تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣)

٢ ـ (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ) عاصم ، يظّهّرون حجازي وبصري ، غيرهم يظّاهرون ، وفي (مِنْكُمْ) توبيخ للعرب ، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم (مِنْ نِسائِهِمْ) زوجاتهم (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) أمهاتهم المفضل ، فالأول حجازي والثاني تميمي (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) يريد أنّ الأمهات على الحقيقة الوالدات ، والمرضعات ملحقات بالوالدات بواسطة الرضاع ، وكذا أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيادة حرمتهن ، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة ، فلذا قال (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) تنكره الحقيقة والأحكام الشرعية (وَزُوراً) وكذبا باطلا منحرفا عن الحق (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) لما سلف منهم.

٣ ـ (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) بيّن في الآية الأولى أنّ ذلك من قائله منكر وزور ، وبيّن في الثانية حكم الظهار (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) العود الصيرورة ابتداء أو بناء ، فمن الأول قوله تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (١) ومن الثاني : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) (٢) ويعدّى بنفسه كقولك عدته إذا أتيته وصرت إليه ، وبحرف الجر بإلى وعلى وفي واللام كقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٣) ومنه : ثم يعودون لما قالوا ، أي يعودون لنقض ما قالوا ، أو لتداركه على حذف المضاف ، وعن ثعلبة : يعودون لتحليل ما حرّموا ، على حذف المضاف أيضا ، غير أنه أراد بما قالوا ما حرّموه على أنفسهم بلفظ الظّهار تنزيلا للقول منزلة المقول فيه ، كقوله : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) (٤) أراد المقول فيه ، وهو المال والولد ، ثم اختلفوا أنّ النقض بماذا يحصل؟ فعندنا بالعزم على الوطء ، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة ، وعند الشافعي بمجرد الإمساك ، وهو أن لا يطلقها عقيب الظهار (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فعليه اعتاق رقبة مؤمنة أو كافرة ، ولم يجز المدبّر وأم الولد والمكاتب الذي أدى شيئا (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) الضمير يرجع إلى ما دلّ عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها ، والمماسة الاستمتاع

__________________

(١) يس ، ٣٦ / ٣٩.

(٢) الإسراء ، ١٧ / ٨.

(٣) الأنعام ، ٦ / ٢٨.

(٤) مريم ، ١٩ / ٨٠.

٣٤١

(فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (٥)

بها من جماع ، أو لمس بشهوة ، أو نظر إلى فرجها بشهوة (ذلِكُمْ) الحكم (تُوعَظُونَ بِهِ) لأنّ الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية ، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظّهار وتخافوا عقاب الله عليه (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) والظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي ، وإذا وضع موضع أنت عضوا منها يعبّر به عن الجملة ، أو مكان الظهر عضوا آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ ، أو مكان الأمّ ذات رحم محرم منه بنسب أو رضاع أو صهر أو جماع نحو أن يقول أنت عليّ كظهر أختي من الرضاع أو عمتي من النسب أو امرأة ابني أو أبي أو أم امرأتي أو ابنتها فهو مظاهر ، وإذا امتنع المظاهر من الكفارة للمرأة أن ترافعه وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفّر وأن يحبسه ، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والامتناع من الاستمتاع ، فإن مسّ قبل أن يكفّر استغفر الله ولا يعود حتى يكفّر وإن أعتق بعض الرقبة ثم مسّ عليه أن يستأنف عند أبي حنيفة رضي الله عنه.

٤ ـ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الرقبة (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) فعليه صيام شهرين (مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) الصيام (فَإِطْعامُ) فعليه إطعام (سِتِّينَ مِسْكِيناً) لكلّ مسكين نصف صاع من بر ، أو صاع من غيره ، ويجب تقديمه (١) على المسيس ، ولكن لا يستأنف إن جامع في خلال الإطعام (ذلِكَ) البيان والتعليم للأحكام (لِتُؤْمِنُوا) لتصدّقوا (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره ، ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم (وَتِلْكَ) أي الأحكام التي وصفنا في الظهار والكفارة (حُدُودُ اللهِ) التي لا يجوز تعدّيها (وَلِلْكافِرِينَ) الذين لا يتبعونها (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعادون ويشاقّون (كُبِتُوا) أخزوا وأهلكوا (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من أعداء الرسل (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) تدلّ على صدق الرسول وصحة ما جاء به (وَلِلْكافِرِينَ) بهذه الآيات (عَذابٌ مُهِينٌ) يذهب بعزّهم وكبرهم.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) يجب أن يقدمه.

٣٤٢

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٨)

٦ ـ (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ) منصوب بمهين ، أو بإضمار اذكر تعظيما لليوم (اللهُ جَمِيعاً) كلّهم لا يترك منهم أحدا غير مبعوث ، أو مجتمعين في حال واحدة (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) تخجيلا لهم وتوبيخا وتشهيرا بحالهم يتمنّون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد (أَحْصاهُ اللهُ) أحاط به عددا لم يفته منه شيء (وَنَسُوهُ) لأنهم تهاونوا حين ارتكبوه ، وإنما تحفظ معظمات الأمور (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) لا يغيب عنه شيء.

٧ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ) من كان التامة ، أي ما يقع (مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) النجوى التناجي ، وقد أضيفت إلى ثلاثة أي من نجوى ثلاثة نفر (إِلَّا هُوَ) أي الله (رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى) ولا أقلّ (مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه ، وقد تعالى عن المكان علوا كبيرا ، وتخصيص الثلاثة والخمسة لأنها نزلت في المنافقين ، وكانوا يتحلّقون للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ، وقيل ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عدديهم ولا أكثر إلا والله معهم يسمع ما يقولون ، ولأن أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب ، وأول عددهم الاثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال ، فذكر عزّ وعلا الثلاثة والخمسة وقال ولا أدنى من ذلك ، فدل على الاثنين والأربعة ، وقال ولا أكثر فدل على ما يقارب هذا العدد (أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيجازيهم عليه (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

٨ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ، ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين يريدون أن يغيظوهم ويوهموهم في نجواهم وتغامزهم أنّ غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا ، فنهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعادوا لمثل فعلهم ، وكان

٣٤٣

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١)

تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين ، وتواص بمعصية الرسول ومخالفته ، وينتجون حمزة وهو بمعنى الأول (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) يعني أنهم يقولون في تحيتك السام عليك يا محمد ، والسام الموت ، والله تعالى يقول : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) (١) و (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) (٢) و (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) (٣) (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي يقولون فيما بينهم لو كان نبيا لعاقبنا الله بما نقوله ، فقال الله تعالى (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابا (يَصْلَوْنَها) حال أي يدخلونها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المرجع جهنم.

٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بألسنتهم وهو خطاب للمنافقين ، والظاهر أنه خطاب للمؤمنين (إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي إذا تناجيتم فلا تشبّهوا باليهود والمنافقين في تناجيهم بالشر (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) بأداء الفرائض والطاعات (وَالتَّقْوى) وترك المعاصي (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للحساب فيجازيكم بما تتناجون به من خير أو شرّ.

١٠ ـ (إِنَّمَا النَّجْوى) بالإثم والعدوان (مِنَ الشَّيْطانِ) من تزيينه (لِيَحْزُنَ) أي الشيطان ، وبضم الياء نافع (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ) الشيطان أو الحزن (بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بعلمه وقضائه وقدره (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي يكلون أمرهم إلى الله ويستعيذون به من الشيطان.

١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) (٤) توسعوا فيه ، في المجالس عاصم ونافع ، والمراد مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا يتضامّون فيه تنافسا على

__________________

(١) النمل ، ٢٧ / ٥٩.

(٢) المائدة ، ٥ / ٤١ و ٦٧.

(٣) الأنفال ، ٨ / ٦٤ و ٦٥ و ٧٠. التوبة ، ٩ / ٧٣. الأحزاب ، ٣٣ / ١ و ٢٨ و ٥٠ و ٥٩. الممتحنة ، ٦٠ / ١٢. الطلاق ، ٦٥ / ١. التحريم ، ٦٦ / ١ و ٩.

(٤) في مصحف النسفي : (فِي الْمَجالِسِ) لذلك أشار إلى قراءة عاصم ونافع لاحقا.

٣٤٤

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (١٢)

القرب منه ، وحرصا على استماع كلامه ، وقيل هو المجلس من مجالس القتال ، وهي مراكز الغزاة كقوله : (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) (١) مقاتل في صلاة الجمعة (فَافْسَحُوا) فوسعوا (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر وغير ذلك (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) انهضوا للتوسعة على المقبلين ، أو انهضوا عن مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أمرتم بالنهوض عنه ، أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير (فَانْشُزُوا) بالضم فيهما مدني وشامي وعاصم غير حماد (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بامتثال أوامره وأوامر رسوله (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) والعالمين منهم خاصة (دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وفي الدرجات قولان : أحدهما في الدنيا في المرتبة والشرف ، والآخر في الآخرة ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال : يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) (٢) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (عبادة العالم يوما واحدا تعدل عبادة العابد أربعين سنة) (٣) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء) (٤). فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما : خيّر سليمان عليه‌السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فاعطي المال والملك معه (٥) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أوحى الله إلى إبراهيم عليه‌السلام يا إبراهيم إني عليم أحبّ كلّ عليم) (٦). وعن بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم وأي شيء فات من أدرك العلم. وعن الزبيري (٧) : العلم ذكر فلا يحبّه إلا ذكورة الرجال ، والعلوم أنواع فأشرفها أشرفها معلوما.

١٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) إذا أردتم مناجاته (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ

__________________

(١) آل عمران ، ٣ / ١٢١.

(٢) أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

(٣) لم أجده.

(٤) كنز العمال ١٤ / ٣٩٠٧٢.

(٥) الديلمي في الفردوس بدون إسناد.

(٦) ابن عبد البر في العلم قال : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكره بغير إسناد : قاله ابن حجر.

(٧) الزبيري : هو أحمد بن سليمان البصري أبو عبد الله ، باحث من فقهاء الشافعية توفي عام ٣١٧ ه‍ وله مؤلفات (الأعلام ١ / ١٣٢).

٣٤٥

أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٥)

(نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي قبل نجواكم ، وهي استعارة ممن له يدان ، كقول عمر رضي الله عنه : من أفضل ما أوتيت العرب الشعرّ يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم (١) يريد قبل حاجته (ذلِكَ) التقديم (خَيْرٌ لَكُمْ) في دينكم (وَأَطْهَرُ) لأن الصدقة طهرة (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تتصدقون به (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في ترخيص المناجاة من غير صدقة ، قيل كان ذلك عشر ليال ثم نسخ ، وقيل ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ ، وقال علي رضي الله عنه : هذه آية من كتاب الله ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته ، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم وسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر مسائل فأجابني عنها ، قلت يا رسول الله ما الوفاء؟ قال : (التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله) قلت : وما الفساد؟ قال : (الكفر والشرك بالله) قلت : وما الحق؟ قال : (الإسلام والقرآن والولاية إذا انتهت إليك) قلت : وما الحيلة؟ قال : (ترك الحيلة) قلت : وما عليّ؟ قال : (طاعة الله وطاعة رسوله) قلت : وكيف أدعو الله تعالى؟ قال : (بالصدق واليقين) قلت : وما ذا أسأل الله؟ قال : (العافية) قلت : وما أصنع لنجاة نفسي؟ قال : (كل حلالا وقل صدقا) قلت : وما السرور؟ قال : (الجنة) قلت : وما الراحة؟ قال : (لقاء الله) فلما فرغت منها نزل نسخها (٢).

١٣ ـ (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به وشقّ عليكم (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي خفّف عنكم وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة ، كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب عنه (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) وهذا وعد ووعيد.

١٤ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) كان المنافقون يتولون اليهود

__________________

(١) قال ابن حجر : لم أجده.

(٢) الحاكم وابن أبي شيبة.

٣٤٦

(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (١٦) لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)(١٩)

وهم الذين غضب الله عليهم في قوله : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) (١) وينقلون إليهم أسرار المؤمنين (ما هُمْ مِنْكُمْ) يا مسلمون (وَلا مِنْهُمْ) ولا من اليهود كقوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) (٢) (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) أي يقولون والله إنا لمسلمون لا منافقون (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون منافقون.

١٥ ـ (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) نوعا من العذاب متفاقما (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنهم كانوا في الزمان الماضي مصرين على سوء العمل ، وهي حكاية ما يقال لهم في الآخرة.

١٦ ـ (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) الكاذبة (جُنَّةً) وقاية دون أموالهم ودمائهم (فَصَدُّوا) الناس في خلال أمنهم وسلامتهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن طاعته والإيمان به (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وعدهم العذاب المخزي لكفرهم وصدّهم كقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) (٣).

١٧ ـ (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) من عذاب الله (شَيْئاً) قليلا من الإغناء (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

١٨ ـ (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أي لله في الآخرة أنهم كانوا مخلصين في الدنيا غير منافقين (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا على ذلك (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ) في الدنيا (عَلى شَيْءٍ) من النفع ، أو يحسبون أنهم على شيء من النفع ، ثم بأيمانهم الكاذبة كما انتفعوا ههنا (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة.

١٩ ـ (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) استولى عليهم (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) قال شاه

__________________

(١) المائدة ، ٥ / ٦٠.

(٢) النساء ، ٤ / ١٤٣.

(٣) النحل ، ١٦ / ٨٨.

٣٤٧

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢)

الكرماني (١) : علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والمشارب والملابس ، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه والقيام بشكرها ، ويشغل لسانه عن ذكر ربّه بالكذب والغيبة والبهتان ، ويشغل قلبه (٢) عن التفكّر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) جنده (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ).

٢٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) في جملة من هو أذلّ خلق الله تعالى لا ترى أحدا أذلّ منهم.

٢١ ـ (كَتَبَ اللهُ) في اللوح (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) بالحجة والسيف ، أو بأحدهما (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) لا يمتنع عليه ما يريد (عَزِيزٌ) غالب غير مغلوب.

٢٢ ـ (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ) هو مفعول ثان لتجد ، أو حال ، أو صفة لقوما ، وتجد بمعنى تصادف على هذا (مَنْ حَادَّ اللهَ) خالفه وعاداه (وَرَسُولَهُ) أي من الممتنع أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين ، والمراد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقّه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة (٣) في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتم ، وزاد ذلك تأكيدا وتشديدا بقوله (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) وبقوله (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي أثبته فيها ، وبمقابلة قوله : أولئك حزب الشيطان بقوله : أولئك حزب الله (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي بكتاب أنزله فيه حياة لهم ، ويجوز أن يكون الضمير للإيمان أي بروح

__________________

(١) شاه الكرماني : هو عبد الرحمن بن محمد بن أميرويه ، أبو الفضل الكرماني ، فقيه حنفي انتهت إليه رئاسة المذهب بخراسان مولده بكرمان عام ٤٥٧ ه‍ ووفاته بمرو عام ٥٤٣ ه‍ (الأعلام ٣ / ٣٢٧).

(٢) في (ز) لبّه.

(٣) في (ظ) و (ز) مبالغة في الزجر عن مجانبة.

٣٤٨

من الإيمان ، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به. وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان. وعن عبد العزيز بن أبي رواد (١) أنه لقيه المنصور فلما عرفه هرب منه وتلاها. وقال سهل : من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس بمبتدع ولا يجالسه ويظهر له من نفسه العداوة ، ومن داهن مبتدعا سلبه الله حلاوة السنن ، ومن أجاب مبتدعا لطلب عزّ الدنيا أو غناها أذله الله بذلك العزّ وأفقره بذلك الغنى ، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قبله ومن لم يصدّق فليجرب (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بتوحيدهم الخالص وطاعتهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه الجسيم في الآخرة أو بما قضى عليهم في الدنيا (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أنصار حقّه ودعاة خلقه (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الباقون في النعيم المقيم ، الفائزون بكلّ محبوب ، الآمنون من كلّ مرهوب (٢).

__________________

(١) عبد العزيز بن أبي رواد ، أبو عبد الرحمن حدث عن عدة من كبار التابعين وأعلامهم منهم عطاء وعكرمة ونافع وصدقة بن يسار والضحاك وغيرهم عاش إلى زمن المنصور ت ١٥٨ ه‍ ـ (حلية الأولياء ٨ / ١٩١).

(٢) زاد في (ظ) والله تعالى أعلم.

٣٤٩

سورة الحشر

مدنية وهي أربع وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (٢)

١ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) روي أنّ هذه السورة نزلت بأسرها في بني النضير ، وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة صالح بنو النضير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب ابن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالف أبا سفيان عند الكعبة ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمد ابن مسلمة الأنصاري (١) فقتل كعبا غيلة ، ثم خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الجيش إليهم ، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخيلهم ، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم طلبوا الصلح ، فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كلّ ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم ، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات (٢).

٢ ـ (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني يهود بني النضير (مِنْ

__________________

(١) محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري الحارثي ، أبو عبد الرحمن ، صحابي من الأمراء من أهل المدينة شهد بدرا وما بعدها إلا تبوك ولد عام ٣٥ ق. ه ومات عام ٤٣ ه‍ (الأعلام ٧ / ٩٧).

(٢) ذكره الثعلبي بلا إسناد ، قاله ابن حجر. أريحا : بلد في الغور من أرض الأردن بالشام ترجمتها في ٥ / ١٢. وأذرعات : بلد في أطراف الشام ترجمتها في ٣٠ / ٤.

٣٥٠

دِيارِهِمْ) بالمدينة ، واللام في (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) تتعلق بأخرج ، وهي اللام في قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (١) ، وقوله (٢) جئته لوقت كذا ، أي أخرج الذين كفروا عند أول الحشر ، ومعنى أول الحشر أنّ هذا أول حشرهم إلى الشأم ، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط (٣) ، وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشأم ، أو هذا أول حشرهم ، وآخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ، أو آخر حشرهم حشر يوم القيامة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : من شكّ أنّ المحشر بالشأم فليقرأ هذه الآية ، فهم الحشر الأول وسائر الناس الحشر الثاني وقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرجوا : (امضوا فإنكم أول الحشر ونحن على الأثر) (٤). قتادة : إذا كان آخر الزمان جاءت نار من قبل المشرق فحشرت الناس إلى أرض الشأم وبها تقوم عليهم القيامة (٥). وقيل معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم ، لأنه أول قتال قاتلهم رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدّتهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي ظنوا أنّ حصونهم تمنعهم من بأس الله ، والفرق بين هذا التركيب وبين النظم الذي جاء عليه أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلا على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسما لأن في إسناد الجملة إليه دليلا (٦) على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في مغازّتهم (٧) ، وليس ذلك في قولك وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي أمر الله وعقابه ، وفي الشواذ فآتاهم الله أي فأتاهم الهلاك (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم ، وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرّة على يد أخيه رضاعا (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الخوف (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) يخرّبون أبو عمرو ، والتخريب والإخراب الإفساد بالنقض والهدم ، والخربة الفساد ، وكانوا يخرّبون بواطنها والمسلمون ظواهرها لما أراد الله من استئصال شأفتهم وأن لا تبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديّار ، والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة ، وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيد الخشب والساج ، وأما المؤمنون فداعيهم إلى

__________________

(١) الفجر ، ٨٩ / ٢٤.

(٢) في (ز) وقولك.

(٣) الطبري عن الزهري.

(٤) الطبري عن الحسن.

(٥) في الباب عن ابن عمر رواه أحمد وأبو يعلى وابن عساكر وابن حبان.

(٦) في (ظ) و (ز) لأن وإسناد الجملة إليه دليل.

(٧) في (ز) مغازاتهم.

٣٥١

(وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (٥) وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦)

التخريب إزالة متحصّنهم ، وأن يتسع لهم مجال الحرب ، ومعنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين أنهم لما عرّضوهم بنكث العهد لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلّفوهم إياه (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فتأملوا فيما نزل بهؤلاء ، والسبب الذي استحقوا به ذلك ، فاحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم فتعاقبوا بمثل عقوبتهم ، وهذا دليل على جواز القياس.

٣ ـ (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) الخروج من الوطن مع الأهل والولد (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة (وَلَهُمْ) سواء أجلوا أو قتلوا (فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) الذي لا أشد منه.

٤ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي إنما أصابهم ذلك بسبب أنهم (شَاقُّوا اللهَ) خالفوه (وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) (١) (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

٥ ـ (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) هو بيان لما قطعتم ، ومحل ما نصب بقطعتم ، كأنه قيل أي شيء قطعتم ، وأنّث الضمير الراجع إلى ما في قوله (أَوْ تَرَكْتُمُوها) لأنه في معنى اللينة ، واللينة : النخلة من الألوان ، وياؤها عن واو قلبت لكسرة ما قبلها ، وقيل اللينة النخلة الكريمة كأنهم اشتقوها من اللين (قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) فقطعها وتركها بإذن الله (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) وليذلّ اليهود ويغيظهم أذن في قطعها.

٦ ـ (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) جعله فيئا له خاصة (مِنْهُمْ) من بني النضير (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) فلم يكن ذلك بإيجاف خيل أو ركاب منكم على ذلك ، والرّكاب الإبل ، والمعنى فما أوجفتم على تحصيله وتغنيمه خيلا ولا ركابا ولا تعبتم في القتال عليه وإنما مشيتم إليه على أرجلكم لأنه على ميلين من المدينة ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حمار فحسب (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) يعني

__________________

(١) في (ز) (يُشَاقِّ اللهَ) ورسوله تفسيرا (ز) فإن (ز).

٣٥٢

(وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٧) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨)

أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصّلوه بالقتال والغلبة ولكن سلّطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم ، فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء ولا يقسمه قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهرا ، فقسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة منهم لفقرهم (١) (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

٧ ـ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وإنما لم يدخل العاطف على هذه الجملة لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها ، بيّن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة ، وزيّف هذا القول بعض المفسرين وقال : الآية الأولى نزلت في أموال بني النضير وقد جعلها الله لرسوله خاصة ، وهذه الآية في غنائم كلّ قرية تؤخذ بقوة الغزاة ، وفي الآية بيان مصرف خمسها ، فهي مبتدأة (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً) تكون دولة يزيد على كان التامة ، والدّولة والدّولة ما يدول للإنسان أي يدور من الجدّ ، ومعنى قوله كيلا يكون دولة (بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) كيلا يكون الفيء الذي حقّه أن يعطى الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جدا بين الأغنياء يتكاثرون به (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) أي أعطاكم من قسمة غنيمة أو فيء (فَخُذُوهُ) فاقبلوه (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) عن أخذه منها (فَانْتَهُوا) عنه ولا تطلبوه (وَاتَّقُوا اللهَ) أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأجود أن يكون عاما في كل ما آتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونهى عنه ، وأمر الفيء داخل في عمومه.

٨ ـ (لِلْفُقَراءِ) بدل من قوله ولذي القربى ، والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من لله وللرسول وإن كان المعنى لرسول الله ، أن الله عزوجل أخرج رسوله من

__________________

(١) روى الواقدي عن أم العلاء أن الثلاثة هم سهل بن حنيف وأبو دجانة ، ونفل سيف بن أبي الحقيق سعد بن معاذ.

٣٥٣

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩)

الفقراء في قوله : وينصرون الله ورسوله ، وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عزوجل (الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) بمكة ، وفيه دليل على أنّ الكفار يملكون بالاستيلاء أموال المسلمين لأنّ الله تعالى سمى المهاجرين فقراء مع أنه كانت لهم ديار وأموال (يَبْتَغُونَ) حال (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي يطلبون الجنة ورضا (١) الله (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي ينصرون دين الله ويعينون رسوله (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في إيمانهم وجهادهم.

٩ ـ (وَالَّذِينَ) معطوف على المهاجرين وهم الأنصار (تَبَوَّؤُا الدَّارَ) توطنوا المدينة (وَالْإِيمانَ) وأخلصوا الإيمان كقوله : علفتها تبنا وماء باردا (٢) ، أو وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطّنا لهم لتمكّنهم منه (٣) واستقامتهم عليه كما جعلوا المدينة كذلك ، أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل المهاجرين لأنهم سبقوهم في تبوء دار الهجرة والإيمان ، وقيل من قبل هجرتهم (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) حتى شاطروهم أموالهم وأنزلوهم منازلهم ، ونزل من كانت له امرأتان عن إحديهما حتى تزوج بها رجل من المهاجرين (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) ولا يعلمون في أنفسهم طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرين من الفيء وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة يعني أنّ نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه ، وقيل حاجة حسدا مما أعطي المهاجرون من الفيء حيث خصّهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، وقيل لا يجدون في صدورهم مسّ حاجة من فقد ما أوتوا فحذف المضافان (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) فقر ، وأصلها خصاص البيت وهي فروجه ، والجملة في موضع الحال ، أي مفروضة خصاصتهم ، روي أنه

__________________

(١) في (ظ) و (ز) رضوان.

(٢) أي تبوّؤا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا.

(٣) ليس في (ظ) و (ز) منه.

٣٥٤

(وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (١١)

نزل برجل منهم ضيف فنوّم الصبية وقرّب الطعام وأطفأ المصباح ليشبع ضيفه ولا يأكل هو. وعن أنس : أهدي لبعضهم رأس مشوي وهو مجهود فوجهه إلى جاره فتداولته تسعة أنفس حتى عاد إلى الأول ، أبو يزيد (١) : قال لي شاب من أهل بلخ ما الزهد عندكم؟ قلت : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا عندنا كلاب بلخ بل إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الظافرون بما أرادوا ، الشحّ : اللؤم وأن تكون نفس الرجل كزّة حريصة على المنع ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، وقيل : الشحّ أكل مال أخيك ظلما ، والبخل منع مالك ، وعن كسرى : الشحّ أضرّ من الفقر لأن الفقير يتسع إذا وجد بخلاف الشحيح.

١٠ ـ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) عطف أيضا على المهاجرين ، وهم الذين هاجروا من بعد ، وقيل التابعون بإحسان ، وقيل من بعدهم إلى يوم القيامة ، قال عمر رضي الله عنه : دخل في هذا الفيء كلّ من هو مولود إلى يوم القيامة في الإسلام ، فجعل الواو للعطف فيهما ، وقرىء للذين فيهما (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) قيل هم المهاجرون والأنصار ، عائشة رضي الله عنها : أمروا بأن يستغفروا لهم فسبّوهم (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) حقدا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعني الصحابة (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وقيل لسعيد بن المسيب : ما تقول في عثمان وطلحة والزبير؟ قال : أقول ما قوّلنيه الله وتلا هذه الآية ، ثم عجّب نبيه بقوله :

١١ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) أي ألم تر يا محمد إلى عبد الله بن أبيّ وأشياعه (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني بني النضير ، والمراد إخوة الكفر (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) روي أنّ ابن أبيّ وأصحابه دسّوا إلى بني النضير حين حاصرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ، ولئن أخرجتم لنخرجنّ معكم (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) في قتالكم (أَحَداً أَبَداً) من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه ، أو في خذلانكم وإخلاف ما

__________________

(١) في (ز) أبو زيد ، والصواب أبو يزيد يعني البسطامي ترجمته في ٢٦ / ٢٢٧.

٣٥٥

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (١٢) لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (١٣) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ) (١٤)

وعدناكم من النّصرة (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في مواعيدهم لليهود ، وفيه دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب.

١٢ ـ (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) إنما قال ولئن نصروهم بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم على الفرض والتقدير ، كقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١) وكما يعلم ما يكون فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون ، والمعنى ولئن نصر المنافقون اليهود لينهزمنّ المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك ، أي يهلكهم الله ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم ، أو لينهزمنّ اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين.

١٣ ـ (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) أي أشدّ مرهوبية ، مصدر رهب المبني للمفعول ، وقوله (فِي صُدُورِهِمْ) دلالة على نفاقهم ، يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله وأنتم أهيب في صدورهم (مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حقّ خشيته.

١٤ ـ (لا يُقاتِلُونَكُمْ) لا يقدرون على مقاتلتكم (جَمِيعاً) مجتمعين ، يعني اليهود والمنافقين (إِلَّا) كائنين (فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) بالخنادق والدروب (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) جدار مكي وأبو عمرو (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا ، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة ، لأن الشجاع يجبن عند محاربة الله ورسوله (تَحْسَبُهُمْ) أي اليهود والمنافقين (جَمِيعاً) مجتمعين ذوي ألفة واتحاد (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرقة لا ألفة بينها ، يعني أنّ بينهم إحنا وعداوات فلا يتعاضدون حقّ التعاضد ، وهذا تحسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم (ذلِكَ) التفرق (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أنّ تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم.

__________________

(١) الزمر ، ٣٩ / ٦٥.

٣٥٦

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٥ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (١٦) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ١٧ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (١٨)

١٥ ـ (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثلهم كمثل أهل بدر ، فحذف المبتدأ (قَرِيباً) أي استقروا من قبلهم زمنا قريبا (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قولهم كلأ وبيل وخيم سيء العاقبة ، يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب النار.

١٦ ـ (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ثم متاركتهم لهم وإخلافهم كمثل الشيطان إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة ، وقيل المراد استغواؤه قريشا يوم بدر وقوله لهم : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) إلى قوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) (١).

١٧ ـ (فَكانَ عاقِبَتَهُما) عاقبة الإنسان الكافر والشيطان (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) عاقبتهما خبر كان مقدم ، وأن مع اسمها وخبرها أي في النار في موضع الرفع على الاسم ، وخالدين حال (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ).

١٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في أوامره فلا تخالفوها (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ) نكّر النفس تقليلا للأنفس النواظر فيما قدّمن للآخرة (ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) يعني يوم القيامة ، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريبا له ، أو عبّر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد ، وتنكيره لتعظيم أمره أي لغد لا يعرف كنهه لعظمه ، وعن مالك بن دينار : مكتوب على باب الجنة وجدنا ما عملنا ، ربحنا ما قدّمنا ، خسرنا ما خلّفنا (وَاتَّقُوا اللهَ) كرر الأمر بالتقوى تأكيدا ، أو اتقوا الله في أداء الواجبات ، لأنه قرن بما هو عمل ، واتقوا الله في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد ، وهو (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) وفيه تحريض على المراقبة ، لأن من علم (٢) أنّ الله مطلع على ما يرتكب من الذنوب يمتنع عنه.

__________________

(١) الأنفال ، ٨ / ٤٨.

(٢) زاد في (ظ) و (ز) وقت فعله.

٣٥٧

(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(٢١) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (٢٢)

١٩ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) تركوا ذكر الله عزوجل وما أمرهم به (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) فتركهم من ذكره بالرحمة والتوفيق (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله.

٢٠ ـ (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) هذا تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما ، وأنّ الفوز العظيم مع أصحاب الجنة ، والعذاب الأليم مع أصحاب النار ، فمن حقّهم أنّ يعلموا ذلك وينبّهوا عليه ، كما تقول لمن يعقّ أباه : هو أبوك ، تجعله بمنزلة من لا يعرفه ، فتنبّهه بذلك على حق الأبوّة الذي يقتضي البرّ والتعطّف ، وقد استدلت الشافعية بهذه الآية على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر ، وأنّ الكافر لا يملك مال المسلم بالاستيلاء ، وقد أجبنا عن مثل هذا في أصول الفقه و «الكافي».

٢١ ـ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي من شأن القرآن وعظمته أنه لو جعل في الجبل ، تمييز ، وأنزل عليه القرآن لخشع ، أي لخضع وتطأطأ وتصدّع ، أي تشقق من خشية الله ، وجائز أن يكون هذا تمثيلا كما في قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) (١) ويدلّ عليه قوله (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وهي إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل ، والمراد توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشّعه عند تلاوة القرآن وتدبّر قوارعه وزواجره. ثم رد على من أشرك وشبّهه بخلقه فقال :

٢٢ ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي السرّ والعلانية ، أو الدنيا والآخرة ، أو المعدوم والموجود (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ).

__________________

(١) الأحزاب ، ٣٣ / ٧٢.

٣٥٨

(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤)

٢٣ ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) الذي لا يزول ملكه (الْقُدُّوسُ) المنزه عن القبائح ، وفي تسبيح الملائكة سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح (السَّلامُ) الذي سلم الخلق من ظلمه ، عن الزّجّاج (الْمُؤْمِنُ) واهب الأمن ، وعن الزّجّاج : الذي أمن الخلق من ظلمه ، أو المؤمّن من عذابه من أطاعه (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب على كلّ شيء الحافظ له ، مفيعل من الأمن إلا أنّ همزته قلبت هاء (الْعَزِيزُ) الغالب غير المغلوب (الْجَبَّارُ) العالي العظيم الذي يذلّ له من دونه ، أو العظيم الشأن في القدرة والسلطان ، أو القهار ذو الجبروت (الْمُتَكَبِّرُ) البليغ الكبرياء والعظمة (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه ذاته عما يصفه به المشركون.

٢٤ ـ (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) المقدر لما يوجده (الْبارِئُ) الموجد (الْمُصَوِّرُ) في الأرحام (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الدالة على الصفات العلا (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ختم السورة بما بدأ به ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : سألت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الاسم الأعظم ، فقال : (عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته) فأعدت عليه فأعاد عليّ ، فأعدت عليه فأعاد عليّ (١).

__________________

(١) الثعلبي بسنده عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة.

٣٥٩

سورة الممتحنة

مدنية وهي ثلاث عشرة آية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

روي أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها : (أمسلمة جئت؟) قالت : لا. قال : (أفمهاجرة جئت؟) قالت : لا. قال : (فما جاء بك؟) قالت : احتجت حاجة شديدة ، فحث عليها بني عبد المطلب ، فكسوها وحملوها وزودوها ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير ، وكساها بردا ، واستحملها كتابا إلى أهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ، ونزل جبريل بالخبر ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا وعمارا وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرسانا ، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة ، فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها. فأدركوها ، فجحدت وحلفت ، فهمّوا بالرجوع ، فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسل سيفه وقال : أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك ، فأخرجته من عقاص شعرها (١). وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم (٢) ، فاستحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاطبا وقال : (ما حملك عليه؟) فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ

__________________

(١) ذكره الثعلبي والبغوي والواحدي بغير إسناد وفيه مخالفة شديدة لما في الصحيحين من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن علي ، والقصة رويت من غير واحد وطريق.

(٢) البيهقي في الدلائل. والأربعة هم : عبد العزى بن حنظل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وأم سارة مولاة لقريش.

٣٦٠