تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ (٢٨) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (٣١)

٢٥ ـ (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحقّ منه بالاختيار للنبوة (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) بطر متكبر حمله بطره وطلبه التعظّم علينا على ادعاء ذلك.

٢٦ ـ (سَيَعْلَمُونَ غَداً) عند نزول العذاب بهم ، أو يوم القيامة (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) صالح (١) أم من كذبه. ستعلمون شامي وحمزة على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم ، أو هو كلام الله على سبيل الالتفات.

٢٧ ـ (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا (فِتْنَةً لَهُمْ) امتحانا (٢) وابتلاء ، وهي (٣) مفعول له ، أو حال (فَارْتَقِبْهُمْ) فانتظرهم وتبصّر ما هم صانعون (وَاصْطَبِرْ) على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري.

٢٨ ـ (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) مقسوم بينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم ، وقال بينهم تغليبا للعقلاء (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) محضور ، يحضر القوم الشّرب يوما وتحضر الناقة يوما.

٢٩ ـ (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) قدار بن سالف ، أحيمر ثمود (فَتَعاطى) فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له (فَعَقَرَ) الناقة ، أو فتعاطى الناقة فعقرها ، أو فتعاطى السيف ، وإنما قال : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) (٤) في آية أخرى لرضاهم به أو لأنه عقر بمعونتهم.

٣٠ ـ ٣١ ـ (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) في اليوم الرابع من عقرها (صَيْحَةً واحِدَةً) صاح بهم جبريل عليه‌السلام (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) والهشيم الشجر اليابس المتهشّم المتكسّر ، والمحتظر الذي يعمل الحظيرة ، وما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطّم ويتهشّم ، وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو موضع الاحتظار أي الحظيرة.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أصالح.

(٢) زاد في (ظ) و (ز) لهم.

(٣) في (ز) وهو.

(٤) الأعراف ، ٧ / ٧٧.

٣٠١

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (٤٠)

٣٢ ـ ٣٤ ـ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) يعني على قوم لوط (حاصِباً) ريحا تحصبهم بالحجارة أي ترميهم (إِلَّا آلَ لُوطٍ) ابنتيه ومن آمن معه (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) من الأسحار ولذا صرفه ، ويقال لقيته بسحر إذا لقيه (١) في سحر يومه ، وقيل هما سحران فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر ، والآخر عند انصداعه.

٣٥ ـ (نِعْمَةً) مفعول له أي إنعاما (مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمة الله بإيمانه وطاعته.

٣٦ ـ (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) لوط عليه‌السلام (بَطْشَتَنا) أخذتنا بالعذاب (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) فكذّبوا بالنذر متشاكّين.

٣٧ ـ (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) طلبوا الفاحشة من أضيافه (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أعميناهم ، وقيل مسحناها وجعلناها (٢) كسائر الوجه لا يرى لها شق ، روي أنهم لما عالجوا باب لوط عليه‌السلام ليدخلوا ، قالت الملائكة : خلّهم يدخلوا إنا رسل ربّك لن يصلوا إليك ، فصفقهم جبريل عليه‌السلام بجناحه صفقة فتركهم يترددون ولا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط (فَذُوقُوا) فقلت لهم ذوقوا على ألسنة الملائكة (عَذابِي وَنُذُرِ).

٣٨ ـ (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) أول النهار (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) ثابت قد استقرّ عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة ، وفائدة تكرير :

٣٩ ـ ٤٠ ـ (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أن يجددوا عند استماع كلّ نبأ من أنباء الأولين ادكارا واتعاظا ، وأن يستأنفوا تنبها

__________________

(١) في (ظ) و (ز) لقيته.

(٢) في (ظ) مسخناها وجعلناها ، وفي (ز) مسحناها وجلناها.

٣٠٢

(وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (٤٦)

واستيقاظا إذا سمعوا الحثّ على ذلك والعبث عليه ، وهذا حكم التكرير في قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١) عند كلّ نعمة عدّها وقوله : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢) عند كلّ آية أوردها ، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب مصورة للأذهان مذكورة غير منسية في كلّ أوان.

٤١ ـ (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء ، أو هو جمع نذير وهو الإنذار.

٤٢ ـ (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) بالآيات التسع (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ) لا يغالب (مُقْتَدِرٍ) لا يعجزه شيء.

٤٣ ـ (أَكُفَّارُكُمْ) يا أهل مكة (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) الكفار المعدودين ، قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، أي أهم خير قوة وآلة ومكانة في الدنيا ، أو أقلّ كفرا وعنادا؟ يعني أنّ كفاركم مثل أولئك بل شر منهم (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أم أنزلت عليكم يا أهل مكة براءة في الكتب المتقدّمة أنّ من كفر منكم وكذّب الرسل كان آمنا من عذاب الله فأمنتم بتلك البراءة.

٤٤ ـ (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ) جماعة أمرنا مجتمع (مُنْتَصِرٌ) ممتنع لا نرام ولا نضام.

٤٥ ـ (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) جمع أهل مكة (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي الأدبار كما قال : كلوا في بعض بطنكم تعفّوا (٣) ، أي ينصرفون منهزمين يعني يوم بدر ، وهذه من علامات النبوة.

٤٦ ـ (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) موعد عذابهم بعد بدر (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) أشدّ من موقف بدر ، والداهية الأمر المنكر الذي لا يهتدى لدوائه (وَأَمَرُّ) مذاقا من عذاب الدنيا ، أو أشدّ من المرّة.

__________________

(١) الرحمن ، ٥٥ / ١٣ ـ ٣١ مرة ـ.

(٢) المرسلات ، ٧٧ / ١٥ ـ ١٠ مرات ـ. المطففين ، ٨٣ / ١٠.

(٣) صدر بيت استشهد به في أوائل البقرة ٢ / ٧.

٣٠٣

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (٥١)

٤٧ ـ (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ) عن الحقّ في الدنيا (وَسُعُرٍ) ونيران في الآخرة ، أو في هلاك ونيران.

٤٨ ـ (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ) يجرّون فيها (عَلى وُجُوهِهِمْ) ويقال لهم (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) كقولك وجد مسّ الحمّى وذاق طعم الضرب ، لأن النار إذا أصابتهم بحرّها فكأنها تمسهم مسا بذلك ، وسقر غير منصرف للتأنيث والتعريف ، لأنها علم لجهنم من سقرته النار إذا لوّحته.

٤٩ ـ (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) كلّ منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر ، وقرىء بالرفع شاذا ، والنصب أولى ، لأنه لو رفع لأمكن أن يكون خلقناه في موضع جرّ (١) وصفا لشيء ويكون الخبر بقدر ، وتقديره إنا كلّ شيء مخلوق لنا كائن بقدر ، ويحتمل أن يكون خلقناه هو الخبر ، وتقديره إنا كلّ شيء مخلوق لنا بقدر ، فلما تردد الأمر في الرفع عدل إلى النصب ، وتقديره إنا خلقنا كلّ شيء بقدر ، فيكون الخلق عاما لكل شيء وهو المراد بالآية ، ولا يجوز في النصب أن يكون خلقناه صفة لشيء لأنه تفسير الناصب والصفة لا تعمل في الموصوف. والقدر والقدر التقدير أي بتقدير سابق ، أو خلقنا كلّ شيء مقدرا محكما مرتبا على حسب ما اقتضته الحكمة ، أو مقدرا مكتوبا في اللوح معلوما قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه ، قال أبو هريرة : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية (٢) ، وكان عمر يحلف أنها نزلت في القدرية.

٥٠ ـ (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) إلا كلمة واحدة ، أي وما أمرنا لشيء نريد تكوينه إلا أن نقول له كن فيكون (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) على قدر ما يلمح أحدكم ببصره ، وقيل المراد بأمرنا القيامة ، كقوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) (٣).

٥١ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أشباهكم في الكفر من الأمم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الجر.

(٢) الطبري عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة.

(٣) النحل ، ١٦ / ٧٧.

٣٠٤

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) (٥٥)

٥٢ ـ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) أي أولئك الكفار ، أي وكلّ شيء مفعول لهم ثابت (فِي الزُّبُرِ) في دواوين الحفظة ، ففعلوه في موضع جرّ نعت لشيء ، وفي الزبر خبر لكلّ.

٥٣ ـ (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الأعمال ومن كلّ ما هو كائن (مُسْتَطَرٌ) مسطور في اللوح.

٥٤ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) وأنهار ، اكتفى باسم الجنس ، وقيل هو السّعة والضّياء ومنه النهار.

٥٥ ـ (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) في مكان مرضيّ (عِنْدَ مَلِيكٍ) عندية منزلة وكرامة لا مسافة ومماسة (مُقْتَدِرٍ) قادر ، وفائدة التنكير فيهما أن يعلم أن لا شيء إلا هو تحت ملكه وقدرته (١).

__________________

(١) في (ز) زاد : وهو على كل شيء قدير ، وفي (ظ) والله تعالى أعلم بالصواب.

٣٠٥

سورة الرحمن

مكية وقيل مدنية وهي ست وسبعون آية بصري

ثمان كوفي سبع مدني (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

(الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (٤)

١ ـ ٣ ـ (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي الجنس ، أو آدم ، أو محمداعليهما‌السلام.

٤ ـ (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) عدّد الله عزوجل آلاءه ، فأراد أن يقدّم أول شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه ، وصنوف نعمائه ، وهي نعمة الدين ، فقدّم من نعمة الدين ما هو (٢) في أعلى مراتبها ، وأقصى مراقيها ، وهو إنعامه بالقرآن ، وتنزيله ، وتعليمه ، لأنه أعظم وحي الله رتبة ، وأعلاه منزلة ، وأحسنه في أبواب الدين أثرا ، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها ، والعيار (٣) عليها ، وأخّر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين ، وليحيط علما بوحيه وكتبه ، وقدّم ما خلق الإنسان من أجله عليه ، ثم ذكر ما تميّز به من سائر الحيوان من البيان ، وهو المنطق الفصيح

__________________

(١) في (ظ) سورة الرحمن ستة وسبعون آية مكية وفي (ز) سورة الرحمن جل وعلا مكية وهي ست وسبعون آية. وقد اعتمدنا في تعداد الآيات «مصحف المدينة النبوية» المتداول حاليا في أنحاء العالم الإسلامي. وكذلك في أسماء السور.

(٢) في (ظ) و (ز) زاد : سنام.

(٣) العيار : أثقلها وزنا.

٣٠٦

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (٦) وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) (٨)

المعرب عما في الضمير ، والرحمن مبتدأ ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذلّ ، كثّرك بعد قلّة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر من إحسانه؟!.

٥ ـ (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) بحساب معلوم وتقدير سويّ ، يجريان في بروجهما ومنازلهما ، وفي ذلك منافع للناس ، منها علم السنين والحساب.

٦ ـ (وَالنَّجْمُ) النبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول (وَالشَّجَرُ) الذي له ساق ، وقيل النجم نجوم السماء (يَسْجُدانِ) ينقادان لله تعالى فيما خلقا له تشبيها بالساجد من المكلّفين في انقياده ، واتصلت هاتان الجملتان بالرحمن بالوصل المعنوي لما علم أنّ الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره ، كأنه قيل الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له ، ولم يذكر العاطف في الجمل الأول (١) ، ثم جيء به بعد ، لأن الأول وردت على سبيل التعديد تبكيتا لمن أنكر آلاءه كما يبكّت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال المذكور ، ثم ردّ الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعطف ، وبيان التناسب أنّ الشمس والقمر سماويان ، والنجم والشجر أرضيان ، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل ، وإنّ السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين ، وإنّ جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله فهو مناسب لسجود النجم والشجر.

٧ ـ (وَالسَّماءَ رَفَعَها) خلقها مرفوعة مسموكة ، حيث جعلها منشأ أحكامه ، ومصدر قضاياه ، ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه ، ونبّه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أي كلّ ما يوزن به الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون (٢) ومكيال ومقياس ، أي خلقه موضوعا على الأرض ، حيث علّق به أحكام عباده من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم.

٨ ـ (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) لئلا تطغوا ، أو هي أن المفسرة.

__________________

(١) في (ز) الأولى في المرتين.

(٢) قرسطون : قبّان.

٣٠٧

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (١٤)

٩ ـ (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) وقوّموا وزنكم بالعدل (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) ولا تنقصوه ، أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة ، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان ، وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحثّ عليه.

١٠ ـ (وَالْأَرْضَ وَضَعَها) خفضها مدحوّة على الماء (لِلْأَنامِ) للخلق ، وهو كلّ ما على ظهر الأرض من دابة ، وعن الحسن : الإنس والجنّ ، فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها.

١١ ـ (فِيها فاكِهَةٌ) ضروب مما يتفكّه به (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) هي أوعية الثمر الواحد ، كم بكسر الكاف ، أو كلّ ما يكمّ أي يغطّى من ليفه وسعفه وكفرّاه (١) ، وكلّه منتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجمّاره (٢) وجذوعه.

١٢ ـ ١٣ ـ (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) هو ورق الزرع أو التّبن (وَالرَّيْحانُ) الرزق ، وهو اللبّ أراد فيها ما يتلذّذ به من الفواكه ، والجامع بين التلذذ والتغذّي هو ثمر النخل وما يتغذى به وهو الحبّ. والريحان بالجر حمزة وعليّ أي والحبّ ذو العصف الذي هو علف الأنعام والريحان الذي هو مطعم الأنام ، والرفع على وذو الريحان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقيل معناه وفيها الريحان الذي يشمّ. والحبّ ذا العصف والريحان شاميّ أي وخلق الحبّ والريحان ، أو وأخصّ الحبّ والريحان (فَبِأَيِّ آلاءِ) أي النّعم مما عدّ (٣) من أول السورة ، جمع «ألى وإلى» (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الخطاب للثقلين بدلالة الأنام عليهما.

١٤ ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) طين يابس له صلصلة (كَالْفَخَّارِ) أي الطين المطبوخ بالنار ، وهو الخزف (٤) ، ولا اختلاف في هذا وفي قوله : (مِنْ حَمَإٍ

__________________

(١) كفراه : أوعية طلع النخل (القاموس ٢ / ١٢٨).

(٢) الجمّار : شحم النخلة (القاموس ١ / ٣٩٣).

(٣) في (ز) عدّد.

(٤) في (ز) الخذف وهو خطأ الطابع.

٣٠٨

وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٢٣)

(مَسْنُونٍ) (١) (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (٢) (مِنْ تُرابٍ) (٣) لاتفاقها معنى ، لأنه يفيد أنه خلقه من تراب ، ثم جعله طينا ، ثم حمأ مسنونا ، ثم صلصالا.

١٥ ـ ١٦ ـ (وَخَلَقَ الْجَانَ) أبا الجنّ ، قيل هو إبليس (مِنْ مارِجٍ) هو اللهب الصافي الذي لا دخان فيه ، وقيل المختلط بسواد النار من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط (مِنْ نارٍ) هو بيان لمارج كأنه قيل من صاف من نار أو مختلط من نار ، أو أراد من نار مخصوصة كقوله : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) (٤) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

١٧ ـ ١٨ ـ (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أراد مشرقي (٥) الصيف والشتاء ومغربيهما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

١٩ ـ (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) أي أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين لا فصل بين الماءين في مرأى العين.

٢٠ ـ ٢١ ـ (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) حاجز من قدرة الله تعالى (لا يَبْغِيانِ) لا يتجاوزان حدّيهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٢٢ ـ ٢٣ ـ (يَخْرُجُ) يخرج مدني وبصري (مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ) بلا همز أبو بكر ويزيد ، وهو كبار الدّرّ (وَالْمَرْجانُ) صغاره ، وإنما قال منهما وهما يخرجان من الملح لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما ، كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه ، وتقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محالّه ، وقيل لا يخرجان إلا من ملتقى الملح

__________________

(١) الحجر ، ١٥ / ٢٦ و ٢٨ و ٣٣.

(٢) الصافات ، ٣٧ / ١١.

(٣) آل عمران ، ٣ / ٥٩. الكهف ، ١٨ / ٣٧. الحج ، ٢٢ / ٥. الروم ، ٣٠ / ٢٠. فاطر ، ٣٥ / ١١. غافر ، ٤٠ / ٦٧.

(٤) الليل ، ٩٢ / ١٤.

(٥) زاد في (ظ) و (ز) الشمس في ، وهي من تبسيط النساخ ليست في الأصل.

٣٠٩

(وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٨) يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٣٠)

والعذب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٢٤ ـ ٢٥ ـ (وَلَهُ) ولله (الْجَوارِ) السفن ، جمع جارية ، قال الزّجّاج : الوقف عليها بالياء ، والاختيار وصلها ، وإن وقف عليها واقف بغير ياء فذا جائز على بعد ولكن يروم الكسر في الراء ليدلّ على حذف الياء (الْمُنْشَآتُ) المرفوعات الشّرع ، المنشّات بكسر الشين حمزة ويحيى الرافعات الشّرع ، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهنّ (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) جمع علم ، وهو الجبل الطويل (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٢٦ ـ ٢٧ ـ (كُلُّ مَنْ عَلَيْها) على الأرض (فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ذاته (ذُو الْجَلالِ) ذو العظمة والسلطان ، وهو صفة الوجه (وَالْإِكْرامِ) بالتجاوز والإحسان ، وهذه الصفة من عظيم صفات الله ، وفي الحديث : (ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام) (١) وروي أنه عليه‌السلام مرّ برجل وهو يصلّي ويقول : يا ذا الجلال والإكرام ، فقال : (قد استجيب لك) (٢).

٢٨ ـ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) والنعمة في الفناء باعتبار أنّ المؤمنين به يصلون إلى النعيم السرمد ، وقال يحيى بن معاذ : حبذا الموت فهو الذي يقرّب الحبيب إلى الحبيب.

٢٩ ـ ٣٠ ـ (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقف عليها نافع ، كلّ من أهل السماوات والأرض مفتقرون إليه ، فيسأله أهل السماوات ما يتعلق بدينهم ، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم ، وينصب (كُلَّ يَوْمٍ) ظرفا بما دلّ عليه (هُوَ فِي شَأْنٍ) أي كلّ وقت وحين يحدث أمورا ويجدد أحوالا ، كما روي أنه عليه‌السلام تلاها ، فقيل له : وما ذلك الشأن؟ فقال : (من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين) (٣). وعن ابن عيينة : الدهر عند الله يومان ، أحدهما اليوم الذي هو

__________________

(١) الترمذي من رواية يزيد الرقاشي عن أنس.

(٢) الترمذي والبخاري في الأدب المفرد ، وأحمد والبزار والطبراني من طريق أبي الورد عن اللجلاج عن معاذ فذكره ، وفي الأدب المفرد قال : (سل).

(٣) ابن ماجه وابن حبان والطبراني والبزار وأبو يعلى من حديث أبي الدرداء.

٣١٠

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٣٢)

مدة الدنيا ، فشأنه فيه الأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، والآخر يوم القيامة ، فشأنه فيه الجزاء والحساب. وقيل نزلت في اليهود حين قالوا إنّ الله لا يقضي يوم السبت شأنا ، وسأل بعض الملوك وزيره عن الآية فاستمهله إلى الغد ، وذهب كئيبا يفكر فيها ، فقال غلام له أسود : يا مولاي أخبرني ما أصابك لعلّ الله يسهل لك على يدي ، فأخبره ، فقال أنا أفسّرها للملك ، فأعلمه ، فقال : أيها الملك شأن الله أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيما ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ويعافي مبتلى ، ويعزّ ذليلا ويذلّ عزيزا ، ويفقر غنيا ويغني فقيرا ، فقال الأمير : أحسنت ، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة ، فقال : يا مولاي هذا من شأن الله ، وقيل سوق المقادير إلى المواقيت ، وقيل إنّ عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل وقال له : أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي ، قوله : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (١) وقد صحّ أنّ : (الندم توبة) (٢) وقوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) وقد صح أنّ : (القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة) (٣) وقوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٤) فما بال الأضعاف (٥)؟ فقال الحسين : يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة ويكون توبة في هذه الأمة (٦) وقيل إنّ ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله ، وكذا قيل وأن ليس للإنسان إلا ما سعى مخصوص بقوم إبراهيم وموسى عليهما‌السلام ، وأما قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها ، فقام عبد الله وقبل رأسه وسوع خراجه (٧) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٣١ ـ ٣٢ ـ (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) مستعار من قول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك ، يريد سأتجرد للإيقاع بك من كلّ ما يشغلني عنه ، والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه ، ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله : كلّ يوم هو في شأن ، فلا يبقى إلا (٨) شأن واحد وهو

__________________

(١) المائدة ، ٥ / ٣١.

(٢) كنز العمال ٤ / ١٠٣٠١ ، ١٠٣٠٣.

(٣) النسائي من حديث أبي هريرة.

(٤) النجم ، ٥٣ / ٣٩.

(٥) الأضعاف : ضعف الشيء مثله وأضعافه أمثاله.

(٦) ليس في (ظ) و (ز) ويكون توبة في هذه الأمة.

(٧) سوّع خراجه : أي أسقطه عنه (انظر القاموس ٣ / ٤٢).

(٨) في (ز) إلى ، وهو خطأ ظاهر.

٣١١

(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٦) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٤٠)

جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل. سيفرغ حمزة وعليّ أي الله تعالى (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) الإنس والجنّ سمّيا بذلك لأنهما ثقلا الأرض (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٣٣ ـ ٣٤ ـ (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) هو كالترجمة لقوله : أيها الثقلان (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هربا من قضائي فاخرجوا ، ثم قال (لا تَنْفُذُونَ) لا تقدرون على النفوذ (إِلَّا بِسُلْطانٍ) بقوة وقهر وغلبة وأنى لكم ذلك؟ وقيل دلّهم على العجز عن قوتهم للحساب غدا بالعجز عن نفوذ الأقطار اليوم ، وقيل يقال لهم هذا يوم القيامة حين تحدق بهم الملائكة ، فإذا رآهم الجنّ والإنس هربوا ، فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت (١) به (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٣٥ ـ ٣٦ ـ (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ) وبكسر الشين مكي ، وكلاهما اللهب الخالص (وَنُحاسٌ) أي دخان ، ونحاس مكي وأبو عمرو ، فالرفع عطف على شواظ ، والجر على نار ، والمعنى إذا خرجتم من قبوركم يرسل عليكم لهب خالص من النار ودخان يسوقكم إلى المحشر (فَلا تَنْتَصِرانِ) فلا تمتنعان منهما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٣٧ ـ ٣٨ ـ (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) اندكّ بعض (٢) من بعض لقيام الساعة (فَكانَتْ وَرْدَةً) فصارت كلون الورد الأحمر ، وقيل أصل لون السماء الحمرة ، ولكن من بعدها ترى زرقاء (كَالدِّهانِ) كدهن الزيت كما قال : (كَالْمُهْلِ) (٣) وهو درديّ الزيت (٤) ، وهو جمع دهن ، وقيل الدهان الأديم الأحمر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٣٩ ـ ٤٠ ـ (فَيَوْمَئِذٍ) أي فيوم تنشق السماء (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ)

__________________

(١) في (ز) احتاطت.

(٢) في (ظ) و (ز) انفك بعضها.

(٣) المعارج ، ٧٠ / ٨.

(٤) دردي الزيت : ما يبقى في أسفله (القاموس ١ / ٢٩٢).

٣١٢

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٢) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٥) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٤٩)

أي ولا جنّ ، فوضع الجانّ الذي هو أبو الجنّ موضع الجنّ ، كما يقال هاشم ويراد ولده ، والتقدير لا يسأل إنس ولا جان عن ذنبه ، والتوفيق بين هذه الآية وبين قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (١) وقوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢) أنّ ذلك يوم طويل وفيه مواطن فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر ، وقال قتادة : قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، وقيل لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته ولكن يسأل للتوبيخ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٤١ ـ ٤٢ ـ (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) بسواد وجوههم وزرقة عيونهم (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي يؤخذ تارة بالنواصي وتارة بالأقدام (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٤٣ ـ ٤٥ ـ (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) ماء حار قد انتهى حرّه ، أي يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) والنعمة في هذا : نجاة الناجي منه برحمته بفضله (٣) ، وما في الإنذار به من التنبيه.

٤٦ ـ ٤٧ ـ (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة فيترك (٤) المعاصي ، أو فأدّى الفرائض ، وقيل هو مقحم كقوله : ونفيت عنه مقام الذئب ، أي نفيت عنه الذئب (جَنَّتانِ) جنة الإنس وجنة الجنّ ، لأنّ الخطاب للثقلين ، وكأنه قيل لكلّ خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٤٨ ـ ٤٩ ـ (ذَواتا أَفْنانٍ) أغصان ، جمع فنن ، وخصّ الأفنان لأنها هي التي تورق وتثمر ، فمنها تمتد الظلال ، ومنها تجتنى الثمار ، أو ألوان ، جمع فن أي له فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين قال (٥) :

__________________

(١) الحجر ، ١٥ / ٩٢.

(٢) الصافات ، ٣٧ / ٢٤.

(٣) في (ظ) و (ز) بفضله ورحمته.

(٤) في (ظ) و (ز) فترك.

(٥) لم أصل إليه.

٣١٣

(فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥١) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٥) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٩) هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(٦١)

ومن كلّ أفنان اللذاذة والصبا

لهوت به والعيش أخضر ناضر

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٥٠ ـ ٥١ ـ (فِيهِما) في الجنتين (عَيْنانِ تَجْرِيانِ) حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل ، وعن الحسن : تجريان بالماء الزّلال إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٥٢ ـ ٥٣ ـ (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) صنفان قيل (١) صنف معروف وصنف غريب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٥٤ ـ ٥٥ ـ (مُتَّكِئِينَ) نصب على المدح للخائفين ، أو حال منهم ، لأن من خاف في معنى الجمع (عَلى فُرُشٍ) جمع فراش (بَطائِنُها) جمع بطانة (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) ديباج ثخين ، وهو معرّب قيل ظهائرها من سندس ، وقيل لا يعلمها إلا الله (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) وثمرها قريب يناله القائم والقاعد والمتكىء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٥٦ ـ ٥٧ ـ (فِيهِنَ) في الجنتين لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس ، أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى (قاصِراتُ الطَّرْفِ) نساء قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ لا ينظرن إلى غيرهم (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) (٢) عليّ بضم الميم ، والطمث الجماع بالتّدمية (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) وهذا دليل على أنّ الجنّ يطمثون كما يطمث الإنس (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٥٨ ـ ٥٩ ـ (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ) صفاء (وَالْمَرْجانُ) بياضا ، فهو أبيض من اللؤلؤ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٦٠ ـ ٦١ ـ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) في العمل (إِلَّا الْإِحْسانُ) في الثواب ،

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) قيل.

(٢) زاد في (ظ) و (ز) بكسر الميم الدوري و...

٣١٤

(وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣) مُدْهَامَّتَانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٥) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٧٣)

وقيل : ما جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة ، وعن إبراهيم الخواص (١) فيه : هل جزاء الإسلام إلا دار السلام (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٦٢ ـ ٦٣ ـ (وَمِنْ دُونِهِما) ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين (جَنَّتانِ) لمن دونهم من أصحاب اليمين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٦٤ ـ ٦٥ ـ (مُدْهامَّتانِ) سوداوان من شدة الخضرة ، قال الخليل : الدّهمة السواد (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٦٦ ـ ٦٧ ـ (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) فوارتان بالماء لا تنقطعان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٦٨ ـ ٦٩ ـ (فِيهِما فاكِهَةٌ) ألوان الفواكه (وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) والرمان والتمر ليسا من الفواكه عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه للعطف ، ولأن التمر فاكهة وطعام (٢) والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكّه ، وهما قالا إنما عطفا على الفاكهة لفضلهما كأنهما جنسان آخران لما لهما من المزيّة ، كقوله : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (٣) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٧٠ ـ ٧١ ـ (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) أي خيّرات فخفّفت ، وقرىء خيّرات على الأصل ، والمعنى فاضلات الأخلاق حسان الخلق (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٧٢ ـ ٧٣ ـ (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) أي مخدّرات ، يقال امرأة قصيرة وقصورة (٤) ومقصورة أي مخدّرة ، قيل الخيام من الدّرّ المجوّف (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

__________________

(١) إبراهيم الخواص : هو إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل ، أبو إسحاق الخواص ، صوفي ، كان أوحد المشايخ في وقته ، من أقران الجنيد توفي عام ٢٩١ ه‍ (الأعلام ١ / ٢٨).

(٢) في (ظ) و (ز) وغذاء.

(٣) البقرة ، ٢ / ٩٨.

(٤) ليس في (ز) وقصورة.

٣١٥

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (٧٨)

٧٤ ـ ٧٥ ـ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ) قبل أصحاب الجنتين ، ودلّ عليهم ذكر الجنتين (وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٧٦ ـ ٧٧ ـ (مُتَّكِئِينَ) نصب على الاختصاص (عَلى رَفْرَفٍ) هو كلّ ثوب عريض ، وقيل الوسائد (خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) ديباج أو طنافس (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل ومن دونهما لأنّ مدهامتان دون ذواتا أفنان ، ونضّاختان دون تجريان ، وفاكهة دون كلّ فاكهة ، وكذلك صفة الحور والمتّكأ.

٧٨ ـ (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ) ذي العظمة. ذو الجلال شامي صفة للاسم (وَالْإِكْرامِ) لأوليائه بالإنعام ، روى جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة الرحمن فقال : (ما لي أراكم سكوتا! الجنّ كانوا أحسن منكم ردا ما أتيت على قول الله فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذب فلك الحمد ولك الشكر) (١). وكرّرت هذه الآية في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة ، ذكر ثمانية منها عقيب (٢) آيات فيها تعداد عجائب خلق الله ، وبدائع صنعه ، ومبدأ الخلق ومعادهم ، ثم سبعة منها عقيب آيات فيها ذكر النار ، وشدائدها على عدد أبواب جهنم ، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة ، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما ، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فتحت له أبواب الجنة وأغلقت عنه أبواب جهنم (٣).

__________________

(١) كنز العمال ، ١ / ٢٨٢٣ ، ٢ / ٤١٤٦.

(٢) في (ز) عقب في المرتين.

(٣) زاد في (ظ) والله أعلم ، وفي (ز) نعوذ بالله منها ، والله أعلم.

٣١٦

سورة الواقعة

مكية وهي ست وتسعون آية كوفي ، سبع بصري ، تسع مدني (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ (٣) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) (٥)

١ ـ (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) قامت القيامة ، وقيل وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة ، فكأنه قيل إذا وقعت الواقعة التي لا بدّ من وقوعها ، ووقوع الأمر نزوله ، يقال وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله ، وانتصاب إذا بإضمار اذكر.

٢ ـ (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) نفس كاذبة ، أي لا تكون حين تقع نفس تكذّب على الله وتكذّب في تكذيب الغيب ، لأنّ كلّ نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات ، واللام مثلها في قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٢).

٣ ـ (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي هي خافضة رافعة ترفع أقواما وتضع آخرين.

٤ ـ (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) حرّكت تحريكا شديدا حتى ينهدم كلّ شيء فوقها من جبل وبناء ، وهو بدل من إذا وقعت ، ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة أي تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبسّ الجبال.

٥ ـ (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) وفتّتت حتى تعود كالسويق ، أو سيقت من بسّ الغنم

__________________

(١) في (ظ) سورة الواقعة ست وتسعون آية مدنية ، وفي (ز) سبع وتسعون آية.

(٢) الفجر ، ٨٩ / ٢٤.

٣١٧

(فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا (٦) وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ) (١٤)

إذا ساقها ، كقوله : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) (١).

٦ ـ (فَكانَتْ هَباءً) غبارا (مُنْبَثًّا) متفرقا.

٧ ـ (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً) أصنافا ، يقال للأصناف التي بعضها من بعض أو يذكر بعضها مع بعض أزواج (ثَلاثَةً) صنفان في الجنة وصنف في النار. ثم فسّر الأزواج فقال :

٨ ـ (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) مبتدأ ، وهم الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) مبتدأ وخبر ، وهما خبر المبتدأ الأول ، وهو تعجيب من حالهم في السعادة وتعظيم لشأنهم كأنه قال : ما هم وأي شيء هم؟

٩ ـ (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي الذين (٢) صحائفهم بشمائلهم ، أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية الخسيسة ، من قولك فلان مني باليمين وفلان مني بالشمال إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضّعة وذلك لتيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل ، وقيل يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي أيّ شيء هم! وهو تعجيب من حالهم بالشقاء.

١٠ ـ ١٢ ـ (وَالسَّابِقُونَ) مبتدأ (السَّابِقُونَ) خبره تقديره السابقون إلى الخيرات السابقون إلى الجنات ، وقيل الثاني تأكيد للأول ، والخبر (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) والأول أوجه (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي هم في جنات النعيم.

١٣ ـ ١٤ ـ (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي هم ثلة ، والثلة الأمة من الناس الكثيرة ، والمعنى أنّ السابقين كثير من الأولين ، وهم الأمم من لدن آدم إلى نبينا محمد عليهما‌السلام ، وقليل من الآخرين وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل من الأولين من متقدمي هذه الأمة ، ومن الآخرين من متأخريها ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الثلثان جميعا من أمتي) (٣).

__________________

(١) النبأ ، ٧٨ / ٢٠.

(٢) زاد في (ظ) و (ز) يؤتون.

(٣) الطبري وابن عدي من رواية أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال ابن حجر : وأبان هو ابن أبي عياش متروك.

٣١٨

(عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (١٨) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (١٩) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤)

١٥ ـ (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير ككثيب وكثب (مَوْضُونَةٍ) مرمولة ومنسوجة بالذهب مشبكة بالدرّ والياقوت.

١٦ ـ (مُتَّكِئِينَ) حال من الضمير في على ، وهو العامل فيها ، أي استقروا عليها متكئين (عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) ينظر بعضهم في وجوه بعض ولا ينظر بعضهم في أقفاء بعض ، وصفوا بحسن العشرة ، وتهذيب الأخلاق ، وصفاء المودة ، ومتقابلين حال أيضا.

١٧ ـ (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) يخدمهم (وِلْدانٌ) غلمان ، جمع وليد (مُخَلَّدُونَ) مبقّون أبدا على شكل الولدان لا يتحولون عنه ، وقيل مقرّطون ، والخلدة القرط ، قيل هم أولاد أهل الدنيا لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ، وفي الحديث : (أولاد الكفار خدّام أهل الجنة) (١).

١٨ ـ (بِأَكْوابٍ) جمع كوب وهو (٢) آنية لا عروة لها ولا خرطوم (وَأَبارِيقَ) جمع إبريق وهو ما له خرطوم وعروة (وَكَأْسٍ) وقدح فيه شراب ، وإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس (مِنْ مَعِينٍ) من خمر تجري من العيون.

١٩ ـ (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي بسببها ، وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها أو لا يفرقون عنها (وَلا يُنْزِفُونَ) ولا يسكرون ، نزف الرجل ذهب عقله بالسكر ، ولا ينزفون بكسر الزاي كوفي أي لا ينفد شرابهم ، يقال أنزف القوم إذا فنى شرابهم.

٢٠ ـ ٢١ ـ (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) يأخذون خيره وأفضله (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) يتمنون.

٢٢ ـ ٢٤ ـ (وَحُورٌ) جمع حوراء (عِينٌ) جمع عيناء ، أي وفيها حور عين ، أو ولهم حور عين ، ويجوز أن يكون عطفا على ولدان. وحور يزيد وحمزة وعلي عطفا على جنات النعيم ، كأنه قال هم في جنات النعيم ، وفاكهة ولحم وحور (كَأَمْثالِ

__________________

(١) البزار والطبراني في الأوسط من حديث سمرة بن جندب. كنز العمال ٤ / ٣٩٣٠٤.

(٢) في (ظ) و (ز) وهي.

٣١٩

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (٣٠) وَمَاء مَّسْكُوبٍ (٣١) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء) (٣٥)

(اللُّؤْلُؤِ) في الصفاء والنقاء (الْمَكْنُونِ) المصون ، وقال الزّجّاج : كأمثال الدر حين يخرج من صدفه ولم يغيره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) جزاء مفعول له ، أي يفعل بهم ذلك كلّه لجزاء أعمالهم ، أو مصدر أي يجزون جزاء.

٢٥ ـ ٢٦ ـ (لا يَسْمَعُونَ فِيها) في الجنات (١) (لَغْواً) باطلا (وَلا تَأْثِيماً) هذيانا (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) إلا قولا ذا سلامة ، والاستثناء منقطع ، وسلاما بدل من قيلا ، أو مفعول به لقيلا ، أي لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاما سلاما ، والمعنى أنهم يفشون السلام بينهم ، فيسلّمون سلاما بعد سلام.

٢٧ ـ ٢٨ ـ (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ. فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) السدر شجر النبق ، والمخضود الذي لا شوك له كأنما خضد شوكه.

٢٩ ـ (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الطلح شجر الموز ، والمنضود الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه ، فليست له ساق بارزة.

٣٠ ـ (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) ممتد منبسط كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.

٣١ ـ (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) جار بلا حدّ ولا خدّ ، أي يجري على الأرض في غير أخدود.

٣٢ ـ ٣٣ ـ (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي كثيرة الأجناس (لا مَقْطُوعَةٍ) لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا بل هي دائمة (وَلا مَمْنُوعَةٍ) لا تمنع عن متناولها بوجه ، وقيل لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان.

٣٤ ـ (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) رفيعة القدر ، أو نضدت حتى ارتفعت ، أو مرفوعة على الأسرة ، وقيل هي النساء لأنّ المرأة يكنّى عنها بالفراش ، مرفوعة على الأرائك ، قال الله تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) (٢) ويدلّ عليه قوله :

٣٥ ـ (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) ابتدأنا خلقهن ابتداء من غير ولادة ، فإما أن يراد اللاتي

__________________

(١) في (ز) الجنة.

(٢) يس ، ٣٦ / ٥٦.

٣٢٠