تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)(٢٣)

١٧ ـ ٢٠ ـ (كَلَّا) أي ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلته بل الإكرام في توفيق الطاعة والإهانة في الخذلان ، وقوله تعالى : فيقول ، خبر المبتدأ الذي هو الإنسان ، ودخول الفاء لما في أمّا من معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير كأنه قيل فأمّا الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء ، وكذا فيقول الثاني خبر لمبتدأ تقديره وأما هو إذا ما ابتلاه ربّه ، وسمّى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء لأن كلّ واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر ، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع ، ونحوه قوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (١) وإنما أنكر قوله ربي أكرمن مع أنه أثبته بقوله فأكرمه لأنه قال (٢) على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته ، وهو قصده إلى (٣) إن الله أعطاه ما أعطاه إكراما له لاستحقاقه كقوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (٤) وإنما أعطاه الله تعالى ابتلاء من غير اسحقاق منه (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي بل هناك شر من هذا القول وهو أن الله يكرمهم بالغنى فلا يؤدّون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالمبرّة وحضّ أهله على طعام المسكين (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) أي الميراث (أَكْلاً لَمًّا) ذا لمّ ، وهو الجمع بين الحلال والحرام ، وكانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ، ويأكلون تراثهم مع تراثهم (وَتُحِبُّونَ الْمالَ) يقال حبّه وأحبّه بمعنى (حُبًّا جَمًّا) كثيرا شديدا مع الحرص ومنع الحقوق ، ربّي حجازي وأبو عمرو ، يكرمون ولا يحضون ، ويأكلون ، ويحبون بصري.

٢١ ـ ٢٣ ـ (كَلَّا) ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم ، ثم أتى بالوعيد وذكر تحسّرهم على ما فرطوا فيه حين لا تنفع حسرة (٥) فقال (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) إذا زلزلت (دَكًّا دَكًّا) دكا بعد دك ، أي كرر عليها الدكّ حتى عادت هباء منبثا (وَجاءَ

__________________

(١) الأنبياء ، ٢١ / ٣٥.

(٢) في (ز) قاله.

(٣) ليس في (ز) إلى.

(٤) القصص ، ٢٨ / ٧٨.

(٥) في (ظ) و (ز) الحسرة.

٥٢١

يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠)

(رَبُّكَ) تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه ، فإن واحدا من الملوك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره وخواصه ، وعن ابن عباس : أمره وقضاؤه (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي ينزل ملائكة كلّ سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالجن والإنس (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قيل إنها برزت لأهلها كقوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (١) وقيل هو مجرى على حقيقته ، ففي الحديث : (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها) (٢) (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي يتعظ (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) ومن أين له منفعة الذكرى.

٢٤ ـ ٢٦ ـ (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) هذه ، وهي حياة الآخرة ، أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في الحياة الفانية لحياتي الباقية (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) أي لا يتولّى عذاب الله أحد لأنّ الأمر لله وحده في ذلك اليوم (وَلا يُوثِقُ) بالسلاسل والأغلال (وَثاقَهُ أَحَدٌ) قال صاحب الكشاف : لا يعذّب أحد أحدا كعذاب الله ، ولا يوثق أحد أحدا كوثاق الله. لا يعذّب ولا يوثق علي ، وهي قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره ، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف وهو الكافر ، وقيل هو أبيّ بن خلف ، أي لا يعذّب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه لتناهيه في كفره وعناده ، ثم يقول الله تعالى للمؤمن.

٢٧ ـ ٣٠ ـ (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) إكراما له ، كما كلم موسى عليه‌السلام ، أو يكون على لسان ملك (الْمُطْمَئِنَّةُ) الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ، وهي النفس المؤمنة ، أو المطمئنة إلى الحق التي سكّنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك ، ويشهد للتفسير الأول قراءة أبيّ يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة ، وإنما يقال لها عند الموت ، أو عند البعث ، أو عند دخول الجنة (ارْجِعِي إِلى) موعد (رَبِّكِ) أو ثواب ربك (راضِيَةً) من الله بما أوتيت (مَرْضِيَّةً) عند الله بما عملت (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) في جملة عبادي الصالحين ، فانتظمي في سلكهم (وَادْخُلِي جَنَّتِي) معهم ، وقال أبو عبيدة : أي مع عبادي أو بين

__________________

(١) الشعراء ، ٢٦ / ٩١.

(٢) رواه الطبري عن عبد الله بن مسعود موقوفا.

٥٢٢

عبادي أو خواصي كما قال : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١) وقيل النفس الروح ، ومعناه فادخلي في أجساد عبادي كقراءة عبد الله بن مسعود في جسد عبدي ، ولما مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم ير على خلقته فدخل في نعشه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر ولم يدر من تلاها. قيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب ، وقيل في خبيب بن عدي (٢) الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك ، فحوّل الله وجهه نحوها ، فلم يستطع أحد أن يحوّله ، وقيل هي عامة في المؤمنين إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.

__________________

(١) النمل ، ٢٧ / ١٩.

(٢) خبيب بن عدي : صحابي شهيد سمي بليع الأرض شهد بدرا ، أسر في بعث استطلاع بين عشرة قتل منهم تسعة هو آخرهم بعد أن باعه آسروه إلى بني الحارث بن عامر وكان خبيب هو من قتل الحارث يوم بدر فصلبوه خارج مكة بعد فترة من الأسر (الإصابة رقم ١٤٩٨).

٥٢٣

سورة البلد

مكية وهي عشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) (٤)

١ ـ ٤ ـ (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) أقسم سبحانه وتعالى بالبلد الحرام وبما بعده على أنّ الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاقّ ، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أي ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد ، يعني مكة ، كما يستحلّ الصيد في غير الحرم. عن شرحبيل (١) : يحرّمون أن يقتلوا بها صيدا ويستحلّون إخراجك وقتلك. وفيه تثبيت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم في عداوته ، أو سلى رسول الله بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه فقال : وأنت حلّ بهذا البلد. أي وأنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ، وذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة وأحلّها له ، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلّت له ، فأحلّ ما شاء وحرّم ما شاء ، قتل ابن خطل (٢) وهو متعلق بأستار الكعبة ، ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وحرّم دار أبي

__________________

(١) شرحبيل : هو على الأرجح شرحبيل بن سعد الخطمي المدني مولى الأنصار ، عالم بالمغازي والبدريين ، كان يفتي ويروي الحديث توفي عام ١٢٣ ه‍ (الأعلام ٣ / ١٥٩).

(٢) ابن خطل ، هو عبد العزى بن خطل كان مسلما ثم ارتد وقتل مسلما ، فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله فقتله يوم الفتح سعيد بن حريث وأبو برزة الأسلمي (عيون الأثر ٢ / ٢٢٧).

٥٢٤

(أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (٦) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) (١٨)

سفيان. ونظير قوله وأنت حلّ في الاستقبال قوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) وكفاك دليلا على أنه للاستقبال أن السورة مكية بالاتفاق ، وأين الهجرة من وقت نزولها فما بال الفتح (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) هما آدم وولده ، أو كل والد وولده ، أو إبراهيم وولده ، وما بمعنى من أو بمعنى الذي (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) جواب القسم (فِي كَبَدٍ) مشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة ، وعن ذي النون : لم يزل مربوطا بحبل القضاء مدعوا إلى الائتمار والانتهاء والضمير في :

٥ ـ ١٠ ـ (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) لبعض صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكابد منهم ما يكابد ، ثم قيل هو أبو الأشد (٢) ، وقيل الوليد بن المغيرة ، والمعنى أيظن هذا الصنديد القويّ في قومه المتضعّف للمؤمنين أن لن تقوم قيامة ولن يقدر على الانتقام منه. ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم وأنه (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي كثيرا ، جمع لبدة وهو ما تلبّد أي كثر واجتمع ، يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) حين كان ينفق ما ينفق رياء وافتخارا ، يعني أن الله تعالى كان يراه ، وكان عليه رقيبا. ثم ذكر نعمه عليه فقال (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما المرئيات (وَلِساناً) يعبر به عما في ضميره (وَشَفَتَيْنِ) يستر بهما ثغره ، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) طريقي الخير والشر المفضيين إلى الجنة والنار ، وقيل الثديين.

١١ ـ ١٨ ـ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني فلم يشكر تلك الأيادي والنّعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب ، أو إطعام اليتامى

__________________

(١) الزمر ، ٣٩ / ٣٠.

(٢) قال الطبري : نزل في رجل بعينه من بني جمح كان يدعى أبا الأشدين وكان شديدا.

٥٢٥

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ) (٢٠)

والمساكين ، ثم بالإيمان الذي هو أصل كلّ طاعة وأساس كل خير ، بل غمط النّعم وكفر بالمنعم ، والمعنى أن الإنفاق على هذا الوجه مرضي نافع عند الله ، لا أن يهلك ماله لبدا في الرياء والفخار ، وقلّما تستعمل لا مع الماضي إلا مكررة ، وإنما لم تكرر في الكلام الأفصح لأنه لما فسّر اقتحام العقبة بثلاثة أشياء صار كأنه أعاد لا ثلاث مرات ، وتقديره فلا فكّ رقبة ولا أطعم مسكينا ولا آمن.

والاقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة ، والقحمة الشدة ، فجعل الصالحة عقبة وعملها اقتحاما لها لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس ، وعن الحسن : عقبة والله شديدة مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان. والمراد بقوله ما العقبة ما اقتحامها ، ومعناه أنك لم تدر كنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله ، وفكّ الرقبة تخليصها من الرّقّ ، والإعانة في مال الكتابة. فكّ رقبة أو أطعم مكي وأبو عمرو وعليّ على الإبدال من اقتحم العقبة ، وقوله وما أدراك ما العقبة اعتراض. غيرهم فكّ رقبة أو إطعام على : اقتحامها فكّ رقبة أو إطعام ، والمسغبة المجاعة ، والمقربة القرابة ، والمتربة الفقر مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب يقال فلان ذو قرابتي وذو مقربتي. وترب إذا افتقر ، ومعناه التصق بالتراب ، فيكون مأواه المزابل ، ووصف اليوم بذي مسغبة كقولهم همّ ناصب أي ذو نصب.

ومعنى ثم كان من الذين آمنوا أي داوم على الإيمان ، وقيل ثم بمعنى الواو ، وقيل إنما جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت إذا الإيمان هو السابق على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) بالتراحم فيما بينهم (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي الموصوفون بهذه الصفات من أصحاب الميمنة.

١٩ ـ ٢٠ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) بالقرآن أو بدلائلنا (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أصحاب الشمال ، والميمنة والمشأمة اليمين والشمال ، أو اليمن والشؤم ، أي الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهن (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) وبالهمز أبو عمرو وحمزة وحفص ، أي مطبقة من أوصدت الباب وآصدته إذا أطبقته وأغلقته (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٢٦

سورة الشمس

مكية وهي خمس عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (٥) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (٨)

١ ـ ٨ ـ (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) وضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) تبعها في الضياء والنور ، وذلك في النصف الأول من الشهر يخلف القمر الشمس في النور (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) جلّى الشمس وأظهرها للرائين ، وذلك عند انتفاخ النهار وانبساطه لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء. وقيل الضمير للظلمة ، أو للدنيا ، أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر كقوله : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (١) (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) يستر الشمس فتظلم الآفاق ، والواو الأولى في نحو هذا للقسم بالاتفاق ، وكذا الثانية عند البعض ، وعند الخليل الثانية للعطف لأن إدخال القسم على القسم قبل تمام الأول لا يجوز ، ألا ترى أنك لو جعلت موضعها كلمة الفاء أو ثم لكان المعنى على حاله وهما حرفا عطف فكذا الواو.

ومن قال إنها للقسم احتج بأنها لو كانت للعطف لكان عطفا على عاملين لأن قوله والليل مثلا مجرور بواو القسم ، وإذا يغشى منصوب بالفعل المقدّر الذي هو أقسم ، فلو جعلت الواو في والنهار إذا تجلّى للعطف لكان النهار معطوفا على الليل جرا وإذا تجلّى معطوفا على إذا يغشى نصبا ، فصار كقولك إن في الدار زيدا أو في

__________________

(١) فاطر ، ٣٥ / ٤٥.

٥٢٧

(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) (١٥)

الحجرة عمرا ، وأجيب بأن واو القسم تنزل منزلة الباء والفعل حتى لم يجز إبراز الفعل معها فصارت كأنها العاملة نصبا وجرا ، وصارت كعامل واحد له عملان ، وكلّ عامل له عملان يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واحد بالاتفاق نحو ضرب زيد عمرا وبكر خالدا ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما ، فكذا هنا.

وما مصدرية في (وَالسَّماءِ وَما بَناها. وَالْأَرْضِ وَما طَحاها. وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي وبنائها وطحوها أي بسطها وتسوية خلقها في أحسن صورة عند البعض ، وليس بالوجه ، لقوله فألهمها لما فيه من فساد النظم ، والوجه أن تكون موصولة وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها ، وإنما نكّرت النفس لأنه أراد نفسا خاصة من بين النفوس وهي نفس آدم ، كأنه قال وواحدة من النفوس ، أو أراد كلّ نفس ، والتنكير للتكثير كما في : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) (١) (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) فأعلمها طاعتها ومعصيتها ، أفهمها أنّ أحدهما حسن والآخر قبيح.

٩ ـ ١٠ ـ (قَدْ أَفْلَحَ) جواب القسم والتقدير لقد أفلح ، قال الزجاج : صار طول الكلام عوضا عن اللام ، وقيل الجواب محذوف وهو الأظهر ، تقديره ليدمدمنّ الله عليهم أي على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحا ، وأما قد أفلح فكلام تابع لقوله فألهمها فجورها وتقواها على سبيل الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء (مَنْ زَكَّاها) طهّرها الله وأصلحها وجعلها زاكية (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أغواها الله ، قال عكرمة : أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس أغواها الله ، ويجوز أن تكون التّدسية والتطهير فعل العبد ، والتّدسية : النقص والإخفاء بالفجور ، وأصل دسّى دسس ، والياء بدل من السين المكررة.

١١ ـ ١٥ ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) بطغيانها إذ الحامل لهم على التكذيب طغيانهم (إِذِ انْبَعَثَ) حين قام بعقر الناقة (أَشْقاها) أشقى ثمود قدار بن سالف ،

__________________

(١) التكوير ، ٨١ / ١٤.

٥٢٨

وكان أشقر أزرق قصيرا ، وإذ منصوب بكذبت أو بالطغوى (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) صالح عليه‌السلام (ناقَةَ اللهِ) نصب على التحذير ، أي احذروا عقرها (وَسُقْياها) كقولك الأسد الأسد (فَكَذَّبُوهُ) فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا (فَعَقَرُوها) أي الناقة ، أسند الفعل إليهم وإن كان العاقر واحدا لقوله : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) (١) لرضاهم به (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أهلكهم هلاك استئصال (بِذَنْبِهِمْ) بسبب ذنبهم ، وهو تكذيبهم الرسول وعقرهم الناقة (فَسَوَّاها) فسوى الدمدمة عليهم لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم (وَلا يَخافُ عُقْباها) ولا يخاف الله عاقبة هذه الفعلة ، أي فعل ذلك غير خائف أن تلحقه تبعة من أحد كما يخاف من يعاقب من الملوك لأنه فعل في ملكه وملكه : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢) فلا يخاف مدني وشامي.

__________________

(١) القمر ، ٥٤ / ٢٩.

(٢) الأنبياء ، ٢١ / ٢٣.

٥٢٩

سورة الليل

إحدى وعشرون آية مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (١١)

١ ـ ٤ ـ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) المغشيّ إما الشمس من قوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) (١) أو النهار من قوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) (٢) أو كلّ شيء يواريه بظلامه من قوله : (إِذا وَقَبَ) (٣) (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) ظهر بزوال ظلمة الليل (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد ، وجواب القسم (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) إن عملكم لمختلف وبيان الاختلاف فيما فصّل على أثره.

٥ ـ ٧ ـ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) حقوق ماله (وَاتَّقى) ربّه فاجتنب محارمه (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) بالملة الحسنى وهي ملة الإسلام ، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، أو بالكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) فسنهيئه للخلة اليسرى ، وهي العمل بما يرضاه ربّه.

٨ ـ ١١ ـ (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بماله (وَاسْتَغْنى) عن ربّه فلم يتقه ، أو استغنى

__________________

(١) الشمس ، ٩١ / ٤.

(٢) الأعراف ، ٧ / ٥٤. الرعد ، ١٣ / ٣.

(٣) الفلق ، ١١٣ / ٣.

٥٣٠

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (١٢) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (١٣) فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى) (٢١)

بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) بالإسلام أو الجنة (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) للخلة المؤدية إلى النار ، فتكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشدّه ، أو سمّى طريقة الخير باليسرى لأن عاقبتها اليسر وطريقة الشر بالعسرى لأن عاقبتها العسر ، أو أراد بهما طريقي الجنة والنار (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) ولم ينفعه ماله إذا هلك ، وتردى تفعّل من الردى وهو الهلاك ، أو تردى في القبر ، أو في قعر جهنم أي سقط.

١٢ ـ ١٦ ـ (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) إن علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل وبيان الشرائع (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) فلا يضرنا ضلال من ضلّ ولا ينفعنا اهتداء من اهتدى ، أو أنهما لنا فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق (فَأَنْذَرْتُكُمْ) خوّفتكم (ناراً تَلَظَّى) تتلهب (لا يَصْلاها) لا يدخلها للخلود فيها (إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) إلا الكافر الذي كذّب الرسول (١) وأعرض عن الإيمان.

١٧ ـ ٢١ ـ (وَسَيُجَنَّبُهَا) وسيبعد منها (الْأَتْقَى) المؤمن (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) للفقراء (يَتَزَكَّى) من الزكاء ، أي يطلب أن يكون عند الله زاكيا لا يريد به رياء ولا سمعة ، أو يتفعل من الزكاة ، ويتزكى إن جعلته بدلا من يؤتي فلا محلّ له لأنه داخل في حكم الصلة ، والصلات لها محل لها ، وإن جعلته حالا من الضمير في يؤتي فمحلّه النصب ، قال أبو عبيدة : الأشقى بمعنى الشقي وهو الكافر والأتقى بمعنى التقي وهو المؤمن لأنه لا يختص بالصّلي أشقى الأشقياء ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ، وإن زعمت أنه نكّر النار فأراد نارا مخصوصة بالأشقى فما تصنع بقوله : وسيجنبها الأتقى ، لأن التقيّ يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة ، وقيل الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين فأريد أن يبالغ في صفتيها فقيل الأشقى وجعل مختصا بالصّلي كأن النار لم تخلق إلا له ، وقيل الأتقى وجعل مختصا بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له ، وقيل هما أبو جهل وأبو بكر ، وفيه بطلان زعم المرجئة لأنهم يقولون لا يدخل النار إلا كافر (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى * إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) أي وما لأحد عند الله

__________________

(١) في (ز) الرسل.

٥٣١

نعمة يجازيه بها إلا أن يفعل فعلا يبتغي به وجه ربّه فيجازيه عليه (الْأَعْلى) هو الرفيع بسلطانه المنيع في شأنه وبرهانه ، ولم يرد به العلوّ من حيث المكان فذا آية الحدثان (وَلَسَوْفَ يَرْضى) موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه وهو كقوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (١).

__________________

(١) الضحى ، ٩٣ / ٥.

٥٣٢

سورة الضحى

مكية وهي إحدى عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (٥)

١ ـ ٥ ـ (وَالضُّحى) المراد به (١) وقت الضحى ، وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس ، وإنما خصّ وقت الضحى بالقسم لأنها الساعة التي كلّم الله فيها موسى عليه‌السلام ، وألقى فيها السحرة سجّدا ، أو النهار كلّه لمقابلته بالليل في قوله (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) سكن ، والمراد سكون الناس والأصوات فيه ، وجواب القسم (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) ما تركك منذ اختارك ، وما أبغضك منذ أحبّك ، والتوديع مبالغة في الودع لأن من ودّعك مفارقا فقد بالغ في تركك ، روي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أياما فقال المشركون : إن محمدا ودعه ربّه وقلاه ، فنزلت (٢). وحذف الضمير من قلى كحذفه من الذاكرات في قوله : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) (٣) يريد والذاكراته ونحوه : فآوى ، فهدى ، فأغنى وهو اختصار لفظي لظهور المحذوف (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) أي ما أعدّ لك في الآخرة من المقام المحمود ، والحوض المورود ، والخير الموعود ، خير مما أعجبك في الدنيا ، وقيل وجه اتصاله بما قبله أنه لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك وأنك حبيب الله ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ، أخبره أنّ حاله في الآخرة أعظم من ذلك

__________________

(١) ليس في (ز) به.

(٢) ابن مردويه من رواية العوفي عن ابن عباس.

(٣) الأحزاب ، ٣٣ / ٣٥.

٥٣٣

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١)

لتقدّمه على الأنبياء وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) في الآخرة من الثواب ومقام الشفاعة وغير ذلك (فَتَرْضى) ولما نزلت قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إذا لا أرضى قط وواحد من أمتي في النار) (١) واللام الداخلة على سوف لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف تقديره ولأنت سوف يعطيك ، ونحوه لأقسم فيمن قرأ ، كذلك لأن المعنى لأنا أقسم ، وهذا لأنها إن كانت لام قسم فلامه لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد فتعين أن تكون لام الابتداء ولامه لا تدخل إلا على المبتدأ والخبر فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر كما ذكرنا ، كذا ذكره صاحب «الكشاف» (٢) ، وذكر صاحب «الكشف» (٣) هي لام القسم واستغنى عن نون التوكيد لأن النون إنما تدخل ليؤذن أن اللام لام القسم لا لام الابتداء ، وقد علم أنه ليس للابتداء لدخولها على سوف ، لأن لام الابتداء لا تدخل على سوف ، وذكر أن الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير يؤذن بأن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر.

ثم عدّد عليه نعمه من أول حاله ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه لئلا يتوقع إلا الحسنى وزيادة الخير ولا يضيق صدره ولا يقلّ صبره فقال :

٦ ـ ٨ ـ (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) وهو من الوجود الذي بمعنى العلم ، والمنصوبان مفعولاه ، والمعنى ألم تكن يتيما حين مات أبواك (فَآوى) أي فآواك إلى عمّك أبي طالب (٤) وضمّك إليه حتى كفلك وربّاك (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) أي غير عالم ولا واقف على معالم النبوة وأحكام الشريعة وما طريقه السمع (فَهَدى) فعرّفك الشرائع والقرآن ، وقيل ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب فردّه إلى القافلة ، ولا يجوز أن يفهم به عدول عن حقّ ووقوع في غي ، فقد كان عليه الصلاة والسلام من أول حاله إلى نزول الوحي عليه معصوما من عبادة الأوثان وقاذورات أهل الفسق والعصيان (وَوَجَدَكَ عائِلاً) فقيرا (فَأَغْنى) فأغناك بمال خديجة ، أو بما (٥) أفاء عليك من الغنائم.

٩ ـ ١١ ـ (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) فلا تغلبه على ماله وحقّه لضعفه (وَأَمَّا السَّائِلَ

__________________

(١) لم أجده بلفظه.

(٢) صاحب الكشاف : الزمخشري.

(٣) صاحب الكشف : الثعلبي.

(٤) أبو طالب : سبق ترجمته في ١٠ / ٢.

(٥) في (ز) بمال.

٥٣٤

فَلا تَنْهَرْ) فلا تزجره فابذل قليلا أو ردّ جميلا ، وعن السّدّيّ : المراد طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي حدّث بالنبوة التي آتاك الله ، وهي أجل النعم ، والصحيح أنها تعمّ جميع نعم الله عليه ، ويدخل تحته تعليم القرآن والشرائع (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٣٥

سورة الشرح

مكية وهي ثمان آيات (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (٤)

١ ـ ٤ ـ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار فأفاد إثبات الشرح فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك ، ولذا عطف عليه وضعنا اعتبارا للمعنى أي فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم حتى وسع هموم النبوة ودعوة الثّقلين ، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل ، وعن الحسن : ملىء حكمة وعلما (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) وخففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها ، وقيل هو زلة لا تعرف بعينها وهي ترك الأفضل مع إتيان الفاضل ، والأنبياء يعاتبون بمثلها ، ووضعه عنه أن غفر له ، والوزر : الحمل الثقيل (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أثقله حتى سمع نقيضه وهو صوت الانتقاض (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) ورفع ذكره أن قرن بذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والخطب والتشهد وفي غير موضع من القرآن : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (٢) (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) (٣) (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (٤)

__________________

(١) في جميع النسخ سورة «ألم نشرح» وفي (أ) وهي ثماني آيات ، وفي (ظ) ثماني آية مكية ، وفي (ز) وهي ثمان آيات ، وقد اعتمدنا «الشرح» المتداول حاليا في جميع المصاحف.

(٢) النساء ، ٤ / ٥٩. النور ، ٢٤ / ٥٤. محمد ، ٤٧ / ٣٣.

(٣) النساء ، ٤ / ١٣. النور ، ٢٤ / ٥٢. الأحزاب ، ٣٣ / ٧١. الفتح ، ٤٨ / ١٧.

(٤) التوبة ، ٩ / ٦٢.

٥٣٦

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (٧) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨)

وفي تسميته رسول الله ونبيّ الله ، ومنه ذكره في كتب الأولين ، وفائدة لك ما عرف في طريقة الإبهام والإيضاح لأنه يفهم بقوله : ألم نشرح لك أنّ ثمّ مشروحا ، ثم أوضح بقوله صدرك ما علم مبهما ، وكذلك لك ذكرك ، وعنك وزرك.

٥ ـ ٦ ـ (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي إن مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يسرا بإظهاري إياك عليهم حتى تغلبهم ، وقيل كان المشركون يعيرون رسول الله والمؤمنين بالفقر حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله فذكّره ما أنعم به عليه من جلائل النّعم ثم قال إنّ مع العسر يسرا كأنه قال : خوّلناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا ، وجيء بلفظ مع لغاية مقاربة اليسر العسر زيادة في التسلية ولتقوية القلوب ، وإنما قال عليه‌السلام عند نزولها : (لن يغلب عسر يسرين) (١) لأن العسر أعيد معرفة (٢) فكان واحدا ، لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى ، واليسر أعيد نكرة والنكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى ، فصار المعنى إن مع العسر يسرين ، قال أبو معاذ : يقال إن مع الأمير غلاما إن مع الأمير غلاما ، فالأمير واحد ومعه غلامان ، وإذا قال : إن مع أمير غلاما وإن مع الأمير الغلام فالأمير واحد والغلام واحد ، وإذا قيل إن مع أمير غلاما وإن مع أمير غلاما فهما أميران وغلامان ، كذا في شرح «التأويلات» (٣).

٧ ـ ٨ ـ (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أي فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الربّ ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء ، واختلف أنه قبل السلام أو بعده ، ووجه الاتصال بما قبله أنه لما عدّد عليه نعمه السالفة ووعده الأنفة (٤) بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنّصب فيها ، وأن يواصل بين بعضها وبعض ولا يخلي وقتا من أوقاته منها ، فإذا فرغ من عبادة ذنّبها بأخرى (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) واجعل رغبتك إليه خصوصا ، ولا تسأل إلا فضله ، متوكلا عليه (٥).

__________________

(١) عبد الرزاق بسنده عن ابن مسعود.

(٢) في (ظ) و (ز) معرفا.

(٣) «تأويلات القرآن» للماتريدي.

(٤) في (ز) ومواعيده الآتية.

(٥) زاد في (ز) (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

٥٣٧

سورة التين

مكية وهي ثمان آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) (٥)

١ ـ ٥ ـ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين الأشجار المثمرة ، روي أنه أهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه : (كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النّقرس) (١) وقال : (نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة وقال : هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي) (٢) وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو تينكم هذا وزيتونكم هذا ، وقيل هما جبلان بالشأم منبتاهما (وَطُورِ سِينِينَ) أضيف الطور وهو الجبل إلى سينين وهي البقعة ، ونحو سينون يبرون (٣) في جواز الإعراب بالواو والياء والإقرار على الياء ، وتحريك النون بحركات الإعراب (وَهذَا الْبَلَدِ) يعني مكة (الْأَمِينِ) من أمّن الرجل أمانة فهو أمين ، وأمانته أنه يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه ، ومعنى القسم بهذه الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة ، وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والأولياء ،

__________________

(١) أبو نعيم في الطب ، والثعلبي من حديث أبي ذر. والعجم : النوى.

(٢) الطبراني في الأوسط ، والثعلبي من حديث معاذ.

(٣) ليس في (ظ) يبرون.

٥٣٨

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (٨)

فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه ، والطور : المكان الذي نودي منه موسى ، ومكة مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد نبينا ومبعثه صلوات الله عليهم أجمعين ، أو الأولان قسم بمهبط الوحي على عيسى والثالث على موسى والرابع على محمد عليهم‌السلام ، وجواب القسم (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) وهو جنس (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية لأعضائه (١) (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية أن رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا يعني أقبح من قبح صورة وهم أصحاب النار ، أو أسفل من سفل من أهل الدركات ، أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه في خلقه فقوّس ظهره بعد اعتداله ، وابيضّ شعره بعد سواده ، وتشننّ (٢) جلده ، وكلّ سمعه وبصره وتغير كلّ شيء منه ، فمشيه دليف ، وصوته خفات ، وقوته ضعف ، وشهامته خرف.

٦ ـ ٨ ـ (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ودخل الفاء هنا دون سورة الانشقاق للجمع بين اللغتين ، والاستثناء على الأول متصل وعلى الثاني منقطع ، أي ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى (٣) فلهم ثواب غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على الابتلاء بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة ، والخطاب في (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) للإنسان على طريقة الالتفات ، أي فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان القاطع والبرهان الساطع بالجزاء ، والمعنى أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشرا سويا وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر لا ترى دليلا أوضح منه على قدرة الخالق ، وأن من قدر على خلق الإنسان وعلى هذا كلّه لم يعجز عن إعادته فما سبب تكذيبك بالجزاء ، أو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي فمن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل ، فما بمعنى من (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) وعيد للكفار ، وأنه يحكم عليهم بما هم أهله ، وهو من الحكم والقضاء (٤).

__________________

(١) في (ظ) و (ز) وتسوية أعضائه.

(٢) تشنن : تفرق.

(٣) زاد في (ز) والزمنى.

(٤) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٣٩

سورة العلق

مكية وهي تسع عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (٥)

عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت ، والجمهور على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم.

١ ـ ٥ ـ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) محل باسم ربّك النصب على الحال أي اقرأ مفتتحا باسم ربّك ، كأنه قيل : قل باسم الله ثم اقرأ الذي خلق ، لم يذكر لخلق مفعول (١) لأن المعنى الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه ، أو تقديره خلق كلّ شيء فيتناول كلّ مخلوق لأنه مطلق ، فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من بعض ، وقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه ولأن التنزيل إليه ، ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان إلا أنه ذكر مبهما ثم مفسّرا ، تفخيما لخلقه ودلالة على عجيب فطرته (مِنْ عَلَقٍ) وإنما جمع ولم يقل من علقة لأن الإنسان في معنى الجمع (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) الذي له الكمال في زيادة كرمه على كلّ كريم ، ينعم على عباده النّعم ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه ، وكأنه ليس وراء التكرّم بإفادة الفوائد العلمية تكرّم حيث قال : (الَّذِي عَلَّمَ) الكتابة (بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) فدل على كمال كرمه بأنه علّم

__________________

(١) في (ز) لم يذكر الخلق مفعولا.

٥٤٠