تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (٦١)

٥٩ ـ (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) لا بدّ من مجيئها وليس بمرتاب فيها لأنّه لا بدّ من جزاء لئلا يكون خلق الخلق للفناء خاصة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون بها.

٦٠ ـ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي) اعبدوني (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أثبكم ، فالدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن ويدلّ عليه قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) وقال عليه‌السلام : (الدعاء هو العبادة) وقرأ هذه الآية صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١). وعن ابن عباس رضي الله عنهما : وحدوني أغفر لكم ، وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد ، وقيل سلوني أعطكم (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ) سيدخلون مكي وأبو بكر (٢) (داخِرِينَ) صاغرين.

٦١ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) هو من الإسناد المجازي أي مبصرا فيه ، لأنّ الإبصار في الحقيقة لأهل النهار ، وقرن الليل بالمفعول له والنهار بالحال ولم يكونا حالين أو مفعولا لهما رعاية لحقّ المقابلة ، لأنهما متقابلان معنى ، لأنّ كلّ واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر ، ولأنه لو قيل لتبصروا فيه فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي ، ولو قيل ساكنا لم تتميز الحقيقة من المجاز إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة ، ألا ترى إلى قولهم ليل ساج أي ساكن لا ريح فيه (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) ولم يقل لمفضّل أو لمتفضّل لأنّ المراد تنكير الفضل ، وأن يجعل فضلا لا يوازيه فضل ، وذلك إنما يكون بالإضافة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ولم يقل ولكن أكثرهم حتى لا يتكرر ذكر الناس ، لأن في هذا التكرير تخصيصا لكفران النعمة بهم ، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا

__________________

(١) رواه أصحاب السنن عن النعمان بن بشير.

(٢) في (ظ) و (ز) مكي وأبو عمرو ، والصواب ما أثبتناه من (أ). انظر الغاية في القراءات العشر ص ٢٥٤ حيث يقول : (سَيَدْخُلُونَ) بالضم مكي ويزيد وأبو بكر ـ غير الشموني ـ وعباس ورويس وروح ـ غير الضرير ـ وسهل.

١٢١

(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(٦٤)

يشكرونه كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) (١) وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٢).

٦٢ ـ (ذلِكُمُ) الذي خلق لكم الليل والنهار (اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الربوبية والإلهية وخلق كلّ شيء والوحدانية (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف ومن أي وجه يصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان.

٦٣ ـ (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي كلّ من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يطلب الحقّ أفك كما أفكوا.

٦٤ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) مستقرا (وَالسَّماءَ بِناءً) سقفا فوقكم (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) قيل لم يخلق حيوانا أحسن صورة من الإنسان ، وقيل لم يخلقهم منكوسين كالبهائم (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) اللذيذات (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

٦٥ ـ (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ) فاعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الطاعة من الشرك والرياء قائلين (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله ربّ العالمين (٣).

ولمّا طلب الكفار منه عليه‌السلام عبادة الأوثان نزل :

٦٦ ـ (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) هي القرآن ، وقيل العقل والوحي (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ) أستقيم وأنقاد (لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

__________________

(١) الحج ، ٢٢ / ٦٦.

(٢) إبراهيم ، ١٤ / ٣٤.

(٣) الطبري والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات.

١٢٢

(هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٧٢)

٦٧ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي أصلكم (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) اقتصر على الواحد لأنّ المراد بيان الجنس (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) متعلق بمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا ، وكذلك (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) وبكسر الشين مكي وحمزة وعليّ وحماد ويحيى والأعشى (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بلوغ الأشدّ ، أو من قبل الشيوخة (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) معناه ويفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى وهو وقت الموت أو يوم القيامة (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ما في ذلك من العبر والحجج.

٦٨ ـ (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي فإنما يكوّنه سريعا من غير كلفة.

٦٩ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) ذكر الجدال في هذه السورة في ثلاثة مواضع فجاز أن يكون في ثلاثة أقوام أو ثلاثة أصناف أو للتأكيد.

٧٠ ـ (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) بالقرآن (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من الكتب (١) (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

٧١ ـ ٧٢ ـ (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) إذ ظرف زمان ماض ، والمراد به الاستقبال هنا لقوله (٢) : فسوف يعلمون. وهذا لأنّ الأمور المستقبلة لمّا كانت في أخبار الله تعالى مقطوعا بها عبّر عنها بلفظ ما كان ووجد ، والمعنى على الاستقبال (وَالسَّلاسِلُ) عطف على الأغلال ، والخبر في أعناقهم ، والمعنى إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم (يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ) يجرّون في الماء الحار (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) من سجر التنور إذ ملأه بالوقود ، ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم ،

__________________

(١) في (ز) الكتاب.

(٢) في (ز) والمراد به هنا الاستقبال كقوله.

١٢٣

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (٧٤) ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)(٧٧)

وهم مسجورون بالنار مملوءة بها أجوافهم.

٧٣ ـ ٧٤ ـ (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ) أي تقول لهم الخزنة (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام التي كنتم (١) تعبدونها (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا ننتفع بهم (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي تبيّن لنا أنهم لم يكونوا شيئا ، وما كنّا نعبد بعبادتهم شيئا ، كما تقول حسبت أنّ فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيرا (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلّهم عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا ، أو كما أضلّ هؤلاء المجادلين يضلّ سائر الكافرين الذين علم منهم اختيار الضلالة على (٢) الدين.

٧٥ ـ (ذلِكُمْ) العذاب الذي نزل بكم (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بغير الحقّ وهو الشرك وعبادة الأوثان فيقال لهم :

٧٦ ـ (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) السبعة المقسومة لكم. قال الله تعالى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٣) (خالِدِينَ فِيها) مقدرين الخلود (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) عن الحقّ جهنم.

٧٧ ـ (فَاصْبِرْ) يا محمد (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بإهلاك الكفار (حَقٌ) كائن (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) أصله فإن نريك وما مزيدة لتوكيد معنى الشرط ولذلك ألحقت النون بالفعل ألا تراك لا تقول إن تكرمنّي أكرمك ولكن إمّا تكرمنّي أكرمك (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) هذا الجزاء متعلق بنتوفينّك وجزاء نرينّك محذوف وتقديره فإمّا (٤) نرينّك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل يوم بدر فذاك أو إن نتوفينّك قبل يوم بدر (٥) فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشدّ الانتقام.

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) كنتم.

(٢) في (أ) عن.

(٣) الحجر ، ١٥ / ٤٤.

(٤) في (ز) وإما.

(٥) سقط من (ظ) من : هذا الجزاء إلى يوم بدر.

١٢٤

 

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ) (٨١)

٧٨ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) إلى أممهم (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) قيل بعث الله ثمانية آلاف نبيّ : أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس. وعن عليّ رضي الله عنه : إنّ الله تعالى بعث نبيا أسود (١) ، فهو ممن لم تذكر قصته في القرآن (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وهذا جواب اقتراحهم الآيات عنادا ، يعني إنا قد أرسلنا كثيرا من الرسل وما كان لواحد منهم أن يأتي بآية إلا بإذن الله فمن لي (٢) بأن آتي بآية مما تقترحونه إلّا أن يشاء الله ويأذن في الإتيان بها (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي القيامة (٣) وهو وعيد ورد عقيب اقتراحهم الآيات (قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) المعاندون الذين اقترحوا الآية (٤).

٧٩ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ) خلق (لَكُمُ الْأَنْعامَ) الإبل (لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها.

٨٠ ـ (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي الألبان والأوبار (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) أي لتبلغوا عليها ما تحتاجون إليه من الأمور (وَعَلَيْها) وعلى الأنعام (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي على الأنعام وحدها لا تحملون ولكن عليها وعلى الفلك في البرّ والبحر.

٨١ ـ (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) أنها ليست (٥) من عند الله ، وأيّ نصب بتنكرون وقد جاءت على اللغة المستفيضة وقولك فأية آيات الله قليل لأنّ التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه.

__________________

(١) الطبري والطبراني في الأوسط.

(٢) في (ز) فمن أين لي.

(٣) في (ز) يوم القيامة.

(٤) في (ظ) اقترحوا الآيات ، وفي (ز) اقترحوا الآيات عنادا.

(٥) سقط من (ز) ليست.

١٢٥

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (٨٥)

٨٢ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) عددا (وَأَشَدَّ قُوَّةً) بدنا (١) (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) قصورا ومصانع (٢) (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ما نافية (ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

٨٣ ـ (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) يريد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣) فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظّلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤوا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به ، أو علم الفلاسفة والدهريين فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه‌السلام وقيل له : لو هاجرت إليه ، فقال : نحن قوم مهذّبون فلا حاجة بنا إلى من يهذّبنا ، أو المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم ، فرح ضحك منه ، واستهزاء به كأنه قال : استهزؤوا بالبينات وبما جاؤوا به من علم الوحي فرحين مرحين ، ويدلّ عليه قوله (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أو الفرح للرسل أي الرسل لما رأوا جهلهم واستهزاءهم بالحقّ وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه ، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.

٨٤ ـ (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) شدّة عذابنا (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ).

٨٥ ـ (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي فلم يصحّ ولم يستقم أن

__________________

(١) في (أ) بدلا ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) مصانع : حصون.

(٣) الروم ، ٣٠ / ٧.

١٢٦

ينفعهم إيمانهم (سُنَّتَ اللهِ) بمنزلة وعد الله ونحوه من المصادر المؤكدة (الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أن الإيمان عند نزول العذاب لا ينفع وأنّ العذاب نازل بمكذبي الرسل (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) هنا لك مكان مستعار للزمان والكافرون خاسرون في كلّ أوان ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب ، وفائدة ترادف الفاءات في هذه الآيات أنّ فما أغنى عنهم نتيجة قوله كانوا أكثر منهم ، وفلما جاءتهم رسلهم (١) كالبيان والتفسير لقوله فما أغنى عنهم كقولك (٢) رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء ، وفلما رأوا بأسنا تابع لقوله فلما جاءتهم كأنه قال فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا ، وكذلك فلم يك ينفعهم إيمانهم تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله (٣).

__________________

(١) ليس في (أ) رسلهم.

(٢) في (أ) كقوله.

(٣) زاد في (ز) والله أعلم.

١٢٧

سورة فصلت (١)

مكية وهي أربع (٢) وخمسون آية

بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم

(حم (١) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) (٤)

١ ـ (حم) إن جعلته اسما للسورة كان مبتدأ.

٢ ـ (تَنْزِيلٌ) خبره ، وإن جعلته تعديدا للحروف كان تنزيل خبرا لمبتدأ محذوف وكتاب بدل من تنزيل أو خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أو تنزيل مبتدأ (مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفته.

٣ ـ (كِتابٌ) خبره (فُصِّلَتْ آياتُهُ) ميّزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة من أحكام وأمثال ومواعظ ووعد ووعيد وغير ذلك (قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب على الاختصاص والمدح ، أي أريد بهذا الكتاب المفصّل قرآنا من صفته كيت وكيت ، أو على الحال أي فصلت آياته في حال كونه قرآنا عربيا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصّلة المبينة بلسانهم العربي ، ولقوم يتعلق بتنزيل أو بفصلت ، أي تنزيل من الله لأجلهم ، أو فصلت آياته لهم ، والأظهر أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب.

٤ ـ (بَشِيراً وَنَذِيراً) صفتان لقرآنا (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا

__________________

(١) في (أ) و (ظ) سورة حم السجدة وفي المصحف المتداول فصلت.

(٢) في (أ) و (ظ) ثلاث وخمسون.

١٢٨

(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) (٧)

يقبلون ، من قولك تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي ، ولقد سمعه ولكنه لمّا لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه فكأنه لم يسمعه.

٥ ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أغطية جمع كنان وهو الغطاء (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) ثقل يمنع من استماع قولك (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) ستر ، وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبّل الحقّ واعتقاده كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها ومجّ إسماعهم له كأن بها صمما عنه ، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وما هم عليه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما هو عليه حجابا ساترا وحاجزا منيعا من جبل أو نحوه ، فلا تلاقي ولا ترائي (فَاعْمَلْ) على دينك (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا ، أو فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ، وفائدة زيادة من أنّ الحجاب ابتدأ منّا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها ، ولو قيل بيننا (١) وبينك حجاب لكان المعنى أنّ حجابا حاصل وسط الجهتين.

٦ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) هذا جواب لقولهم : قلوبنا في أكنّة ، ووجهه أنه قال لهم : إني لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم وقد أوحي إلى دونكم ، فصحّت نبوّتي بالوحي إليّ ، وأنا بشر ، وإذا صحّت نبوّتي وجب عليكم اتباعي ، وفيما يوحى إليّ أنّ إلهكم إله واحد (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يمينا ولا شمالا ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء (وَاسْتَغْفِرُوهُ) من الشرك (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ).

٧ ـ (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) لا يؤمنون بوجوب الزكاة ولا يعطونها ، أو لا يفعلون ما يكونون به أزكياء ، وهو الإيمان (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) بالبعث والثواب والعقاب (هُمْ كافِرُونَ) وإنما جعل منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة لأنّ أحبّ شيء إلى الإنسان ماله ، وهو شقيق روحه ، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته وصدق نيته ونصوع طويّته ، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة (٢) من الدنيا

__________________

(١) في (ز) بينا.

(٢) اللمظة : النقطة السوداء في القلب.

١٢٩

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ) (١٠)

فقرّت عصبيتهم ولانت شكيمتهم ، وما ارتدت بنو حنيفة (١) إلا بمنع الزكاة ، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة وتخويف شديد من منعها.

٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) مقطوع ، قيل نزلت في المرضى والزّمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كما (٢) كانوا يعملون.

٩ ـ (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) الأحد والاثنين (٣) تعليما للأناة ، ولو أراد أن يخلقها في لحظة لفعل (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) شركاء وأشباها (ذلِكَ) الذي خلق ما سبق (رَبُّ الْعالَمِينَ) خالق جميع الموجودات وسيدها ومربيها.

١٠ ـ (وَجَعَلَ فِيها) في الأرض (رَواسِيَ) جبالا ثوابت (مِنْ فَوْقِها) إنما اختار إرساءها فوق الأرض لتكون منافع الجبال ظاهرة لطالبيها ، وليبصر أنّ الأرض والجبال أثقال على أثقال كلّها مفتقرة إلى ممسك وهو الله عزوجل (وَبارَكَ) بالماء والزرع والشجر والثمر (فِيها) في الأرض ، وقيل وبارك فيها وأكثر خيرها (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم ، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه وقسم فيها أقواتها (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) في تتمة أربعة أيام ، يريد بالتتمة اليومين ، تقول : سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة وإلى الكوفة في خمسة عشر أي تتمة خمسة عشر ولا بدّ من هذا التقدير لأنه لو أجري على الظاهر لكانت ثمانية أيام ، لأنه قال خلق الأرض في يومين ، ثم قال : وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام ، ثم قال : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (٤) ، فيكون خلاف قوله : في ستة أيام في موضع آخر (٥) ، وفي الحديث : (إنّ الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء

__________________

(١) بنو حنيفة : من قبائل العرب كانت تسكن اليمامة ، ارتدت بقيادة مسيلمة الكذاب ، قاتلهم المسلمون فقتلوا مسيلمة وعادت بنو حنيفة إلى الإسلام.

(٢) في (ظ) و (ز) كأصح ما كانوا يعملون.

(٣) الطبري.

(٤) الآية رقم ١٢ من هذه السورة.

(٥) الأعراف ، ٧ / ٥٤. يونس ، ١٠ / ٣. هود ، ١١ / ٧. السجدة ، ٣٢ / ٤. ق ، ٥٠ / ٣٨. الحديد ، ٥٧ / ٤.

١٣٠

(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (١١)

وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعمران والخراب ، فتلك أربعة أيام وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة وخلق آدم عليه‌السلام في آخر ساعة من يوم الجمعة) (١) قيل هي الساعة التي تقوم فيها القيامة (سَواءً) ـ بالجر (٢) ـ يعقوب صفة للأيام أي في أربعة أيام مستويات تامات ، سواء بالرفع يزيد أي هي سواء ، غيرهما سواء على المصدر أي استوت سواء أي استواء ، أو على الحال (لِلسَّائِلِينَ) متعلق بقدّر ، أي قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها والمحتاجين إليها ، لأنّ كلّا يطلب القوت ويسأله ، أو بمحذوف كأنه قيل هذا الحصر لأجل من سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها؟.

١١ ـ (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) هو مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد ، تقول العرب : فعل فلان كذا ، ثم استوى إلى عمل كذا ، يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني ، ويفهم منه أنّ خلق السماء كان بعد خلق الأرض ، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما ، وعنه أنه قال : أول ما خلق الله تعالى جوهرة طولها وعرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة ، فنظر إليها بالهيبة فذابت واضطربت ، ثم ثار منها دخان بتسليط النار عليها ، فارتفع واجتمع زبد ، فقام فوق الماء ، فجعل الزبد أرضا والدخان سماء ، ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد أن يكوّنهما فلم يمتنعا عليه ، ووجدتا كما أرادهما ، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع ، وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين لأنه قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوّة ثم دحاها بعد خلق السماء كما قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣) فالمعنى أن ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، ائتي يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك ، وائتي يا سماء مقبّبة (٤) سقفا لهم ، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما تقول أتى عمله مرضيّا ، وقوله طوعا

__________________

(١) الطبري نحوه وأتم منه ، كنز العمال ٦ / ١٥١٢١ و ١٥٢٥١.

(٢) في مصحف النسفي : (سَواءً) لذلك أضفنا ـ بالجر ـ ليتسق المعنى ، قال الحافظ أبو بكر بن مهران : (سَواءً) رفع يزيد ، جر يعقوب (الغاية في القراءات العشر ص ٢٥٥).

(٣) النازعات ، ٧٩ / ٣٠ ، دحاها : بسطها (القاموس ٤ / ٣٢٧).

(٤) في (ظ) و (ز) مقبية.

١٣١

(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ١٣ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (١٤)

أو كرها لبيان تأثير قدرته فيهما ، وأنّ امتناعهما من تأثير قدرته محال كما تقول لمن تحت يدك : لتفعلنّ هذا شئت أو أبيت ولتفعلنّه طوعا أو كرها ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين ، وإنما لم يقل طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سموات وأرضون ، لأنهنّ لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بالطوع والكره قيل طائعين في موضع طائعات كقوله : (السَّاجِدِينَ) (١).

١٢ ـ (فَقَضاهُنَ) فأحكم خلقهن. قال : وعليهما مسرودتان قضاهما (٢). والضمير يرجع إلى السماء لأنّ السماء للجنس ، ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسّرا بقوله (سَبْعَ سَماواتٍ) والفرق بين النصبين في سبع سماوات أنّ الأول على الحال والثاني على التمييز (فِي يَوْمَيْنِ) في يوم الخميس والجمعة (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) ما أمر به فيها ودبّره من خلق الملائكة والنّيّران وغير ذلك (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) القريبة من الأرض (بِمَصابِيحَ) بكواكب (وَحِفْظاً) وحفظناها من المسترقة بالكواكب حفظا (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الغالب غير المغلوب (الْعَلِيمِ) بمواقع الأمور.

١٣ ـ (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإيمان بعد هذا البيان (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ) خوّفتكم (صاعِقَةً) عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة ، وأصلها رعد معه نار (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ).

١٤ ـ (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي أتوهم من كلّ جانب وعملوا فيهم كلّ حيلة فلم يروا منهم إلا الإعراض ، وعن الحسن : أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة (ان) بمعنى أي ، أو مخففة من الثقيلة ، أصله بأنه (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ قالُوا) أي القوم (لَوْ شاءَ رَبُّنا) إرسال الرسل ، فمفعول شاء محذوف (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) معناه فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فإنّا لا نؤمن بكم وبما جئتم به ، وقوله أرسلتم به ليس بإقرار بالإرسال وإنما

__________________

(١) الحجر ، ١٥ / ٢٩. ص ، ٣٨ / ٧٢.

(٢) استشهد به في سورة طه الآية ٧٢.

١٣٢

(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ) (١٦)

هو على كلام الرسل وفيه تهكم ، كما قال فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (١) وقولهم : فإنا بما أرسلتم به كافرون ، خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم ، روي أنّ قريشا بعثوا عتبة بن ربيعة ، وكان أحسنهم حديثا ليكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينظر ما يردّ (٢) ، فأتاه وهو في الحطيم (٣) ، فلم يسأل شيئا إلا أجابه ، ثم قرأ عليه‌السلام السورة إلى قوله مثل صاعقة عاد وثمود ، فناشده بالرحم وأمسك على فيه ، ووثب مخافة أن يصبّ عليهم العذاب ، فأخبرهم به ، وقال : لقد عرفت السحر والشعر فو الله ما هو بساحر ولا بشاعر ، فقالوا : لقد صبأت أما فهمت منه كلمة ، فقال لا ولم أهتد إلى جوابه ، فقال عثمان بن مظعون : ذلك والله لتعلموا أنه من ربّ العالمين (٤) ، ثم بيّن ما ذكر من صاعقة عاد وثمود فقال :

١٥ ـ (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي تعظّموا فيها على أهلها بما لا يستحقّون به التعظم (٥) ، وهو القوة وعظم الأجرام ، أو استولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم ، وبلغ من قوّتهم أنّ الرجل كان يقلع الصخرة من الجبل بيده (أَوَلَمْ يَرَوْا) أو لم يعلموا علما يقوم مقام العيان (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أوسع منهم قدرة ، لأنه قادر على كلّ شيء وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) معطوف على فاستكبروا ، أي كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة.

١٦ ـ (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) عاصفة تصرصر ، أي تصوّت في هبوبها ، من الصرير ، أو باردة تحرق بشدة بردها تكرير لبناء الصرّ وهو البرد ، قيل إنها الدّبور

__________________

(١) الشعراء ، ٢٦ / ٢٧.

(٢) في (ز) يريد.

(٣) الحطيم : بالفتح ثم الكسر : بمكة ، قال مالك بن أنس : هو ما بين المقام إلى الباب (معجم البلدان ٢ / ٣١٥).

(٤) أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن إسحاق في السيرة عن جابر وأتم منه.

(٥) في (ز) التعظيم.

١٣٣

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (١٨)

(فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) مشؤومات عليهم. نحسات مكي وبصري ونافع ، ونحس نحسا نقيض سعد سعدا ، وهو نحس ، وأما نحس فإما مخفف نحس أو صفة على فعل ، أو وصف بمصدر ، وكانت من الأربعاء في آخر شوال إلى الأربعاء ، وما عذّب قوم إلا في الأربعاء (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أضاف العذاب إلى الخزي وهو الذلّ على أنه وصف للعذاب ، كأنه قال عذاب خز (١) كما تقول فعل السوء تريد الفعل السيّء ، ويدلّ عليه قوله (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) وهو من الإسناد المجازي ، ووصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به ، فشتان ما بين قوليك هو شاعر وله شعر شاعر (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) من الأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم.

١٧ ـ (وَأَمَّا ثَمُودُ) بالرفع على الابتداء ، وهو الفصيح لوقوعه بعد حرف الابتداء ، والخبر (فَهَدَيْناهُمْ) وبالنصب المفضّل ، بإضمار فعل يفسّره فهديناهم ، أي بيّنا لهم الرشد (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) فاختاروا الكفر على الإيمان (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ) داهية العذاب (الْهُونِ) الهوان ، وصف به العذاب مبالغة وأبدله منه (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بكسبهم وهو شركهم ومعاصيهم ، وقال الشيخ أبو منصور يحتمل ما ذكر من الهداية التبيين كما بينا ، ويحتمل خلق الاهتداء فيهم ، فصاروا مهتدين ، ثم كفروا بعد ذلك ، وعقروا الناقة ، لأنّ الهدى المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان والتوفيق وخلق فعل الاهتداء ، فأما الهدى المضاف إلى الخلق يكون بمعنى البيان لا غير ، وقال صاحب الكشاف فيه : فإن قلت أليس معنى قولك هديته جعلت فيه الهدى ، والدليل عليه قولك هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها كما تقول : ردعته فارتدع ، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت : للدلالة على أنه مكّنهم ، فأزاح عللهم ولم يبق لهم عذرا (٢) ، فكأنه حصّل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها ، وإنما تمحّل بهذا لأنه لا يتمكن من أن يفسره بخلق الاهتداء لأنه يخالف مذهبه الفاسد.

١٨ ـ (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي اختاروا الهدى على العمى من تلك الصاعقة (وَكانُوا يَتَّقُونَ) اختيار العمى على الهدى.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) خزي.

(٢) في (ز) عذر. على صياغة الجملة للمعلوم.

١٣٤

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ)(٢٣)

١٩ ـ (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) أي الكفار من الأولين والآخرين. نحشر أعداء نافع ويعقوب (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم ، أي يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم ، وهي عبارة عن كثرة أهل النار ، وأصله من وزعته أي كففته.

٢٠ ـ (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) صاروا بحضرتها ، وما مزيدة للتأكيد ، ومعنى التأكيد أنّ وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ، ولا وجه لأن يخلو منها (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) شهادة الجلود بالملامسة (١) الحرام ، وقيل هي كناية عن الفروج.

٢١ ـ (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) لما تعاظمهم من شهادتها عليهم (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) من الحيوان ، والمعنى أنّ نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كلّ حيوان (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي (٢) وهو قادر على إنشائكم أول مرة وعلى إعادتكم ورجعكم (٣) إلى جزائه.

٢٢ ـ (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش ، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلا (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) ولكنكم إنما استترتم لظنّكم أنّ الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون ، وهو الخفيّات من أعمالكم.

٢٣ ـ (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) وذلك الظنّ هو الذي

__________________

(١) في (ظ) و (ز) بملامسة.

(٢) ليس في (ظ) و (ز) أي.

(٣) في (ظ) ورجوعكم.

١٣٥

(فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (٢٥) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)(٢٧)

أهلككم ، وذلك مبتدأ ، وظنّكم خبر ، والذي ظننتم بربّكم صفته ، وأرداكم خبر ثان ، أو ظنّكم بدل من ذلكم وأرداكم الخبر (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

٢٤ ـ (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ولم ينفكّوا به من الثواء (١) في النار (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) وإن يطلبوا الرضا فما هم من المرضين ، أو إن يسألوا العتبى وهي الرجوع لهم إلى ما يحبّون جزعا مما هم فيه لم يعتبوا ، لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها.

٢٥ ـ (وَقَيَّضْنا لَهُمْ) أي قدّرنا لمشركي مكة ، يقال هذان ثوبان قيضان أي مثلان ، والمقايضة المعاوضة ، وقيل سلّطنا عليهم (قُرَناءَ) أخدانا من الشياطين ، جمع قرين ، كقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٢) (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها ، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات وما خلفهم من أمر العاقبة وأن لا بعث ولا حساب (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) كلمة العذاب (فِي أُمَمٍ) في جملة أمم ، ومحلّه النصب على الحال من الضمير في عليهم ، أي حقّ عليهم القول كائنين في جملة أمم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) قبل أهل مكّة (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) هو تعليل لاستحقاقهم العذاب ، والضمير لهم وللأمم.

٢٦ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) إذا قرىء (وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) وعارضوا (٣) بكلام غير مفهوم حتى تشوّشوا عليه وتغلبوا على قراءته ، واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته.

٢٧ ـ (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) يجوز أن يريد بالذين كفروا هؤلاء

__________________

(١) الثواء : الإقامة.

(٢) الزخرف ، ٤٣ / ٣٦.

(٣) في (ظ) و (ز) عارضوه.

١٣٦

(ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) (٣٠)

اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة ، وأن يذكر الذين كفروا عامة لينطوي (١) تحت ذكرهم (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أعظم العقوبة (٢) على أسوأ أعمالهم ، وهو الكفر.

٢٨ ـ (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) ذلك إشارة إلى الأسوأ ، ويجب أن يكون التقدير أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون حتى تستقيم هذه الإشارة (النَّارُ) عطف بيان للجزاء ، أو خبر مبتدأ محذوف (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) أي النار في نفسها دار الخلد ، كما تقول : لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها (جَزاءُ) أي جوزوا بذلك جزاء (بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ).

٢٩ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا) وبسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخذ فخذ ، مكي وشامي وأبو بكر ، وبالاختلاس أبو عمرو (الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) أي الشيطانين اللّذين أضلّانا (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) لأنّ الشيطان على ضربين جني وإنسي ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) (٣) (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) في النار جزاء إضلالهم إيّانا.

٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي نطقوا بالتوحيد (ثُمَّ اسْتَقامُوا) ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته ، وعن الصديق رضي الله عنه : استقاموا فعلا كما استقاموا قولا ، وعنه أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها؟ قالوا : لم يذنبوا ، قال : حملتم الأمر على أشدّه ، قالوا : فما تقول؟ قال : لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان (٤) ، وعن عمر رضي الله عنه : لم يروغوا روغان الثعالب (٥) ، أي لم ينافقوا ، وعن عثمان رضي الله عنه : أخلصوا العمل ، وعن عليّ رضي الله عنه : أدوا الفرائض (٦) ، وعن الفضيل :

__________________

(١) في (ظ) و (ز) ولكن يذكر ، وسقط من (ظ) لينطوي ، وفي (ز) لينطووا.

(٢) في (ظ) و (ز) عقوبة.

(٣) الأنعام ، ٦ / ١١٢.

(٤) الطبري بنحوه من أكثر من طريق.

(٥) الطبري.

(٦) الطبري بنحوه.

١٣٧

(نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٣)

زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية ، وقيل حقيقة الاستقامة القرار بعد الإقرار لا الفرار بعد الإقرار (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) عند الموت (أَلَّا) بمعنى أي ، أو مخففة من الثقيلة ، وأصله بأنه (تَخافُوا) والهاء ضمير الشأن ، أي لا تخافوا ما تقدمون عليه (وَلا تَحْزَنُوا) على ما خلفتم ، فالخوف غمّ يلحق الإنسان لتوقع المكروه ، والحزن غمّ يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار ، والمعنى أنّ الله كتب لكم الأمن من كلّ غمّ فلن تذوقوه أبدا (١) (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا ، وقال محمد بن علي الترمذي (٢) : تتنزل عليهم ملائكة الرحمن عند مفارقة الأرواح عن (٣) الأبدان أن لا تخافوا سلب الإيمان ، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان ، وأبشروا بدخول الجنان التي كنتم توعدون في سالف الأزمان (٤).

٣١ ـ (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) كما أنّ الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم ، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من النعيم (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) تتمنون.

٣٢ ـ (نُزُلاً) هو رزق النزيل (٥) ، وهو الضيف ، وانتصابه على الحال من الهاء المحذوفة ، أو من ما (مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) نعت له.

٣٣ ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) هو (٦) رسول الله دعا إلى التوحيد (وَعَمِلَ صالِحاً) خالصا (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) تفاخرا بالإسلام ومعتقدا له ، أو أصحابه عليه‌السلام ، أو المؤذنون ، أو جميع الهداة والدعاة إلى الله.

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) أبدا.

(٢) محمد بن علي الترمذي : أبو عبد الله ، الحكيم الترمذي ، باحث ، صوفي ، عالم بالحديث وأصول الدين لم يعرف تاريخ مولده واضطرب المؤرخون في تاريخ وفاته سنة ٢٥٥ أو ٢٨٥ أو ٣١٨ ه‍. له حوالي ٥٧ كتابا أو رسالة من تصنيفه (الأعلام ٦ / ٢٧٢).

(٣) ليس في (ظ) و (ز) عن.

(٤) في (ز) الزمان.

(٥) في (ز) نزيل.

(٦) في (ز) إلى عبادته هو.

١٣٨

(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٣٧)

٣٤ ـ (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني أنّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك ، كما لو أساء إليك رجل إساءة فالحسنة أن تعفو عنه ، والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك ، مثل أن يذمّك فتمدحه ، ويقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فإنّك إذا فعلت ذلك انقلب عدوّك المشاقّ مثل الولي الحميم مصافاة لك ، ثم قال :

٣٥ ـ (وَما يُلَقَّاها) أي وما يلقى هذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) إلا أهل الصبر (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) إلا رجل خير وفّق لحظ عظيم من الخير ، وإنما لم يقل فادفع بالتي هي أحسن لأنه على تقدير قائل قال : فكيف أصنع؟ فقيل : ادفع بالتي هي أحسن ، وقيل لا مزيدة للتأكيد والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة ، وكان القياس على هذا التفسير أن يقال ادفع بالتي هي حسنة ولكن وضع التي هي أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة لأنّ من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : بالتي هي أحسن : الصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، وفسّر الحظّ بالثواب ، وعن الحسن : والله ما عظم حظ دون الجنة ، وقيل نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدوا مؤذيا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار وليا مصافيا.

٣٦ ـ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) النزغ شبه النخس ، والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ، يبعثه على ما لا ينبغي ، وجعل النزغ نازغا كما قيل جدّ جدّه ، أو أريد وإما ينزغنّك نازغ وصفا للشيطان بالمصدر ، أو لتسويله ، والمعنى وإن صرفك الشيطان عما وصّيت به من الدفع بالتي هي أحسن (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شرّه وامض على حلمك ولا تطعه (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذتك (الْعَلِيمُ) بنزغ الشيطان.

٣٧ ـ (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وحدانيته (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) في تعاقبهما على

١٣٩

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٤٠)

حدّ معلوم وتناوبهما على قدر مقسوم (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) في اختصاصهما بسير مقدّر ونور مقرّر (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) فإنهما مخلوقان وإن كثرت منافعهما (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) الضمير في خلقهن للآيات ، أو الليل والنهار والشمس والقمر ، لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث ، تقول الأقلام بريتها وبريتهنّ ، ولعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لها السجود لله تعالى فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله خالصا إن كانوا إياه يعبدون ، وكانوا موحّدين غير مشركين ، فإنّ من عبد مع الله غيره لا يكون عابدا له (١).

٣٨ ـ (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لا يملّون ، والمعنى فإن استكبروا ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة (٢) فدعهم وشأنهم فإنّ الله تعالى لا يعدم عابدا وساجدا بالإخلاص وله العباد المقربون الذين ينزّهونه بالليل والنهار عن الأنداد ، وعند ربّك عبارة عن الزّلفى والمكانة والكرامة ، وموضع السجدة عندنا لا يسأمون ، وعند الشافعي رحمه‌الله عند تعبدون ، والأول أحوط.

٣٩ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) يابسة مغبرّة ، والخشوع التذلّل ، فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) المطر (اهْتَزَّتْ) تحرّكت بالنبات (وَرَبَتْ) انتفخت (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيكون قادرا على البعث ضرورة.

٤٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) يميلون عن الحقّ ، في أدلّتنا (٣) يقال

__________________

(١) في (ظ) و (ز) لله.

(٢) زاد في (ز) وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله خالصا. وهي تكرار من الطابع من الآية السابقة.

(٣) زاد في (ز) بالطعن.

١٤٠