تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

١

٢

٣
٤

٥

٦

٧

٨

٩

١٠

سورة الكهف

مائة وإحدى عشرة آية بصري وعشر آيات كوفي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) (٢)

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْكِتابَ) القرآن ، لقّن الله عباده وفقّههم (١) كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام وما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) أي شيئا من العوج ، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، يقال في رأيه عوج وفي عصاه عوج ، والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه وخروج شيء منه من الحكمة.

٢ ـ (قَيِّماً) مستقيما ، وانتصابه بمضمر وتقديره جعله قيما لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة ، وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر التأكيد فربّ مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند التصفّح ، أو قيما على سائر الكتب مصدقا لها شاهدا بصحتها (لِيُنْذِرَ) أنذر متعد إلى مفعولين كقوله (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) (٢) فاقتصر على أحدهما ، وأصله لينذر الذين كفروا (بَأْساً) عذابا (شَدِيداً) وإنما اقتصر على أحد مفعولي أنذر لأنّ المنذر به هو المسوق إليه فاقتصر عليه (مِنْ لَدُنْهُ) صادرا من عنده (وَيُبَشِّرَ

__________________

(١) في (ز) وفقهم.

(٢) النبأ ، ٧٨ / ٤٠.

١١

ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٧)

(الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ) أي بأنّ لهم (أَجْراً حَسَناً) أي الجنة ، ويبشر حمزة وعليّ.

٣ ـ (ماكِثِينَ) حال من هم في لهم (فِيهِ) في الأجر وهو الجنة (أَبَداً).

٤ ـ (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ذكر المنذرين دون المنذر به بعكس الأول استغناء بتقديم ذكره.

٥ ـ (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي بالولد ، أو باتخاذه ، يعني أنّ قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط ، فإن قلت : اتخاذ الله ولدا في نفسه محال فكيف قيل ما لهم به من علم؟ قلت : معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته ، وانتفاء العلم بالشيء إمّا للجهل بالطريق الموصل إليه أو لأنه في نفسه محال (وَلا لِآبائِهِمْ) المقلّدين (كَبُرَتْ كَلِمَةً) نصب على التمييز ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أكبرها كلمة ، والضمير في كبرت يرجع إلى قولهم اتخذ الله ولدا ، وسميت كلمة كما يسمون القصيدة بها (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) صفة لكلمة تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم فإنّ كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوهوا به بل يكظمون عليه فكيف بمثل هذا المنكر (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ما يقولون ذلك إلا كذبا هو صفة لمصدر محذوف أي قولا كذبا.

٦ ـ (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) قاتل نفسك (عَلى آثارِهِمْ) أي آثار الكفار ، شبّهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الأسف على تولّيهم برجل فارقه أحبته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) بالقرآن (أَسَفاً) مفعول له أي لفرط الحزن ، والأسف المبالغة في الحزن والغضب.

٧ ـ (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) أي ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وحسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها.

١٢

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢)

ثم زهّد في الميل إليها بقوله :

٨ ـ (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) من هذه الزينة (صَعِيداً) أرضا ملساء (جُرُزاً) يابسا لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة ، والمعنى نعيدها بعد عمارتها خرابا بإماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار وغير ذلك.

ولما ذكر من الآيات الكلّية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كلّه كأن لم يكن قال :

٩ ـ (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) يعني أنّ ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة ، والكهف : الغار الواسع في الجبل ، والرقيم اسم كلبهم ، أو قريتهم ، أو اسم كتاب كتب في شأنهم ، أو اسم الجبل الذي فيه الكهف (كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي كانوا آية عجبا من آياتنا وصفا بالمصدر ، أو على ذات عجب.

١٠ ـ (إِذْ) أي اذكر إذ (أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي رحمة من خزائن رحمتك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) أي الذي نحن عليه من مفارقة الكفار (رَشَداً) حتى نكون بسببه راشدين مهتدين ، أو اجعل أمرنا رشدا كلّه كقولك رأيت منك أسدا ، أو يسر لنا طريق رضاك.

١١ ـ (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ) أي ضربنا عليها حجابا من أن تسمع (١) يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات ، فحذف المفعول الذي هو الحجاب (سِنِينَ عَدَداً) ذوات عدد فهو صفة لسنين. قال الزّجّاج : أي تعدّ عددا لكثرتها لأنّ القليل يعلم مقداره من غير عدد فإذا كثر عدّ ، فأما دراهم معدودة فهي على القلة لأنهم كانوا يعدّون القليل ويزنون الكثير.

١٢ ـ (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أيقظناهم من النوم (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) المختلفين منهم في

__________________

(١) في (ز) حجابا من النوم.

١٣

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١٤)

مدة لبثهم لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك وذلك قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) (١) وكان الذين قالوا ربكّم أعلم بما لبثتم هم الذين علموا أنّ لبثهم قد تطاول ، أو أي الحزبين المختلفين من غيرهم (أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) غاية ، وأحصى فعل ماض ، وأمدا ظرف لأحصى أو مفعول له والفعل الماضي خبر المبتدأ ، وهو أي والمبتدأ مع خبره سدّ مسدّ مفعولي نعلم ، والمعنى أيهم ضبط أمدا لأوقات لبثهم وأحاط علما بأمد لبثهم ، ومن قال أحصى أفعل من الإحصاء وهو العدّ فقد زلّ لأنّ بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس ، وإنما قال لنعلم مع أنه تعالى لم يزل عالما بذلك ، لأنّ المراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيمانا واعتبارا ، وليكون لطفا لمؤمني زمانهم ، وآية بينة لكفاره ، أو المراد لنعلم اختلافهما (٢) موجودا كما علمناه قبل وجوده.

١٣ ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) بالصّدق (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) جمع فتى ، والفتوة بذل الندى ، وكفّ الأذى ، وترك الشكوى ، واجتناب المحارم ، واستعمال المكارم ، وقيل الفتى من لا يدّعي قبل الفعل ولا يزكي نفسه بعد الفعل (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) يقينا وكانوا من خواص دقيانوس (٣) قد قذف الله في قلوبهم الإيمان ، وخاف بعضهم بعضا ، وقالوا ليخل اثنان اثنان منا فيظهر كلاهما ما يضمر لصاحبه ، ففعلوا ، فحصل اتفاقهم على الإيمان.

١٤ ـ (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) وقويناها بالصبر على هجران الأوطان ، والفرار بالدين إلى بعض الغيران (٤) ، وجسّرناهم على القيام بكلمة الحقّ والتظاهر بالإسلام (إِذْ قامُوا) بين يدي الجبار ، وهو دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مفتخرين (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) ولئن سميناهم آلهة (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) قولا ذا شطط ، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه ، من شط (٥) إذا بعد.

__________________

(١) تأتي لاحقا برقم ١٩.

(٢) في (ز) إخلافهما.

(٣) دقيانوس ، حاكم بلادهم في زمانهم.

(٤) الغيران جمع غار نقب كالكهف في الجبل.

(٥) في (ظ) و (ز) زاد يشط ويشط.

١٤

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (١٧)

١٥ ـ (هؤُلاءِ) مبتدأ (قَوْمُنَا) عطف بيان (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) خبر ، وهو إخبار في معنى الإنكار (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) هلّا يأتون على عبادتهم ، فحذف المضاف (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) بحجة ظاهرة ، وهو تبكيت (١) لأنّ الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه.

١٦ ـ (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) خطاب من بعضهم لبعض حين صمّمت عزيمتهم على الفرار بدينهم (وَما يَعْبُدُونَ) نصب عطف على الضمير ، أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم (٢) معبوديهم (إِلَّا اللهَ) استثناء متصل لأنهم كانوا يقرّون بالخالق ويشركون معه غيره كأهل مكة ، أو منقطع ، أي وإذ اعتزلتم الكفار والأصنام التي يعبدونها من دون الله ، أو هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) صيروا إليه أي (٣) اجعلوا الكهف مأواكم (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) من رزقه (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) مرفقا مدني وشامي ، وهو ما يرتفق به ، أي ينتفع ، وإنما قالوا ذلك ثقة بفضل الله ، وقوة في رجائهم لتوكّلهم عليه ونصوع يقينهم ، أو أخبرهم به نبيّ في عصرهم.

١٧ ـ (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ) بتخفيف الزاي كوفي ، تزّور شامي ، تزّاور غيرهم ، وأصله تتزاور فخفف بإدغام التاء في الزاي أو حذفها ، والكلّ من الزّور وهو الميل ، ومنه زاره إذا مال إليه ، والزّور الميل عن الصدق (عَنْ كَهْفِهِمْ) أي تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم (ذاتَ الْيَمِينِ) جهة اليمين وحقيقتها الجهة المسماة باليمين (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) تقطعهم أي تتركهم وتعدل عنهم (ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) في متسع من الكهف ، والمعنى أنهم في ظلّ نهارهم كلّه لا

__________________

(١) التبكيت : التقريع والتعنيف والنهر.

(٢) في (ز) وإذ اعتزلتم.

(٣) في (ظ) و (ز) أو اجعلوا.

١٥

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (١٨)

تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرض لإصابة الشمس لو لا أنّ الله يحجبها عنهم ، وقيل منفسح من غار (١) ينالهم فيه روح الهواء ، وبرد النسيم ، ولا يحسّون كرب الغار (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي ما صنعه الله بهم من ازورار الشمس ، وقرضها طالعة وغاربة آية من آيات الله ، يعني أنّ ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصا لهم بالكرامة ، وقيل باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش (٢) فهم في مقنأة (٣) أبدا ، ومعنى ذلك من آيات الله ، أنّ شأنهم وحديثهم من آيات الله (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) مثل ما مرّ في سبحان ، وهو ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم فأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) أي من أضلّه فلا هادي له.

١٨ ـ (وَتَحْسَبُهُمْ) بفتح السين شامي وحمزة وعاصم غير الأعشى ، وهو خطاب لكلّ أحد (أَيْقاظاً) جمع يقظ (وَهُمْ رُقُودٌ) نيام ، قيل عيونهم مفتّحة وهم نيام فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظا (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) قيل لهم تقلّبتان في السنة ، وقيل تقلّبة واحدة في يوم عاشوراء (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) حكاية حال ماضية ، لأنّ اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي (بِالْوَصِيدِ) بالفناء أو العتبة (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) لو أشرفت عليهم فنظرت إليهم (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ) لأعرضت عنهم وهربت منهم (فِراراً) منصوب على المصدر ، لأنّ معنى ولّيت منهم فررت منهم (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ) وبتشديد اللّام حجازي للمبالغة (رُعْباً) تمييز ، وبضم العين شامي وعليّ ، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة ، أو لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم ، وعن معاوية أنه غزا الروم فمرّ بالكهف ، فقال أريد أن أدخل ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : لقد قيل لمن هو خير منك لولّيت منهم فرارا ، فدخلت جماعة بأمره فأحرقتهم ريح (٤).

__________________

(١) في (ز) غارهم.

(٢) بنات نعش : نجم.

(٣) مقنأة : المكان لا تطلع عليه الشمس كمقمأة ، والخصب والدّعة (القاموس ١ / ٢٥).

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم وعبيد بن محمد وأبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس ، وإسناده صحيح ، قاله ابن حجر.

١٦

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (١٩)

١٩ ـ (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) وكما أنمناهم تلك النومة كذلك أيقظناهم إظهارا للقدرة على الإنامة والبعث جميعا (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) ليسأل بعضهم بعضا ، ويتعرفوا حالهم ، وما صنع الله بهم ، فيعتبروا ، ويستدلوا على عظم قدرة الله ، ويزدادوا يقينا ، ويشكروا ما أنعم به (١) عليهم (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) رئيسهم (كَمْ لَبِثْتُمْ) كم مدة لبثتم (٢) (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) جواب مبني على غالب الظنّ ، وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظنّ الغالب (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) بمدة لبثكم ، إنكار عليهم من بعضهم ، كأنهم قد علموا بالأدلة ، أو بإلهام أنّ المدة متطاولة ، وأنّ مقدارها لا يعلمه إلّا الله.

وروي أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال ، فظنوا أنهم في يومهم ، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك.

وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما على أنّ الصحيح عددهم سبعة ، لأنّه (٣) قال في الآية قال قائل منهم كما لبثتم وهذا واحد ، وقالوا في جوابه لبثنا يوما أو بعض يوم ، وهو جمع وأقله ثلاثة ، ثم قال ربّكم أعلم بما لبثتم وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ) كأنهم قالوا ربّكم أعلم بذلك لا طريق لكم إلى علمه فخذوا في شيء آخر مما يهمكم ، فابعثوا أحدكم أي يمليخا (بِوَرِقِكُمْ) هي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ، وبسكون الراء أبو عمرو وحمزة وأبو بكر (هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) هي طرسوس (٤) ، وحملهم الورق عند فرارهم دليل على أنّ حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتكلين على الاتفاقات ، وعلى ما في أوعية القوم من النفقات ، وعن بعض العلماء أنه كان شديد الحنين إلى بيت الله ويقول ما لهذا السفر إلا شيئان شدّ الهميان (٥) والتوكل على

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أنعم الله به.

(٢) في (ز) لبثكم.

(٣) في (ظ) و (ز) قد قال.

(٤) طرسوس : مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. أحدثها سليمان كان خادما للرشيد في سنة نيف وتسعين ومائة (معجم البلدان ٤ / ٣١).

(٥) الهميان : كيس تجعل فيه الدراهم ويشد على الوسط.

تفسير النسفي ج ٣ / م ٢

١٧

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٢١)

الرحمن (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها) أي أهلها فحذف كما في (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) وأي مبتدأ وخبره (أَزْكى) أحلّ وأطيب ، أو أكثر وأرخص (طَعاماً) تمييز (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) وليتكلّف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن ، أو في أمر التخفي حتى لا يعرف (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) ولا يفعلنّ ما يؤدي إلى الشعور بنا من غير قصد منه ، فسمّى ذلك إشعارا منه بهم لأنه سبب فيه.

٢٠ ـ والضمير في (إِنَّهُمْ) راجع إلى الأهل المقدّر في أيها (إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) يطّلعوا عليكم (يَرْجُمُوكُمْ) يقتلوكم أخبث القتلة (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) بالإكراه ، والعود بمعنى الصيرورة كثير في كلامهم (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) إذا يدلّ على الشرط أي ولن تفلحوا إن دخلتم في دينهم أبدا.

٢١ ـ (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) كما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم (لِيَعْلَمُوا) أي الذين أطلعناهم على حالهم (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) وهو البعث (حَقٌ) كائن لأنّ حالهم في نومهم وانتباههم بعدها كحال من يموت ثم يبعث (وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) فإنهم يستدلون بأمرهم على صحة البعث (إِذْ يَتَنازَعُونَ) متعلق بأعثرنا ، أي أعثرناهم عليهم حين يتنازع أهل ذلك الزمان (بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث ، فكان بعضهم يقول تبعث الأرواح دون الأجساد ، وبعضهم يقول تبعث الأجساد مع الأرواح ، ليرتفع الخلاف وليتبين أنّ الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت (فَقالُوا) حين توفى الله أصحاب الكهف (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) أي على باب كهفهم لئلا يتطرق إليهم الناس ضنّا بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحظيرة (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم ، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا ربّهم أعلم بهم ، أو من كلام الله عزوجل رد (٢) لقول الخائضين في حديثهم (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) من المسلمين وملكهم ،

__________________

(١) يوسف ، ١٢ / ٨٢.

(٢) في (ز) ردا.

١٨

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢٢)

وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ) على باب الكهف (مَسْجِداً) يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم.

روي أنّ أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام ، وأكرهوا على عبادتها ، وممن شدّد في ذلك دقيانوس ، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعّدهم بالقتل فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلّب فيه ، ثم هربوا إلى الكهف ومروا بكلب فتبعهم ، فطردوه ، فأنطقه الله تعالى ، فقال : ما تريدون مني إني أحب أحباء الله ، فناموا وأنا أحرسكم ، وقيل مروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ودخلوا الكهف ، فضرب الله على آذانهم ، وقبل أن يبعثهم الله ملّك مدينتهم رجل صالح مؤمن ، وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين ، فدخل الملك بيته وأغلق بابه ، ولبس مسحا وجلس على رماد ، وسأل ربه أن يبين لهم الحقّ ، فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ما سدّ به فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه ، ولما دخل المدينة من بعثوه لا بتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك فقصّ عليه القصة ، فانطلق الملك وأهل المدينة معه ، وأبصروهم ، وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث ، ثم قالت الفتية للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شرّ الجنّ والإنس ، ثم رجعوا إلى مضاجعهم ، وتوفى الله أنفسهم ، فألقى الملك عليهم ثيابه ، وأمر فجعل لكلّ واحد تابوت من ذهب ، فرآهم في المنام كارهين للذهب ، فجعلها من السّاج ، وبنى على باب الكهف مسجدا.

٢٢ ـ (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) الضمير في سيقولون لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المؤمنين ، وأهل الكتاب سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم فأخّر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم ، فنزلت إخبارا بما سيجري بينهم من اختلافهم في عددهم وأنّ المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم.

ويروى أنّ السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف ، فقال السيد وكان يعقوبيا : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقال

١٩

العاقب وكان نسطوريا كانوا خمسة سادسهم كلبهم ، وقال المسلمون كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، فحقق الله قول المسلمين ، وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما ذكرنا من قبل.

وعن علي رضي الله عنه هم سبعة نفر أسماؤهم يمليخا ومكشلينا ومشليينا هؤلاء أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش ، وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره والسابع الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس ، واسم مدينتهم أفسوس (١) ، واسم كلبهم قطمير.

وسين الاستقبال وإن دخل في الأول دون الآخرين فهما داخلان في حكم السين كقولك قد أكرم وأنعم تريد معنى التوقع في الفعلين جميعا ، أو أريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له ، ثلاثة خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلاثة ، وكذلك خمسة وسبعة ، ورابعهم كلبهم جملة من مبتدأ وخبر واقعة صفة لثلاثة ، وكذلك سادسهم كلبهم وثامنهم كلبهم ، رجما بالغيب رميا بالخبر الخفي وإتيانا به ، كقوله : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) (٢) أي يأتون به ، أو وضع الرجم موضع الظنّ ، فكأنه قيل ظنا بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظنّ مكان قولهم ظنّ حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين.

والواو الداخلة على الجملة الثالثة هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة (٣) ، كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في قولك جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف ، وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أنّ اتصافه بها أمر ثابت مستقر ، وهذه الواو هي التي آذنت بأنّ الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم ولم يرجموا بالظنّ كما رجم غيرهم دليله أنّ الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله رجما بالغيب وأتبع القول الثالث قوله (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) أي قل ربي أعلم بعدّتهم ، وقد أخبركم بها بقوله سبعة وثامنهم كلبهم (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا من ذلك القليل ، وقيل إلا قليل من أهل الكتاب ، والضمير في سيقولون على هذا لأهل الكتاب خاصة ، أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وأكثرهم على ظنّ وتخمين (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف (إِلَّا مِراءً ظاهِراً) إلّا جدالا ظاهرا غير متعمق فيه ، وهو أن تقصّ عليهم ما أوحى الله إليك

__________________

(١) أفسوس : بلد بثغور طرسوس. يقال إنه بلد أصحاب الكهف (معجم البلدان ١ / ٢٧٤).

(٢) سبأ ، ٣٤ / ٥٣.

(٣) في (ز) النكرة.

٢٠