تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) (٤٤)

ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شقّ (١) فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة. يلحدون حمزة (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) وعيد لهم على التحريف (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) هذا تمثيل للكافر والمؤمن (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) هذا نهاية في التهديد ومبالغة في الوعيد (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم عليه.

٤١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) بالقرآن ، لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرّفوا تأويله (لَمَّا جاءَهُمْ) حين جاءهم ، خبر إنّ محذوف ، أي يعذّبون ، أو هالكون ، أو أولئك ينادون من مكان بعيد ، وما بينهما اعتراض (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي منيع محميّ بحماية الله.

٤٢ ـ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) التبديل أو التناقض (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي بوجه من الوجوه (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) مستحقّ للحمد.

٤٣ ـ (ما يُقالُ لَكَ) ما يقول لك كفار قومك (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) ورحمة لأنبيائه (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) لأعدائهم ، ويجوز أن يكون ما يقول لك الله إلّا مثل ما قال للرسل من قبلك ، والمقول هو قوله إنّ ربّك لذو مغفرة وذو عقاب أليم.

٤٤ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي الذكر (قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) أي بلغة العجم ، كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم؟ فقيل في جوابهم : لو كان كما يقترحون (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي بيّنت بلسان العرب حتى نفهمها تعنتا (أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) بهمزتين كوفي غير حفص ، الهمزة للإنكار ، يعني لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمي

__________________

(١) زاد في (ز) فاستعير لحال الأرض إذا كانت ملحودة.

١٤١

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ) (٤٧)

ورسول عربي أو مرسل إليه عربي؟! الباقون بهمزة واحدة ممدودة مستفهمة ، والأعجميّ الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه سواء كان من العجم أو العرب ، والعجميّ منسوب إلى أمة العجم فصيحا كان أو غير فصيح ، والمعنى أنّ آيات الله على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنّتا لأنهم غير طالبين للحقّ وإنما يتبعون أهواءهم ، وفيه إشارة إلى أنه لو أنزله بلسان العجم لكان قرآنا فيكون دليلا لأبي حنيفة رضي الله عنه في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية (قُلْ هُوَ) أي القرآن (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) إرشاد إلى الحقّ (وَشِفاءٌ) لما في الصدور من الشكّ ، إذ الشكّ مرض (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) في موضع الجرّ لكونه معطوفا على للذين آمنوا ، أي هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، أي صمم ، إلا أنّ فيه عطفا على عاملين وهو جائز عند الأخفش ، أو الرفع وتقديره والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ ، أو في آذانهم منه وقر (وَهُوَ) أي القرآن (عَلَيْهِمْ عَمًى) ظلمة وشبهة (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعني أنهم لعدم قبولهم وانتفاعهم كأنهم ينادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعون لبعد المسافة ، وقيل ينادون في القيامة من مكان بعيد بأقبح الأسماء.

٤٥ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) فقال بعضهم هو حقّ ، وقال بعضهم هو باطل ، كما اختلف قومك في كتابك (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير العذاب (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) لأهلكهم ، إهلاك استئصال ، وقيل الكلمة السابقة هي العدة بالقيامة ، وأنّ الخصومات تفصل في ذلك اليوم ، ولو لا ذلك لقضى بينهم في الدنيا (وَإِنَّهُمْ) وإنّ الكفار (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) موقع للريبة (١).

٤٦ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) فنفسه نفع (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) فنفسه ضرّ (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فيعذب غير المسيء.

٤٧ ـ (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي علم قيامها يرد إليه ، أي يجب على

__________________

(١) في (ز) في الريبة.

١٤٢

(وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (٤٨) لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ) (٤٩)

المسؤول أن يقول الله يعلم ذلك (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ) مدني وشامي وحفص ، غيرهم بغير ألف (مِنْ أَكْمامِها) أوعيتها قبل أن تنشقّ ، جمع كمّ (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) حملها (وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي ما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به ، يعلم عدد أيام الحمل وساعته (١) وأحواله من الخداج (٢) والتمام والذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) أضافهم إلى نفسه على زعمهم ، وبيانه في قوله : أين شركائي ، الذين زعمتم ، وفيه تهكم وتقريع (قالُوا آذَنَّاكَ) أعلمناك ، وقيل أخبرناك وهو الأظهر إذ الله تعالى كان عالما بذلك ، وإعلام العالم محال ، أما الإخبار للعالم بالشيء فيتحقق بما علم به ، إلّا أن يكون المعنى إنك علمت من قلوبنا الآن إنا لنشهد تلك الشهادة الباطلة ، لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي ما منّا أحد (٣) يشهد بأنّ لك شريكا ، وما منّا إلا من هو موحّد لك ، أو ما منّا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلّوا عنهم وضلّت عنهم آلهتهم لا يبصرونها في ساعة التوبيخ ، وقيل هو كلام الشركاء ، أي ما منّا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة.

٤٨ ـ (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ) يعبدون (مِنْ قَبْلُ) في الدنيا (وَظَنُّوا) وأيقنوا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) مهرب.

٤٩ ـ (لا يَسْأَمُ) لا يملّ (الْإِنْسانُ) الكافر ، بدليل قوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) (٤) (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) من طلب السعة في المال والنعمة ، والتقدير من دعائه الخير فحذف الفاعل وأضيف إلى المفعول (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) الفقر (فَيَؤُسٌ) من الخير (قَنُوطٌ) من الرحمة ، بولغ فيه من طريقين ، من طريق بناء فعول ومن طريق التكرير ، والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر ، أي يقطع الرجاء من فضل الله وروحه ، وهذا صفة الكافر بدليل قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٥).

__________________

(١) في (ظ) و (ز) ساعاته.

(٢) الخداج : النقصان ، والخديج إذا ولد قبل تمام الأيام وإن كان تام الخلق.

(٣) زاد في (ظ) و (ز) اليوم.

(٤) الكهف ، ١٨ / ٣٦.

(٥) يوسف ، ١٢ / ٨٧.

١٤٣

(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)(٥٢)

٥٠ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) وإذا فرّجنا عنه بصحة بعد مرض ، أو سعة بعد ضيق ، قال هذا لي أي هذا حقي وصل إليّ لأني استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال بر ، أو هذا لي لا يزول عني (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي ما أظنّها تكون (١) (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) كما يقول المسلمون (إِنَّ لِي عِنْدَهُ) عند الله (لَلْحُسْنى) أي الجنة ، أو الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة قائسا أمر الآخرة على أمر الدنيا (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) فلنخبرنّهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) شديد لا يفتر عنهم.

٥١ ـ (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) هذا ضرب آخر من طغيان الإنسان ، إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة فنسي المنعم وأعرض عن شكره (وَنَأى بِجانِبِهِ) وتباعد عن ذكر الله ودعائه ، أو ذهب بنفسه وتكبّر وتعظّم ، وتحقيقه أن يوضع جانبه موضع نفسه لأنّ مكان الشيء وجهته ينزّل منزلة نفسه ، ومنه قول الكتّاب : كتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز ، يريدون نفسه وذاته ، فكأنه قال ونأى بنفسه (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) الضرّ والفقر (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) كثير أي أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع ، وقد استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه ، وهو من صفة الأجرام كما استعير الغلظ لشدة العذاب ، ولا منافاة بين قوله فيؤوس قنوط وبين قوله فذو دعاء عريض ، لأنّ الأول في قوم والثاني في قوم ، أو قنوط في البرّ وذو دعاء عريض في البحر ، أو قنوط بالقلب ذو دعاء عريض باللسان ، أو قنوط من الصنم ذو دعاء لله تعالى.

٥٢ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ كانَ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) ثم جحدتم أنه من عند الله (مَنْ أَضَلُ) منكم ، إلا أنه وضع قوله

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) قائمة.

١٤٤

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)(٥٤)

(مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) موضع منكم بيانا لحالهم وصفتهم.

٥٣ ـ (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) من فتح البلاد شرقا وغربا (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فتح مكّة (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) أي القرآن أو الإسلام (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) موضع بربّك الرفع على أنه فاعل والمفعول محذوف ، وقوله (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بدل منه تقديره أو لم يكفهم أنّ ربّك على كلّ شيء شهيد ، أي أو لم تكفهم شهادة ربّك على كلّ شيء ، ومعناه أنّ هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه فيتبينون عند ذلك أنّ القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كلّ شيء شهيد.

٥٤ ـ (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ) شكّ (مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها فلا تخفى عليه خافية فيجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربّهم.

١٤٥

سورة الشورى (١)

مكية وهي ثلاث وخمسون آية

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

(حم (١) عسق (٢) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٤)

١ ـ ٢ ـ فصل (حم) من (عسق) كتابة مخالفا لكهيعص تلفيقا بأخواتها ، ولأنه آيتان وكهيعص آية واحدة.

٣ ـ (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) أي مثل ذلك الوحي ، أو مثل ذلك الكتاب يوحى إليك (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) وإلى الرسل من قبلك (اللهُ) يعني أنّ ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله وفي غيرها من السور وأوحاه إلى من قبلك ، يعني إلى رسله ، والمعنى أنّ الله كرّر هذه المعاني في القرآن وفي جميع الكتب السماوية لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من نبي صاحب كتاب إلا أوحي إليه بحم عسق. يوحى بفتح الحاء مكي. ورافع اسم الله على هذه القراءة ما دلّ عليه يوحي ، كأن قائلا قال : من الموحي؟ فقيل : الله (الْعَزِيزُ) الغالب بقهره (الْحَكِيمُ) المصيب في فعله وقوله.

٤ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا (وَهُوَ الْعَلِيُ) شأنه (الْعَظِيمُ) برهانه.

__________________

(١) في جميع النسخ بدون أل التعريف.

١٤٦

(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٧)

٥ ـ (تَكادُ السَّماواتُ) وبالياء نافع وعليّ (يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) يتشقّقن ، ينفطرن بصري وأبو بكر ، ومعناه يكدن ينفطرن من علوّ شأن الله وعظمته ، يدل عليه مجيئه بعد قوله العلي العظيم ، وقيل من دعائهم له ولدا كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) (١) ومعنى من فوقهنّ أي يبتدىء الانفطار من جهتهنّ الفوقانية ، وكان القياس أن يقال ينفطرن من تحتهنّ من الجهة التي جاءت منها كلمة الكفر لأنها جاءت من الذين تحت السماوات ، ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق ، كأنه قيل يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهنّ دع الجهة التي تحتهنّ ، وقيل من فوقهنّ من فوق الأرضين (٢) ، فالكناية راجعة إلى الأرض لأنه بمعنى الأرضين ، وقيل يتشققن لكثرة ما على السماوات من الملائكة ، قال عليه‌السلام : (أطت السماء أطا وحقّ لها أن تئطّ ما فيها موضع قدم إلّا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد) (٣) (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) خضوعا لما يرون من عظمته (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي للمؤمنين منهم كقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (٤) خوفا عليهم من سطواته ، أو يوحّدون الله وينزّهونه عما لا يجوز عليه من الصفات ، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه ، متعجبين مما رأوا من تعرضهم لسخط الله تعالى ، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الذي تبرؤوا من تلك الكلمة ، أو يطلبون إلى ربّهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لهم.

٦ ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي جعلوا له شركاء وأندادا (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) رقيب على أحوالهم (٥) وأعمالهم لا يفوته منها شيء ، فيجازيهم عليها (وَما أَنْتَ) يا محمد (عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) بموكل عليهم ولا مفوّض إليك أمرهم إنما أنت منذر فحسب.

٧ ـ (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وذلك إشارة إلى معنى الآية التي

__________________

(١) مريم ، ١٩ / ٩٠.

(٢) في (ز) الأرض.

(٣) كنز العمال ، ١٠ / ٢٩٨٣٠ ، ٢٩٨٦٥.

(٤) غافر ، ٤٠ / ٧.

(٥) في (ز) أقوالهم.

١٤٧

(وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١٠)

قبلها من أنّ الله رقيب عليهم لا أنت بل أنت منذر ، لأن هذا المعنى كرّره الله في كتابه فالكاف (١) مفعول به لأوحينا (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال من المفعول به ، أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربيّ بيّن (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أي مكة ، لأنّ الأرض دحيت من تحتها ، ولأنها أشرف البقاع ، والمراد أهل أمّ القرى (وَمَنْ حَوْلَها) من العرب (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) يوم القيامة ، لأن الخلائق تجمع (٢) فيه (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض لا محلّ له ، يقال : أنذرته كذا وأنذرته بكذا ، وقد عدّي لتنذر أمّ القرى إلى المفعول الأول ، وتنذر يوم الجمع إلى المفعول الثاني (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير ، والضمير للمجموعين ، لأن المعنى يوم جمع الخلائق.

٨ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي مؤمنين كلّهم (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي يكرم من يشاء بالإسلام (وَالظَّالِمُونَ) والكافرون (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ) شافع (وَلا نَصِيرٍ) دافع.

٩ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) الفاء لجواب شرط مقدر ، كأنه قيل بعد إنكار كلّ ولي سواه إن أرادوا وليا (٣) بحقّ فالله هو الوليّ بالحقّ ، وهو الذي يجب أن يتولى وحده لا وليّ سواه (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو الحقيق بأن يتّخذ وليّا دون من لا يقدر على شيء.

١٠ ـ (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) حكاية قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين ، أي ما خالفكم (٤) فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدّين (فَحُكْمُهُ) أي حكم ذلك المختلف فيه مفوض (إِلَى اللهِ) وهو إثابة المحقّين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين (ذلِكُمُ) الحاكم بينكم (اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فيه ردّ كيد أعداء الدين (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أرجع في كفاية شرّهم ، وقيل وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه

__________________

(١) في (ز) أو هو.

(٢) في (ز) تجتمع.

(٣) في (ظ) و (ز) أولياء.

(٤) في (ظ) و (ز) خالفتكم.

١٤٨

(فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (١١) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٢)

فقولوا الله أعلم كمعرفة الروح وغيره.

١١ ـ (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ارتفاعه على أنه أحد أخبار ذلكم ، أو خبر مبتدأ محذوف (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) خلق لكم من جنسكم من الناس (أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي وخلق للأنعام أيضا من أنفسها أزواجا (يَذْرَؤُكُمْ) يكثّركم ، يقال ذرأ الله الخلق بثّهم وكثّرهم (فِيهِ) في هذا التدبير ، وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، واختير فيه على به لأنه جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبثّ والتكثير ، والضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطبين والأنعام مغلّبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيّب مما لا يعقل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) قيل إنّ كلمة التشبيه كرّرت لتأكيد نفي التماثل ، وتقديره ليس مثله شيء ، وقيل المثل زيادة وتقديره ليس كهو شيء ، كقوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) (١) وهذا لأنّ المراد نفي المثليّة ، وإذا لم تجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل ، وقيل المراد ليس كذاته شيء ، لأنهم يقولون مثلك لا يبخل ، يريدون به نفي البخل عن ذاته ، ويقصدون المبالغة في ذلك بسلوك طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه فقد نفوه عنه ، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله ليس كالله شيء وبين قوله ليس كمثله شيء إلّا ما تعطيه الكناية من فائدتها ، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد ، وهو نفي المماثلة عن ذاته ، ونحوه : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (٢) فمعناه بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها ، لأنها وقعت عبارة عن الجود حتى إنهم استعملوها فيمن لا يد له ، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له (وَهُوَ السَّمِيعُ) لجميع المسموعات بلا أذن (الْبَصِيرُ) بجميع (٣) المرئيات بلا حدقة ، وكأنه ذكرهما لئلا يتوهّم أنه لا صفة له كما لا مثل له.

١٢ ـ (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مرّ في الزّمر (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يضيّق (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ١٣٧.

(٢) المائدة ، ٥ / ٦٤.

(٣) في (ظ) و (ز) لجميع.

١٤٩

(شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (١٣) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ) (١٤)

١٣ ـ (شَرَعَ) بيّن وأظهر (لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء عليهم‌السلام ، ثم فسّر المشروع الذي أشرك (١) هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) والمراد إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء ، وسائر ما يكون المرء بإقامته مسلما ، ولم يرد به الشرائع فإنها مختلفة قال الله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (٢) ومحلّ أن أقيموا نصب بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه ، أو رفع على الاستئناف ، كأنه قيل : وما ذلك المشروع؟ فقيل : هو إقامة الدين (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ولا تختلفوا في الدين ، قال عليّ رضي الله عنه : لا تتفرقوا فالجماعة رحمة والفرقة عذاب (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) عظم عليهم وشقّ عليهم (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من إقامة دين الله والتوحيد (اللهُ يَجْتَبِي) يجتلب ويجمع (إِلَيْهِ) إلى الدين بالتوفيق والتسديد والتثبيت (٣) (مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) يقبل على طاعته.

١٤ ـ (وَما تَفَرَّقُوا) أي أهل الكتاب بعد أنبيائهم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) إلا من بعد أن علموا أنّ الفرقة ضلال وأمر متوعّد عليه على ألسنة الأنبياء عليهم‌السلام (بَغْياً بَيْنَهُمْ) حسدا وطلبا للرياسة والاستطالة بغير حقّ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهي : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) (٤) (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) لأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترفوا (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من كتابهم لا يؤمنون به حقّ الإيمان (مُرِيبٍ) مدخل في الريبة ، وقيل وما تفرّق أهل الكتاب إلّا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما

__________________

(١) في (ظ) و (ز) اشترك.

(٢) المائدة ، ٥ / ٤٨.

(٣) ليس في (ظ) و (ز) والتثبيت.

(٤) القمر ، ٥٤ / ٤٦.

١٥٠

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) (١٦)

(جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١) وإنّ الذين أورثوا الكتاب من بعدهم هم المشركون أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل.

١٥ ـ (فَلِذلِكَ) فلأجل ذلك التفرّق ولما حدث بسببه من تشعّب الكفر شعبا (فَادْعُ) إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفيّة القديميّة (٢) (وَاسْتَقِمْ) عليها وعلى الدعوة إليها (كَما أُمِرْتَ) كما أمرك الله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المختلفة الباطلة (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي كتاب صحّ أنّ الله تعالى أنزله ، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة ، لأنّ المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض كقوله : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) (٣) إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) (٤) (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي كلّنا عبيده (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) هو كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٥) ويجوز أن يكون معناه إنّا لا نؤاخذ بأعمالكم وأنتم لا تؤاخذون بأعمالنا (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا خصومة لأنّ الحقّ قد ظهر وصرتم محجوبين به فلا حاجة إلى المحاجّة ، ومعناه لا إيراد حجة بيننا لأنّ المحتاجين يورد هذا حجته وهذا حجته (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) المرجع لفصل القضاء فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم.

١٦ ـ (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) يخاصمون في دينه (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام ليردّوهم إلى دين الجاهلية كقوله : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) (٦) كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين كتابنا قبل كتابكم ونبيّنا قبل نبيّكم فنحن خير منكم وأولى بالحق ، وقيل من بعد ما استجيب لمحمد عليه‌السلام دعاؤه في (٧) المشركين يوم بدر

__________________

(١) البينة ، ٩٨ / ٤.

(٢) في (ظ) و (ز) القوية.

(٣) النساء ، ٤ / ١٥٠.

(٤) النساء ، ٤ / ١٥١.

(٥) الكافرون ، ١٠٩ / ٦.

(٦) البقرة ، ٢ / ١٠٩.

(٧) في (ظ) للمشركين ، وفي (ز) على المشركين.

١٥١

(اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ) (١٩)

(حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) باطلة ، وسماها حجّة وإن كانت شبهة لزعمهم أنها حجّة (عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) بكفرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة.

١٧ ـ (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) أي جنس الكتاب (بِالْحَقِ) بالصدق ، أي (١) ملتبسا به (وَالْمِيزانَ) والعدل والسّويّة (٢) ، ومعنى إنزال العدل أنه أنزله في كتبه المنزلة ، وقيل هو عين الميزان أنزله في زمن نوح عليه‌السلام (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي لعل الساعة قريب منك وأنت لا تدري ، والمراد مجيء الساعة ، أو الساعة في تأويل البعث ، ووجه مناسبة اقتراب الساعة مع إنزال الكتب والميزان أنّ الساعة يوم الحساب ووضع الموازين بالقسط ، فكأنه قيل أمركم الله بالعدل والسوية (٣) والعمل بالشرائع ، فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ووزن أعمالكم.

١٨ ـ (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استهزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) (٤) خائفون وجلون لهولها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) الكائن لا محالة (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) المماراة الملاحّة ، لأنّ كلّ واحد منهما يمري ما عند صاحبه (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحقّ ، لأن قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله تعالى ، وقد دلّ الكتاب والسنة على وقوعها ، والعقول تشهد على أنه لا بدّ من دار جزاء.

١٩ ـ (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) في إيصال المنافع وصرف البلاء من وجه يلطف إدراكه ، أو (٥) برّ بليغ البرّ بهم قد توصّل برّه إلى جميعهم ، وقيل هو من لطف بالغوامض علمه وعظم عن الجرائم حلمه ، أو من ينشر المناقب ويستر المثالب ، أو يعفو عمن يهفو ، أو يعطي العبد فوق الكفاية ويكلّفه الطاعة دون الطاقة. وعن الجنيد : لطف بأوليائه فعرفوه ولو لطف بأعدائه ما جحدوه (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي

__________________

(١) في (ز) أو.

(٢ و ٣) في (ز) والتسوية.

(٤) في (ظ) و (ز) : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ) خائفون (مِنْها) وجلون لهولها.

(٥) في (ز) وهو.

١٥٢

(مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ) (٢٢)

يوسع رزق من يشاء إذا علم مصلحته فيه ، في الحديث : (إنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك) (١) (وَهُوَ الْقَوِيُ) الباهر القدرة الغالب على كلّ شيء (الْعَزِيزُ) المنيع الذي لا يغلب.

٢٠ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) سمّي ما يعمله العامل مما يبغي (٢) به الفائدة حرثا مجازا (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) بالتوفيق في عمله ، أو التضعيف في حسناته (٣) ، أو بأن ينال به الدنيا والآخرة (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) أي من كان عمله للدنيا ولم يؤمن بالآخرة (نُؤْتِهِ مِنْها) أي شيئا منها ، لأنّ من للتبعيض ، وهو رزقه الذي قسم له لا ما يريده ويبتغيه (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) وما له نصيب قط في الآخرة (٤) ، ولم يذكر في عوامل (٥) الآخرة أنّ رزقه المقسوم يصل إليه للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب.

٢١ ـ (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) قيل هي أم المنقطعة ، وتقديره بل ألهم شركاء ، وقيل هي المعادلة لألف الاستفهام ، وفي الكلام إضمار تقديره أيقبلون ما شرع الله من الدّين أم لهم آلهة (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) أي لم يأمر به (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء ، أو (٦) ولو لا العدة بأنّ الفصل يكون يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الكافرين والمؤمنين ، أو لعجّلت لهم العقوبة (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وإنّ المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة وإن أخّر عنهم في دار الدنيا.

٢٢ ـ (تَرَى الظَّالِمِينَ) المشركين في الآخرة (مُشْفِقِينَ) خائفين (مِمَّا

__________________

(١) استشهد به في الآية ٦٢ من سورة العنكبوت.

(٢) في (ظ) و (ز) يبتغي.

(٣) في (ظ) و (ز) إحسانه.

(٤) زاد في (ز) وله في الدنيا نصيب.

(٥) في (ظ) و (ز) عامل.

(٦) في (ظ) و (ز) أي.

١٥٣

ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٢٣)

(كَسَبُوا) من جزاء كفرهم (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) نازل بهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) عند نصب بالظرف لا بيشاؤون (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) على العمل القليل.

٢٣ ـ (ذلِكَ) أي الفضل الكبير (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ) يبشر مكي وأبو عمرو وحمزة وعليّ (عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي به عبادة (١) فحذف الجار ، كقوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (٢) ثم حذف الراجع إلى الموصول كقوله : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٣) ولما قال المشركون : أيبتغي محمد على تبليغ الرسالة أجرا نزل (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على التبليغ (أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) يجوز أن يكون استثناء متصلا أي لا أسألكم عليه أجرا إلا هذا ، وهو أن تودّوا أهل قرابتي ، ويجوز أن يكون منقطعا ، أي لا أسألكم أجرا قط ، ولكني أسألكم أن تودّوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم ، ولم يقل إلا مودة القربى أو المودة للقربى لأنهم جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها ، كقولك لي في آل فلان مودة ، ولي فيهم حبّ شديد ، تريد أحبّهم وهم مكان حبّي ومحله ، وليست في بصلة للمودة كاللام إذا قلت إلا المودة للقربى إنما هي متعلقة بمحذوف تعلّق الظرف به في قولك المال في الكيس ، وتقديره إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها ، والقربى مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة ، والمراد في أهل القربى ، وروي أنه لما نزلت قيل : يا رسول الله من قرابتكم هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال : (علي وفاطمة وابناهما) (٤) وقيل معناه إلّا أن تودّوني لقرابتي فيكم ، ولا تؤذوني ، ولا تهيّجوا عليّ ، إذ لم يكن من بطون قريش إلّا بين رسول الله وبينهم قرابة (٥) ، وقيل القربى التقرّب إلى الله تعالى ، أي إلّا أن تحبوا

__________________

(١) زاد في (ز) الذين آمنوا.

(٢) الأعراف ، ٧ / ١٥٥.

(٣) الفرقان ، ٢٥ / ٤١.

(٤) الطبراني وابن أبي حاتم والحاكم في مناقب الشافعي.

(٥) أصله في البخاري عن ابن عباس وفيه : لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. وذكر الطبري اختلاف أهل التأويل في هذه الآية وذكر أقوالهم وأدلتهم.

١٥٤

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (٢٥)

الله ورسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) يكتسب طاعة ، عن السّدّي : أنها المودة في آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، ومودته فيهم ، والظاهر العموم في أي حسنة كانت إلّا أنها تتناول المودة تناولا أوليا لذكرها عقيب ذكر المودة في القربى (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي نضاعفها ، كقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) (١) وقرىء حسنى ، وهو مصدر كالبشرى ، والضمير يعود إلى الحسنة أو إلى الجنة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن أذنب بطوله (شَكُورٌ) لمن أطاع بفضله ، وقيل قابل للتوبة حامل عليها ، وقيل الشكور في صفة الله تعالى عبارة عن الاعتداد بالطاعة وتوفية ثوابها والتفضّل على المثاب.

٢٤ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أم منقطعة ، ومعنى الهمزة فيه التوبيخ ، كأنه قيل : أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء ، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) قال مجاهد : أي يربط على قلبك بالصبر على أذاهم وعلى قولهم افترى على الله كذبا لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) أي الشرك ، وهو كلام مبتدأ غير معطوف على يختم ، لأن محو الباطل غير متعلق بالشرط بل هو وعد مطلق دليله تكرار اسم الله تعالى ، ورفع ويحقّ ، وإنما سقطت الواو في الخط كما سقطت في (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) (٢) و (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (٣) على أنها مثبتة في مصحف نافع (وَيُحِقُّ الْحَقَ) ويظهر الإسلام ويثبته (بِكَلِماتِهِ) بما أنزل من كتابه على لسان نبيّه عليه‌السلام ، وقد فعل الله ذلك ، فمحا باطلهم وأظهر الإسلام (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك.

٢٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) يقال : قبلت منه الشيء إذا أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي ، ويقال : قبلته عنه أي عزلته عنه وأبنته عنه ، والتوبة أن يرجع عن

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ٢٤٥.

(٢) الإسراء ، ١٧ / ١١.

(٣) العلق ، ٩٦ / ١٨.

١٥٥

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢٧)

القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعاود (١) وإن كان لعبد فيه حق لم يكن بد من التّفصّي على طريقه وقال علي رضي الله عنه : هو اسم يقع على ستة معان ، على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، وردّ المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كلّ ضحك ضحكته. وعن السدي : هو صدق العزيمة على ترك الذنوب ، والإنابة بالقلب إلى علّام الغيوب. وعن غيره : هو أن لا يجد حلاوة الذنب في القلب عند ذكره. وعن سهل : هو الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وعن الجنيد : هو الإعراض عما دون الله (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) هي (٢) ما دون الشرك ، يعفو لمن يشاء بلا توبة (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) بالتاء كوفي غير أبي بكر ، أي من التوبة والمعصية ، ولا وقف عليه للعطف عليه واتصال المعنى.

٢٦ ـ (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي إذا دعوه استجاب دعاءهم ، وأعطاهم ما طلبوه وزادهم على مطلوبهم ، واستجاب وأجاب بمعنى ، والسين في مثله لتوكيد الفعل كقولك تعظّم واستعظم ، والتقدير ويجيب الله الذين آمنوا ، وقيل معناه ويستجيب للذين فحذف اللام. منّ عليهم بأن يقبل توبتهم إذا تابوا ويعفو عن سيئاتهم ويستجيب لهم إذا دعوه ويزيدهم على ما سألوه ، وعن ابن أدهم (٣) أنه قيل له ما بالنا ندعوه فلا نجاب؟ قال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة.

٢٧ ـ (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ) أي لو أغناهم جميعا (لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) من البغي الظلم (٤) ، أي لبغى هذا على ذاك ، وذاك على هذا ، لأن الغنى مبطرة مأشرة ، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة ، أو من البغي وهو الكبر أي لتكبّروا في الأرض (وَلكِنْ يُنَزِّلُ) بالتخفيف مكي وأبو عمرو (بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) بتقدير ، يقال قدره قدرا

__________________

(١) في (ظ) و (ز) يعود.

(٢) في (ظ) وهي ، وفي (ز) وهو.

(٣) في (ظ) و (ز) وعن إبراهيم بن أدهم.

(٤) في (ز) وهو الظلم.

١٥٦

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ (٢٩) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (٣٠)

وقدرا (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) يعلم أحوالهم فيقدّر لهم ما تقتضيه حكمته ، فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ، ويقبض ويبسط ، ولو أغناهم جميعا لبغوا ، ولو أفقرهم لهلكوا ، وما ترى من البسط على من يبغي ومن البغي بدون البسط فهو قليل ، ولا شكّ أنّ البغي مع الفقر أقلّ ومع البسط أكثر وأغلب.

٢٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) بالتشديد مدني وشامي وعاصم (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) وقرىء قنطوا (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب ، وقيل لعمر رضي الله عنه : اشتدّ القحط وقنط الناس ، فقال مطروا إذا ، أراد هذه الآية ، أو أراد رحمته في كلّ شيء (وَهُوَ الْوَلِيُ) الذي يتولى عباده بإحسانه (الْحَمِيدُ) المحمود على ذلك ، يحمده أهل طاعته.

٢٩ ـ (وَمِنْ آياتِهِ) أي علامات قدرته (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مع عظمهما (وَما بَثَ) فرّق ، وما يجوز أن يكون مرفوعا ومجرورا حملا على المضاف أو المضاف إليه (فِيهِما) في (١) السماوات والأرض (مِنْ دابَّةٍ) الدواب تكون في الأرض وحدها ، لكن يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان ملتبسا ببعضه ، كما يقال بنو تميم فيهم شاعر مجيد ، وإنما هو في فخذ من أفخاذهم ، ومنه قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢) وإنما يخرج من الملح ، ولا يبعد أن يخلق في السماوات حيوانات يمشون فيها مشي الأناسي على الأرض ، أو يكون للملائكة مشي مع الطيران فوصفوا بالدبيب كما وصف به الأناسي (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ) يوم القيامة (إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) إذا تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي ، قال الله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (٣).

٣٠ ـ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) غمّ وألم ومكروه (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بجناية كسبتموها عقوبة عليه (٤). بما كسبت (٥) مدني وشامي على أنّ ما مبتدأ وبما

__________________

(١) في (ز) من وهو خطأ من الناسخ.

(٢) الرحمن ، ٥٥ / ٢٢.

(٣) الليل ، ٩٢ / ١.

(٤) في (ظ) و (ز) عليكم.

(٥) في (ز) بما كسبت بغير الفاء.

١٥٧

(وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٣٣)

كسبت خبره من غير تضمين معنى الشرط ، ومن أثبت الفاء فعلى تضمين معنى الشرط. وتعلّق بهذه الآية من يقول بالتناسخ (١) وقال : لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألّموا ، وقلنا : الآية مخصوصة بالمكلّفين بالسباق والسياق وهو (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي من الذنوب فلا يعاقب عليه ، أو عن كثير من الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة ، وقال ابن عطاء : من لم يعلم أنّ ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه ، وأنّ ما عفا عنه مولاه أكثر كان قليل النظر في إحسان ربّه إليه ، وقال محمد ابن حامد (٢) : العبد ملازم للجنايات في كلّ أوان وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه ، لأن جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه ، والله يطهّر عبده من جناياته بأنواع من المصائب ليخفّف عنه أثقاله في القيامة ، ولو لا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة ، وعن علي رضي الله تعالى عنه : هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن لأنّ الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانيا وإذا عفا لا يعود.

٣١ ـ (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي بفائتين ما قضي عليكم من المصائب (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) من (٣) متول بالرحمة (وَلا نَصِيرٍ) ناصر يدفع عنكم العذاب إذا حلّ بكم.

٣٢ ـ (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) جمع جارية وهي السفينة ، الجواري في الحالين مكي وسهل ويعقوب ، وافق (٤) مدني وأبو عمر في الوصل (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) كالجبال.

٣٣ ـ (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) الرياح مدني (فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ) ثوابت لا تجري (عَلى ظَهْرِهِ) على ظهر البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه ، أي لكلّ مؤمن مخلص ، فالإيمان نصفان ، نصف شكر ونصف صبر ، أو صبّار على طاعته شكور لنعمته.

__________________

(١) التناسخ : انتقال أرواح الموتى إلى أجساد جديدة وهو على مراتب.

(٢) محمد بن حامد ، أبو عبد الله الحامدي شاعر وأديب من أعيان خوارزم غير معروف تاريخ ولادته ، توفي نحو ٤٠٥ ه‍ (الأعلام ٦ / ٧٧).

(٣) ليس في (ظ) و (ز) من.

(٤) في (ز) وافقهم.

١٥٨

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (٣٥) فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (٣٨)

٣٤ ـ (أَوْ يُوبِقْهُنَ) يهلكهنّ ، فهو عطف على يسكن ، والمعنى إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها (بِما كَسَبُوا) من الذنوب (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) منها ، فلا يجازي عليها ، وإنما أدخل العفو في حكم الإيباق حيث جزم جزمه ، لأن المعنى أو إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم.

٣٥ ـ (وَيَعْلَمَ) بالنصب عطف على تعليل محذوف تقديره لينقم (١) منهم ويعلم (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) أي في إبطالها ودفعها ، ويعلم مدني وشامي على الاستئناف (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) مهرب من عذابه.

٣٦ ـ (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ما الأولى ضمّنت معنى الشرط فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية ، نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدّق بجميع ماله فلامه الناس.

٣٧ ـ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) عطف على الذين آمنوا ، وكذا ما بعده (كَبائِرَ الْإِثْمِ) أي الكبائر من هذا الجنس ، كبير الإثم عليّ وحمزة ، وعن ابن عباس : كبير الإثم هو الشرك (وَالْفَواحِشَ) قيل ما عظم قبحه فهو فاحشة كالزنا (وَإِذا ما غَضِبُوا) من أمور دنياهم (هُمْ يَغْفِرُونَ) أي هم الأخصّاء بالغفران في حال الغضب والمجيء بهم ، وإيقاعه مبتدأ وإسناد يغفرون إليه لهذه الفائدة ، ومثله هم ينتصرون.

٣٨ ـ (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) نزلت في الأنصار دعاهم الله عزوجل للإيمان به وطاعته فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) وأتموا الصلوات الخمس (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي ذو شورى لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه ، وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم (٢). والشورى مصدر كالفتيا بمعنى

__________________

(١) في (ظ) و (ز) لينتقم.

(٢) ابن أبي شيبة ، والبخاري في الأدب ، وعبد الله بن أحمد في زيادات الزهد.

١٥٩

(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٤٢)

التشاور (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) يتصدّقون.

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) الظلم (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ينتقمون ممن ظلمهم ، أي يقتصرون في الانتصار على ما جعله الله تعالى لهم ، ولا يعتدون ، وكانوا يكرهون أن يضلوا (١) أنفسهم فيجترىء عليهم الفسّاق ، وإنما حمدوا على الانتصار لأنّ من انتصر وأخذ حقّه ولم يجاوز في ذلك حدّ الله فلم يسرف في القتل إن كان ولي دم فهو مطيع لله وكلّ مطيع محمود. ثم بيّن حدّ الانتصار فقال :

٤٠ ـ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فالأولى سيئة حقيقة والثانية لا ، وإنما سمّيت سيئة لأنها مجازاة بسوء (٢) ، أو لأنها تسوء من تنزل به ، ولأنه لو لم تكن الأولى لكانت الثانية سيئة ، لأنها إضرار ، وإنما صارت حسنة لغيرها ، وفي تسمية الثانية سيئة إشارة إلى أنّ العفو مندوب إليه ، والمعنى أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين يبدأون بالظلم ، أو الذين يجاوزون حدّ الانتصار. في الحديث : (ينادي مناد يوم القيامة من كان له أجر على الله فليقم فلا يقوم إلّا من عفا) (٣).

٤١ ـ (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي أخذ حقّه بعد ما ظلم على إضافة المصدر إلى المفعول (فَأُولئِكَ) إشارة إلى معنى من دون لفظه (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) للمعاقب ولا للمعاتب والمعايب.

٤٢ ـ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) يبتدئونهم بالظلم (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) يتكبّرون فيها ويعلون ويفسدون (بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وفسّر السبيل بالتبعة والحجّة.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) يذلوا.

(٢) في (ظ) لسوء ، وفي (ز) السوء.

(٣) رواه العقيلي والطبراني في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب عن الحسن بن أنس مرفوعا ، وله طريق أخرى عن الثعلبي عن ابن عباس والبيهقي عن عبد الله بن عمر ، انظر كنز العمال ٣ / ٧٠٠٨.

١٦٠