تفسير النسفي - ج ٢

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

١

٢

٣
٤

سورة الأنعام

مكية وهي مائة وخمس وستون آية كوفي أربع وستون بصري

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١)

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تعليم اللفظ ، والمعنى مع تعريض الاستغناء أي الحمد له وإن لم تحمدوه (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) جمع السماوات لأنها طباق بعضها فوق بعض. والأرض وإن كانت سبعة عند الجمهور فليس بعضها فوق بعض بل بعضها موال لبعض. جعل يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كقوله (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وإلى مفعولين إن كان بمعنى صيّر كقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (١) وفيه ردّ قول الثنوية (٢) بقدم النور والظلمة ، وأفرد النور لإرادة الجنس ولأنّ ظلمة كلّ شيء تختلف باختلاف ذلك الشيء ، نظيره ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموضع المظلم يخالف كلّ واحد منها صاحبها (٣) ، والنور ضرب واحد لا يختلف كما تختلف الظلمات ، وقدّم الظلمات لقوله عليه‌السلام : (خلق الله خلقه في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور

__________________

(١) الزخرف ، ٤٣ / ١٩.

(٢) الثنوية : هم أصحاب الإثنين الأزليين يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان ، وهم فرق أبرزها : المانويّة والمزدكيّة والدّيصانية والمرقيونيّة والكينويّة والصّياميّة والتناسخيّة (الملل والنحل ـ الباب الثالث ـ الفصل الثاني ص ١١٥).

(٣) في (ز) صاحبه.

٥

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤)

اهتدى ومن أخطأه ضل) (١) (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد هذا البيان (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) يساوون به الأوثان ، تقول عدلت هذا (٢) بذا أي ساويته به ، والباء في بربهم صلة للعدل لا للكفر ، أو ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه أي يعرضون عنه ، فتكون الباء صلة للكفر ، وصلة يعدلون أي عنه محذوفة ، وعطف ثمّ الذين كفروا على الحمد لله على معنى أنّ الله حقيق بالحمد على ما خلق لأنه ما خلقه إلا نعمة ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ، أو على خلق السماوات على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه ، ومعنى ثم استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته.

٢ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) من لابتداء الغاية ، أي ابتدأ خلق أصلكم يعني آدم منه (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي حكم أجل الموت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل القيامة ، أو الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ ، أو الأول النوم والثاني الموت ، أو الثاني هو الأول وتقديره وهو أجل مسمّى أي معلوم ، وأجل مسمّى مبتدأ والخبر عنده ، وقدّم المبتدأ وإن كان نكرة والخبر ظرفا وحقه التأخير لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) تشكّون من المرية ، أو تجادلون من المراء. ومعنى ثم استبعاد أن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.

٣ ـ (وَهُوَ اللهُ) مبتدأ وخبر (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلق بمعنى اسم الله ، كأنه قيل وهو المعبود فيهما كقوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (٣) أو المعروف بالإلهية فيهما ، أو هو الذي يقال له الله فيهما ، والأول تفريع على أنه مشتق وغيره على أنه غير مشتق (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) خبر بعد خبر ، أو كلام مبتدأ أي هو يعلم سرّكم وجهركم (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من الخير والشرّ ويثيب عليه ويعاقب.

٤ ـ ومن في (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) للاستغراق وفي (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ

__________________

(١) رواه البيهقي وابن حبان بألفاظ متقاربة.

(٢) ليست في (ز).

(٣) الزخرف ، ٤٣ / ٨٤.

٦

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨)

للتبعيض ، أي وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) تاركين للنظر لا يلتفتون إليه لقلة خوفهم وتدبرهم في العواقب.

٥ ـ (فَقَدْ كَذَّبُوا) مردود على كلام محذوف كأنه قيل إن كانوا معرضين عن (١) الآيات فقد كذبوا (بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي بما هو أعظم آية وأكبرها وهو القرآن الذي تحدّوا به فعجزوا عنه (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي أنباء الشيء الذي كانوا به يستهزئون وهو القرآن أي أخباره وأحواله ، يعني سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته.

٦ ـ (أَلَمْ يَرَوْا) يعني المكذبين (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) هو مدة انقضاء أهل كلّ عصر وهو ثمانون سنة ، أو سبعون (مَكَّنَّاهُمْ) في موضع جر صفة لقرن وجمع على المعنى (فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) التمكين في البلاد إعطاء المكنة ، والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادا وثمود وغيرهم ، من البسطة في الأجسام ، والسّعة في الأموال ، والاستظهار بأسباب الدنيا (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) المطر (عَلَيْهِمْ مِدْراراً) كثيرا وهو حال من السماء (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) من تحت أشجارهم ، والمعنى عاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار وسقيا الغيث المدرار (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) ولم يغن ذلك عنهم شيئا (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) بدلا منهم.

٧ ـ (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً) مكتوبا (فِي قِرْطاسٍ) في ورق (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) هو للتأكيد لئلا يقولوا سكّرت أبصارنا ومن المحتج عليهم العمى (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) تعنتا وعنادا للحق بعد ظهوره.

٨ ـ (وَقالُوا لَوْ لا) هلّا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مَلَكٌ) يكلمنا أنه نبي ، فقال الله (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) لقضي أمر هلاكهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) لا يمهلون

__________________

(١) في (ز) على.

٧

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١١)

بعد نزوله طرفة عين لأنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون ، ومعنى ثم بعد ما بين الأمرين ، قضاء الأمر وعدم الإنظار ، جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر لأنّ مفاجأة الشدة أشدّ من نفس الشدة.

٩ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا ، لأنهم كانوا تارة يقولون (١) لو لا أنزل على محمد ملك وتارة يقولون : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (٢) و (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) (٣) (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) لأرسلناه في صورة رجل كما كان جبريل عليه‌السلام ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أعم الأحوال في صورة دحية (٤) لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) ولخلطنا وأشكلنا عليهم من أمره إذ كان سبيله كسبيلك يا محمد ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك ، يقال لبست الأمر على القوم وألبسته إذا شبّهته عليهم (٥) وأشكلته عليهم.

ثم سلى نبيه على ما أصابه من استهزاء قومه بقوله :

١٠ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو الحق ، حيث أهلكوا من أجل استهزائهم به ، ومنهم متعلق بسخروا ، كقوله : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) (٦) والضمير للرسل والدال مكسورة عند أبي عمرو وعاصم لالتقاء الساكنين ، وضمّها غيرهما إتباعا لضم التاء.

١١ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) والفرق بين فانظروا وبين ثم انظروا أن النظر جعل مسببا عن السير في فانظروا ، فكأنه قيل

__________________

(١) في (ز) يقولون تارة.

(٢) المؤمنون ، ٢٣ / ٢٤.

(٣) فصلت ، ٤١ / ١٤.

(٤) دحية : هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي ، صحابي ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيصر يدعوه للإسلام وكان يضرب به المثل في حسن الصورة لم يعرف تاريخ ولادته وتوفي نحو ٤٥ ه‍ (الإعلام ٢ / ٣٣٧).

(٥) في (ز) إذا أشبهته وأشكلته.

(٦) التوبة ، ٩ / ٧٩.

٨

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٤)

سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين ، ومعنى سيروا في الأرض ثم انظروا إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين ، ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح.

١٢ ـ (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من استفهام ، وما بمعنى الذي في موضع الرفع على الابتداء ، ولمن خبره (قُلْ لِلَّهِ) تقرير لهم أي هو لله لا خلاف بيني وبينكم ، ولا تقدرون أن تضيفوا منه شيئا إلى غيره (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أصل كتب أوجب ولكن لا يجوز الإجراء على ظاهره إذ لا يجب على الله شيء للعبد ، فالمراد به أنه وعد ذلك وعدا مؤكدا وهو منجزه لا محالة ، وذكر النفس للاختصاص ورفع الوسائط ، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فيجازيكم على شرككم (١) (لا رَيْبَ فِيهِ) في اليوم أو في الجمع (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) نصب على الذم ، أي أريد الذين خسروا أنفسهم باختيارهم الكفر (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وقال الأخفش : الذين بدل من كم في ليجمعنّكم أي ليجمعنّ هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم ، والوجه هو الأول لأن سيبويه قال : لا يجوز مررت بي المسكين ولا بك المسكين فتجعل المسكين بدلا من الباء أو الكاف لأنهما في غاية الوضوح فلا يحتاجان إلى البدل والتفسير.

١٣ ـ (وَلَهُ) عطف على لله (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من السّكنى حتى يتناول الساكن والمتحرك ، أو من السكون ومعناه ما سكن وتحرّك فيهما ، فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر كقوله : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٢) أي الحرّ والبرد ، وذكر السكون لأنّه أكثر من الحركة ، وهو احتجاج على المشركين لأنهم لم ينكروا أنه خالق الكلّ ومدبره (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع كلّ مسموع ويعلم كلّ معلوم فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.

١٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) ناصرا ومعبودا ، وهو مفعول ثان لأتخذ والأول

__________________

(١) في (ز) إشراككم.

(٢) النحل ، ١٦ / ٨١.

٩

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١٨)

غير ، وإنما أدخل همزة الاستفهام على مفعول اتخذ لا عليه ، لأنّ الإنكار في اتخاذ غير الله وليا لا في اتخاذ الولي فكان أحق بالتقديم (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالجر صفة لله أي مخترعهما. وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها (١) (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) وهو يرزق ولا يرزق ، أي المنافع كلّها من عنده ولا يجوز عليه الانتفاع (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لأنّ النبيّ سابق أمته في الإسلام كقوله : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (٢) (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وقيل لي لا تكونن من المشركين ولو عطف على ما قبله لفظا لقيل وأن لا أكون ، والمعنى أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.

١٥ ـ (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إني أخاف عذاب يوم عظيم ، وهو القيامة إن عصيت ربي ، فالشرط معترض بين الفاعل والمفعول به ، محذوف الجواب.

١٦ ـ (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) العذاب (يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) الله الرحمة العظمى وهي النجاة ، من يصرف حمزة وعلي وأبو بكر ، أي من يصرف الله عنه العذاب (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) النجاة الظاهرة.

١٧ ـ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) من مرض أو فقر أو غير ذلك من بلاياه (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) فلا قادر على كشفه إلّا هو (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) من غنى أو صحة (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكان قادرا (٣) على إدامته وإزالته.

١٨ ـ (وَهُوَ الْقاهِرُ) مبتدأ وخبر ، أي الغالب المقتدر (فَوْقَ عِبادِهِ) خبر بعد خبر ، أي غالب (٤) عليهم بالقدرة. والقهر بلوغ المراد بمنع غيره من بلوغه (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في تنفيذ مراده (الْخَبِيرُ) بأهل القهر من عباده.

__________________

(١) أبو عبيد في غريب الحديث وفي فضائل القرآن بإسناد حسن.

(٢) الأنعام ، ٦ / ١٦٣.

(٣) في (ز) فهو قادر.

(٤) في (ظ) و (ز) أي عال.

١٠

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢١)

١٩ ـ (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أي شيء مبتدأ ، وأكبر خبره ، وشهادة تمييز ، وأيّ كلمة يراد بها بعض ما يضاف إليه ، فإذا كانت استفهاما كان جوابها مسمّى باسم ما أضيفت إليه. وقوله (قُلِ اللهُ) جواب ، أي الله أكبر شهادة فالله مبتدأ ، والخبر محذوف ، فيكون دليلا على أنه يجوز إطلاق اسم الشيء على الله تعالى ، وهذا لأن الشيء اسم للموجود ، ولا يطلق على المعدوم ، والله تعالى موجود ، فيكون شيئا ، ولذا نقول الله تعالى شيء لا كالأشياء ، ثم ابتدأ (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي هو شهيد بيني وبينكم ، ويجوز أن يكون الجواب الله شهيد بيني وبينكم لأنه إذا كان الله شهيدا بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أي ومن بلغه القرآن إلى قيام الساعة ، في الحديث : (من بلغه القرآن فكأنّما رأى محمدا) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ومن في محل النصب بالعطف على كم ، والمراد به أهل مكة ، والعائد إليه محذوف ، أي ومن بلغه ، وفاعل بلغ ضمير القرآن (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) استفهام إنكار وتبكيت (قُلْ لا أَشْهَدُ) بما تشهدون ، وكرّر (قُلْ) توكيدا (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) ما كافة لأنّ عن العمل ، وهو مبتدأ ، وإله خبره ، وواحد صفة ، أو بمعنى الذي في محل النصب بإنّ ، وهو مبتدأ ، وإله خبره ، والجملة صلة الذي ، وواحد خبر إنّ ، وهذا الوجه أوقع (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) به.

٢٠ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني اليهود والنصارى. والكتاب : التوراة والإنجيل (يَعْرِفُونَهُ) أي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بحلاهم ونعوتهم ، وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته ، ثم قال (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) به.

٢١ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ) استفهام يتضمن معنى النفي ، أي لا أحد أظلم لنفسه ،

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي.

١١

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤)

والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وأشنعه اتخاذ المخلوق معبودا (مِمَّنِ افْتَرى) اختلق (عَلَى اللهِ كَذِباً) فيصفه بما لا يليق به (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) بالقرآن والمعجزات (إِنَّهُ) إنّ الأمر والشأن (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) جمعوا بين أمرين باطلين ، فكذبوا على الله ما لا حجة عليه ، وكذّبوا بما ثبت بالحجة قالوا : الملائكة بنات الله ، وسمّوا القرآن والمعجزات سحرا.

٢٢ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) هو مفعول به ، والتقدير واذكر يوم نحشرهم (جَمِيعاً) حال من ضمير المفعول (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) مع الله غيره توبيخا ، وبالياء فيهما يعقوب (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله (١) (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي تزعمونهم شركاء فحذف المفعولان.

٢٣ ـ (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) وبالياء حمزة وعلي (فِتْنَتُهُمْ) كفرهم (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) يعني ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه إلا جحوده والتبرؤ منه ، والحلف على الانتفاء من التديّن به ، أو ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا ، فسمّي فتنة لأنه كذب. وبرفع الفتنة مكي وشامي وحفص ، فمن قرأ تكن بالتاء ورفع الفتنة فقد جعل الفتنة اسم تكن ، وأن قالوا الخبر ، أي لم تكن فتنتهم إلّا مقالتهم (٢) ، ومن قرأ بالياء ونصب الفتنة جعل أن قالوا اسم يكن ، أي لم تكن فتنتهم إلّا قولهم ، ومن قرأ بالتاء ونصب الفتنة حمل على المقالة. ربّنا حمزة وعلي ، على النداء أي يا ربّنا وغيرهما بالجر على النعت من اسم الله.

٢٤ ـ (انْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بقولهم ما كنا مشركين ، قال مجاهد إذا جمع الله الخلائق ورأى المشركون سعة رحمة الله وشفاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين قال بعضهم لبعض : تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو مع أهل التوحيد ، فإذا قال لهم الله أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وغاب عنهم (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) إلهيّته وشفاعته.

__________________

(١) في (ز) الله.

(٢) في (ز) قولهم.

١٢

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٧)

٢٥ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) حين تتلوا القرآن. روي أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا للنضر ما يقول محمد؟ فقال والله ما أدري ما يقول محمد إلّا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية ، فقال أبو سفيان إني لأراه حقا ، فقال أبو جهل : كلا. فنزلت (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أغطية جمع كنان ، وهو الغطاء مثل عنان وأعنّة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفقهوه (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ثقلا يمنع من السمع ، ووحّد الوقر لأنه مصدر ، وهو عطف على أكنّة ، وهو حجة لنا في الأصلح على المعتزلة (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) حتى هي التي تقع بعدها الجمل ، والجملة قوله إذا جاؤوك يقول الذين كفروا ، ويجادلونك في موضع الحال ، ويجوز أن تكون جارّة ويكون إذا جاؤوك في موضع الجر ، بمعنى حتى وقت مجيئهم ، ويجادلونك حال ، ويقول الذين كفروا تفسير له ، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك ، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون (إِنْ هذا) ما القرآن (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فيجعلون كلام الله أكاذيب ، وواحد الأساطير أسطورة.

٢٦ ـ (وَهُمْ) أي المشركون (يَنْهَوْنَ عَنْهُ) ينهون الناس عن القرآن ، أو عن الرسول واتّباعه والإيمان به (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) ويبعدون عنه بأنفسهم ، فيضلّون ويضلون (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) بذلك (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) أي لا يتعداهم الضرر إلى غيرهم ، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله ، وقيل عني به أبو طالب لأنه كان ينهى قريشا عن التعرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينأى عنه فلا يؤمن به ، والأول أشبه.

٢٧ ـ (وَلَوْ تَرى) حذف جوابه ، أي ولو ترى لشاهدت أمرا عظيما (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أروها حتى يعاينوها ، أو حبسوا على الصراط فوق النار (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ) إلى الدنيا تمنوا الردّ إلى الدنيا ليؤمنوا ، وتم تمنيهم (١) ، ثم ابتدأوا بقوله (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) واعدين الإيمان ، كأنهم قالوا ونحن لا نكذّب ونؤمن. ولا

__________________

(١) في (ظ) تمنيتهم.

١٣

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٣١)

نكذب ونكون حمزة وعلي وحفص على جواب التمني بالواو وبإضمار أن ، ومعناه إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين ، وافقهما في ونكون شامي.

٢٨ ـ (بَلْ) للإضراب عن الوفاء بما تمنّوا (بَدا لَهُمْ) ظهر لهم (ما كانُوا يُخْفُونَ) من الناس (مِنْ قَبْلُ) في الدنيا من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم ، وقيل هو في المنافقين ، وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرّونه ، أو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَوْ رُدُّوا) إلى الدنيا بعد وقوفهم على النّار (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون (١) به.

٢٩ ـ (وَقالُوا) عطف على لعادوا ، أي ولو ردّوا لكفروا ولقالوا (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة [أو على قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ، أي وإنهم لقوم كاذبون في كلّ شيء ، وهم الذين قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا] (٢) وهي كناية عن الحياة ، أو هو ضمير القصة (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

٣٠ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاتبه (٣) ، أو وقفوا على جزاء ربّهم (قالَ) جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل ماذا قال لهم ربّهم إذا وقفوا (٤) عليه؟ فقيل : قال : (أَلَيْسَ هذا) أي البعث (بِالْحَقِ) بالكائن الموجود ، وهذا تعيير لهم على التكذيب للبعث ، وقولهم لمّا كانوا يسمعون من حديث البعث ما هو بحق (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أقروا وأكدوا الإقرار باليمين (قالَ) الله تعالى (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بكفركم.

٣١ ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) ببلوغ الآخرة وما يتصل بها ، أو هو

__________________

(١) في (ز) يوفون.

(٢) ما بين معكوفين ليس في (أ).

(٣) في (ز) ليعاقبه.

(٤) في (ز) إذ وقفوا.

١٤

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٣٣)

مجرى على ظاهره لأنّ منكر البعث منكر للرؤية (حَتَّى) غاية لكذّبوا لا لخسر ، لأنّ خسرانهم لا غاية له (إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) أي القيامة ، لأنّ مدة تأخرها مع تأبّد ما بعدها كساعة واحدة (بَغْتَةً) فجأة ، وانتصابها على الحال يعني باغتة ، أو على المصدر كأنه قيل بغتتهم الساعة بغتة ، وهي ورود الشيء على صاحبه من غير علمه بوقته (قالُوا يا حَسْرَتَنا) نداء تفجّع معناه يا حسرة احضري فهذا أوانك (عَلى ما فَرَّطْنا) قصّرنا (فِيها) في الحياة الدنيا ، أو في الساعة ، أي قصّرنا في شأنها وفي الإيمان بها (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) آثامهم (عَلى ظُهُورِهِمْ) خصّ الظهر لأنّ المعهود حمل الأثقال على الظهور كما عهد الكسب بالأيدي ، وهو مجاز عن اللزوم على وجه لا يفارقهم ، وقيل إنّ الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة وأخبثه ريحا ، فيقول أنا عملك السيء فطالما ركبتني في الدنيا وأنا أركبك اليوم (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) بئس شيئا يحملونه ، وأفاد ألا تعظيم ما يذكر بعده.

٣٢ ـ (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) جواب لقولهم إن هي إلا حياتنا الدنيا ، واللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع ، واللهو الميل عن الجدّ إلى الهزل ، قيل ما أهل الحياة الدنيا إلّا أهل لعب ولهو ، وقيل ما أعمال الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ، لأنها لا تعقب منفعة كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة (وَلَلدَّارُ) مبتدأ (الْآخِرَةُ) صفتها ، ولدار الآخرة بالإضافة شامي ، ولدار الساعة الآخرة لأنّ الشيء لا يضاف إلى صفته. وخبر المبتدأ على القراءتين (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وفيه دليل على أنّ ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بالتاء مدني وحفص.

ولما قال أبو جهل ما نكذّبك يا محمد وإنك عندنا لمصدّق وإنما نكذّب ما جئتنا به نزل (١) :

٣٣ ـ (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ) الهاء ضمير الشأن (لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) لا ينسبونك إلى الكذب. وبالتخفيف نافع وعليّ من أكذبه إذا وجده كاذبا (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) من إقامة الظاهر مقام المضمر ، وفيه دلالة على أنهم ظلموا في جحودهم ، والباء يتعلق بيجحدون ، أو بالظالمين ، كقوله : (فَظَلَمُوا

__________________

(١) أخرجه الترمذي والحاكم عن علي رضي الله عنه.

١٥

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٥)

(بِها) (١) والمعنى أنّ تكذيبك أمر راجع إلى الله لأنك رسوله المصدّق بالمعجزات ، فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله ، لأن تكذيب الرسول تكذيب المرسل.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو دليل على أنّ قوله فإنهم لا يكذبونك ليس بنفي لتكذيبه ، وإنما هو من قولك لغلامك إذا أهانه بعض الناس إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني (فَصَبَرُوا) والصبر حبس النفس على المكروه (عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) على تكذيبهم وإيذائهم (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لمواعيده من قوله (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (٢) (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) (٣) (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين ، وأجاز الأخفش أن تكون من زائدة والفاعل نبأ المرسلين ، وسيبويه لا يجيز (٤) زيادتها في الواجب.

كان يكبر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفر قومه وإعراضهم ، ويحبّ (٥) مجيء الآيات ليسلموا فنزل :

٣٥ ـ (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ) عظم وشقّ (إِعْراضُهُمْ) عن الإسلام (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً) منفذا تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها (فِي الْأَرْضِ) صفة لنفقا (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ) منها (بِآيَةٍ) فافعل ، وهو جواب فإن استطعت ، وإن استطعت وجوابها جواب وإن كان كبر ، والمعنى إنّك لا تستطيع ذلك ، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) لجعلهم بحيث يختارون الهدى ، ولكن لما علم أنهم يختارون الكفر لم

__________________

(١) الأعراف ، ٧ / ١٠٣.

(٢) الصافات ، ٣٧ / ١٧١ ـ ١٧٢.

(٣) غافر ، ٤٠ / ٥١.

(٤) في (ز) المواجب.

(٥) في (ز) ويحبوا.

١٦

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨)

يشأ أن يجمعهم على ذلك ، كذا قاله الشيخ أبو منصور رحمه‌الله (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) من الذين يجهلون ذلك.

ثم أخبر أنّ حرصه على هدايتهم لا ينفع لعدم سمعهم كالموتى بقوله :

٣٦ ـ (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أي إنما يجيب دعاءك الذين يسمعون دعاءك بقلوبهم (وَالْمَوْتى) مبتدأ ، أي الكفار (يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) فحينئذ يسمعون ، وأما قبل ذلك فلا.

٣٧ ـ (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ) هلّا أنزل عليه (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) كما نقترح من جعل الصفا ذهبا وتوسيع أرض مكة وتفجير الأنهار خلالها (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) كما اقترحوا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إنّ الله قادر على أن ينزّل تلك الآية ، أو لا يعلمون ما عليهم في الآية من البلاء لو أنزلت.

٣٨ ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ) هي اسم لما يدبّ وتقع على المذكر والمؤنث (فِي الْأَرْضِ) في موضع جر صفة لدابة (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) قيّد الطيران بالجناحين لنفي المجاز ، لأنّ غير الطائر قد يقال فيه طار إذا أسرع (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) في الخلق والموت والبعث والاحتياج إلى مدبر يدبر أمر مراشدها (١) (ما فَرَّطْنا) ما تركنا (فِي الْكِتابِ) في اللوح المحفوظ (مِنْ شَيْءٍ) من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن نثبت (٢) ، أو الكتاب القرآن ، وقوله من شيء (٣) ، أي من شيء يحتاجون إليه ، فهو مشتمل على ما تعبّدنا به عبارة وإشارة ودلالة واقتضاء (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) يعني الأمم كلّها من الدواب والطيور فينصف بعضها من بعض ، كما روي أنه يأخذ للجمّاء من القرناء ثم يقول كوني ترابا ، وإنما قال إلا أمم مع إفراد الدابة والطائر لمعنى الاستغراق فيهما.

__________________

(١) في (ز) يدبر أمرها.

(٢) في (ظ) و (ز) أن يثبت.

(٣) في (أ) من شيء يحتاجون وهو ارتباك من الناسخ. تفسير النسفي ج ٢ / م ٢

١٧

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) (٤٢)

ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادي على عظمته قال :

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌ) لا يسمعون كلام المنبه (وَبُكْمٌ) لا ينطقون بالحق خابطون (فِي الظُّلُماتِ) أي ظلمة الجهل والحيرة والكفر ، غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه. صم وبكم خبر الذين ودخول الواو لا يمنع من ذلك ، وفي الظلمات خبر آخر ، ثم قال إيذانا بأنه فعّال لما يريد (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) أي من يشأ الله ضلاله يضلله (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وفيه دلالة خلق الأفعال وإرادة المعاصي ونفي الأصلح.

٤٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) وبتليين الهمزة مدني ، وبتركها (١) علي ، ومعناه هل علمتم أنّ الأمر كما يقال لكم فأخبروني بما عندكم ، والضمير الثاني لا محلّ له من الإعراب ، والتاء ضمير الفاعل ، ومتعلّق الاستخبار محذوف تقديره أرأيتكم (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) من تدعون ، ثم بكّتهم بقوله (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) أي أتخصّون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ أم تدعون الله دونها (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنّ الأصنام آلهة فادعوها لتخلّصكم.

٤١ ـ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أي ما تدعونه إلى كشفه (إِنْ شاءَ) إن أراد أن يتفضل عليكم (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) وتتركون آلهتكم ، أو لا تذكرون آلهتكم في ذلك الوقت لأنّ أذهانكم مغمورة بذكر الله وحده إذ هو القادر على كشف الضرّ دون غيره ، ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله أغير الله تدعون ، كأنه قيل أرأيتكم أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله.

٤٢ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) رسلا فالمفعول محذوف فكذبوهم (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) بالبؤس والضّرّ ، والأول القحط والجوع والثاني المرض ونقصان الأنفس والأموال (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) يتذللون ويتخشّعون لربهم ، ويتوبون عن

__________________

(١) في (ظ) و (ز) وبتركه.

١٨

(فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) (٤٦)

ذنوبهم ، فالنفوس تتخشّع عند نزول الشدائد.

٤٣ ـ (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) أي هلّا تضرعوا بالتوبة ، ومعناه نفي التضرّع ، كأنه قيل فلم يتضرّعوا إذ جاءهم بأسنا ، ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرّع (١) (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فلم ينزجروا بما ابتلوا به (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وصاروا معجبين بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم.

٤٤ ـ (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) من البأساء والضراء ، أي تركوا الاتعاظ به ولم يزجرهم (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من الصحة والسعة وصنوف النعمة ، فتّحنا شامي (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) من الخير والنّعم (٢) (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) آيسون متحسرون وأصله الإطراق حزنا لما أصابه ، أو ندما على ما فاته ، وإذا للمفاجأة.

٤٥ ـ (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أهلكوا عن آخرهم ولم يترك منهم أحد (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة ، وأنه من أجلّ النعم وأجزل القسم ، أو احمدوا الله على إهلاك من لم يحمد الله.

ثم دل على قدرته وتوحيده بقوله :

٤٦ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) بأن أصمّكم وأعماكم (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) فسلب العقول (٣) والتمييز (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) بما أخذ وختم عليه. من رفع بالابتداء ، وإله خبره ، وغير صفة لإله ، وكذا يأتيكم ، والجملة في موضع مفعولي أرأيتم ، وجواب الشرط محذوف (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ) لهم (الْآياتِ) نكرّرها (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) يعرضون عن الآيات بعد ظهورها ، والصّدوف الإعراض عن الشيء.

__________________

(١) زاد في (ز) إلا عنادهم.

(٢) في (ز) والنعمة.

(٣) في (ظ) القلوب.

١٩

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٥٠)

٤٧ ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) بأن لم تظهر أماراته (أَوْ جَهْرَةً) بأن ظهرت أماراته ، وعن الحسن ليلا أو نهارا (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلّا الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم.

٤٨ ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) بالجنان والنيران للمؤمنين والكفار ، ولم (١) نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة والأدلة الساطعة (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ) أي داوم على إيمانه (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فلا خوف يعقوب.

٤٩ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) جعل العذاب ماسا كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى بالكفر.

٥٠ ـ (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) أي قسمه بين الخلق وأرزاقه ، ومحل (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) النصب عطفا على محل عندي خزائن الله ، لأنه من جملة المقول ، كأنه قال لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله وعلم الغيب ودعوى الملكيّة ، وإنما أدّعي ما كان لكثير من البشر وهو النبوة (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي ما أخبركم إلا بما أنزل الله عليّ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) مثل للضال والمهتدي ، أو لمن اتبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع ، أو لمن يدعي المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) فلا تكونوا ضالين أشباه العميان ، أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر ، أو فتعلموا أنّ اتباع ما يوحى إليّ مما لا بد لي منه.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) لن.

٢٠