تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

سورة الانشقاق

مكية وهي خمس وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) (٩)

١ ـ ٥ ـ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) تصدّعت وتشقّقت (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) سمعت وأطاعت وأجابت ربّها إلى الانشقاق ولم تأب ولم تمتنع (وَحُقَّتْ) وحقّ لها أن تسمع وتطيع لأمر الله إذ هي مصنوعة مربوبة لله تعالى (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) بسطت وسويت باندكاك جبالها ، وكلّ أمت (١) فيها (وَأَلْقَتْ ما فِيها) ورمت ما في جوفها من الكنوز والموتى (وَتَخَلَّتْ) وخلت غاية الخلوّ حتى لم يبق شيء في باطنها ، كأنها تكلّفت أقصى جهدها في الخلوّ ، يقال تكرّم الكريم إذا بلغ جهده في الكرم وتكلّف فوق ما في طبعه (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) في إلقاء ما في بطنها وتخلّيها (وَحُقَّتْ) وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع ، وحذف جواب إذا ليذهب المقدّر كلّ مذهب ، أو اكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار ، أو جوابه ما دلّ عليه فملاقيه ، أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه.

٦ ـ ٩ ـ (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) خطاب للجنس (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) جاهد

__________________

(١) الأمت : المكان المرتفع.

٥٠١

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١) وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (١٤) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (١٥) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ)(١٩)

إلى لقاء ربّك ، وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء (فَمُلاقِيهِ) الضمير للكدح وهو جهد النفس في العمل والكدّ فيه حتى يؤثر فيها ، والمراد جزاء الكدح إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وقيل لقاء الكدح لقاء كتاب فيه ذلك (١) يدل عليه قوله (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أي كتاب عمله (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) سهلا هينا وهو أن يجازى على الحسنات ويتجاوز عن السيئات. وفي الحديث : (من يحاسب يعذّب) (٢) فقيل : فأين قوله فسوف يحاسب حسابا يسيرا؟ قال : ذلكم العرض من نوقش في الحساب عذّب (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين ، أو إلى فريق المؤمنين ، أو إلى أهله في الجنة من الحور العين (مَسْرُوراً) فرحا.

١٠ ـ ١٥ ـ (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) قيل تغلّ يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) يقول يا ثبوراه ، والثبور الهلاك (وَيَصْلى) عراقي غير عليّ (سَعِيراً) أي ويدخل جهنم (إِنَّهُ كانَ) في الدنيا (فِي أَهْلِهِ) معهم (مَسْرُوراً) بالكفر يضحك ممن آمن بالبعث ، قيل كان لنفسه متابعا وفي مراتع هواه راتعا (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) لن يرجع إلى ربّه تكذيبا بالبعث ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت تفسيره حتى سمعت أعرابية تقول لبنتها حوري أي ارجعي (بَلى) إيجاب لما بعد النفي في لن يحور ، أي بلى ليحورنّ (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ) وبأعماله (بَصِيراً) لا يخفى عليه فلا بدّ أن يرجعه ويجازيه عليها.

١٦ ـ ١٩ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) فأقسم بالبياض بعد الحمرة أو الحمرة (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) جمع وضمّ ، والمراد ما جمعه من الظلمة والنجم ، أو ما عمل فيه من التهجد وغيره (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) اجتمع وتم بدرا ، افتعل من الوسق (لَتَرْكَبُنَ) أيها الإنسان على إرادة الجنس (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) حالا بعد حال ، كلّ واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول ، والطبق ما طابق غيره ، يقال : ما هذا بطبق لذا ، أي لا يطابقه ، ومنه قيل للغطاء الطبق ، ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة من قولهم هو على طبقات أي لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض ،

__________________

(١) زاد في (ز) الكدح.

(٢) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.

٥٠٢

(فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢٥)

وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها ، ومحلّ عن طبق نصب على أنه صفة لطبقا أي طبقا مجاوزا لطبق ، أو حال من الضمير في لتركبن أي لتركبن طبقا مجاوزين لطبق ، وقال مكحول : في كلّ عشرين عاما تحدثون (١) أمرا لم تكونوا عليه وبفتح الباء مكي وعليّ وحمزة ، والخطاب له عليه‌السلام أي طبقا من طباق السماء بعد طبق ، أي في المعراج.

٢٠ ـ ٢٥ ـ (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فما لهم في أن لا يؤمنوا (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) لا يخضعون (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) بالبعث والقرآن (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر وتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ويدّخرون لأنفسهم من أنواع العذاب (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أخبرهم خبرا يظهر أثره على بشرتهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء منقطع (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير مقطوع ، أو غير منقوص (٢).

__________________

(١) في (ظ) و (ز) تجدون.

(٢) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٠٣

سورة البروج

مكية وهي اثنتان وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) (٣)

١ ـ ٣ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) هي البروج الاثنا عشر ، وقيل النجوم أو عظام الكواكب (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يوم القيامة (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أي وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه ، والمراد بالشاهد من يشهد فيه من الخلائق كلّهم وبالمشهود فيه ما في ذلك اليوم من عجائبه ، وطريق تنكيرهما إما ما في (١) قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (٢) كأنه قيل ما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود ، وإما للإبهام في الوصف كأنه قيل وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما ، وقد كثرت أقاويل المفسرين فيهما فقيل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويوم القيامة ، أو عيسى وأمته لقوله : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) (٣) أو أمة محمد وسائر الأمم ، أو الحجر الأسود والحجيج ، أو الأيام والليالي وبنو آدم للحديث : (ما من يوم إلا وينادي أنا يوم جديد وعلى ما يفعل فيّ شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة) (٤) ، أو الحفظة وبنو آدم ، أو الله تعالى والخلق لقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٥) أو الأنبياء ومحمد عليهم‌السلام ، وجواب القسم محذوف يدل عليه :

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أما ما ذكرته في قوله.

(٢) التكوير ، ٨١ / ١٤.

(٣) المائدة ، ٥ / ١١٧.

(٤) لم أجده.

(٥) النساء ، ٤ / ٧٩ و ١٦٦. الفتح ، ٤٨ / ٢٨.

٥٠٤

(قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٩)

٤ ـ ٥ ـ (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي لعن كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء إنهم ملعونون ، يعني كفار قريش كما لعن الأخدود ، وهو خد أي شق عظيم في الأرض. روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضموا إليه غلاما ليعلمه السحر وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها ، فقتلها فكان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص ، وعمي جليس للملك فأبرأه ، فأبصره الملك ، فسأله من رد عليك بصرك فقال : ربي ، فغضب ، فعذبه ، فدل على الغلام ، فعذبه ، فدل على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار ، وأبى الغلام ، فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته ، فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا ، فذهب به إلى قرقور ، فلجّجوا به ليغرقوه ، فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا ، فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي وتقول باسم الله ربّ الغلام ثم ترميني به ، فرماه فوقع في صدغه ، فوضع يده عليه فمات ، فقال الناس آمنا بربّ الغلام ، فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر ، فخدّ أخدودا وملأها نارا فمن لم يرجع عن دينه طرحه فيها ، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها ، فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق ، فألقي الصبي وأمّه فيها (١) (النَّارِ) بدل اشتمال من الأخدود (ذاتِ الْوَقُودِ) وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس.

٦ ـ ٩ ـ (إِذْ) ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا (٢) بالنار قاعدين حولها (هُمْ عَلَيْها) أي الكفار على ما يدنو منها من حافات الأخدود (قُعُودٌ) جلوس على الكراسي (وَهُمْ) أي الكفار (عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ) من الإحراق (شُهُودٌ) يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحدا منهم لم يفرط فيما أمر وفوّض إليه من التعذيب ، وفيه حث للمؤمنين على الصبر وتحمل أذى أهل مكة (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) وما عابوا

__________________

(١) مسلم والترمذي والنسائي وابن حبان والطبري وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار كلهم من رواية ابن أبي ليلى من طرق.

(٢) في (ظ) و (ز) أحرقوا.

٥٠٥

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) (١٦)

منهم وما أنكروا إلا الإيمان كقوله (١) :

* ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم*

وقوله (٢) :

ما نقموا من بني أمية إل

لّا أنهم يحلمون إن غضبوا

وقرىء نقموا بالكسر ، والفصيح هو الفتح (بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به وهو كونه عزيزا غالبا قادرا يخشى عقابه ، حميدا منعما يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقريرا ، لأنّ ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل ، وأن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب عظيم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وعيد لهم ، يعني أنه علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه.

١٠ ـ ١١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود ، ومعنى فتنوهم عذبوهم بالنار وأحرقوهم (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) لم يرجعوا عن كفرهم (فَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) في الدنيا ، لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ، ويجوز أن يريد الذين فتنوا المؤمنين أي بلوهم بالأذى على العموم ، والمؤمنين المفتونين ، وأن للفاتنين عذابين في الآخرة لكفرهم ولفتنتهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أي الذين صبروا على تعذيب الأخدود ، أو هو عام.

١٢ ـ ١٦ ـ (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) البطش : الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم ، والمراد أخذه الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ

__________________

(١) كقوله : القائل النابغة الذبياني والقول صدر بيت عجزه :

وبهن فلول من قراع الكتائب

(٢) وقوله : القائل الشاعر قيس الرقيات.

٥٠٦

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ٢١ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ) (٢٢)

(وَيُعِيدُ) أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد أن صيّرهم ترابا ، دل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدة بطشه ، أو أوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة (وَهُوَ الْغَفُورُ) الساتر للعيوب العافي عن الذنوب (الْوَدُودُ) المحب لأوليائه ، وقيل الفاعل بأهل طاعته (١) ما يفعله الودود من إعطائهم ما أرادوا (ذُو الْعَرْشِ) خالقه ومالكه (الْمَجِيدُ) وبالجر حمزة وعليّ على أنه صفة للعرش ، ومجد الله عظمته ، ومجد العرش علوّه وعظمه (فَعَّالٌ) خبر مبتدأ محذوف (لِما يُرِيدُ) تكوينه فيكون ، فيه دلالة خلق أفعال العباد.

١٧ ـ ٢٢ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) أي (٢) خبر الجموع الطاغية في الأمم الخالية (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) بدل من الجنود ، وأراد بفرعون إياه وآله ، والمعنى قد عرفت تكذيب تلك الجنود للرسل وما نزل بهم لتكذيبهم (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قومك (فِي تَكْذِيبٍ) واستيجاب للعذاب ولا يعتبرون بالجنود لا لخفاء حال الجنود عليهم لكن يكذبونك عنادا (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ، والإحاطة بهم من ورائهم مثل بأنهم (٣) لا يفوتونه كما لا يفوت الشيء المحيط به (بَلْ هُوَ) بل هذا الذي كذبوا به (قُرْآنٌ مَجِيدٌ) شريف عالي الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه ، ليس كما يزعمون أنه مفترى وأنه أساطير الأولين (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) من وصول الشياطين إليه (٤). محفوظ نافع صفة للقرآن أي من التغيير والتبديل ، واللوح عند الحسن شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه ، وعند ابن عباس رضي الله عنهما هو من درة بيضاء طولها ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، قلمه نور وكلّ شيء فيه مسطور. مقاتل : هو على يمين العرش ، وقيل أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر ملك كريم (٥).

__________________

(١) في (ز) الفاعل لأهل الطاعة.

(٢) في (ظ) أي قد أتى ، وفي (ز) أي قد أتاك.

(٣) في (ز) لأنهم.

(٤) ليس في (ظ) و (ز) إليه.

(٥) زاد في (ز) والله أعلم.

٥٠٧

سورة الطارق

مكية وهي سبع عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (٤) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (٧)

١ ـ ٤ ـ (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ. وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ) عظّم قدر السماء في أعين الخلق لكونها معدن رزقهم ، وسكن (١) ملائكته ، وفيها خلق الجنة فأقسم بها وبالطارق ، والمراد جنس النجوم ، أو جنس الشهب التي يرجم بها لعظم منفعتها ، ثم فسره بالنجم الثاقب أي المضيء ، كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه ، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل كما يقال للآتي ليلا طارق ، أو لأنه يطرق الجنيّ أي يصكه ، وجواب القسم (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) لأن لمّا إن كانت مشددة بمعنى إلا ، كقراءة عاصم وحمزة وابن عامر ، فتكون إن نافية ، أي ما كلّ نفس إلّا عليها حافظ ، وإن كانت مخففة كقراءة غيرهم فتكون إن مخففة من الثقيلة ، أي إن كلّ نفس لعليها حافظ يحفظها من الآفات ، أو يحفظ عملها ورزقها وأجلها فإذا استوفى ذلك مات ، وقيل هو كاتب الأعمال ، فما زائدة واللام فارقة بين الثقيلة والخفيفة ، وحافظ مبتدأ وعليها الخبر ، والجملة خبر كل ، وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم.

٥ ـ ٧ ـ (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) لما ذكر أنّ على كلّ نفس حافظا أمره بالنظر في

__________________

(١) في (ز) ومسكن.

٥٠٨

(إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (١٠) وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥) وَأَكِيدُ كَيْدًا (١٦) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) (١٧)

أول أمره ليعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الجزاء ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته ، ومم خلق استفهام أي من أيّ شيء خلق؟ جوابه (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) والدفق : صبّ فيه دفع ، والدفق في الحقيقة لصاحبه والإسناد إلى الماء مجاز ، وعن بعض أهل اللغة دفقت الماء دفقا : صببته ، ودفق الماء بنفسه أي انصبّ ، ولم يقل من ماءين لامتزاجهما في الرحم واتحادهما حين ابتدىء في خلقه (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) من صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة ، وقيل العظم والعصب من الرجل واللحم والدم من المرأة.

٨ ـ ١٠ ـ (إِنَّهُ) إن الخالق لدلالة خلق عليه ، ومعناه : إن الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة (عَلى رَجْعِهِ) على إعادته خصوصا (لَقادِرٌ) لبيّن القدرة لا يعجز عنه كقوله : إنني لفقير ، أي لبيّن الفقر. ونصب (يَوْمَ تُبْلَى) أي تكشف ، برجعه ، أو بمضمر دلّ عليه قوله رجعه أي يبعثه يوم تبلى (السَّرائِرُ) ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وما أخفي من الأعمال (فَما لَهُ) فما للإنسان (مِنْ قُوَّةٍ) في نفسه على دفع ما حلّ به (وَلا ناصِرٍ) يعينه ويدفع عنه.

١١ ـ ١٤ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي المطر ، وسمّي به لعوده كلّ حين (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات (إِنَّهُ) إن القرآن (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) فاصل بين الحقّ والباطل ، كما قيل له فرقان (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) باللعب والباطل ، يعني أنه جدّ كلّه ومن حقّه وقد وصفه الله بذلك أن يكون مهيبا في الصدور ، معظما في القلوب ، يرتفع به قارئه وسامعه أن يلمّ بهزل أو يتفكّه بمزاح.

١٥ ـ ١٧ ـ (إِنَّهُمْ) يعني مشركي مكة (يَكِيدُونَ كَيْداً) يعملون المكايد في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق (وَأَكِيدُ كَيْداً) وأجازيهم جزاء كيدهم باستدراجي لهم من حيث لا يعلمون ، فسمّي جزاء الكيد كيدا كما سمّي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداء وسيئة وإن لم يكن اعتداء وسيئة ، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلا على وجه الجزاء كقوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (١) (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٢)

__________________

(١) التوبة ، ٩ / ٦٧.

(٢) النساء ، ٤ / ١٤٢.

٥٠٩

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (١) (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به (أَمْهِلْهُمْ) أنظرهم ، فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين والتصبير (رُوَيْداً) مهلا يسيرا ولا يتكلم بها إلا مصغّرة ، وهي من رادت الريح ترود رودا تحركت حركة ضعيفة.

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ١٥.

٥١٠

سورة الأعلى

مكية وهي تسع عشرة آية

بسم الله الحمن الرحيم

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (٥) سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى (٦) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (٨) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى) (٩)

١ ـ ٥ ـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) نزّه ذاته عما لا يليق به ، والاسم صلة وذلك بأن يفسّر الأعلى بمعنى العلوّ الذي هو القهر والاقتدار لا بمعنى العلوّ في المكان ، وقيل : قل سبحان ربي الأعلى وفي الحديث لما نزلت قال عليه‌السلام : (اجعلوها في سجودكم) (١) (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي خلق كلّ شيء فسوّى خلقه تسوية ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم ولكن على إحكام واتّساق ، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم ، أو سوّاه على ما فيه منفعته ومصلحته (٢) (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي قدّر لكلّ حيوان ما يصلحه فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به ، أو فهدى وأضلّ ولكن حذف وأضلّ اكتفاء كقوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٣) قدر عليّ (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أنبت ما ترعاه الدواب (فَجَعَلَهُ غُثاءً) يابسا هشيما (أَحْوى) أسود ، فأحوى صفة لغثاء.

٦ ـ ٩ ـ (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) سنعلمك القرآن حتى لا (٤) تنساه (إِلَّا ما شاءَ اللهُ)

__________________

(١) أبو داود وابن ماجه وابن حبان وأحمد من رواية إياس بن عامر عن عقبة بن عامر.

(٢) في (ز) منفعة ومصلحة.

(٣) النحل ، ١٦ / ٩٣. فاطر ، ٣٥ / ٨.

(٤) سقط من (ز) لا.

٥١١

(سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (١٢) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (١٧)

أن ينسخه ، وهذا بشارة من الله لنبيه أن يحفظ عليه الوحي حتى لا ينفلت منه شيء إلا ما شاء الله أن ينسخه فيذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته. وسأل ابن كيسان النحوي (١) جنيدا عنه فقال : فلا تنسى العمل به ، فقال : مثلك يصدّر. وقيل : قوله فلا تنسى على النهي والألف مزيدة للفاصلة كقوله : (السَّبِيلَا) (٢) أي فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي إنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل مخافة التفلّت والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر ، أو ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان ، أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم وما ظهر وما بطن من أحوالكم (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) معطوف على سنقرئك ، وقوله : إنه يعلم الجهر وما يخفى اعتراض ومعناه ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، يعني حفظ الوحي ، وقيل للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع ، أو نوفقك لعمل الجنة (فَذَكِّرْ) عظ بالقرآن (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) جواب إن مدلول قوله فذكّر ، قيل ظاهره شرط ومعناه استبعاد لتأثير الذكرى فيهم ، وقيل هو أمر بالتذكير على الإطلاق كقوله : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (٣) غير مشروط بالنفع.

١٠ ـ ١٣ ـ (سَيَذَّكَّرُ) سيتعظ ويقبل التذكرة (مَنْ يَخْشى) الله وسوء العاقبة (وَيَتَجَنَّبُهَا) ويتباعد عن الذكرى فلا يقبلها (الْأَشْقَى) الكافر ، أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قيل نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) يدخل نار جهنم ، والصغرى نار الدنيا (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح من العذاب (وَلا يَحْيى) حياة ، يتلذذ بحياته (٤) ، وقيل ثم لأن الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصّلى (٥) فهو متراخ عنه في مراتب الشدة.

١٤ ـ ١٧ ـ (قَدْ أَفْلَحَ) نال الفوز (مَنْ تَزَكَّى) تطهر من الشرك ، أو تطهر

__________________

(١) ابن كيسان : هو صالح بن كيسان المدني مؤدب أبناء عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان من فقهاء المدينة الجامعين بين الحديث والفقه توفي عام ١٤٠ ه‍ (الأعلام ٣ / ١٩٥).

(٢) الأحزاب ، ٣٣ / ٦٧.

(٣) الغاشية ، ٨٨ / ٢١.

(٤) في (ز) يتلذذ بها.

(٥) الصّلى : الاحتراق.

٥١٢

(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (١٩)

للصلاة ، أو أدى الزكاة تفعّل من الزكاة كتصدّق من الصدقة (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) وكبّر للافتتاح (فَصَلَّى) الخمس ، وبه يحتجّ على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنها ليست من الصلاة ، لأن الصلاة عطفت عليها وهو يقتضي المغايرة ، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عزوجل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ذكر معاده وموقفه بين يدي ربّه فصلّى له ، وعن الضحاك : وذكر اسم ربه في طريق المصلّى وصلّى صلاة العيد (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على الآخرة فلا تفعلون ما به تفلحون ، والمخاطب به الكافرون دليله قراءة أبي عمرو يؤثرون بالياء (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أفضل في نفسها وأدوم.

١٨ ـ ١٩ ـ (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) هذا إشارة إلى قوله : قد أفلح إلى أبقى أي أنّ معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف ، أو إلى ما في السورة كلها ، وهو دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة لأنه جعله مذكورا في تلك الصحف مع أنه لم يكن فيها بهذا النظم وبهذه اللغة (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) بدل من الصحف الأولى ، وفي الأثر وفي صحف إبراهيم : ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه.

٥١٣

سورة الغاشية

مكية وهي ست وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (٢) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (٣) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (٤) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (٦) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ) (٧)

١ ـ ٧ ـ (هَلْ) بمعنى قد (أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها ، يعني القيامة وقيل النار من قوله : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (١) (وُجُوهٌ) أي وجوه الكفار ، وإنما خصّ الوجه لأن الحزن والسرور إذا استحكما في المرء أثّرا في الوجه (٢) (يَوْمَئِذٍ) يوم إذ غشيت (خاشِعَةٌ) ذليلة لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) تعمل في النار عملا تتبعت (٣) فيه ، وهو جرّها السلاسل والأغلال ، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقاؤها دائبة في صعود من نار وهبوطها في حدور منها ، وقيل عملت في الدنيا أعمال السوء والتذّت بها وتنعمت فهي في نصب منها في الآخرة ، وقيل هم أصحاب الصوامع ، ومعناه أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب (تَصْلى ناراً حامِيَةً) تدخل نارا قد أحميت مددا طويلة ، فلا حرّ يعدل حرّها. تصلى أبو بكر وأبو عمرو (٤) (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) من عين ماء قد انتهى حرّها ، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجعة إلى الوجوه ، والمراد أصحابها

__________________

(١) إبراهيم ، ١٤ / ٥٠.

(٢) في (ظ) و (ز) وجهه.

(٣) في (ظ) و (ز) تتعب.

(٤) في (ظ) و (ز) أبو عمرو وأبو بكر.

٥١٤

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ٨ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (١٠) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (١١) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (١٢) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦)

بدليل قوله (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وهو نبت يقال لرطبه الشّبرق (١) فإذا يبس فهو ضريع وهو سم قاتل ، والعذاب ألوان والمعذبون طبقات ، فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع ، فلا تناقض بين هذه الآية وبين قوله : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٢) (لا يُسْمِنُ) مجرور المحلّ لأنه وصف ضريع (وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) أي منفعتا الغذاء منتفيتان عنه ، وهما إماطة الجوع وإفادة السّمن في البدن.

٨ ـ ١٦ ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) ثم وصف وجوه المؤمنين ولم يقل ووجوه لأن الكلام الأول قد طال وانقطع (ناعِمَةٌ) متنعمة في لين العيش (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) رضيت بعملها وطاعتها لمّا رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة والثواب (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) من علوّ المكان أو المقدار (لا تَسْمَعُ) يا مخاطب ، أو الوجوه (فِيها لاغِيَةً) أي لغوا ، أو كلمة ذات لغو ، أو نفسا تلغو ، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم. لا يسمع فيها لاغية مكي وأبو عمرو. لا تسمع فيها لاغية نافع (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) أي عيون كثيرة كقوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) (٣) (فِيها سُرُرٌ) جمع سرير (مَرْفُوعَةٌ) من رفعة المقدار ، أو السّمك ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله ربّه من الملك والنعيم (وَأَكْوابٌ) جمع كوب وهو القدح ، وقيل آنية لا عروة لها (مَوْضُوعَةٌ) بين أيديهم ليتلذذوا بالنظر إليها (٤) ، أو موضوعة على حافات العيون معدّة للشرب (وَنَمارِقُ) وسائد (مَصْفُوفَةٌ) بعضها إلى جنب بعض ، مساند ومطارح أينما أراد أن يجلس جلس على مسوّدة واستند إلى الأخرى (وَزَرابِيُ) وبسط عراض فاخرة جمع زربيّة (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة ، أو مفرقة في المجالس.

ولما أنزل الله تعالى هذه الآيات في صفة الجنة وفسّر النبي عليه‌السلام بأن ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ والأكواب الموضوعة لا تدخل في حساب الخلق لكثرتها ، وطول النمارق كذا وعرض الزرابي كذا أنكر الكفار وقالوا : كيف يصعد على هذا

__________________

(١) في (ز) يقال له.

(٢) الحاقة ، ٦٩ / ٣٦.

(٣) التكوير ، ٨١ / ١٤. الانفطار ، ٨٢ / ٥.

(٤) في (ظ) ليتلذذوا بالرؤية إليها ، وفي (ز) ليتلذذوا بها بالنظر إليها.

٥١٥

(أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (٢٦)

السرير ، وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة ، وتطول النمارق هذا الطول ، وتنبسط (١) الزرابي هذا الانبساط ولم نشاهد ذلك في الدنيا؟ فقال الله تعالى :

١٧ ـ ٢٠ ـ (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) طويلة ، ثم تبرك حتى تركب أو يحمل عليها ، ثم تقوم ، فكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما يطأطىء الإبل (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) رفعا بعيد المدى بلا إمساك وعمد ، ثم نجومها تكثر هذه الكثرة فلا تدخل في حساب الخلق فكذا الأكواب (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) نصبا ثابتا فهي راسخة لا تميل مع طولها فكذا النمارق (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) سطحا بتمهيد وتوطئة ، فهي كلّها بساط واحد ينبسط من الأفق إلى الأفق فكذا الزرابي ، ويجوز أن يكون المعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه؟ وتخصيص هذه الأربعة باعتبار أن هذا خطاب للعرب وحث لهم على الاستدلال ، والمرء إنما يستدل بما تكثر مشاهدته له ، والعرب تكون في البوادي ونظرهم فيها إلى السماء والأرض والجياد (٢) والإبل ، فهي أعز أموالهم وهم لها أكثر استعمالا منهم لسائر الحيوانات ، ولأنها تجمع جميع المآرب المطلوبة من الحيوان وهي النسل والدرّ والحمل والركوب والأكل بخلاف غيرها ، ولأن خلقها أعجب من غيرها فإنه سخّرها منقادة لكلّ من اقتادها بأزمتّها لا تعازّ (٣) ضعيفا ولا تمانع صغيرا ، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار (٤) ، وجعلها بحيث تبرك حتى تحمّل عن قرب ويسر ثم تنهض بما حملت وتجرّها إلى البلاد الشاحطة (٥) وصبّرها على احتمال العطش حتى إنّ اظماءها لترتفع إلى العشر فصاعدا ، وجعلها ترعى كلّ نابت في البوادي (٦) مما لا يرعاه سائر البهائم.

٢١ ـ ٢٦ ـ (فَذَكِّرْ) فذكرهم بالأدلة ليتفكروا فيها (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) ليس

__________________

(١) في (ز) وبسط.

(٢) في (ظ) و (ز) والجبال.

(٣) تعازّ : تغالب.

(٤) الأوقار : الأحمال الثقيلة.

(٥) الشاحطة : البعيدة.

(٦) في (ظ) و (ز) البراري.

٥١٦

عليك إلا التبليغ (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) بمتسلط كقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (١) ، بمصيطر مدني وبصري وعاصم وعلي (٢) (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) الاستثناء منقطع ، أي لست بمسؤول عليهم ولكن من تولى منهم وكفر بالله فإن لله الولاية عليه والقهر ، فهو يعذبه العذاب الأكبر ، وهو عذاب جهنم ، وقيل هو استثناء من قوله فذكر أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحقّ العذاب الأكبر ، وما بينهما اعتراض (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) رجوعهم ، وفائدة تقديم الظرف التشديد في الوعيد وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) فنحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها جزاء أمثالهم ، وعلى لتأكيد الوعيد لا للوجوب إذ لا يجب على الله شيء.

__________________

(١) ق ، ٥٠ / ٤٥.

(٢) في (ز) وعلي وعاصم.

٥١٧

سورة الفجر

مكية وهي ثلاثون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ) (٥)

١ ـ ٥ ـ (وَالْفَجْرِ) أقسم بالفجر وهو الصبح كقوله : (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) (١) أو بصلاة الفجر (وَلَيالٍ عَشْرٍ) عشر ذي الحجة ، أو العشر الأوّل من المحرم ، أو من الأواخر من رمضان (٢) ، وإنما نكّرت لزيادة فضيلتها (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) شفع كلّ الأشياء ووترها ، أو شفع هذه الليالي ووترها ، أو شفع الصلاة ووترها ، أو يوم النحر لأنه اليوم العاشر ويوم عرفة لأنه اليوم التاسع ، أو الخلق والخالق ، والوتر حمزة وعلي ، وبفتح الواو غيرهما ، وهما لغتان ، فالفتح حجازي والكسر تميمي ، وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم فقال (وَاللَّيْلِ) وقيل أريد به ليلة القدر (إِذا يَسْرِ) إذا يمضي ، وياء يسر تحذف في الدرج اكتفاء عنها بالكسرة ، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة ، وسأل واحد الأخفش عن سقوط الياء فقال : لا ، حتى تخدمني سنة ، فسأله بعد سنة فقال : الليل لا يسري وإنما يسرى فيه ، فلما عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقة ، وقيل معنى يسري : يسرى فيه ، كما يقال ليل نائم أي ينام فيه (هَلْ فِي ذلِكَ) أي فيما أقسمت به من هذه الأشياء (قَسَمٌ) أي مقسم به (لِذِي حِجْرٍ) عقل ، سمّي به لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي ، كما سمّي عقلا ونهية

__________________

(١) المدثر ، ٧٤ / ٣٤.

(٢) في (ظ) أو الأخر أو من رمضان ، وفي (ز) أو الآخر من رمضان.

٥١٨

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ٧ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ)(٨)

لأنه يعقل وينهى ، يريد هل تحقق عنده أن تعظّم هذه الأشياء بالإقسام بها ، أو هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر ، أي هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه ، أو هل في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لذي عقل ولبّ ، والمقسم عليه محذوف وهو قوله ليعذّبنّ يدل عليه قوله (أَلَمْ تَرَ) إلى قوله : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ). ثم ذكر تعذيب الأمم التي كذبت الرسل فقال :

٦ ـ ٨ ـ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) أي ألم تعلم يا محمد علما يوازي العيان في الإيقان ، وهو استفهام تقرير ، قيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عاد ، كما يقال لبني هاشم هاشم ، ثم قيل للأولين منهم : عاد الأولى ، والإرم تسمية لهم باسم جدّهم ، ومن بعدهم عاد الأخيرة ، فإرم عطف بيان لعاد وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة ، وقيل إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ، ويدل عليه قراءة ابن الزبير بعاد إرم على الإضافة وتقديره بعاد أهل إرم كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضا للتعريف والتأنيث ، وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد ، أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة ، وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى أنها ذات أساطين.

وروي أنه كان لعاد ابنان شدّاد وشديد فملكا وقهرا ، ثم مات شديد وخلص الأمر لشدّاد ، فملك الدنيا ودانت له ملوكها ، فسمع بذكر الجنة فقال : أبني مثلها ، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلثمائة سنة ، وكان عمره تسعمائة سنة ، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار ، ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا ، وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها ، فحمل ما قدر عليه ممّا ثمّ ، وبلغ خبره معاوية فاستحضره ، فقص عليه ، فبعث إلى كعب فسأله فقال : هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك ، أحمر أشقر قصير ، على حاجبه خال وعلى عقبه خال ، يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل (٢) (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي

__________________

(١) يوسف ، ١٢ / ٨٢.

(٢) رواه الثعلبي من طريق عثمان الدارمي عن عبد الله بن أبي صالح عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران وعن وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة. قال ابن حجر : أثار الوضع عليه لائحة.

٥١٩

وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) (١٦)

(الْبِلادِ) أي مثل عاد في قوتهم وطول قامتهم ، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع ، أو لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا.

٩ ـ (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ) قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا ، قيل أول من نحت الجبال والصخور ثمود وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة (بِالْوادِ) بوادي القرى.

١٠ ـ ١٤ ـ (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) أي ذي الجنود الكثيرة ، وكانت لهم مضارب كثيرة يضربونها إذا نزلوا ، وقيل كان له أوتاد يعذب الناس بها كما فعل بآسية (الَّذِينَ) في محل النصب على الذم ، أو الرفع على هم الذين ، أو الجر على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون (طَغَوْا فِي الْبِلادِ) تجاوزوا الحدّ (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) بالكفر والقتل والظلم (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) مجاز عن إيقاع العذاب بهم على أبلغ الوجوه إذ الصبّ يشعر بالدوام ، والسوط بزيادة الإيلام ، أي عذبوا عذابا مؤلما دائما (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) وهو المكان الذي يرصد أي (١) يترقّب فيه الرصد ، مفعال من رصده ، وهذا مثل لإرصاده العباد ، وأنهم لا يفوتونه ، وأنه عالم بما يصدر منهم وحافظه ، فيجازيهم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

١٥ ـ ١٦ ـ (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أي ضيّق عليه وجعله بمقدار بلغته ، فقدّر شامي ويزيد (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي الواجب لمن ربّه بالمرصاد أن يسعى للعاقبة ولا تهمه العاجلة وهو قد عكس ، فإنه إذا امتحنه ربّه بالنعمة والسعة ليشكر ، قال : ربي أكرمني أي فضلني بما أعطاني ، فيرى الإكرام في كثرة الحظ من الدنيا ، وإذا امتحنه بالفقر فقدر عليه رزقه ليصبر ، قال ربي أهانني ، فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا ، لأنه لا تهمه إلا العاجلة وما يلذّه وينقمه (٢) فيها ، فرد عليه زعمه بقوله :

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) يرصد أي.

(٢) في (ظ) و (ز) وينعمه.

٥٢٠