، أي متم الحقّ ومبلغه غايته (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

٩ ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) أي الملة الحنيفية (لِيُظْهِرَهُ) ليعليه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) على جميع الأديان المخالفة له ، ولعمري لقد فعل ، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام ، وعن مجاهد : إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

١٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) تنجّيكم شامي.

__________________

(١) كرر في (ز) التصديق.

٣٧٠

(تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (١٤)

١١ ـ (تُؤْمِنُونَ) استئناف كأنهم قالوا : كيف نعمل؟ فقال : تؤمنون ، وهو بمعنى آمنوا عند سيبويه ، ولهذا أجيب بقوله يغفر لكم ، ويدلّ عليه قراءة ابن مسعود آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا ، وإنما جيء به على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال ، وكأنه امتثل ، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ) أي ما ذكر من الإيمان والجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ) من أموالكم وأنفسكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه خير لكم ، كان خيرا لكم حينئذ ، لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم ، فتخلصون وتفلحون (١).

١٢ ـ (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي إقامة وخلود ، يقال عدن بالمكان إذا أقام به ، كذا قيل (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

١٣ ـ (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم ، ثم فسرها بقوله (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي عاجل وهو فتح مكة والنصر على قريش ، أو فتح فارس والروم ، وفي تحبونها شيء من التوبيخ على محبة العاجل ، وقال صاحب الكشف (٢) : معناه هل أدلكم على تجارة تنجيكم وعلى تجارة أخرى تحبونها ، ثم قال نصر أي هي نصر (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على تؤمنون ، لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشّر يا رسول الله المؤمنين بذلك ، وقيل هو عطف على قل مرادا قبل يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم.

١٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) أي أنصار دينه ، أنصارا لله حجازي

__________________

(١) في (ظ) و (ز) فتفلحون وتخلصون.

(٢) صاحب الكشف : أحمد بن إبراهيم الثعلبي وكتابه «الكشف والبيان في تفسير القرآن».

٣٧١

وأبو عمرو (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) ظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى من أنصاري إلى الله ، ولكنه محمول على المعنى ، أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله؟ ومعناه من جندي ، متوجها إلى نصرة الله ليطابق جواب الحواريين ، وهو قوله (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي نحن الذين ينصرون الله ، ومعنى من أنصاري من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله ، والحواريون أصفياؤه ، وهم أول من آمن به ، وكانوا اثني عشر رجلا ، وحواري الرجل صفيّه ، وخالصه ، من الحور وهو البياض الخالص ، وقيل كانوا قصّارين يحوّرون الثياب أي يبيّضونها (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) بعيسى (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) به (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) فقوّينا مؤمنيهم على كفارهم (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) فغلبوا عليهم ، والله ولي المؤمنين (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

٣٧٢

سورة الجمعة

مدنية وهي إحدى عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (٢)

١ ـ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة ، يعني إذا نظرت إلى كلّ شيء دلّتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن الأشباه ، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كلّ شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه ، ألا ترى إلى قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١) أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كلّ جوهر من غير معرفة له بذلك.

٢ ـ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ) أرسل (فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) أي بعث رجلا أميا في قوم أميين ، وقيل منهم ، كقوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (٢) يعلمون نسبه وأحواله ، والأميّ منسوب إلى أمة العرب ، لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرأون من بين الأمم ، وقيل بدئت الكتابة بالطائف ، وهم أخذوها من أهل الحيرة (٣) ، وأهل الحيرة من أهل

__________________

(١) الإسراء ، ١٧ / ٤٤.

(٢) التوبة ، ٩ / ١٢٨.

(٣) الحيرة : مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة ، كانت مسكن ملوك العرب في الجاهلية (معجم البلدان ٢ / ٣٧٦).

٣٧٣

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥)

الأنبار (١) (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) القرآن (وَيُزَكِّيهِمْ) ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) السنة ، أو الفقه في الدين (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) كفر وجهالة ، إن مخففة من الثقيلة ، واللام دليل عليها ، أي كانوا في ضلال لا ترى ضلالا أعظم منه.

٣ ـ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) مجرور معطوف على الأميين ، يعني أنه بعثه في الأميين الذين على عهده ، وفي آخرين من الأميين (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم ، أو هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم الدين ، وقيل هم العجم ، أو منصوب معطوف على المنصوب في ويعلّمهم أي يعلّمهم ويعلّم آخرين ، لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كلّه مستندا إلى أوله ، فكأنه هو الذي تولى كلّ ما وجد منه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في تمكينه رجلا أميّا من ذلك الأمر العظيم ، وتأييده عليه ، واختياره إياه من بين كافة البشر.

٤ ـ (ذلِكَ) الفضل الذي أعطاه محمدا ، وهو أن يكون نبيّ أبناء عصره ونبيّ أبناء العصور الغوابر هو (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) إعطاءه وتقتضيه حكمته (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

٥ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي كلّفوا علمها والعمل بما فيها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) ثم لم يعملوا بها ، فكأنهم لم يحملوها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) جمع سفر وهو الكتاب الكبير ، ويحمل في محل النصب على الحال ، أو الجر على الوصف ، لأنّ الحمار كاللئيم في قوله (٢) : ولقد أمرّ على اللئيم يسبني. شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بآياتها ، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبشارة به ، فلم يؤمنوا به ، بالحمار حمّل كتبا كبارا من

__________________

(١) الأنبار : مدينة قرب بلخ وبها كان مقام السلطان ، وفتحت الأنبار في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة ١٢ ه‍ على يد خالد بن الوليد صلحا (معجم البلدان ١ / ٣٠٥).

(٢) لم أصل إليه.

٣٧٤

(قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٦) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩)

كتب العلم ، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكدّ والتعب ، وكلّ من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي بئس مثلا مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله ، أو بئس مثل القوم المكذبين مثلهم ، وهم اليهود الذين كذّبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي وقت اختيارهم الظلم ، أو لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون ظالما.

٦ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) هاد يهود إذا تهوّد (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كانوا يقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (١) أي إن كان قولكم حقا وكنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعا إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه ، ثم قال :

٧ ـ (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بسبب ما قدّموا من الكفر ، ولا فرق بين لا ولن في أنّ كلّ واحدة منهما نفي للمستقبل إلا أنّ في لن تأكيدا وتشديدا ليس في لا ، فأتى مرة بلفظ التأكيد ولن يتمنوه ومرة بغير لفظه ولا يتمنونه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد لهم.

٨ ـ (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) لا محالة ، والجملة خبر إنّ ، ودخلت الفاء لتضمّن الذي معنى الشرط (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب.

٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) النداء الأذان ، ومن بيان لإذا وتفسير له ، ويوم الجمعة سيد الأيام وفي الحديث : (من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقي فتنة القبر) (٢) (فَاسْعَوْا) فامضوا ، وقرىء بها ، وقال

__________________

(١) المائدة ، ٥ / ١٨.

(٢) كنز العمال ، ٧ / ٢١٠٨٣ ، ٢١٠٨٤.

٣٧٥

(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١)

الفراء : السعي والمضيّ والذهاب واحد ، وليس المراد به السرعة في المشي (إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي إلى الخطبة عند الجمهور ، وبه استدل أبو حنيفة رضي الله عنه على أنّ الخطيب إذا اقتصر على الحمد لله جاز (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا ، وإنما خصّ البيع من بينها لأنّ يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال ، فقيل لهم : بادروا تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا ، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح ، وذروا البيع الذي نفعه يسير (ذلِكُمْ) أي السعي إلى ذكر الله (خَيْرٌ لَكُمْ) من البيع والشراء (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

١٠ ـ (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي أدّيت (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) أمر إباحة (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) الرزق ، أو طلب العلم ، أو عيادة المريض ، أو زيارة أخ في الله (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) واشكروه على ما وفقكم لأداء فرضه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

١١ ـ (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) تفرقوا عنك إليها ، وتقديره وإذا رأوا تجارة انفضّوا إليها ، أو لهوا انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، وإنما خصّ التجارة لأنها كانت أهمّ عندهم. روي أنّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشأم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقاموا إليه فما بقي معه إلا ثمانية أو اثنا عشر ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم عليهم الوادي نارا) (١) وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق ، فهو المراد باللهو (وَتَرَكُوكَ) على المنبر (قائِماً) تخطب ، وفيه دليل على أنّ الخطيب ينبغي أن يخطب قائما (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي لا يفوتهم رزق الله بترك البيع فهو خير الرازقين (٢).

__________________

(١) ذكره الثعلبي ثم البغوي عن الحسن بغير إسناد وذكره الواحدي عن المفسرين ، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه وعند ابن حبان عن أبي سفيان نحوه ، ورواه الطبري مختصرا من رواية السدي عن ابن مالك ، وأصل القصة في الصحيحين عن جابر.

(٢) زاد في (ز) والله أعلم.

٣٧٦

سورة المنافقين

مدنية وهي إحدى عشرة آية (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) (٣)

١ ـ (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أرادوا شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي والله يعلم أنّ الأمر كما يدلّ عليه قولهم إنك لرسول الله (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) في ادعاء المواطأة ، أو إنهم لكاذبون فيه ، لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة ، فهم كاذبون في تسميته شهادة ، أو إنهم لكاذبون عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أنّ قولهم إنك لرسول الله كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه.

٢ ـ (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) واقية (٢) من السبي والقتل ، وفيه دليل على أنّ أشهد يمين (فَصَدُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الإسلام بالتنفير وإلقاء الشّبه (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من نفاقهم وصدّهم الناس عن سبيل الله ، وفي ساء معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين.

٣ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى قوله ساء ما كانوا يعملون ، أي ذلك القول الشاهد

__________________

(١) في (ظ) و (ز) سورة المنافقين إحدى عشر آية مدنية.

(٢) في (ز) وقاية.

٣٧٧

(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤)

عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان ، أي ذلك كلّه بسبب أنهم آمنوا ، أي نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا ، ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير ونحو ذلك ، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام ، كقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) (١) الآية (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) فختم عليها حتى لا يدخلها الإيمان جزاء على نفاقهم (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) لا يتدبرون ، أو لا يعرفون صحة الإيمان. والخطاب في :

٤ ـ (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لرسول الله أو لكلّ من يخاطب (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) كان ابن أبيّ رجلا جسيما صبيحا فصيحا وقوم من المنافقين في مثل صفته ، فكانوا يحضرون مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيستندون فيه ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم ، وموضع (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ) رفع على هم كأنهم خشب ، أو هو كلام مستأنف لا محلّ له (مُسَنَّدَةٌ) إلى الحائط ، شبّهوا في استنادهم ـ وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير ـ بالخشب المسنّدة إلى الحائط لأنّ الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكا غير منتفع به أسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع ، أو لأنهم أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام ، خشب أبو عمرو غير عباس وعلي ، جمع خشبة كبدنة وبدن ، وخشب كثمرة وثمر (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) كلّ صيحة مفعول أول والمفعول الثاني عليهم وتم الكلام ، أي يحسبون كلّ صيحة واقعة عليهم وضارة لهم لجبنهم (٢) ورعبهم ، يعني إذا نادى مناد في العسكر ، أو انفلتت دابة ، أو أنشدت ضالة ظنوه إيقاعا بهم ، ثم قال (هُمُ الْعَدُوُّ) أي هم الكاملون في العداوة ، لأن أعدى الأعداء العدوّ المداجيّ (٣) الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدويّ (فَاحْذَرْهُمْ) ولا تغترر بظاهرهم (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ١٤ و ٧٦.

(٢) في (ز) لخيفتهم.

(٣) المداجي : المختفي.

٣٧٨

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ) (٥)

عليهم ، أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يعدلون عن الحقّ ، تعجبا من جهلهم وضلالتهم.

٥ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) عطفوها وأمالوها إعراضا عن ذلك واستكبارا ، لووا بالتخفيف نافع (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الاعتذار والاستغفار.

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع (١) ، وهو ماء لهم ، وهزمهم وقتلهم ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر وسنان الجهني حليف لابن أبيّ واقتتلا ، فصرخ جهجاه يا للمهاجرين وسنان يا للأنصار ، فأعان جهجاها جعال من فقراء المهاجرين ، ولطم سنانا ، فقال عبد الله لجعال : وأنت هناك؟ وقال : ما صحبنا محمدا إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال سمّن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ، عنى بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال لقومه : والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضّوا من حول محمد ، فسمع بذلك زيد بن أرقم (٢) وهو حدث ، فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد على رأسه تاج المعراج في عز من الرحمن وقوة من المسلمين ، فقال عبد الله : اسكت ، فإنما كنت ألعب ، فأخبر زيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر رضي الله عنه : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله ، فقال : (إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب) قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجريّ فأمر به أنصاريا ، قال : (فكيف إذا تحدث الناس أنّ محمدا يقتل أصحابه) وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله : (أنت صاحب الكلام الذي بلغني). قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك ، وإنّ زيدا لكاذب ، فهو قوله اتخذوا أيمانهم جنّة ، فقال الحاضرون يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه

__________________

(١) المريسيع : اسم ماء ناحية قديد إلى الساحل سار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة خمس أو ست إلى بني المصطلق فوجدهم على ماء يقال له المريسيع فقاتلهم وسباهم (معجم البلدان ٥ / ١٣٩).

(٢) زيد بن أرقم الخزرجي الأنصاري ، صحابي غزا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبع عشرة غزوة ومات في الكوفة عام ٦٨ ه‍ (الأعلام ٣ / ٥٦).

٣٧٩

(سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (٨)

كلام غلام عسى أن يكون قد وهم ، فلما نزلت ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد : (يا غلام إنّ الله قد صدقك وكذّب المنافقين) (١). فلما بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ، فقال : أمرتموني أن أومن فآمنت ، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت ، وما بقي لي إلا أن أسجد لمحمد ، فنزل : وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله ، ولم يلبث إلا أياما حتى اشتكى ومات (٢).

٦ ـ (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي ما داموا على النفاق ، والمعنى سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم ، أو لأن الله لا يغفر لهم ، وقرىء استغفرت على حذف حرف الاستفهام لأن أم المعادلة تدلّ عليه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

٧ ـ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) يتفرقوا (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله الأرزاق والقسم ، فهو رازقهم منها ، وإن أبى أهل المدينة أن ينفقوا عليهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون لا يفقهون ذلك فيهذون بما يزيّن لهم الشيطان.

٨ ـ (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا) من غزوة بني المصطلق (إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) الغلبة والقوة (وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين ، وهم الأخصاء بذلك ، كما أنّ المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين. وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثّة : ألست على

__________________

(١) هكذا ذكره الواقدي في المغازي بغير إسناد وعزاه إلى الثعلبي والواحدي وأصحاب السير ، وأخرجه ابن إسحاق في السيرة باختلاف يسير ، وأخرجه الطبري من طريقه. وأصل القصة في الصحيحين عن زيد ، ورواه الترمذي والنسائي والحاكم من طريق أبي سعد الأودي عن زيد.

(٢) ذكره الثعلبي موصولا بالذي قبله وأخرجه الطبري بسنده عن بشر بن مسلم.

٣٨٠