تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦) عُرُبًا أَتْرَابًا (٣٧) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (٤٣) لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (٤٨)

ابتدىء انشاؤهنّ أو اللاتي أعيد انشاؤهن ، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهن ، لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دلّ عليهن.

٣٦ ـ (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) عذارى ، كلما أتاهنّ أزواجهن وجدوهنّ أبكارا.

٣٧ ـ ٣٨ ـ (عُرُباً) عربا حمزة وخلف ويحيى وحماد ، جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعّل (أَتْراباً) مستويات في السنّ بنات ثلاث وثلاثين وأزواجهن كذلك ، واللام في (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) من صلة أنشأنا.

٣٩ ـ ٤٠ ـ (ثُلَّةٌ) أي أصحاب اليمين ثلة (مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فإن قلت كيف قال قبل هذا : وقليل من الآخرين ، ثم قال هنا : وثلة من الآخرين؟ قلت : ذاك في السابقين ، وهذا في أصحاب اليمين وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعا ، وعن الحسن : سابقو الأمم أكثر من سابقي أمتنا ، وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمة.

٤١ ـ ٤٤ ـ (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) الشمال والمشأمة واحدة (فِي سَمُومٍ) في حر نار ينفذ في المسام (وَحَمِيمٍ) وماء حار متناهي الحرارة (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) من دخان أسود (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) نفي لصفتي الظلّ عنه ، يريد أنه ظلّ ولكن لا كسائر الظلال ، سمّاه ظلا ثم نفى عنه برد الظلّ وروحه ونفعه من يأوي إليه من أذى الحرّ ، وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظلّ من الاسترواح إليه ، والمعنى أنه ظلّ حارّ ضارّ.

٤٥ ـ ٤٨ ـ (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي في الدنيا (مُتْرَفِينَ) منعّمين ، فمنعهم ذلك من الانزجار وشغلهم عن الاعتبار (وَكانُوا يُصِرُّونَ) يداومون (عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أي على الذنب العظيم ، أو على الشرك لأنه نقض عهد الميثاق ، والحنث نقض العهد المؤكّد باليمين ، أو الكفر بالبعث بدليل قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) (١) (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) تقديره

__________________

(١) النحل ، ١٦ / ٣٨.

٣٢١

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (٥٢) فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (٥٦)

أنبعث إذا متنا؟ ، وهو العامل في الظرف ، وجاز حذفه ، إذ مبعوثون يدل عليه ، ولا يعمل فيه مبعوثون لأن إنّ والاستفهام يمنعان أن يعمل ما بعدهما فيما قبلهما (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (١) دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف ، وحسن العطف على المضمر في لمبعوثون من غير توكيد بنحن للفاصل الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (٢) لفصل لا المؤكدة للنفي. أو آباؤنا مدني وشامي.

٤٩ ـ ٥٠ ـ (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) إلى ما وقّتت به الدنيا من يوم معلوم ، والإضافة بمعنى من كخاتم فضة ، والميقات ما وقّت به الشيء ، أي حدّ ، ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما.

٥١ ـ ٥٥ ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن الهدى (الْمُكَذِّبُونَ) بالبعث ، وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ) من لابتداء الغاية (مِنْ زَقُّومٍ) من لبيان الشجر (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) أنّث ضمير الشجر على المعنى وذكّره على اللفظ في منها وعليه (فَشارِبُونَ شُرْبَ) بضم الشين مدني وعاصم وحمزة وسهل ، وبفتح الشين غيرهم ، وهما مصدران (الْهِيمِ) هي إبل عطاش لا تروى ، جمع أهيم وهيماء ، والمعنى أنه يسلّط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقّوم الذي هو كالمهل ، فإذا ملؤوا منه البطون سلّط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطّع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم ، وإنما صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتين متفقتين لأن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضا ، فكانتا صفتين مختلفتين.

٥٦ ـ (هذا نُزُلُهُمْ) هو الرزق الذي يعدّ للناس تكرمة له (يَوْمَ الدِّينِ) يوم الجزاء.

__________________

(١) في مصحف النسفي : أو آباؤنا وهي قراءة.

(٢) الأنعام ، ٦ / ١٤٨.

٣٢٢

(نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٦٧)

٥٧ ـ (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا) فهلّا (تُصَدِّقُونَ) تحضيض على التصديق إمّا بالخلق ، لأنهم وإن كانوا مصدقين به إلا أنه لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم مكذبون به ، وإمّا بالبعث ، لأن من خلق أولا لم يمتنع عليه أن يخلق ثانيا.

٥٨ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) ما تمنونه ، أي تقذفونه في الأرحام من النطف.

٥٩ ـ (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) تقدّرونه وتصوّرونه وتجعلونه بشرا سويا (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ).

٦٠ ـ ٦١ ـ (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) تقديرا وقسمناه عليكم قسمة الرزق (١) على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا ، فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط ، قدرنا بالتخفيف مكي سبقته بالشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ، فمعنى قوله (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) إنا قادرون على ذلك لا يغلبونني (٢) عليه ، وأمثالكم جمع مثل ، أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها ، يعني أنا نقدر على الأمرين جميعا ، على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم ، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ويجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل أي على أن نبدل ونغيّر صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها.

٦٢ ـ (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) النشاءة مكي وأبو عمرو (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أنّ من قدر على شيء مرة لم يمتنع عليه ثانيا ، وفيه دليل صحة القياس حيث جهّلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.

٦٣ ـ ٦٧ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) ما تحرثونه من الطعام ، أي تثيرون الأرض

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الأرزاق.

(٢) في (ز) لا تغلبوننا.

٣٢٣

(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧١)

وتلقون فيها البذر (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) تنبتونه وتردّونه نباتا (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) المنبتون ، وفي الحديث : (لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت) (١) (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) هشيما متكسرا قبل إدراكه (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تعجّبون ، أو تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه ، أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها (إِنَّا) أي تقولون إنا ، أإنّا أبو بكر (لَمُغْرَمُونَ) لملزمون غرامة ما أنفقنا ، أو مهلكون لهلاك رزقنا ، من الغرام وهو الهلاك (بَلْ نَحْنُ) قوم (مَحْرُومُونَ) محارثون (٢) محدودون لا مجدودون ، لاحظّ لنا ولا بخت لنا ، ولو كنا مجدودين لما جرى علينا هذا.

٦٨ ـ ٧٠ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) أي الماء العذب الصالح للشرب (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) السحاب الأبيض ، وهو أعذب ماء (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) بقدرتنا (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) ملحا أو مرّا لا يقدر على شربه (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) فهلّا تشكرون ، ودخلت اللام على جواب لو في قوله لجعلناه حطاما ، ونزعت منه هنا لأنّ لو لمّا كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعليق (٣) الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة للشرط (٤) كإن ولا عاملة مثلها ، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيها أنّ الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك ، ولما شهر موقعه لم يبال بإسقاطه عن اللفظ لعلم كلّ أحد به ، وتساوي حالي حذفه وإثباته ، على أنّ تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية ، ولأن هذه اللام تفيد معنى التأكيد لا محالة فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أنّ المطعوم مقدّم على أمر المشروب ، وأنّ الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أنّ المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم ، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب.

٧١ ـ ٧٤ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ،

__________________

(١) ابن حبان والبزار والطبراني من طريق مخلد بن حسين بن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة.

(٢) في (ظ) و (ز) محارفون.

(٣) في (ز) تعلق.

(٤) في (ز) مخلصة الشرط.

٣٢٤

(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (٧٨) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠)

والعرب تقدح بعودين تحكّ أحدهما على الآخر ويسمّون الأعلى الزّند والأسفل الزّندة شبهوهما بالفحل والطّروقة (١) (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) التي منها الزّناد (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) الخالقون لها ابتداء (نَحْنُ جَعَلْناها) أي النار (تَذْكِرَةً) تذكيرا لنار جهنم حيث علّقنا بها أسباب المعاش ، وعممنا بالحاجة إليها البلوى ، لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به (وَمَتاعاً) ومنفعة (لِلْمُقْوِينَ) للمسافرين النازلين في القواء وهي القفر ، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام ، من قولهم أقوت الدار إذا خلت من ساكنيها ، بدأ بذكر خلق الإنسان فقال : أفرأيتم ما تمنون لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم ، ثم بما به (٢) قوامه وهو الحبّ ، فقال : أفرأيتم ما تحرثون ، ثم بما يعجن به ويشرب عليه وهو الماء ، ثم بما يخبز به وهو النار ، فحصول الطعام بمجموع الثلاثة ولا يستغني عنه الجسد ما دام حيا (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فنزّه ربّك عما لا يليق به أيها المستمع المستدلّ ، أو أراد بالاسم الذكر أي فسبح بذكر ربّك (الْعَظِيمِ) صفة للمضاف ، أو للمضاف إليه ، وقيل : قل سبحان ربي العظيم ، وجاء مرفوعا أنه لما نزلت هذه الآية قال : (اجعلوها في ركوعكم) (٣).

٧٥ ـ ٨٠ ـ (فَلا أُقْسِمُ) أي فأقسم ، ولا مزيدة مؤكدة مثلها في قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) (٤) وقرىء فلأقسم ، ومعناه فلأنا أقسم ، اللام لام الابتداء أدخلت (٥) على جملة من مبتدأ وخبر وهي أنا أقسم ، ثم حذف المبتدأ ، ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأن حقّها أن تقرن بها النون المؤكدة (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) بمساقطها ومغاربها ، بموقع حمزة وعلي ، ولعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالا مخصوصة عظيمة ، أو للملائكة عبادات موصوفة ، أو لأنه وقت قيام المتهجدين ونزول الرحمة والرضوان عليهم ، فلذلك أقسم بمواقعها ، واستعظم ذلك بقوله (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) وهو اعتراض في اعتراض لأنه اعترض به بين القسم والمقسم عليه ، وهو قوله (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) حسن مرضيّ ، أو نفّاع جمّ المنافع ، أو كريم على الله ، واعترض بلو تعلمون بين الموصوف وصفته (فِي

__________________

(١) الفحل والطروقة : الذكر والأنثى من الحيوان.

(٢) في (ز) فيه.

(٣) رواه الحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي في التلخيص.

(٤) الحديد ، ٥٧ / ٢٩.

(٥) في (ز) دخلت.

٣٢٥

أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (٨٧)

(كِتابٍ) أي اللوح المحفوظ (مَكْنُونٍ) مصون عن أن يأتيه الباطل ، أو من غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من جميع الأدناس ، أدناس الذنوب وغيرها إن جعلت الجملة صفة لكتاب مكنون ، وهو اللوح ، وإن جعلتها صفة للقرآن فالمعنى لا ينبغي أن يمسّه إلا من هو على الطهارة من الناس ، والمراد مسّ المكتوب منه (تَنْزِيلٌ) صفة رابعة للقرآن ، أي منزّل (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أو وصف بالمصدر لأنه نزل نجوما من بين سائر كتب الله ، فكأنه فى نفسه تنزيل ، ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه ، فقيل جاء في التنزيل كذا ، ونطق به التنزيل ، أو هو تنزيل على حذف المبتدأ.

٨١ ـ ٨٢ ـ (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) أي القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) متهاونون به ، كمن يدهن في بعض الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي تجعلون شكر رزقكم التكذيب ، أي وضعتم التكذيب موضع الشكر ، وفي قراءة علي رضي الله عنه وهي قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتجعلون شكركم أنكم تكذبون ، أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذّبون به ، وقيل نزلت في الأنواء ونسبتهم السّقيا إليها ، والرزق المطر ، أي وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله حيث تنسبونه إلى النجوم.

٨٣ ـ ٨٥ ـ (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ) النفس أي الروح عند الموت (الْحُلْقُومَ) ممرّ الطعام والشراب (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) الخطاب لمن حضر الميت تلك الساعة (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) إلى المحتضر (مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) لا تعقلون ولا تعلمون.

٨٦ ـ ٨٧ ـ (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) مربوبين ، من دان السلطان الرعية إذا ساسهم (تَرْجِعُونَها) تردّون النفس وهي الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنكم غير مربوبين مقهورين ، فلو لا في الآيتين للتحضيض يستدعي فعلا وذا قوله ترجعونها ، واكتفى بذكره مرة ، وترتيب الآية فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين ، وفلو لا الثانية مكررة للتأكيد ، ونحن أقرب إليه منكم يا أهل الميّت بقدرتنا وعلمنا ، أو بملائكة الموت ، والمعنى أنكم في جحودكم آيات الله في كلّ شيء ، إن أنزل عليكم كتابا معجزا قلتم سحر وافتراء ، وإن أرسل إليكم رسولا

٣٢٦

(فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦)

صادقا قلتم ساحر كذاب ، وإن رزقكم مطرا يحييكم به قلتم صدق نوء كذا ، على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل ، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثمة قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد.

٨٨ ـ ٨٩ ـ (فَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفى (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة (فَرَوْحٌ) فله استراحة (وَرَيْحانٌ) ورزق (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ).

٩٠ ـ ٩١ ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي يسلمون عليك كقوله : (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (١).

٩٢ ـ ٩٤ ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) هم الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة ، وهم الذين قيل لهم في هذه السورة : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) (٢) (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي إدخال فيها ، وفي هذه الآيات إشارة إلى أنّ الكفر كلّه ملة واحدة وأنّ أصحاب الكبائر من أصحاب اليمين لأنهم غير مكذبين.

٩٥ ـ ٩٦ ـ (إِنَّ هذا) الذي أنزل في هذه السورة (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي الحق الثابت من اليقين (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) روي أنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه في مرض موته فقال له : ما تشتكي؟ فقال : ذنوبي. فقال : ما تشتهي؟ قال : رحمة ربي ، قال : أفلا تدعو الطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني ، فقال : ألا نأمر بعطائك؟ قال : لا حاجة لي فيه ، قال : ندفعه إلى بناتك ، قال : لا حاجة لهنّ فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (من قرأ سورة الواقعة في كلّ ليلة لم تصبه فاقة أبدا) (٣) وليس في هذه السور الثلاث ذكر الله : اقتربت ، الرحمن ، الواقعة (٤).

__________________

(١) الآية ٢٦ من هذه السورة.

(٢) الآية ٥١ من هذه السورة.

(٣) كنز العمال ١ / ٢٦٤٠ ، ٢٧٠١.

(٤) زاد في (ز) والله أعلم.

٣٢٧

سورة الحديد

مدنية وقيل مكية وهي تسع وعشرون آية (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢)

٥٧ / ١ ـ ٢ ١ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ) جاء في بعض الفواتح سبّح بلفظ الماضي ، وفي بعضها بلفظ المضارع ، وفي «بني إسرائيل» بلفظ المصدر ، وفي «الأعلى» بلفظ الأمر استيعابا (٢) لهذه الكلمة من جميع جهاتها وهي أربع : المصدر والماضي والمضارع والأمر ، وهذا الفعل قد عدّي باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله : (وَتُسَبِّحُوهُ) (٣) وأصله التعدي بنفسه ، لأن معنى سبّحته بعّدّته من السوء منقول من سبح إذا ذهب وبعد ، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له ، وإما أن يراد بسبّح الله اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصا (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما يتأتى منه التسبيح ويصحّ (وَهُوَ الْعَزِيزُ) المنتقم من مكلّف لم يسبح له عنادا (الْحَكِيمُ) في مجازاة من سبّح له انقيادا.

٢ ـ (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا لغيره ، وموضع (يُحْيِي) رفع أي هو يحيي الموتى (وَيُمِيتُ) الأحياء ، أو نصب أي له ملك السماوات والأرض محييا ومميتا (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

__________________

(١) في (ظ) سورة الحديد تسع وعشرون آية مكية ، وفي (ز) سورة الحديد مكية وهي تسع وعشرون آية.

(٢) في (ز) استيعادا ، «وبني إسرائيل» الإسراء.

(٣) الفتح ، ٤٨ / ٩.

٣٢٨

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧)

٣ ـ (هُوَ الْأَوَّلُ) هو القديم الذي كان قبل كلّ شيء (وَالْآخِرُ) الذي يبقى بعد هلاك كلّ شيء (وَالظَّاهِرُ) بالأدلة الدالة عليه (وَالْباطِنُ) لكونه غير مدرك بالحواس وإن كان مرئيا ، والواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين ، فهو مستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن ، وقيل الظاهر العالي على كلّ شيء الغالب له ، من ظهر عليه إذا علاه وغلبه ، والباطن الذي بطن كلّ شيء أي علم باطنه (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

٤ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) عن الحسن : من أيام الدنيا ، ولو أراد أن يجعلها في طرفة عين لفعل ، ولكن جعل الستة أصلا ليكون عليها المدار (ثُمَّ اسْتَوى) استولى (عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) ما يدخل في الأرض من البذر والقطر والكنوز والموتى (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات وغيره (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الملائكة والأمطار (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الأعمال والدعوات (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) بالعلم والقدرة عموما وبالفضل والرحمة خصوصا (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم بحسب (١) أعمالكم.

٥ ـ ٦ ـ (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) يدخل الليل في النهار بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

٧ ـ (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا) يحتمل الزكاة والإنفاق في سبيل الله (مِمَّا

__________________

(١) في (ز) على حسب.

٣٢٩

وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (٩) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٠)

(جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) يعني أنّ الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها ، وإنما موّلكم إياها للاستمتاع بها ، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فليست هي بأموالكم في الحقيقة ، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنوّاب ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى ، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه ، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم (١) بتوريثه إياكم ، وسينقله منكم إلى من بعدكم ، فاعتبروا بحالهم ولا تبخلوا به (فَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسله (مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).

٨ ـ (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) هو حال من معنى الفعل في ما لكم ، كما تقول ما لك قائما ، بمعنى ما تصنع قائما ، أي وما لكم كافرين بالله ، والواو في (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) واو الحال ، فهما حالان متداخلتان ، والمعنى وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم (لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (٢) أو بما ركّب فيكم من العقول ومكّنكم من النظر في الأدلة ، فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لموجب ما فإنّ هذا الموجب لا مزيد عليه ، أخذ ميثاقكم أبو عمرو.

٩ ـ (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آياتٍ بَيِّناتٍ) يعني القرآن (لِيُخْرِجَكُمْ) الله تعالى ، أو محمد بدعوته (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ) بالمد والهمزة حجازي وشامي وحفص (رَحِيمٌ) الرأفة أشدّ الرحمة.

١٠ ـ (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا) في أن لا تنفقوا (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يرث كلّ شيء فيهما لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره ، يعني وأي غرض

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) فيما في أيديكم.

(٢) الأعراف ، ٧ / ١٧٢.

٣٣٠

(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٢)

لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم ، وهو من أبلغ البعث في (١) الإنفاق في سبيل الله ، ثم بيّن التفاوت بين المنفقين منهم فقال (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي فتح مكة قبل عزّ الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجا ومن أنفق من بعد الفتح ، فحذف لأنّ قوله : من الذين أنفقوا من بعد يدلّ عليه (أُولئِكَ) الذين أنفقوا قبل الفتح ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه) (٢) (أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا) أي وكلّ واحد من الفريقين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي المثوبة الحسنى ، وهي الجنة مع تفاوت الدرجات ، فكلّا مفعول أول لوعد ، والحسنى مفعول ثان ، وكلّ شامي أي وكلّ وعده الله الحسنى ، قيل (٣) نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه أول من أسلم ، وأول من أنفق في سبيل الله ، وفيه دليل على فضله وتقدّمه (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم على قدر أعمالكم.

١١ ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بطيب نفسه ، والمراد الإنفاق في سبيله ، واستعير لفظ القرض ليدلّ على التزام الجزاء (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) أي يعطيه أجره على إنفاقه أضعافا مضاعفة من فضله (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه ، فيضعّفه مكي ، فيضعّفه شامي ، فيضاعفه عاصم وسهل ، فيضاعفه غيرهم ، فالنصب على جواب الاستفهام ، والرفع على فهو يضاعفه ، أو عطف على يقرض.

١٢ ـ (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ظرف لقوله وله أجر كريم ، أو منصوب بإضمار اذكر تعظيما لذلك اليوم (يَسْعى) يمضي (نُورُهُمْ) نور التوحيد والطاعات ، وإنما قال (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين

__________________

(١) في (ظ) و (ز) على.

(٢) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(٣) ليس في (ظ) و (ز) قيل.

٣٣١

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (١٤)

الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم ، فيجعل النور في الجهتين شعارا لهم وآية ، لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا ، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومرّوا على الصراط يسعون سعى بسعيهم ذلك النور وتقول لهم الملائكة (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي دخول جنات ، لأن البشارة تقع بالأحداث دون الجثث (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

١٣ ـ (يَوْمَ يَقُولُ) هو بدل من يوم ترى (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا) أي انتظرونا ، لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة. أنظرونا حمزة من النظرة وهي الإمهال ، جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارا لهم (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) نصب منه ، وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) طرد لهم وتهكّم بهم ، أي تقول لهم الملائكة أو المؤمنون : ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوا (١) هنالك فمن ثمّ يقتبس ، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل سببه وهو الإيمان (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) بين المؤمنين والمنافقين (بِسُورٍ) بحائط حائل بين شقّ الجنة وشقّ النار ، قيل هو الأعراف (لَهُ) لذلك السور (بابٌ) لأهل الجنة يدخلون منه (باطِنُهُ) باطن السور أو الباب وهو الشقّ الذي يلي الجنة (فِيهِ الرَّحْمَةُ) أي النور أو الجنة (وَظاهِرُهُ) ما ظهر لأهل النار (مِنْ قِبَلِهِ) من عنده ومن جهته (الْعَذابُ) أي الظلمة أو النار.

١٤ ـ (يُنادُونَهُمْ) أي ينادي المنافقون المؤمنين (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) يريدون موافقتهم (٢) في الظاهر (قالُوا) أي المؤمنون (بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) محنتموها بالنفاق وأهلكتموها (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالمؤمنين الدوائر (وَارْتَبْتُمْ) وشككتم في التوحيد (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي الموت (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وغرّكم الشيطان بأنّ الله عفو كريم لا يعذبكم ، أو بأنه لا بعث ولا حساب.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) فالتمسوه.

(٢) في (ظ) و (ز) مرافقتهم.

٣٣٢

(فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٧)

١٥ ـ (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ) وبالتاء شامي (مِنْكُمْ) أيها المنافقون (فِدْيَةٌ) ما يفتدى به (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ) مرجعكم (هِيَ مَوْلاكُمْ) هي أولى بكم ، وحقيقة مولاكم محراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم ، كما يقال هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل إنه لكريم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار.

١٦ ـ (أَلَمْ يَأْنِ) من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه ، أي وقته ، قيل كانوا مجدبين بمكة ، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين (١). وعن ابن أبي بكر رضي الله عنه : إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا ، فنظر إليهم ، فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب (لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) بالتخفيف نافع وحفص ، الباقون نزّل ، وما بمعنى الذي ، والمراد بالذكر وما نزل من الحقّ القرآن ، لأنه جامع للأمرين للذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) القراءة بالياء عطف على تخشع ، وبالتاء ورش على الالتفات ، ويجوز أن يكون نهيا لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبّخوا ، وذلك أن بني إسرائيل كان الحقّ يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقّت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الأجل أو الزمان (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) باتباع الشهوات (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين ، أي وقليل منهم مؤمنون.

١٧ ـ (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) قيل هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب ، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض.

__________________

(١) مسلم والحاكم.

٣٣٣

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ(١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (٢٠)

١٨ ـ (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) بتشديد الدال وحده مكي وأبو بكر ، وهو اسم فاعل من صدّق ، وهم الذين صدّقوا الله ورسوله يعني المؤمنين. الباقون بتشديد الصاد والدال ، وهو اسم فاعل من تصدّق فأدغمت التاء في الصاد ، وقرىء على الأصل (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) هو عطف على معنى الفعل في المصدقين ، لأن اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى الفعل ، وهو اصّدّقوا ، كأنه قيل إنّ الذين اصّدقوا وأقرضوا ، والقرض الحسن أن يتصدق من الطيّب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة (يُضاعَفُ لَهُمْ) يضعّف مكي وشامي (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي الجنة.

١٩ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يريد أنّ المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء ، وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ، ويجوز أن يكون والشهداء مبتدأ ولهم أجرهم خبره (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

٢٠ ـ (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ) كلعب الصبيان (وَلَهْوٌ) كلهو الفتيان (وَزِينَةٌ) كزينة النّسوان (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) كتفاخر الأقران (وَتَكاثُرٌ) كتكاثر الدّهقان (١) (فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي مباهاة بهما ، والتكاثر ادعاء الاستكثار (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بعد خضرته (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) متفتتا ، شبّه حال الدنيا وسرعة تقضّيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث ، فاستوى وقوي ، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليه

__________________

(١) الدّهقان : بالكسر والضم القوي على التصرف مع حدة والتاجر ، وزعيم فلاحي العجم ورئيس الإقليم ، معرّب ، الجمع دهاقنة ودهاقين (القاموس ٤ / ٢٢٤).

٣٣٤

(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)(٢٢)

العاهة فهاج واصفرّ وصار حطاما عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب الجنة (١) ، وقيل الكفار الزّرّاع (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) للكفار (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) للمؤمنين ، يعني أنّ الدنيا وما فيها ليست إلا محقّرات من (٢) الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر ، وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام ، وهي العذاب الشديد والمغفرة والرضوان من الله الحميد ، والكاف في كمثل غيث في محل رفع على أنه خبر بعد خبر ، أي الحياة الدنيا مثل غيث (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) لمن ركن إليها واعتمد عليها ، قال ذو النون : يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا ، وإن طلبتموها فلا تحبوها ، فإن الزاد منها والمقيل في غيرها.

ولما حقّر الدنيا وصغّر أمرها وعظّم أمر الآخرة ، بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك ، وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة بقوله :

٢١ ـ (سابِقُوا) أي بالأعمال الصالحة (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وقيل سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) قال السّدّيّ : كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين ، وذكر العرض دون الطول لأنّ كلّ ما له عرض وطول فإن عرضه أقلّ من طوله ، فإذا وصف عرضه بالبسطة عرف أنّ طوله أبسط ، أو أريد بالعرض البسطة ، وهذا ينفي قول من يقول إنّ الجنة في السماء الرابعة لأن التي في إحدى السماوات لا تكون في عرض السماوات والأرض (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) وهذا دليل على أنها مخلوقة (ذلِكَ) الموعود من المغفرة والجنة (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) وهم المؤمنون ، وفيه دليل على أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ثم بيّن أنّ كلّ كائن بقضاء الله وقدره بقوله :

٢٢ ـ (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) من الجدب وآفات الزروع والثمار ، وقوله في الأرض في موضع الجر ، أي ما أصاب من مصيبة ثابتة في الأرض (وَلا فِي

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) وصاحب الجنتين.

(٢) في (ز) إلا من محقرات.

٣٣٥

لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٥)

(أَنْفُسِكُمْ) من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد (إِلَّا فِي كِتابٍ) في اللوح ، وهو في موضع الحال ، أي إلا مكتوبا في اللوح (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) من قبل أن نخلق الأنفس (إِنَّ ذلِكَ) إنّ تقدير ذلك وإثباته في كتاب (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وإن كان عسيرا على العباد ، ثم علل ذلك وبيّن الحكمة فيه بقوله :

٢٣ ـ (لِكَيْلا تَأْسَوْا) تحزنوا حزنا يطغيكم (عَلى ما فاتَكُمْ) من الدنيا وسعتها ، أو من العافية وصحتها (وَلا تَفْرَحُوا) فرح المختال الفخور (بِما آتاكُمْ) أعطاكم ، من الإيتاء. أبو عمرو أتاكم أي جاءكم من الإتيان ، يعني أنكم إذا علمتم أنّ كلّ شيء مقدر مكتوب عند الله قلّ أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي ، لأن من علم أنّ ما عنده مفقود لا محالة لم يتفاقم جزعه عند فقده ، لأنه وطّن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أنّ بعض الخير واصل إليه وأنّ وصوله لا يفوته بحال لم يعظم فرحه عند نيله ، وليس أحد إلا وهو يفرح عند منفعة تصيبه ويحزن عند مضرة تنزل به ، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكرا والحزن صبرا ، وإنما يذمّ من الحزن الجزع المنافي للصبر ومن الفرح الأشر المطغي الملهي عن الشكر (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه اختال وافتخر به وتكبّر على الناس.

٢٤ ـ (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل من كلّ مختال فخور ، كأنه قال لا يحبّ الذين يبخلون ، يريد الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالا وحظا من الدنيا ، فلحبّهم له وعزته عندهم يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) ويحضّون غيرهم على البخل ويرغّبونهم في الإمساك (وَمَنْ يَتَوَلَ) يعرض عن الإنفاق ، أو عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهي عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن جميع المخلوقات فكيف عنه (الْحَمِيدُ) في أفعاله. فإن الله الغني بترك هو مدني وشامي.

٢٥ ـ (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) يعني أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء (بِالْبَيِّناتِ)

٣٣٦

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (٢٦)

بالحجج والمعجزات (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي الوحي ، وقيل الرسل الأنبياء ، والأول أولى لقوله معهم ، لأن الأنبياء ينزل عليهم الكتاب (وَالْمِيزانَ) روي أنّ جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به (لِيَقُومَ النَّاسُ) ليتعاملوا بينهم إيفاء واستيفاء (بِالْقِسْطِ) بالعدل ولا يظلم أحد أحدا (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) قيل نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السّندان (١) والكلبتان (٢) والميقعة (٣) والمطرقة والإبرة (٤) ، وروي ومعه المرّ والمسحاة (٥) ، وعن الحسن : وأنزلنا الحديد خلقناه (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) وهو القتال به (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم ، فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها ، أو ما يعمل بالحديد (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين ، وقال الزّجّاج : ليعلم الله من يقاتل مع رسوله في سبيله (بِالْغَيْبِ) غائبا عنهم (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته (عَزِيزٌ) يربط بعزته جأش من يتعرض لنصرته ، والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة أنّ الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد والعهود ، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود ، ويأمر بالعدل والإحسان ، وينهى عن البغي والطغيان ، واستعمال العدل والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة يقع بها التعامل ويحصل بها التساوي والتعادل ، وهي الميزان ، ومن المعلوم أنّ الكتاب الجامع للأوامر الإلهية والآلة الموضوعة للتعامل بالسوية إنما يحفظ العام (٦) على اتباعهما بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد وعند ، ونزع عن صفقة الجماعة اليد ، وهو الحديد الذي وصف بالبأس الشديد.

٢٦ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) خصّا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم‌السلام (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا) أولادهما (النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) الوحي ، وعن ابن عباس رضي

__________________

(١) السندان : كتلة من الحديد يطرق الحداد عليها الحديد.

(٢) الكلبتان : ما يأخذ به الحداد الحديد المحمى (القاموس ١ / ١٢٥).

(٣) الميقعة : خشبة انتصار يدق عليها ، والمسن الطويل (القاموس ٣ / ٩٦).

(٤) الإبرة : مسلة الحديد (القاموس ١ / ٣٦١).

(٥) المرّ والمسحاة : الحبل والمسحاة ، أو مقبضها (القاموس ٢ / ١٣٢).

(٦) في (ظ) إنما تحفظ العام ، وفي (ز) إنما تحض العامة.

٣٣٧

(ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (٢٨)

الله عنهما : الخط بالقلم ، يقال كتب كتابا وكتابة (فَمِنْهُمْ) فمن الذرية ، أو من المرسل إليهم ، وقد دلّ عليهم ذكر الإرسال والمرسلين (مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) هذا تفصيل لحالهم ، أي فمنهم من اهتدى باتباع الرسل ومنهم من فسق ، أي خرج عن الطاعة ، والغلبة للفسّاق.

٢٧ ـ (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) أي نوح وإبراهيم ومن مضى من الأنبياء (بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً) مودة ولينا (وَرَحْمَةً) تعطّفا على إخوانهم ، كما قال في صفة أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (١) (وَرَهْبانِيَّةً) هي ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة ، وهي الفعلة المنسوبة إلى الرّهبان ، وهو الخائف ، فعلان من رهب كخشيان من خشي ، وانتصابها بفعل مضمر يفسّره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية (ابْتَدَعُوها) أي أخرجوها من عند أنفسهم ونذروها (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) لم نفرضها نحن عليهم (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) استثناء منقطع ، أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) كما يجب على الناذر رعاية نذره ، لأنه عهد مع الله لا يحلّ نكثه (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) أي أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه‌السلام ، والذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) الكافرون.

٢٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الخطاب لأهل الكتاب (اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُؤْتِكُمْ) الله (كِفْلَيْنِ) نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) لإيمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيمانكم بمن قبله (وَيَجْعَلْ لَكُمْ) يوم القيامة (نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) وهو النور المذكور في قوله : يسعى نورهم ، الآية (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) الفتح ، ٤٨ / ٢٩.

٣٣٨

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

٢٩ ـ (لِئَلَّا يَعْلَمَ) ليعلم (أَهْلُ الْكِتابِ) الذين لم يسلموا ، ولا مزيدة (أَلَّا يَقْدِرُونَ) أن مخففة من الثقيلة ، أصله أنه لا يقدرون ، يعني أنّ الشأن لا يقدرون (عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي لا ينالون شيئا مما ذكر من فضل الله من الكفلين والنور والمغفرة ، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ولم يكسبهم فضلا قط (وَأَنَّ الْفَضْلَ) عطف على أن لا يقدرون (بِيَدِ اللهِ) أي في ملكه وتصرفه (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) من عباده (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١).

__________________

(١) في (ظ) زاد : والله الموفق ، وفي (ز) والله أعلم.

٣٣٩

سورة المجادلة

مدنية وهي اثنتان وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١)

١ ـ (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ) تحاورك ، وقرىء بها ، وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت (١) أخي عبادة ، رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلّمت راودها ، فأبت ، فغضب ، فظاهر منها ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلما خلا سني ونثرت بطني ـ أي كثر ولدي ـ جعلني عليه كأمه. وروي أنها قالت : إن لي صبيانا (٢) صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما عندي في (٣) أمرك شيء). وروي أنه قال لها : (حرمت عليه) فقالت : يا رسول الله ما ذكر طلاقا وإنما هو أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ ، فقال : (حرمت عليه) فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي ، فكلما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرمت عليه هتفت وشكت ، فنزلت (٤) (فِي زَوْجِها) في شأنه ومعناه (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) تظهر ما بها من المكروه (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) مراجعتكما الكلام ، من حار إذا رجع (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع شكوى المضطر (بَصِيرٌ) بحاله.

__________________

(١) أوس بن الصامت : سبق ترجته في ٣١ / ٤.

(٢) في (ظ) و (ز) صبية.

(٣) في (أ) من.

(٤) الطبري والحاكم والدارقطني والبيهقي.

٣٤٠