تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (٧) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (١٤) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (١٩)

عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة ، وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولو لا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به.

٦ ـ ٨ ـ (كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) نزلت في أبي جهل إلى آخر السورة (أَنْ رَآهُ) أن رأى نفسه ، يقال في أفعال القلوب رأيتني وعلمتني ، ومعنى الرؤية العلم ، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين (اسْتَغْنى) هو المفعول الثاني (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) تهديد للإنسان من عاقبة الطغيان على طريق الالتفات ، والرجعى مصدر بمعنى الرجوع ، أي إن رجوعك إلى ربك فيجازيك على طغيانك.

٩ ـ ١١ ـ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) أي أرأيت أبا جهل ينهى محمدا عن الصلاة (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) أي إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله.

١٢ ـ (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد.

١٣ ـ (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أرأيت إن كان ذلك الناهي مكذّبا بالحق متوليا عنه كما نقول نحن.

١٤ ـ (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب حاله ، وهذا وعيد ، وقوله الذي ينهى مع الجملة الشرطية مفعولا أرأيت ، وجواب الشرط محذوف تقديره إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني ، وهذا كقولك إن أكرمتك أتكرمني ، وأرأيت الثانية مكررة زائدة للتوكيد.

١٥ ـ ١٩ ـ (كَلَّا) ردع لأبي جهل عن نهيه عن عبادة الله وأمره بعبادة

٥٤١

الأصنام ، ثم قال (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عما هو فيه (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) لنأخذنّ بناصيته ولنسحبنّه بها إلى النار ، والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدة ، وكتبتها (١) في المصحف بالألف على حكم الوقف ، واكتفى بلام العهد عن الإضافة للعلم بأنها ناصية المذكور (ناصِيَةٍ) بدل من الناصية لأنها وصفت بالكذب والخطأ بقوله (كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) عن الإسناد المجازي ، وهما لصاحبها حقيقة ، وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) النادي المجلس الذي يجتمع فيه القوم ، والمراد أهل النادي ، روي أن أبا جهل مرّ بالنبي عليه‌السلام وهو يصلي فقال : ألم أنهك ، فأغلظ له رسول الله عليه‌السلام فقال : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ، فنزل (٢). والزبانية لغة : الشرط الواحد زبنية من الزّبن وهو الدفع ، والمراد ملائكة العذاب ، وعنه عليه‌السلام : (لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا) (٣) (كَلَّا) ردع لأبي جهل (لا تُطِعْهُ) أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه ، كقوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (٤) (وَاسْجُدْ) ودم على سجودك ، يريد الصلاة (وَاقْتَرِبْ) وتقرّب إلى ربك بالسجود ، فإن : (أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد) (٥) كذا الحديث (٦).

__________________

(١) في (ز) كتبها.

(٢) الطبري وابن مردويه بهذا وأتم منه ، وهو عند الترمذي والنسائي والحاكم وأحمد وابن أبي شيبة والبزار كلهم من رواية أبي خالد الأحمر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس ، وأصله في صحيح البخاري.

(٣) البخاري والنسائي عن ابن عباس.

(٤) القلم ، ٦٨ / ٨.

(٥) مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ وهو ساجد.

(٦) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٤٢

سورة القدر

مكية وقيل مدنية وهي خمس آيات (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (٢)

١ ـ ٢ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) عظّم القرآن حيث أسند إنزاله إليه دون غيره ، وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للاستغناء عن التنبيه عليه ، ورفع مقدار الوقت الذي أنزله فيه ، روي أنه أنزل جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم كان ينزله جبريل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاث وعشرين سنة ، ومعنى ليلة القدر ليلة تقدير الأمور وقضائها ، والقدر بمعنى التقدير ، أو سمّيت بذلك لشرفها على سائر الليالي ، وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان ، كذا روى أبو حنيفة رحمه‌الله عن عاصم عن زرّ (٢) أن أبيّ بن كعب كان يحلف على ليلة القدر أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان وعليه الجمهور ، ولعل الداعي إلى إخفائها أن يحيي من يريدها الليالي الكثيرة طلبا لموافقتها ، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى ، واسمه الأعظم ، وساعة الإجابة في الجمعة ، ورضاه في الطاعات ، وغضبه في المعاصي ، وفي الحديث : (من أدركها يقول اللهم إنك عفوّ تحبّ العفو فاعف عني) (٣) (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ

__________________

(١) في (ظ) سورة القدر خمس آيات قيل مكية وقيل مدنية.

(٢) زر : هو زر بن حبيش بن حباشة بن أوس الأسدي ، تابعي أدرك الجاهلية والإسلام ولم ير النبي عليه‌السلام ، كان عالما بالقرآن توفي عام ٨٣ ه‍ (الأعلام ٣ / ٤٣).

(٣) كنز العمال ، ٨ / ٢٤٢٨٢.

٥٤٣

لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥)

(الْقَدْرِ) أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها ، ثم بين له ذلك بقوله :

٣ ـ ٥ ـ (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ليس فيها ليلة القدر ، وسبب ارتقاء (١) فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من تنزّل الملائكة والروح ، وفصل كلّ أمر حكيم.

وذكر في تخصيص هذه المدة : أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي (٢) (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) إلى السماء الدنيا أو إلى الأرض (وَالرُّوحُ) جبريل أو خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة ، أو الرحمة (فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي تنزل من أجل كلّ أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل ، وعليه وقف (سَلامٌ هِيَ) ما هي إلا سلامة ، خبر ومبتدأ أي لا يقدّر الله فيها إلا السلامة والخير ، ويقضي في غيرها بلاء وسلامة ، أو ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلّمون على المؤمنين ، قيل لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي إلى وقت طلوع الفجر. بكسر اللام عليّ وخلف ، وقد حرم من السلام الذين كفروا (٣).

__________________

(١) في (ز) ارتفاع.

(٢) الطبري وابن أبي حاتم عن مجاهد وليس فيه وتقاصرت إليهم أعمالهم.

(٣) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٤٤

سورة البينة

مختلف فيها وهي ثمان آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (٢) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥)

٩٨ / ١ ـ ٥ ١ ـ ٣ ـ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى ، فأهل الرجل أخصّ الناس به ، وأهل الإسلام من يدين به (وَالْمُشْرِكِينَ) عبدة الأصنام (مُنْفَكِّينَ) منفصلين عن الكفر ، وحذف لأن صلة الذين تدل عليه (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) الحجة الواضحة ، والمراد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول لم يتركوا كفرهم حتى يبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما بعث أسلم بعض وثبت على الكفر بعض (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) أي محمد عليه‌السلام ، وهو بدل من البينة (يَتْلُوا) يقرأ عليهم (صُحُفاً) قراطيس (مُطَهَّرَةً) من الباطل (فِيها) في الصحف (كُتُبٌ) مكتوبات (قَيِّمَةٌ) مستقيمة ناطقة بالحق والعدل.

٤ ـ ٥ ـ (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) فمنهم من أنكر نبوته بغيا وحسدا ، ومنهم من آمن ، وإنما أفرد أهل الكتاب بعد ما جمع أولا بينهم وبين المشركين لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرّق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف (وَما أُمِرُوا) يعني في التوراة والإنجيل

٥٤٥

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨)

(إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من غير شرك ونفاق (١) (حُنَفاءَ) مؤمنين بجميع الرسل مائلين عن الأديان الباطلة (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي دين الملة القيمة.

٦ ـ ٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ونافع يهمزهما ، والقراء على التخفيف ، والنبيّ والبرية مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل.

٨ ـ (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) إقامة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بقبول أعمالهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابها (ذلِكَ) أي الرضا (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) وقوله خير البرية يدل على فضل المؤمنين من البشر على الملائكة ، لأن البرية الخلق ، واشتقاقها من برأ الله الخلق ، وقيل اشتقاقها من البرى وهو التراب ، ولو كان كذلك لما قرؤوا البريئة بالهمز ، كذا قاله الزجاج (٢).

__________________

(١) في (ز) ولا نفاق.

(٢) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٤٦

سورة الزلزلة

مختلف فيها وهي ثمان آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (٢) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (٥)

١ ـ ٥ ـ (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي إذا حرّكت زلزالها الشديد الذي ليس بعده (١). وقرىء بفتح الزاء ، فالمكسور مصدر والمفتوح اسم (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) كنوزها (٢) وموتاها ، جمع ثقل وهو متاع البيت ، جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالا لها (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) زلزلت هذه الزلزلة الشديدة ، ولفظت ما في بطنها ، وذلك عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ موتاها أحياء فيقولون ذلك لما يظهرهم (٣) من الأمر الفظيع ، كما يقولون : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) (٤) وقيل هذا قول الكافر لأنه كان لا يؤمن بالبعث ، فأما المؤمن فيقول : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (٥) (يَوْمَئِذٍ) بدل من إذا ، وناصبها (تُحَدِّثُ) أي تحدث الخلق (أَخْبارَها) فحذف أول المفعولين لأن المقصود ذكر تحديثها الإخبار لا ذكر الخلق ، قيل ينطقها الله وتخبر بما عمل عليها من خير وشر. وفي الحديث : (تشهد على كلّ واحد بما عمل على ظهرها) (٦) (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي تحدّث أخبارها بسبب

__________________

(١) في (ز) زاد : زلزال.

(٢) في (ز) أي كنوزها.

(٣) في (ظ) و (ز) يبهرهم.

(٤ و ٥) يس ، ٣٦ / ٥٢.

(٦) الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة.

٥٤٧

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (٦) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨)

إيحاء ربّك لها ، أي إليها ، وأمره إياها بالتحديث.

٦ ـ ٨ ـ (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف (أَشْتاتاً) بيض الوجوه آمنين ، وسود الوجوه فزعين ، أو يصدرون عن الموقف أشتاتا يتفرق بهم طريقا الجنة والنار (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أي جزاء أعمالهم (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) نملة صغيرة (خَيْراً) تمييز (يَرَهُ) أي ير جزاءه (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) قيل هذا في الكفار والأول في المؤمنين ، ويروى أن أعرابيا أخّر خيرا يره فقيل له قدّمت وأخرت فقال :

خذا بطن هرشى (١) أو قفاها فإنه

كلا جانبي هرشى لهن طريق

وروي أن جدّ الفرزدق أتاه عليه‌السلام ليستقرئه ، فقرأ عليه هذه الآية فقال : حسبي حسبي ، وهي أحكم آية وسميت الجامعة (٢).

__________________

(١) هرشى : ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يرى منها الشجر ولها طريقان فكل من سلكهما كان مصيبا (معجم البلدان ٥ / ٤٥٧).

(٢) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٤٨

سورة العاديات

مختلف فيها وهي إحدى عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (١) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (٢) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (٥) إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (٨)

١ ـ ٥ ـ (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح ، والضبح : صوت أنفاسها إذا عدون ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه حكاه فقال أح أح ، وانتصاب ضبحا على يضبحن ضبحا (فَالْمُورِياتِ) توري نار الحباحب ، وهي ما ينقدح من حوافرها (قَدْحاً) قادحات صاكات بحوافرها الحجارة ، والقدح : الصك ، والإيراء : إخراج النار ، تقول قدح فأورى وقدح فأصلد ، وانتصب قدحا بما انتصب به ضبحا (فَالْمُغِيراتِ) تغير على العدو (صُبْحاً) في وقت الصبح (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) فهيجن بذلك الوقت غبارا (فَوَسَطْنَ بِهِ) بذلك الوقت (جَمْعاً) من جموع الأعداء ، ووسطه بمعنى توسّطه ، وقيل : الضمير لمكان الغارة ، أو للعدو الذي دل عليه والعاديات ، وعطف فأثرن على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه لأن المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن ، وجواب القسم :

٦ ـ ٨ ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) لكفور ، أي إنه لنعمة ربه خصوصا لشديد الكفران (وَإِنَّهُ) وإن الإنسان (عَلى ذلِكَ) على كنوده (لَشَهِيدٌ) يشهد على نفسه ، أو وإن الله على كنوده لشاهد ، على سبيل الوعيد (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) وإنه

٥٤٩

(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ) (١٢)

لأجل حبّ المال لبخيل ممسك ، أو إنه لحب المال لقوي وهو لحبّ عبادة الله ضعيف.

٩ ـ ١١ ـ (أَفَلا يَعْلَمُ) الإنسان (إِذا بُعْثِرَ) بعث (ما فِي الْقُبُورِ) من الموتى ، وما بمعنى من (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) ميّز ما فيها من الخير والشر (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) لعالم فيجازيهم على أعمالهم من الخير والشر ، وخص يومئذ بالذكر وهو عالم بهم في جميع الأزمان لأن الجزاء يقع يومئذ (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٥٠

سورة القارعة

مكية وهي أحد عشر آية (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (١٠) نَارٌ حَامِيَةٌ)(١١)

١٠١ / ١ ـ ١١ ١ ـ ٥ ـ (الْقارِعَةُ) مبتدأ (مَا) مبتدأ ثان (الْقارِعَةُ) خبره والجملة خبر المبتدأ الأول ، وكان حقه ما هي ، وإنما كرر تفخيما لشأنها (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) أي أيّ شيء أعلمك ما هي ، ومن أين علمت ذلك؟ (يَوْمَ) نصب بمضمر دلت عليه القارعة أي تقرع يوم (يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما يتطاير الفراش إلى النار ، وسمّي فراشا لتفرّشه وانتشاره (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) وشبه الجبال بالعهن وهو الصوف المصبّغ (٢) لأنها ألوان ، (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) (٣) وبالمنفوش منه لتفرّق أجزائها.

٦ ـ ١١ ـ (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) باتباعهم الحق ، وهي جمع موزون ،

__________________

(١) في (ظ) سورة القارعة عشر آيات مكية. وفي (ز) سورة القارعة مكية وهي ثمان آيات. وفي (أ) سورة القارعة مكية وهي عشر آيات. وقد اعتمدنا عدد الآيات المتفق عليه في مصحف المدينة النبوية المتداول في العالم الإسلامي اليوم.

(٢) في (ظ) و (ز) المصبغ ألوانا لأنها.

(٣) فاطر ، ٣٥ / ٢٧.

٥٥١

وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله ، أو جمع ميزان وثقلها رجحانها (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ذات رضا ، أو مرضية (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) باتباعهم الباطل (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) فمسكنه ومأواه النار ، وقيل للمأوى أمّ على التشبيه لأن الأم مأوى الولد ومفزعه (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) الضمير يعود إلى هاوية والهاء للسكت ، ثم فسرها فقال (نارٌ حامِيَةٌ) بلغت النهاية في الحرارة (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٥٢

سورة التكاثر

مكية وهي ثمان آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٨)

١ ـ ٢ ـ (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) شغلكم التباري في الكثرة والتباهي بها في الأموال والأولاد عن طاعة الله (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) حتى أدرككم الموت على تلك الحال ، أو حتى زرتم المقابر وعددتم من في المقابر من موتاكم.

٣ ـ ٤ ـ (كَلَّا) ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند النزع سوء عاقبة ما كنتم عليه (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).

٥ ـ ٨ ـ (كَلَّا) (١) تكرير الردع للإنذار والتخويف (لَوْ تَعْلَمُونَ) جواب لو محذوف ، أي لو تعلمون ما بين أيديكم (عِلْمَ الْيَقِينِ) علم الأمر اليقين ، أي كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر ، أو لفعلتم ما لا يوصف ، ولكنكم ضلّال جهلة (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) هو جواب قسم محذوف ، والقسم لتوكيد الوعيد لترون ، بضم التاء شامي وعليّ (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) كرره معطوفا بثم تغليظا في التهديد وزيادة في

__________________

(١) في (ظ) و (ز) (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في القبور (كَلَّا).

٥٥٣

التهويل ، أو الأول بالقلب والثاني بالعين (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصه (١) (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) عن الأمن والصحة فيم أفنيتموهما ، عن ابن مسعود رضي الله عنه. وقيل عن التنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه. وعن الحسن : ما سوى كنّ (٢) يؤويه ، وثوب يواريه ، وكسرة تقوّيه ، وقد روي مرفوعا (٣).

__________________

(١) في (ظ) و (ز) خالصته.

(٢) كنّ : بيت أو ستر.

(٣) الطبري عن الحسن وقتادة وأتم منه. زاد في (ز) والله أعلم.

٥٥٤

سورة العصر

مكية وهي ثلاث آيات (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣)

١٠٣ / ١ ـ ٣ ١ ـ ٣ ـ (وَالْعَصْرِ) أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله تعالى : والصلاة الوسطى صلاة العصر في مصحف حفصة رضي الله عنها ، ولأن التكليف في أدائها أشقّ لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم ، أو أقسم بالعشيّ كما أقسم بالضحى لما فيها من دلائل القدرة ، أو أقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب. وجواب القسم (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) أي جنس الإنسان لفي خسران من تجارتهم (٢) (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا فربحوا وسعدوا (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، وهو الخير كلّه من توحيد الله وطاعته واتباع كتبه ورسله (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى ما يبلو به الله عباده ، وتواصوا في الموضعين فعل ماض معطوف على ماض قبله (٣).

__________________

(١) في (ز) سورة والعصر مختلف فيها وهي ثلاث آيات.

(٢) في (ظ) و (ز) من تجاراتهم.

(٣) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٥٥

سورة الهمزة

مكية وهي تسع آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ) (٩)

١ ـ ٣ ـ (وَيْلٌ) مبتدأ خبره (لِكُلِّ هُمَزَةٍ) أي الذي يعيب الناس من خلفهم (لُمَزَةٍ) أي من يعيبهم مواجهة ، وبناء فعلة يدل على أن ذلك عادة منه ، قيل نزلت في الأخنس بن شريق وكانت عادته الغيبة (١) وقيل في أمية بن خلف ، وقيل في الوليد ، ويجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما ليتناول كلّ من باشر ذلك القبيح (الَّذِي) بدل من كل ، أو نصب على الذم (جَمَعَ مالاً) جمّع شامي وحمزة وعليّ مبالغة جمع ، وهو مطابق لقوله (وَعَدَّدَهُ) أي جعله عدّة لحوادث الدهر (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي تركه خالدا في الدنيا لا يموت ، أو هو تعريض بالعمل الصالح وأنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم ، فأما المال فما أخلد أحدا فيه.

٤ ـ ٩ ـ (كَلَّا) ردع له عن حسبانه (لَيُنْبَذَنَ) أي الذي جمع (فِي الْحُطَمَةِ) في النار التي شأنها أن تحطم كلّ ما يلقى فيها (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) تعجيب وتعذيب (٢) (نارُ اللهِ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هي نار الله (الْمُوقَدَةُ)

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) والوقيعة.

(٢) في (ظ) و (ز) تعجيب وتعظيم.

٥٥٦

نعتها (١) (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) يعني أنه تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم وهي أوساط القلوب ، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ولا أشدّ تألما منه بأدنى أذى يمسّه ، فكيف إذا اطّلعت عليه نار جهنم واستولت عليه ، وقيل خصّ الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة ، ومعنى اطلاع النار عليها أنها تشتمل عليها (إِنَّها عَلَيْهِمْ) أي النار ، أو الحطمة (مُؤْصَدَةٌ) مطبقة (فِي عَمَدٍ) بضمتين كوفي غير حفص ، الباقون في عمد ، وهما لغتان في جمع عماد كإهاب وأهب وحمار وحمر (مُمَدَّدَةٍ) أي تؤصد عليهم الأبواب ، وتمدد على الأبواب العمد استيثاقا في استيثاق. في الحديث : (المؤمن كيّس فطن ، وقاف (٢) متثبت لا يعجل عالم ورع ، والمنافق همزة لمزة حطمة (٣) كحاطب الليل لا يبالي من أين اكتسب وفيم أنفق) (٤) (٥).

__________________

(١) بعد نعتها يبدأ النقص في (أ).

(٢) قاف : متتبع الأثر.

(٣) حطمة : كثير الأكل.

(٤) كنز العمال ، ١ / ٦٨٩ ، ٨١٢.

(٥) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٥٧

سورة الفيل

مكية وهي خمس آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) (١)

١ ـ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) كيف في موضع نصب بفعل لا بألم تر لما في كيف من معنى الاستفهام ، والجملة سدّت مسدّ مفعولي تر ، وفي ألم تر تعجيب أي عجّب الله نبيه من كفر العرب وقد شاهدت هذه العظمة من آيات الله ، والمعنى إنك رأيت آثار صنع الله بالحبشة ، وسمعت الأخبار به متواترا ، فقامت لك مقام المشاهدة (بِأَصْحابِ الْفِيلِ) روي أن أبرهة بن الصباح ـ ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي ـ بنى كنيسة بصنعاء وسماها القلّيس ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، فخرج رجل من كنانة فقعد (١) فيها ليلا ، فأغضبه ذلك ، وقيل أجّجت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها ، فحلف ليهدمنّ الكعبة ، فخرج بالحبشة ومعه فيل اسمه محمود وكان قويا عظيما واثنا عشر فيلا غيره ، فلما بلغ المغمّس (٢) خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى وعبّى جيشه وقدّم الفيل ، وكان كلما وجّهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجّهوه إلى اليمن هرول ، وأرسل الله طيرا مع كلّ طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمّصة ، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كلّ حجر اسم من يقع عليه ،

__________________

(١) قعد فيها : أي تبرز وتغوط.

(٢) المغمس : موضع قرب مكة في طريق الطائف (معجم البلدان ٥ / ١٨٨).

٥٥٨

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (٣) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ) (٥)

ففروا وهلكوا ، وما مات أبرهة حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي ، فقصّ عليه القصة ، فلما أتمّها وقع عليه الحجر فخر ميتا بين يديه.

وروي أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليه فيها ، فعظم في عينه وكان رجلا جسيما وسيما ، وقيل هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، فلما ذكر حاجته قال : سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وشرفكم في قديم الدهر فألهاك عنه ذود أخذ لك فقال : أنا ربّ الإبل وللبيت ربّ سيمنعه (١).

٢ ـ ٥ ـ (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) في تضييع وإبطال ، يقال ضلّل كيده إذا جعله ضالا ضائعا ، وقيل لامرىء القيس (٢) : الملك الضليل لأنه ضلّل ملك أبيه أي ضيعه ، يعني أنهم كادوا البيت أوّلا ببناء القلّيس ليصرفوا وجوه الحاجّ إليه ، فضلّل كيدهم بإيقاع الحريق فيه ، وكادوه ثانيا بإرادة هدمه فضلّل كيدهم بإرسال الطير عليهم (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) حزائق (٣) ، الواحدة إبالة قال الزجاج : جماعات من ههنا وجماعات من ههنا (تَرْمِيهِمْ) وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه يرميهم أي الله ، أو الطير لأنه اسم جمع مذكر وإنما يؤنث على المعنى (بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) هو معرب من سنككل وعليه الجمهور ، أي الآجرّ (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) زرع أكله الدود.

__________________

(١) الطبري في حديث طويل عن ابن إسحاق.

(٢) امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي ، أشهر شعراء العرب على الإطلاق كان أبوه ملك أسد وغطفان فلما قتل تولى الملك وثأر لأبيه ولد نحو ١٣٠ ق. ه ومات ٨٠ ق. ه (الأعلام ٢ / ١١).

(٣) حزائق : جماعات.

٥٥٩

سورة قريش

مكية وهي أربع آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ) (٢)

١ ـ ٢ ـ (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) متعلق بقوله فليعبدوا ، أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين ، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط ، أي إنّ نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة ، أو بما قبله أي فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، يعني أن ذلك الإتلاف لهذا الإيلاف ، وهذا كالتضمين في الشعر ، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به ، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل ، ويروى عن الكسائي ترك التسمية بينهما ، والمعنى أنه أهلك الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيحترموهم فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم فلا يجترىء أحد عليهم ، وقيل المعنى اعجبوا لإيلاف قريش ، لإلاف قريش شامي ، أي لمؤالفة قريش ، وقيل : يقال ألفته ألفا وإلافا ، وقريش ولد النضر بن كنانة سموه بتصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار ، والتصغير للتعظيم فسموه بذلك لشدتهم ومنعتهم تشبيها بها ، وقيل من القرش وهو الجمع والكسب لأنهم كانوا كسّابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) أطلق الإيلاف ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين تفخيما لأمر الإيلاف ، وتذكيرا لعظيم النعمة فيه ، ونصب رحلة بإيلافهم مفعولا به ، وأراد رحلتي الشتاء والصيف ، فأفرد لأمن الإلباس ، وكانت لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى

٥٦٠