تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (٣٢)

٢٦ ـ (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي في الدنيا (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أرقاء القلوب من خشية الله ، أو خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان ، أو من رد الحسنات والأخذ بالسيئات.

٢٧ ـ (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالمغفرة والرحمة (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) هي الريح الحارة التي تدخل المسام ، فسميت بها نار جهنم ، لأنها بهذه الصفة.

٢٨ ـ (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه ، يعنون في الدنيا (نَدْعُوهُ) نعبده ولا نعبد غيره ونسأله الوقاية (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) المحسن (الرَّحِيمُ) العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب. أنه بالفتح مدني وعلي ، أي بأنه أو لأنه.

٢٩ ـ (فَذَكِّرْ) فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) برحمة ربك وإنعامه عليك بالنبوة ورجاحة العقل (بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) كما زعموا ، وهو في موضع الحال ، والتقدير لست كاهنا ولا مجنونا ملتبسا بنعمة ربّك.

٣٠ ـ (أَمْ يَقُولُونَ) هو (شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) حوادث الدهر ، أي ننتظر نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة (١). وأم في أوائل هذه الآي منقطعة بمعنى بل والهمزة.

٣١ ـ (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي.

٣٢ ـ (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) عقولهم (بِهذا) التناقض في القول ، وهو قولهم كاهن وشاعر مع قولهم مجنون ، وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنّهى (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق لهم ، وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز.

__________________

(١) النابغة : هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري ، شاعر جاهلي من أهل الحجاز ، من الطبقة الأولى ، توفي نحو ١٨ ق. ه (الأعلام ٣ / ٥٤).

٢٨١

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ)(٤٠)

٣٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) اختلقه محمد من تلقاء نفسه (بَلْ) ردّ عليهم ، أي ليس الأمر كما زعموا (لا يُؤْمِنُونَ) فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن مع علمهم ببطلان قولهم ، وأنه ليس بمتقوّل لعجز العرب عنه ، وما محمد إلا واحد من العرب.

٣٤ ـ (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ) مختلق (مِثْلِهِ) مثل القرآن (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في أنّ محمدا تقوّله من تلقاء نفسه لأنه بلسانهم وهم فصحاء.

٣٥ ـ (أَمْ خُلِقُوا) أم أحدثوا وقدّروا التقدير الذي عليه فطرتهم (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) من غير مقدّر (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق ، وقيل أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب أم هم الخالقون فلا يأتمرون.

٣٦ ـ (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فلا يعبدون خالقهما (بَلْ لا يُوقِنُونَ) أي لا يتدبرون في الآيات ، فيعلموا خالقهم وخالق السماوات والأرض.

٣٧ ـ (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) من النبوة والرزق وغيرهما ، فيخصّوا من شاؤوا بما شاؤوا (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على مشيئتهم. وبالسين مكي وشامي.

٣٨ ـ (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) منصوب يرتقون به إلى السماء (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن ، من يتقدم (١) هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون ، قال الزّجّاج : يستمعون فيه أي عليه (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة واضحة يصدّق استماع مستمعهم.

٣٩ ـ (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) ثم سفّه أحلامهم حيث اختاروا لله ما يكرهون وهم حكماء عند أنفسهم.

٤٠ ـ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على التبليغ والإنذار (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) المغرم أن

__________________

(١) في (ظ) و (ز) تقدم.

٢٨٢

(أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (٤٨)

يلتزم الإنسان ما ليس عليه ، أي لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهّدهم ذلك في اتباعك.

٤١ ـ (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي اللوح المحفوظ (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ما فيه حتى يقولوا لا نبعث وإن بعثنا لم نعذّب.

٤٢ ـ (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله وبالمؤمنين (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) إشارة إليهم ، أو أريد بهم كلّ من كفر بالله تعالى (هُمُ الْمَكِيدُونَ) هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم ، وذلك أنهم قتلوا يوم بدر ، أو المغلوبون في الكيد ، من كايدته فكدته.

٤٣ ـ (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يمنعهم من عذاب الله (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

٤٤ ـ (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ) والكسف القطعة ، وهو جواب قولهم أو تسقط السماء ـ كما زعمت ـ علينا كسفا يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا هذا سحاب (مَرْكُومٌ) قد ركم ، أي جمع بعضه على بعض يمطرنا ، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب.

٤٥ ـ ٤٦ ـ (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) بضم الياء عاصم وشامي ، الباقون بفتح الياء ، يقال صعقه فصعق ، وذلك عند النفخة الأولى ، نفخة الصّعق (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

٤٧ ـ (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وإنّ لهؤلاء الظلمة (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) دون يوم القيامة ، وهو القتل ببدر ، والقحط سبع سنين ، وعذاب القبر (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك. ثم أمره بالصبر إلى أن يقع بهم العذاب فقال :

٤٨ ـ (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم وما (١) يلحقك فيه من المشقة (فَإِنَّكَ

__________________

(١) في (ظ) و (ز) وبما.

٢٨٣

وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (٤٩)

(بِأَعْيُنِنا) أي بحيث نراك ونكلؤك ، وجمع العين لأنّ الضمير بلفظ الجماعة ، ألا ترى إلى قوله : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (١) (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) للصلاة ، وهو ما يقال بعد التكبير سبحانك اللهم وبحمدك ، أو من أي مكان قمت ، أو من منامك.

٤٩ ـ (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل ، وأدبار زيد أي في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت ، والمراد الأمر بقول سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات ، وقيل التسبيح الصلاة إذا قام من نومه ، ومن الليل صلاة العشاءين ، وإدبار النجوم صلاة الفجر (٢).

__________________

(١) طه ، ٢٠ / ٣٩.

(٢) زاد في (ز) وبالله التوفيق.

٢٨٤

سورة النجم

مكية وهي اثنتان وستون آية (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (٥)

١ ـ (وَالنَّجْمِ) قسم (٢) بالثّريّا أو بجنس النجوم (إِذا هَوى) إذا غرب أو انتثر يوم القيامة ، وجواب القسم :

٢ ـ (ما ضَلَ) عن قصد الحقّ (صاحِبُكُمْ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخطاب لقريش (وَما غَوى) في اتباع الباطل ، وقيل الضلال نقيض الهدى والغي نقيض الرشد ، أي هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي.

٣ ـ ٤ ـ (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه إنما هو وحي من عند الله يوحى إليه. ويحتجّ بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم‌السلام ، ويجاب بأنّ الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحي لا نطقا عن الهوى.

٥ ـ (عَلَّمَهُ) علّم محمدا عليه‌السلام (شَدِيدُ الْقُوى) ملك شديد قواه ، والإضافة غير حقيقية لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهو جبريل عليه‌السلام عند

__________________

(١) في (ظ) و (ز) سورة النجم اثنتان وستون آية مكية.

(٢) في (ظ) و (ز) أقسم.

٢٨٥

(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (١٠)

الجمهور ، ومن قوّته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود ، وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ، ثم قلبها ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين.

٦ ـ (ذُو مِرَّةٍ) ذو منظر حسن عن ابن عباس (فَاسْتَوى) فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثّل بها كلما هبط بالوحي ، وكان ينزل في صورة دحية (١) ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحبّ أن يراه في صورته التي جبل عليها ، فاستوى له في الأفق الأعلى ، وهو أفق الشمس فملأ الأفق (٢) ، وقيل ما رآه أحد من الأنبياء عليهم‌السلام في صورته الحقيقية سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين ، مرة في الأرض ومرة في السماء (٣).

٧ ـ (وَهُوَ) أي جبريل عليه‌السلام (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) مطلع الشمس.

٨ ـ (ثُمَّ دَنا) جبريل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَتَدَلَّى) فزاد في القرب ، والتدلّي هو النزول بقرب الشيء.

٩ ـ (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) مقدار قوسين عربيتين ، وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسّوط والذراع والباع ومنه : (لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين) (٤) وفي الحديث : (لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قدّه خير من الدنيا وما فيها) (٥) والقدّ السّوط ، وتقديره وكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين ، فحذفت هذه المضافات (أَوْ أَدْنى) أي على تقديركم ، كقوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) (٦) وهذا لأنهم خوطبوا على لغتهم ومقدار فهمهم ، وهم يقولون هذا قدر رمحين أو أنقص ، وقيل بل أدنى.

١٠ ـ (فَأَوْحى) جبريل عليه‌السلام (إِلى عَبْدِهِ) إلى عبد الله وإن لم يجر لاسمه

__________________

(١) دحية : هو دحية الكلبي سبق ترجمته في ٦ / ٩.

(٢) قال ابن حجر : لم أجده هكذا وما في الصحيحين والترمذي وابن حبان متفق معنى مختلف لفظا من رواية مسروق عن عائشة.

(٣) قال ابن حجر : لم أجده هكذا وذكر المرتين تقدم في الذي قبله.

(٤) رواه الحاكم من حديث عمرو بن عنبسة في حديث طويل ، ورواه إسحاق والدارقطني من حديث كعب بن مرة نحوه في حديث ، ورواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن عوف.

(٥) أخرجه البخاري من طريق حميد عن أنس أتم من هذا.

(٦) الصافات ، ٣٧ / ١٤٧.

٢٨٦

(مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) (١٥)

ذكر لأنه لا يلبس كقوله : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) (١) (ما أَوْحى) تفخيم للوحي الذي أوحي إليه ، قيل أوحى إليه : (إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك) (٢).

١١ ـ (ما كَذَبَ الْفُؤادُ) فؤاد محمد (ما رَأى) ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه‌السلام ، أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذبا ، لأنه عرفه يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ولم يشك في أنّ ما رآه حق ، وقيل المرئي هو الله سبحانه ، رآه بعين رأسه ، وقيل بقلبه.

١٢ ـ (أَفَتُمارُونَهُ) أفتجادلونه من المراء ، وهو المجادلة ، واشتقاقه من مري الناقة ، كأنّ كلّ واحد من المتجادلين يمرىء ما عند صاحبه ، أفتمرونه حمزة وعلي وخلف ويعقوب ، أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته ، ولما فيه من معنى الغلبة قال (عَلى ما يَرى) فعدّي بعلى كما تقول غلبته على كذا ، وقيل أفتمرونه أفتجحدونه ، يقال مريته حقّه إذا جحدتّه ، وتعديته بعلى لا تصح إلا على مذهب التضمين.

١٣ ـ (وَلَقَدْ رَآهُ) رأى محمد جبريل عليهما‌السلام (نَزْلَةً أُخْرى) مرة أخرى ، من النزول ، نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرّة لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل ، فكانت في حكمها ، أي نزل عليه جبريل عليه‌السلام نزلة أخرى في صورة نفسه فرآه عليها ، وذلك ليلة المعراج.

١٤ ـ (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) الجمهور على أنها شجرة نبق (٣) في السماء السابعة عن يمين العرش ، والمنتهى بمعنى موضع الانتهاء ، أو الانتهاء ، كأنها في منتهى الجنة وآخرها ، وقيل لم يجاوزها أحد وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم ولا يعلم أحد ما وراءها ، وقيل تنتهي إليها أرواح الشهداء.

١٥ ـ (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي الجنة التي يصير إليها المتّقون ، وقيل تأوي إليها أرواح الشهداء.

__________________

(١) فاطر ، ٣٥ / ٤٥.

(٢) في كنز العمال : (إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها) ١١ / ٣١٩٥٣.

(٣) نبق : تخفيف النبق بكسر الباء وهو حمل السّدر.

٢٨٧

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (١٦) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (١٧) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) (٢٠)

١٦ ـ (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) أي رآه إذ يغشى السدرة ما يغشى ، وهو تعظيم وتكثير لما يغشاها ، فقد علم بهذه العبارة أنّ ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله تعالى وجلاله أشياء لا يحيط بها الوصف ، وقد قيل يغشاها الجمّ الغفير من الملائكة يعبدون الله تعالى عندها ، وقيل يغشاها فراش من ذهب.

١٧ ـ (ما زاغَ الْبَصَرُ) بصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكّن منها (وَما طَغى) وما جاوز ما أمر برؤيته.

١٨ ـ (لَقَدْ رَأى) والله لقد رأى (مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) الآيات التي هي كبراها وعظماها ، يعني حين رقي به إلى السماء فأري عجائب الملكوت.

١٩ ـ ٢٠ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ) أي أخبرونا عن هذه الأشياء التي تعبدونها من دون الله عزوجل هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها ربّ العزة ، اللات والعزّى ومناة أصنام لهم وهي مؤنثات. فاللات كانت لثقيف (١) بالطائف ، وقيل كانت بنخلة تعبدها قريش ، وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، والعزّى كانت لغطفان وهي ثمرة ، وأصلها تأنيث الأعزّ وقطعها خالد بن الوليد ، ومناة صخرة كانت لهذيل (٢) وخزاعة ، وقيل لثقيف ، وكأنها سمّيت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنّى عندها أي تراق ، ومناءة مكي مفعلة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها (الْأُخْرى) هي صفة ذم أي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) (٣) أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم ، ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزّى كانوا يقولون : إنّ الملائكة وهذه الأصنام بنات الله ، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله مع وأدهم البنات وكراهتهم لهن ، فقيل لهم :

__________________

(١) ثقيف : قبيلة نزل أكثرها في الطائف وانتشرت منها في البلاد. وهي تنسب إلى ثقيف بن منبه بن بكر ابن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر (الأنساب ١ / ٥٠٨).

(٢) هذيل : قبيلة يقال لها هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان تفرقت في البلاد ، وأهل النخلة وهي قرية قرب مكة أكثرهم من الهذيل (الأنساب ٥ / ٦٣١).

(٣) الأعراف ، ٧ / ٣٨.

٢٨٨

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (٢٣) أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (٢٥) وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى) (٢٧)

٢١ ـ ٢٢ ـ (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي جعلكم لله البنات ولكم البنين قسمة ضيزى أي جائرة ، من ضازه يضيزه إذا ضامه ، وضيزى فعلى إذ لا فعلى في النعوت ، فكسرت الضاد للياء كما قيل بيض وهو بوض مثل حمر وسود ، ضئزى بالهمز مكي من ضأزه مثل ضازه.

٢٣ ـ (إِنْ هِيَ) ما الأصنام (إِلَّا أَسْماءٌ) ليس تحتها في الحقيقة مسميات ، لأنكم تدّعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشدّ منافاة لها (سَمَّيْتُمُوها) أي سميتم بها ، يقال سميته زيدا وسميته بزيد (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) حجّة (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) إلّا توهّم أنّ ما هم عليه حقّ (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) وما تشتهيه أنفسهم (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) الرسول والكتاب فتركوه ولم يعملوا به.

٢٤ ـ (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) هي أم المنقطعة ، ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، أي ليس للإنسان يعني الكافر ما تمنى من شفاعة الأصنام ، أو من قوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) (١) وقيل هو تمني بعضهم أن يكون هو النبيّ.

٢٥ ـ (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) أي هو مالكهما وله الحكم فيهما يعطي النبوة والشفاعة من شاء وارتضى لا من تمنّى.

٢٦ ـ (. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) يعني أنّ أمر الشفاعة ضيق ، فإنّ الملائكة مع قربتهم وكثرتهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم شيئا قط ولم (٢) تنفع ، إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلا لأن يشفع له ، فكيف تشفع الأصنام إليه لعبدتهم؟

٢٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ) أي كلّ واحد منهم (تَسْمِيَةَ

__________________

(١) فصلت ، ٤١ / ٥٠.

(٢) في (ز) ولا.

٢٨٩

وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٢٨) فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٢٩) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (٣٠) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (٣٢)

(الْأُنْثى) لأنهم إذا قالوا الملائكة بنات الله فقد سموا كلّ واحد منهم بنتا وهي تسمية الأنثى.

٢٨ ـ (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي بما يقولون ، وقرىء بها أي بالملائكة ، أو التسمية (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) وهو تقليد الآباء (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي إنما يعرف الحقّ الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقّن لا بالظنّ والتوهّم.

٢٩ ـ (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) فأعرض عمّن رأيته معرضا عن ذكر الله ، أي القرآن (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا).

٣٠ ـ (ذلِكَ) أي اختيارهم الدنيا والرضا بها (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) منتهى علمهم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) أي هو أعلم بالضال والمهتدي وهو (١) مجازيهما.

٣١ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) بعقاب ما عملوا من السوء ، أو بسبب ما عملوا من السوء (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) بالمثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، أو بسبب الأعمال الحسنى ، والمعنى أنّ الله عزوجل إنما خلق العالم وسوّى هذه الملكوت ليجزي المحسن من المكلّفين والمسيء منهم ، إذ الملك (٢) لنصر الأولياء وقهر الأعداء.

٣٢ ـ (الَّذِينَ) بدل ، أو في موضع رفع على المدح ، أي هم الذين (يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) أي الكبائر من الإثم ، لأنّ الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر ، والكبائر الذنوب التي يكبر عقابها ، كبير حمزة وعليّ أي النوع الكبير منه (وَالْفَواحِشَ)

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) وهو.

(٢) زاد في (ز) أهل.

٢٩٠

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (٣٤) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٣٧)

ما فحش من الكبائر ، كأنه قال والفواحش منها خاصة ، قيل الكبائر ما أوعد الله عليه النار والفواحش ما شرع فيها الحدّ (إِلَّا اللَّمَمَ) أي الصغائر ، والاستثناء منقطع ، لأنه ليس من الكبائر والفواحش ، وهو كالنظرة والقبلة واللمسة والغمزة (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) فيغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ) أي أباءكم (١) (مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ) جمع جنين (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير والطاعات ، أو إلى الزكاة والطهارة من المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله الزكيّ منكم والتقيّ أولا وآخرا قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه‌السلام ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم ، وقيل كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجّنا ، فنزلت ، وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء لا على سبيل الاعتراف بالنعمة ، فإنه جائز لأن المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) فاكتفوا بعلمه عن علم الناس وبجزائه عن ثناء الناس.

٣٣ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أعرض عن الإيمان.

٣٤ ـ (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) قطع عطيته وأمسك ، وأصله إكداء الحافر ، وهو أن تلقاه كدية وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر ، عن ابن عباس رضي الله عنهما فيمن كفر بعد الإيمان ، وقيل في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعيّره بعض الكافرين ، وقال له : تركت دين الأشياخ وزعمت أنهم في النار ، قال : إني خشيت عذاب الله فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ففعل وأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ، ثم بخل به ومنعه.

٣٥ ـ (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) فهو يعلم أنّ ما ضمنه من عذاب الله حق.

٣٦ ـ (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ) يخبر (بِما فِي صُحُفِ مُوسى) أي التوراة.

٣٧ ـ (وَإِبْراهِيمَ) أي وفي صحف إبراهيم (الَّذِي وَفَّى) أي وفّر وأتم ، كقوله : (فَأَتَمَّهُنَ) (٢) وإطلاقه ليتناول كلّ وفاء وتوفية ، وقرىء مخففا ، والتشديد

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أباكم.

(٢) البقرة ، ٢ / ١٢٤.

٢٩١

(أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) (٤٠)

مبالغة في الوفاء ، عن الحسن : ما أمره الله بشيء إلّا وفّى به ، وعن عطاء بن السائب (١) : عهد أن لا يسأل مخلوقا فلما قذف في النار قال له جبريل : ألك حاجة؟ فقال : أمّا إليك فلا. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وفّى عمله كلّ يوم بأربع ركعات في صدر النهار) (٢) وهي صلاة الضحى ، وروي : (ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفّى؟ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) إلى : (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (٣)) (٤) وقيل : (وفّى سهام الإسلام ، وهي ثلاثون : عشرة في التوبة : (التَّائِبُونَ) (٥) وعشرة في الأحزاب : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ) (٦) وعشرة في المؤمنين : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (٧) ثم أعلم بما في صحف موسى وإبراهيم فقال :

٣٨ ـ (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) تزر من وزر يزر إذا اكتسب وزرا ، وهو الإثم ، وأن مخففة من الثقيلة ، والمعنى أنه لا تزر ، والضمير ضمير الشأن ، ومحل أن وما بعدها الجرّ بدلا من ما في صحف موسى ، أو الرفع على هو أن لا تزر كأن قائلا قال : وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل : ألا تزر وازرة وزر أخرى ، أي لا تحمل نفس ذنب نفس.

٣٩ ـ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) إلّا سعيه ، وهذه أيضا مما في صحف إبراهيم وموسى ، وأما ما صحّ في الأخبار من الصدقة عن الميت والحج عنه فقد قيل إن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه ، وهو أن يكون مؤمنا ، كان سعي غيره كأنه سعي نفسه لكونه تابعا له وقائما بقيامه ، ولأن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه ولكن إذا نواه به ، فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه.

٤٠ ـ (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي يرى هو سعيه يوم القيامة في ميزانه.

__________________

(١) عطاء بن السائب : من أعلام التابعين على لين فيه ، ثقة ، ساء حفظه بآخرة ، قال يحيى بن سعيد : ما سمعت أحدا من الناس يقول في حديثه القديم (المعجم الوجيز ص ١٠٨ و ١٣٠ و ٢٥٢).

(٢) الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما من رواية جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا به وأتم منه.

(٣) الروم ، ٣٠ / ١٧ ـ ١٨.

(٤) أحمد والطبراني وابن السني والطبري وابن أبي حاتم من رواية ابن لهيعة عن زبان عن ابن قائد عن سهل بن معاذ عن أبيه به.

(٥) التوبة ، ٩ / ١١٢.

(٦) الأحزاب ، ٣٣ / ٣٥.

(٧) المؤمنون ، ٢٣ / ١ ـ ١١.

٢٩٢

(ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى (٤١) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى(٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (٤٥) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى) (٥٠)

٤١ ـ (ثُمَّ يُجْزاهُ) ثم يجزى العبد سعيه ، يقال جزاه الله عمله وجزاه على عمله بحذف الجار وإيصال الفعل ، ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسّره بقوله (الْجَزاءَ الْأَوْفى) أو أبدله عنه.

٤٢ ـ (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) هذا كلّه في الصحف الأولى ، والمنتهى مصدر بمعنى الانتهاء ، أي ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه ، كقوله : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١).

٤٣ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) خلق الضحك والبكاء ، وقيل خلق الفرح والحزن ، وقيل أضحك المؤمن في العقبى بالمواهب ، وأبكاه (٢) في الدنيا بالنوائب.

٤٤ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) قيل أمات الآباء وأحيا الأبناء ، أو أمات بالكفر وأحيا بالإيمان ، أو أمات هنا وأحيا ثمة.

٤٥ ـ ٤٦ ـ (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) إذا تدفّق في الرّحم ، يقال منى وأمنى.

٤٧ ـ (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) الإحياء بعد الموت.

٤٨ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) وأعطى القنية ، وهي المال الذي تأثلته (٣) وعزمت أن لا تخرجه من يدك.

٤٩ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) هو كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر ، وكانت خزاعة تعبدها ، فأعلم الله أنه ربّ معبودهم هذا.

٥٠ ـ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) هم قوم هود وعاد الأخرى إرم. عادا لّولى مدني وبصري غير سهل بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى ونقل ضمتها إلى لام التعريف.

__________________

(١) آل عمران ، ٣ / ٢٨. النور ، ٢٤ / ٤٢. فاطر ، ٣٥ / ١٨.

(٢) في (ظ) و (ز) المؤمنين .. وأبكاهم.

(٣) تأثلته : تأثل عظم ، والمال اكتسبه (القاموس ٣ / ٣٢٧).

٢٩٣

(وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥) هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦) أَزِفَتْ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) (٥٨)

٥١ ـ (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) حمزة وعاصم ، الباقون وثمودا ، وهو معطوف على عادا ولا ينصب بفما أبقى ، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبله ، لا تقول زيدا فضربت ، وكذا ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله ، والمعنى وأهلك ثمود فما أبقاهم.

٥٢ ـ (وَقَوْمَ نُوحٍ) أي أهلك قوم نوح (مِنْ قَبْلُ) من قبل عاد وثمود (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) من عاد وثمود ، لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حراك ، وينفرون عنه ، حتى كانوا يحذّرون صبيانهم أن يسمعوا منه.

٥٣ ـ (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) والقرى التي ائتفكت بأهلها ، أي انقلبت ، وهم قوم لوط ، يقال أفكه فأتفك (أَهْوى) أي رفعها إلى السماء على جناح جبريل ثم أهواها إلى الأرض أي أسقطها ، والمؤتفكة منصوب بأهوى.

٥٤ ـ (فَغَشَّاها) ألبسها (ما غَشَّى) تهويل وتعظيم لما صبّ عليها من العذاب ، وأمطر عليها من الصخر المنضود.

٥٥ ـ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ) أيها المخاطب (تَتَمارى) تتشكك بما أولاك من النعم ، أو بما كفاك من النقم ، أو بأي نعم ربّك الدالة على وحدانيته وربوبيته تشكّ (١).

٥٦ ـ (هذا نَذِيرٌ) أي محمد منذر (مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) من المنذرين الأولين ، وقال الأولى على تأويل الجماعة ، أو هذا القرآن نذير من النذر الأولى ، أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم.

٥٧ ـ (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) قربت الموصوفة بالقرب في قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) (٢).

٥٨ ـ (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي ليس لها نفس كاشفة أي مبينة متى تقوم كقوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) (٣) ، أو ليس لها نفس كاشفة ، أي قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله تعالى غير أنه لا يكشفها.

__________________

(١) في (ز) تشكك.

(٢) القمر ، ٥٤ / ١.

(٣) الأعراف ، ٧ / ١٨٧.

٢٩٤

(أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢)

٥٩ ـ (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) أي القرآن (تَعْجَبُونَ) إنكارا.

٦٠ ـ (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء (وَلا تَبْكُونَ) خشوعا.

٦١ ـ (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) غافلون ، أو لاهون لاعبون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ليشغلوا الناس عن استماعه.

٦٢ ـ (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي فاسجدوا لله واعبدوه ولا تعبدوا الآلهة (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

٢٩٥

سورة القمر

مكية وهي خمس وخمسون آية (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ)(٢)

١ ـ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) قربت القيامة (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) بنصفين (٢) ، وقرىء وقد انشق ، أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أنّ القمر قد انشق ، كما تقول أقبل الأمير وقد جاء المبشّر بقدومه ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : رأيت حراء بين فلقتي القمر (٣). وقيل معناه ينشقّ يوم القيامة ، والجمهور على الأول ، وهو المروي في الصحيحين (٤) ، ولا يقال لو انشق لما خفي على أهل الأقطار ، ولو ظهر عندهم لنقلوه متواترا لأن الطباع جبلت على نشر العجائب ، لأنه يجوز أن يحجبه الله عنهم بغيم.

٢ ـ (وَإِنْ يَرَوْا) يعني أهل مكة (آيَةً) تدلّ على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُعْرِضُوا) عن الإيمان به (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) محكم قوي من المرّة القوة ، أو دائم مطرد ، أو مار ذاهب يزول ولا يبقى.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) سورة القمر خمس وخمسون آية مكية.

(٢) في (ز) نصفين.

(٣) ابن مردويه ، وحراء : جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال من مكة (معجم البلدان ٢ / ٢٦٩).

(٤) في الصحيحين عن أبي معمر عن ابن مسعود : بينما نحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى إذ انفلق القمر فلقتين ، وكان فلقة وراء الجبل وفلقة دونه ، فقال : (اشهدوا).

٢٩٦

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ (٦) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ) (٧)

٣ ـ (وَكَذَّبُوا) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) وما زيّن لهم الشيطان من دفع الحقّ بعد ظهوره (وَكُلُّ أَمْرٍ) وعدهم الله (مُسْتَقِرٌّ) كائن في وقته ، وقيل كلّ ما قدّر واقع ، وقيل كلّ أمر من أمرهم وأمره (١) واقع مستقر ، أي سيثبت ويستقرّ عند ظهور العقاب والثواب.

٤ ـ (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) أهل مكة (مِنَ الْأَنْباءِ) من القرآن المودع أنباء القرون الخالية ، أو أنباء الآخرة وما وصف من عذاب الكفار (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) ازدجار عن الكفر ، تقول زجرته وازدجرته أي منعته ، وأصله ازتجر ولكنّ التاء إذا وقعت بعد زاي ساكنة أبدلت دالا ، لأنّ التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور ، فأبدل من التاء حرف مجهور وهو الدال ليتناسبا ، وهذا في آخر كتاب سيبويه.

٥ ـ (حِكْمَةٌ) بدل من ما ، أو على هو حكمة (بالِغَةٌ) نهاية الصواب ، أو بالغة من الله إليهم (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) ما نفي (٢) ، النذر مصدر بمعنى الإنذار.

٦ ـ (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) لعلمك أنّ الإنذار لا يغني فيهم. نصب (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) بيخرجون ، أو بإضمار اذكر. الداعي ، إلى الداعي سهل ويعقوب ومكيّ فيهما ، وافق مدني وأبو عمرو في الوصل ، ومن أسقط الياء اكتفى بالكسرة عنها ، وحذف الواو من يدعو في الكتابة لمتابعة اللفظ ، والداعي إسرافيل عليه‌السلام (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله ، وهو هول يوم القيامة ، نكر بالتخفيف مكي.

٧ ـ (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) (٣) خاشعا عراقي غير عاصم ، وهو حال من الخارجين ، فعل (٤) للأبصار وذكّر كما تقول يخشع أبصارهم ، غيرهم خشّعا على يخشعنّ أبصارهم وهي لغة من يقول أكلوني البراغيث ، ويجوز أن يكون في خشعا ضميرهم وتقع أبصارهم بدلا عنه ، وخشوع الأبصار كناية عن الذّلة ، لأن ذلّة الذليل ، وعزّة العزيز

__________________

(١) ليس في (ز) وأمره.

(٢) في (ظ) و (ز) زاد : والنذر جمع نذير ، وهم الرسل ، أو المنذر به ، أو ...

(٣) في مصحف النسفي : (خاشِعاً) لذلك قال :

(٤) في (ز) وهو فعل.

٢٩٧

(مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) (١٣)

تظهران في عيونهما (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) من القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في كثرتهم وتفرّقهم في كلّ جهة ، والجراد مثل في الكثرة والتموّج ، يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض جاؤوا كالجراد.

٨ ـ (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) مسرعين مادّي أعناقهم إليه (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) صعب شديد.

٩ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) قبل أهل مكة (قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا عليه‌السلام ، ومعنى تكراره التكذيب أنهم كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا ، أي لمّا كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل (وَقالُوا مَجْنُونٌ) أي هو مجنون (وَازْدُجِرَ) زجر عن أداء الرسالة بالشتم ، وهدّد بالشتم ، وهدّد بالقتل ، أو هو من جملة قيلهم أي قالوا هو مجنون وقد ازدجرته الجنّ وتخبّطته وذهبت بلبّه.

١٠ ـ (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي) أي بأني (مَغْلُوبٌ) غلبني قومي ، فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي (فَانْتَصِرْ) فانتقم لي منهم بعذاب تبعثه عليهم.

١١ ـ (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) ففتّحنا شامي ويزيد وسهل ويعقوب (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) منصبّ في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوما.

١٢ ـ (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) وجعلنا الأرض كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من قولك وفجرنا عيون الأرض (فَالْتَقَى الْماءُ) أي مياه السماء والأرض ، وقرىء الماءان أي النوعان من الماء ، السماوي والأرضي (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) على حال قدّرها الله كيف شاء ، أو على أمر قد قدّر في اللوح المحفوظ أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.

١٣ ـ (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أراد السفينة ، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتؤدي مؤدّاها بحيث لا يفصل بينها وبينها ، ونحوه : ولكنّ قميصي مسرودة من حديد (١) ، أراد ولكن قميصي درع ألا ترى أنك لو جمعت

__________________

(١) هو عجز بيت صدره : مفرشي صهوة الحصان ول ...

٢٩٨

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) (١٨)

بين السفينة وبين هذه الصفة لم يصح ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه ، والدسر جمع دسار وهو المسمار فعال من دسره إذا دفعه لأنه يدسر به منفذه.

١٤ ـ (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بمرأى منّا ، أو بحفظنا ، وبأعيننا حال من الضمير في تجري أي محفوظة بنا (جَزاءً) مفعول له لما قدّم من فتح أبواب السماء وما بعده أي فعلنا ذلك جزاء (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) وهو نوح عليه‌السلام ، وجعله مكفورا لأن النبي نعمة من الله ورحمة قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١) فكان نوح نعمة مكفورة.

١٥ ـ (وَلَقَدْ تَرَكْناها) أي السفينة ، أو الفعلة أي جعلناها (آيَةٍ) يعتبر بها ، وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة ، وقيل على الجودي (٢) دهرا طويلا حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ يتعظ ويعتبر ، وأصله مذتكر بالذال والتاء ، ولكن التاء أبدلت منها الدال ، والدال والذال من موضع ، فأدغمت الذال في الدال.

١٦ ـ (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) جمع نذير ، وهو الإنذار ، ونذري يعقوب فيهما ، وافقه سهل في الوصل. غيرهما بغير ياء ، وعلى هذا الاختلاف ما بعده إلى آخر السورة.

١٧ ـ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) سهلناه للادّكار والاتعاظ بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ يتعظ ، وقيل ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه فهل من طالب لحفظه ليعان عليه ، ويروى أنّ كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظرا ولا يحفظونها ظاهرا كالقرآن.

١٨ ـ (كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي وإنذاري (٣) لهم بالعذاب قبل

__________________

(١) الأنبياء ، ٢١ / ١٠٧.

(٢) الجودي : جبل بأرض الجزيرة استوت عليه سفينة نوح عليه الصلاة والسلام (مختار الصحاح).

(٣) في (ظ) و (ز) وإنذاراتي.

٢٩٩

(إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (١٩) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ)(٢٤)

نزوله ، أو وإنذاراتي في تعذيبهم لمن بعده (١).

١٩ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) باردة أو شديدة الصوت (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) شؤم (مُسْتَمِرٍّ) دائم الشرّ ، فقد استمرّ عليهم حتى أهلكهم ، وكان في أربعاء في آخر الشهر.

٢٠ ـ (تَنْزِعُ النَّاسَ) تقلعهم عن أماكنهم ، وكانوا يصطفون آخذا بعضهم بأيدي بعض ، ويتداخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها ، فتنزعهم وتكبّهم وتدقّ رقابهم (كَأَنَّهُمْ) حال (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أصول نخل منقعر (٢) عن مغارسه ، وشبهوا بأعجاز النخل لأن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقي أجسادا بلا رؤوس ، فيتساقطون على الأرض أمواتا وهم جثث طوال (٣) ، وذكّر صفة نخل على اللفظ ولو حملها على المعنى لأنّث كما قال : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٤).

٢١ ـ ٢٢ ـ (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

٢٣ ـ ٢٤ ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ. فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً) انتصب بشرا بفعل يفسّره (نَتَّبِعُهُ) تقديره أنتبع بشرا منا واحدا (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) كأن يقول إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحقّ ، وسعر ونيران جمع سعير فعكّسوا عليه ، فقالوا إن اتبعناك كنا إذا كما تقول ، وقيل الضلال الخطأ والبعد عن الصواب والسّعر الجنون ، وقولهم أبشرا إنكار لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكون من الملائكة ، وقالوا منا لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى ، وقالوا واحدا إنكارا لأن تتبع الأمة رجلا واحدا ، أو أرادوا واحدا من أفنائهم ليس بأشرفهم (٥) وأفضلهم ويدل عليه قوله :

__________________

(١) في (ظ) و (ز) بعدهم.

(٢) في (ظ) و (ز) منقلع.

(٣) زاد في (ظ) و (ز) : كأنهم أعجاز نخل وهي أصولها بلا فروع.

(٤) الحاقة ، ٦٩ / ٧.

(٥) في (ظ) و (ز) ليس من أشرفهم.

٣٠٠