تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

 (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤)

طبيب ، فيظهر منكم ما علم أنه يكون منكم ، فيجازيكم على عملكم لا على علمه بكم (أَيُّكُمْ) مبتدأ وخبره (أَحْسَنُ عَمَلاً) أي أخلصه وأصوبه ، فالخالص أن يكون لوجه الله ، والصواب أن يكون على السّنّة ، والمراد أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وسلّط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح فما وراءه إلا البعث والجزاء الذي لا بدّ منه. وقدّم الموت على الحياة لأنّ أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه ، فقدّم لأنه فيما يرجع إلى المسوق له الآية أهمّ ، ولمّا قدّم الموت الذي هو أثر صفة القهر على الحياة التي هي أثر اللطف قدّم صفة القهر على صفة اللطف بقوله (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل (الْغَفُورُ) الستور الذي لا ييأس منه أهل الإساءة والزلل.

٣ ـ (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) مطابقة بعضها فوق بعض ، من طابق النعل إذا خصفها طبقا على طبق ، وهذا وصف بالمصدر ، أو على ذات طباق ، أو على طوبقت طباقا ، وقيل جمع طبق كجمل وجمال ، والخطاب في (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ) للرسول أو لكلّ مخاطب (مِنْ تَفاوُتٍ) تفوّت حمزة وعليّ ، ومعنى البناءين واحد كالتعاهد والتعهد أي من اختلاف واضطراب. وعن السّدّيّ من عيب ، وحقيق التفاوت عدم التناسب كأنّ بعض الشيء يفوت بعضا ولا يلائمه ، وهذه الجملة صفة لطباقا وأصلها ما ترى فيهن من تفاوت ، فوضع خلق الرحمن موضع الضمير تعظيما لخلقهنّ وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) ردّه إلى السماء حتى يصحّ عندك ما أخبرت به بالمعاينة فلا تبقى شبهة فيه (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) صدوع وشقوق ، جمع فطر وهو الشّقّ.

٤ ـ (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) كرّر النظر مرتين أي كرّتين مع الأولى ، وقيل سوى الأولى ، فتكون ثلاث مرات ، وقيل لم يرد به (١) الاقتصار على مرتين بل أراد به التكرير بكثرة أي كرر نظرك ودقّقه هل ترى خللا أو عيبا ، وجواب الأمر (يَنْقَلِبْ) يرجع (إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) ذليلا أو بعيدا مما تريد ، وهو حال من البصر (وَهُوَ

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) به.

٤٠١

وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (٨)

(حَسِيرٌ) كليل معي ، ولم تر فيها خللا.

٥ ـ (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) القربى أي السماء الدنيا منكم (بِمَصابِيحَ) بكواكب مضيئة كإضاءة الصبح ، والمصابيح السّرج ، فسميت بها الكواكب ، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بإثقاب (١) المصابيح ، فقيل ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بأيّ مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي لأعدائكم الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات ، قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلّف ما لا علم له به (٢) ، والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمّي به ما يرجم به ، ومعنى كونها رجوما للشياطين أن ينفصل عنها شهاب كقبس (٣) يؤخذ من نار فيقتل الجنيّ أو يخبّله ، لأن الكواكب لا تزول عن أماكنها لأنها قارّة في الفلك على حالها (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) للشياطين (عَذابَ السَّعِيرِ) في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا.

٦ ـ (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) ولكلّ من كفر بالله من الشياطين وغيرهم (عَذابُ جَهَنَّمَ) ليس الشياطين المرجومون مخصوصين (٤) بذلك (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المرجع جهنم.

٧ ـ (إِذا أُلْقُوا فِيها) طرحوا في جهنم كما يطرح الحطب في النار العظيمة (سَمِعُوا لَها) لجهنم (شَهِيقاً) صوتا منكرا كصوت الحمار (٥) ، شبّه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق (وَهِيَ تَفُورُ) تغلي بهم غليان المرجل بما فيه.

٨ ـ (تَكادُ تَمَيَّزُ) أي تتميز ، يعني تتقطّع وتتفرّق (مِنَ الْغَيْظِ) على الكفار ، فجعلت كالمغتاظة عليهم استعارة لشدة غليانها بهم (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) جماعة من الكفار (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) مالك وأعوانه من الزبانية توبيخا لهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) رسول يخوّفكم من هذا العذاب.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) بإيقاد.

(٢) الطبري بسنده وأتم منه.

(٣) في (ز) قبس.

(٤) في (ز) مخصوصون.

(٥) في (ظ) و (ز) الحمير.

٤٠٢

(قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (١٣)

٩ ـ (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) اعتراف منهم بعدل الله وإقرار بأنه تعالى أزاح عللهم ببعثة (١) الرّسل وإنذارهم ما وقعوا فيه (فَكَذَّبْنا) أي فكذبناهم (وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) مما يقولون من وعد ووعيد وغير ذلك (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي قال الكفار للمنذرين ما أنتم إلا في خطأ عظيم ، فالنذير بمعنى الإنذار ، ثم وصف به منذروهم لغلوّهم في الإنذار كأنهم ليسوا إلا إنذارا ، وجاز أن يكون هذا كلام الخزنة للكفار على إرادة القول ، ومرادهم بالضلال الهلاك ، أو سمّوا جزاء الضلال باسمه كما سمّي جزاء السيئة والاعتداء سيئة واعتداء ، ويسمّى المشاكلة في علم البيان ، أو كلام الرسل لهم حكوه للخزنة أي قالوا لنا هذا فلم نقبله.

١٠ ـ (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) الإنذار سماع طالب الحقّ (أَوْ نَعْقِلُ) أي نعقله عقل متأمل (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) في جملة أهل النار ، وفيه دليل على أنّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وأنهما حجتان ملزمتان.

١١ ـ (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) بكفرهم في تكذيبهم الرسل (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) وبضم الحاء يزيد وعليّ ، فبعدا لهم عن رحمة الله وكرامته ، اعترفوا أو جحدوا فإن ذلك لا ينفعهم ، وانتصابه على أنه مصدر وقع موقع الدعاء.

١٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) قبل معاينة العذاب (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) للذنوب (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي الجنة.

١٣ ـ (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) ظاهره الأمر بأحد الأمرين الإسرار والإجهار ، ومعناه ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما. روي أنّ مشركي مكة كانوا ينالون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخبره جبريل بما قالوه فيه ونالوه منه ، فقالوا فيما بينهم أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فنزلت ، ثم علله بقوله (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها فكيف لا يعلم ما تكلم به.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) ببعث.

٤٠٣

(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) (١٨)

١٤ ـ (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) من في موضع رفع بأنه فاعل يعلم (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أنكر أن لا يحيط علما بالمضمر والمسرّ والمجهر من خلقها وصفته أنه اللطيف أي العالم بدقائق الأشياء الخبير العالم بحقائق الأشياء ، وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلا على خلق أفعال العباد ، وقال أبو بكر بن الأصم (١) وجعفر بن حرب (٢) من مفعول والفاعل مضمر وهو الله تعالى فاحتالا بهذا لنفي خلق الأفعال.

١٥ ـ (هُوَ) الله (٣) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) ليّنة سهلة مذلّلة لا يمتنع (٤) المشي فيها (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) جوانبها استدلالا واسترزاقا ، أو جبالها ، أو طرقها (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي من رزق الله فيها (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي وإليه نشوركم فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم.

١٦ ـ (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) أي من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه ، فكأنه قال أأمنتم خالق السماء وملكه ، أو لأنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء وأنّ الرحمة والعذاب ينزلان منه فقيل لهم على حسب اعتقادهم أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) كما خسف بقارون (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) تضطرب وتتحرك.

١٧ ـ (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) حجارة ، أن يرسل بدل من بدل الاشتمال ، وكذا أن يخسف (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم.

١٨ ـ (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل قومك (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي

__________________

(١) أبو بكر بن الأصم : لم أجد له ترجمة.

(٢) جعفر بن حرب الهمداني من أئمة المعتزلة من أهل بغداد ، أخذ الكلام عن أبي الهذيل العلاف وصنف كتبا ولد عام ١٧٧ ه‍ ومات عام ٢٣٦ ه‍ (الأعلام ٢ / ١٢٣).

(٣) ليست في (ظ) و (ز).

(٤) في (ظ) و (ز) لا تمنع.

٤٠٤

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (٢١)

إنكاري عليهم إذ أهلكتهم. ثم نبّه على قدرته على الخسف وإرسال الحاصب بقوله :

١٩ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ) جمع طائر (فَوْقَهُمْ) في الهواء (صافَّاتٍ) باسطات أجنحتهنّ في الجوّ عند طيرانهن (وَيَقْبِضْنَ) ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن ، ويقبضن معطوف على اسم الفاعل حملا على معنى (١) ، أي يصففن ويقبضن ، أو صافات وقابضات ، واختيار هذا التركيب باعتبار أنّ أصل الطيران هو صفّ الأجنحة لأنّ الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والهواء للطائر كالماء للسابح ، والأصل في السباحة مدّ الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرّك ، فجيء بما هو طارىء بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، ويكون منهنّ القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح (ما يُمْسِكُهُنَ) عن الوقوع عند القبض والبسط (إِلَّا الرَّحْمنُ) بقدرته وإلا فالثقيل يتسفّل طبعا ولا يعلو ، وكذا لو أمسك حفظه وتدبيره عن العالم لتهافتت الأفلاك ، وما يمسكهن مستأنف ، وإن جعل حالا من الضمير في يقبضن يجوز (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) يعلم كيف يخلق وكيف يدبّر العجائب.

٢٠ ـ (أَمَّنْ) مبتدأ خبره (هذَا) ويبدل من هذا (الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) ومحلّ (يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) رفع نعت لجند محمول على اللفظ ، والمعنى من المشار إليه بالنصر غير الله تعالى (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي ما هم إلا في غرور.

٢١ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه وهذا على التقدير ، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم ، فكأنهم الجند الناصر والرازق ، فلما لم يتّعظوا أضرب عنهم فقال (بَلْ لَجُّوا) تمادوا (فِي عُتُوٍّ) استكبار عن الحقّ (وَنُفُورٍ) وشراد عنه لثقله عليهم فلم يتبعوه. ثم ضرب مثلا للكافر والمؤمن (٢) فقال :

__________________

(١) في (ظ) و (ز) المعنى.

(٢) في (ظ) و (ز) للكافرين والمؤمنين.

٤٠٥

(أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (٢٨)

٢٢ ـ (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) أي ساقطا على وجهه يعثر كلّ ساعة ويمشي معتسفا ، وخبر من (أَهْدى) أرشد ، فأكبّ مطاوع كبّه ، يقال كببته فأكبّ (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) مستويا منتصبا سالما من العثور والخرور (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على طريق مستو ، وخبر من محذوف لدلالة أهدى عليه ، وعن الكلبي عني بالمكبّ أبو جهل وبالسوي النبي عليه‌السلام.

٢٣ ـ (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) خلقكم ابتداء (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) خصّها لأنها آلات العلم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) هذه النّعم لأنكم تشركون بالله ولا تخلصون له العبادة ، والمعنى تشكرون شكرا قليلا ، وما زائدة ، وقيل القلة عبارة عن العدم.

٢٤ ـ (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) خلقكم (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للحساب والجزاء.

٢٥ ـ (وَيَقُولُونَ) أي الكافرون للمؤمنين استهزاء (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدوننا به ، يعني العذاب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في كونه فأعلمونا زمانه.

٢٦ ـ (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ) أي علم وقت العذاب (عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ) مخوّف (مُبِينٌ) أبيّن لكم الشرائع.

٢٧ ـ (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي الوعد يعني العذاب الموعود (زُلْفَةً) قريبا منهم ، وانتصابها على الحال (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ساءت رؤية الوعد وجوههم بأن علتها الكآبة والمساءة وغشيتها القترة والسواد (وَقِيلَ هذَا الَّذِي) القائلون الزبانية (كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) تفتعلون من الدعاء ، أي تسألون تعجيله وتقولون ائتنا بما تعدنا ، أو هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدّعون أنكم لا تبعثون ، وقرأ يعقوب تدعون.

٢٨ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) أي أماتني الله كقوله : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) (١)

__________________

(١) النساء ، ٤ / ١٧٦.

٤٠٦

(قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ) (٣٠)

(وَمَنْ مَعِيَ) من أصحابي (أَوْ رَحِمَنا) أو أخّر في آجالنا (فَمَنْ يُجِيرُ) ينجي (الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم ، كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، فأمر بأن يقول (١) نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين إما أن نهلك كما تتمنون فننقلب إلى الجنة أو نرحم بالنّصرة عليكم كما نرجو ، فأنتم ما تصنعون من يجيركم (٢) وأنتم كافرون من عذاب النار لا بدّ لكم منه.

٢٩ ـ (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ) أي الذي أدعوكم إليه الرحمن (آمَنَّا بِهِ) صدّقنا به ولم نكفر به كما كفرتم (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) فوّضنا إليه أمورنا (فَسَتَعْلَمُونَ) إذا نزل بكم العذاب ، وبالياء عليّ (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) نحن أم أنتم.

٣٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدّلاء ، وهو وصف بالمصدر كعدل بمعنى عادل (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) جار يصل إليه من أراده ، وتليت عند ملحد فقال : يأتي بالمعول والمعين (٣) ، فذهب ماء عينه في تلك الليلة وعمي ، وقيل إنه محمد بن زكريا (٤) المتطبب ، زادنا الله بصيرة.

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) لهم.

(٢) في (ظ) و (ز) مجيركم.

(٣) في (ظ) والمقن وفي (ز) والمعن.

(٤) محمد بن زكريا ، أبو بكر الرازي ، فيلسوف من الأئمة في صناعة الطب من أهل الري ولد عام ٢٥١ ه‍ ومات عام ٣١٣ ه‍ وفي سنة وفاته خلاف (الأعلام ٦ / ١٣٠).

٤٠٧

سورة القلم (١)

مكية وهي اثنتان وخمسون آية

(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) (٣)

١ ـ (ن) الظاهر أنّ المراد به هذا الحرف من حروف المعجم ، وأما قول الحسن أنه الدواة ، وقول ابن عباس إنه الحوت الذي عليه الأرض واسمه بهموت فمشكل ، لأنه لا بد له من الإعراب سواء كان اسم جنس أو اسم علم ، فالسكون دليل على أنه من حروف التّهجّي (٢) (وَالْقَلَمِ) أي ما كتب به اللوح ، أو قلم الملائكة ، أو الذي يكتب به الناس ، أقسم به لما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف (وَما يَسْطُرُونَ) أي ما يسطره الحفظة ، أو ما يكتب به من الخير ، من كتب ، وما موصولة أو مصدرية ، وجواب القسم :

٢ ـ (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي بإنعامه عليك بالنبوة وغيرها ، فأنت اسم ما وخبرها (بِمَجْنُونٍ) وبنعمة ربّك اعتراض بين الاسم والخبر ، والباء في بنعمة ربّك تتعلق بمحذوف ومحلّه النصب على الحال ، والعامل فيها بمجنون ، وتقديره ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك ، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي ، وهو جواب قولهم : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٣).

٣ ـ (وَإِنَّ لَكَ) على احتمال ذلك والصبر عليه (لَأَجْراً) لثوابا (غَيْرَ مَمْنُونٍ)

__________________

(١) في (ز) سورة ن.

(٢) في (ظ) و (ز) المعجم.

(٣) الحجر ، ١٥ / ٦.

٤٠٨

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ) (١٠)

غير مقطوع ، أو غير ممنون عليك (١).

٤ ـ (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قيل هو ما أمره الله تعالى به في قوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (٢) وقالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن (٣) أي ما فيه من مكارم الأخلاق ، وإنما استعظم خلقه لأنه جاد بالكونين وتوكل على خالقهما.

٥ ـ (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) أي عن قريب ترى ويرون ، وهذا وعد له ووعيد لهم.

٦ ـ (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) المجنون ، لأنه فتن أي محن بالجنون ، والباء مزيدة ، أو المفتون مصدر كالمعقول أي بأيكم الجنون ، وقال الزّجّاج : الباء بمعنى في تقول كنت ببلد كذا أي في بلد كذا وتقديره في أيكم المفتون أي في أي الفريقين منكم المجنون فريق الإسلام أو فريق الكفر.

٧ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي هو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون.

٨ ـ (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) تهييج للتصميم على معاصاتهم ، وقد أرادوه على أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة ويكفوا عنه غوائلهم.

٩ ـ (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) لو تلين لهم (فَيُدْهِنُونَ) فيلينون لك ، ولم ينصب بإضمار أن ، وهو جواب التمني ، لأنه عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون أي فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك.

١٠ ـ (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) كثير الحلف في الحق والباطل ، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف (مَهِينٍ) حقير في الرأي والتمييز ، من المهانة وهي القلة والحقارة ، أو كذاب لأنه حقير عند الناس.

__________________

(١) زاد في (ز) به.

(٢) الأعراف ، ٧ / ١٩٩.

(٣) مسلم من رواية سعد بن هشام والطبري من رواية قتادة.

٤٠٩

(هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (١٦)

١١ ـ (هَمَّازٍ) عيّاب طعّان مغتاب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السّعاية والإفساد بينهم ، والنميم والنميمة : السعاية.

١٢ ـ (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) بخيل ، والخير : المال أو مناع أهله من الخير وهو الإسلام ، والمراد الوليد بن المغيرة عند الجمهور ، وكان يقول لبنيه العشرة من أسلم منكم منعته رفدي (مُعْتَدٍ) مجاوز في الظلم حدّه (أَثِيمٍ) كثير الآثام.

١٣ ـ (عُتُلٍ) غليظ جاف (بَعْدَ ذلِكَ) بعد ما عدّ له من المثالب (زَنِيمٍ) دعي ، وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم (١) ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده ، وقيل بغت أمّه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية ، والنطفة إذا خبثت خبث الناشىء منها ، روي أنه دخل على أمه وقال : إن محمدا وصفني بعشر صفات وجدت تسعا فيّ فأما الزنيم فلا علم لي به فإن أخبرتني بحقيقته وإلا ضربت عنقك ، فقالت : إنّ أباك عنين وخفت أن يموت فيصل ماله إلى غير ولده فدعوت راعيا إلى نفسي فأنت من ذلك الراعي.

١٤ ـ (أَنْ كانَ ذا مالٍ) متعلق بقوله ولا تطع أي ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال أي ليساره وحظّه من الدنيا ، ويجوز أن يتعلق بما بعده أي لأن كان ذا مال (وَبَنِينَ) كذّب بآياتنا يدلّ عليه.

١٥ ـ (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي القرآن (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ولا يعمل فيه قال لأنّ ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، أأن حمزة وأبو بكر أي ألأن كان ذا مال كذب؟ آأن شامي ويزيد ويعقوب وسهل قالوا : لما عاب الوليد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاذبا باسم واحد وهو المجنون سماه الله تعالى بعشرة أسماء صادقا ، فإن كان من عدله أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعشرة كان من فضله أنّ من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرا.

١٦ ـ (سَنَسِمُهُ) سنكويه (عَلَى الْخُرْطُومِ) على أنفه مهانة له ، وعلما يعرف به ، وتخصيص الأنف بالذكر لأنّ الوسم عليه أبشع ، وقيل خطم بالسيف يوم بدر فبقيت سمة على خرطومه.

__________________

(١) السّنخ : الأصل.

٤١٠

(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ) (٢٢)

١٧ ـ (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع أكلوا الجيف والرّمم بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : (اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف) (١) (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) هم قوم من أهل الصّلات كانت لأبيهم هذه الجنة بقرية يقال لها ضروان (٢) ، وكانت على فرسخين من صنعاء (٣) ، وكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدّق بالباقي على الفقراء ، فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ، فحلفوا ليصرمنّها مصبحين في السّدف (٤) خيفة من المساكين ، ولم يستثنوا في يمينهم ، فأحرق الله جنتهم ، وقال الحسن : كانوا كفارا ، والجمهور على الأول (إِذْ أَقْسَمُوا) حلفوا (لَيَصْرِمُنَّها) ليقطعنّ ثمرها (مُصْبِحِينَ) داخلين في الصبح قبل انتشار الفقراء ، حال من فاعل ليصرمنّها.

١٨ ـ (وَلا يَسْتَثْنُونَ) ولا يقولون إن شاء الله ، وسمّي استثناء وإن كان شرطا صورة لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء من حيث أن معنى قولك لأخرجنّ إن شاء الله ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد.

١٩ ـ (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) نزل عليها بلاء ، قيل أنزل الله تعالى عليها نارا فأحرقتها (وَهُمْ نائِمُونَ) أي في حال نومهم.

٢٠ ـ (فَأَصْبَحَتْ) فصارت الجنة (كَالصَّرِيمِ) كالليل المظلم أي احترقت فاسودت ، أو كالصبح أي صارت أرضا بيضاء بلا شجر ، وقيل كالمصرومة أي كأنها صرمت لهلاك ثمرها.

٢١ ـ (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) نادى بعضهم بعضا عند الصباح.

٢٢ ـ (أَنِ اغْدُوا) باكروا (عَلى حَرْثِكُمْ) ولم يقل إلى حرثكم لأن الغدوّ إليه

__________________

(١) سبق تخريجه. انظر ٢١ / ١١٢ و ٤٤ / ١٠.

(٢) ضروان : أرض مستوية فيه شجر وهو بليد قرب صنعاء سمي باسم واد هو على طرفه وذلك الوادي مستطيل هذه المدينة في طرفه من جهة صنعاء (معجم البلدان ٣ / ٥١٨).

(٣) صنعاء : كان اسمها في القديم أزال وقيل سميت بصنعاء بن أزال بن يقطن وهو الذي بناها وبين صنعاء وعدن ثمانية وستون ميلا (معجم البلدان ٣ / ٤٨٣).

(٤) السدف : اختلاط الضوء والظلمة معا كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار (القاموس ٣ / ١٥١).

٤١١

(فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) (٢٩)

ليصرموه كان غدوا عليه ، أو ضمّن الغدوّ معنى الإقبال أي فأقبلوا على حرثكم باكرين (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) مريدين صرامه.

٢٣ ـ (فَانْطَلَقُوا) ذهبوا (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) يتسارّون فيما بينهم لئلا يسمع (١) المساكين.

٢٤ ـ (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا) أي الجنة ، وإن مفسرة ، وقرىء بطرحها بإضمار القول ، أي يتخافتون يقولون لا يدخلنّها (الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) والنهي عن دخول المساكين نهي عن التمكين ، أي لا تمكنوه من الدخول.

٢٥ ـ (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) على جد في المنع (قادِرِينَ) عند أنفسهم (٢) على المنع كذا عن نفطويه ، أو الحرد القصد والسرعة أي وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وزيّ (٣) منفعتها عن المساكين ، أو هو علم للجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم.

٢٦ ـ (فَلَمَّا رَأَوْها) أي جنتهم محترقة (قالُوا) في بديهة وصولهم (إِنَّا لَضَالُّونَ) أي ضللنا جنتنا وما هي بها لما رأوا من هلاكها ، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا :

٢٧ ـ (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا.

٢٨ ـ (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أعدلهم وخيرهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) هلا تستثنون ، إذ الاستثناء التسبيح لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأن الاستثناء تفويض إليه ، والتسبيح تنزيه له ، وكلّ واحد من التفويض والتنزيه تعظيم ، أو لو لا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم ، كأنّ أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك : اذكروا الله وانتقامه من المجرمين وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة فعصوه ، فعيّرهم ، ولهذا :

٢٩ ـ (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فتكلموا بعد خراب البصرة بما كان يدعوهم إلى التكلّم به أولا ، وأقروا على أنفسهم بالظلم في منع المعروف وترك

__________________

(١) في (ز) يسمعوا.

(٢) في (ز) أنفسكم.

(٣) زيّ : قبض وجمع.

٤١٢

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (٣١) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (٣٢) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ)(٣٨)

الاستثناء ، ونزهوه عن أن يكون ظالما.

٣٠ ـ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) يلوم بعضهم بعضا بما فعلوا من الهرب من المساكين ، ويحيل كلّ واحد منهم اللائمة على الآخر ، ثم اعترفوا جميعا بأنهم تجاوزوا الحدّ بقوله :

٣١ ـ ٣٢ ـ (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) بمنع حقّ الفقراء وترك الاستثناء (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا) وبالتشديد مدني وأبو عمرو (خَيْراً مِنْها) من هذه الجنة (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) طالبون منه الخير راجون لعفوه ، عن مجاهد : تابوا فأبدلوا خيرا منها ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنهم أخلصوا فأبدلهم بها جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا.

٣٣ ـ (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه من عذاب الدنيا لمن سلك سبيلهم (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أعظم منه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لما فعلوا ما يفضي إلى هذا العذاب ، ثم ذكر ما عنده للمؤمنين فقال :

٣٤ ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) عن الشرك (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في الآخرة (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) جنات ليس فيها إلا التنعّم الخالص بخلاف جنات الدنيا.

٣٥ ـ (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) استفهام إنكار على قولهم : لو كان ما يقول محمد حقا فنحن نعطى في الآخرة خيرا مما يعطى هو ومن معه كما في الدنيا ، فقيل لهم : أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين ، ثم قيل لهم على طريقة الالتفات.

٣٦ ـ (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الأعوج وهو التسوية بين المطيع والعاصي كأنّ أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم.

٣٧ ـ (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ) من السماء (فِيهِ تَدْرُسُونَ) تقرأون في ذلك الكتاب.

٣٨ ـ (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي إنّ ما تختارونه وتشتهونه لكم ، والأصل

٤١٣

(أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) (٤٢)

تدرسون أنّ لكم ما تخيّرون بفتح أنّ لأنه مدروس لوقوع الدرس عليه ، وإنما كسرت لمجيء اللام في خبره (١) ، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى نُوحٍ) (٢) وتخير الشيء واختاره أخذ خيره.

٣٩ ـ (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) عهود مؤكدة بالأيمان (بالِغَةٌ) نعت أيمان ، ويتعلق (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ببالغة ، أي أنها تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم ، أو بالمقدّر في الظرف أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها إلا يومئذ إذا حكّمناكم وأعطيناكم ما تحكمون (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) به لأنفسكم ، وهو جواب القسم ، لأن معنى أم لكم أيمان علينا أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد.

٤٠ ـ (سَلْهُمْ) أي المشركين (أَيُّهُمْ بِذلِكَ) الحكم (زَعِيمٌ) كفيل بأنه يكون ذلك.

٤١ ـ (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فيه (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم ، يعني أنّ أحدا لا يسلّم ولهم هذا ولا يساعدهم عليه ، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد لهم به عند الله ، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله بهذا.

٤٢ ـ (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) ناصب الظرف فليأتوا ، أو اذكر مضمرا ، والجمهور على أنّ الكشف عن الساق عبارة عن شدة الأمر وصعوبة الخطب ، فمعنى يوم يكشف عن ساق يوم يشتدّ الأمر ويصعب ، ولا كشف ثمة ولا ساق ولكن كنّى به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق ، وهذا كما نقول للأقطع الشحيح يده مغلولة ولا يد ثمة ولا غلّ وإنما هو كناية عن البخل ، وأما من شبّه فلضيق عطنه (٣) وقلة نظره في علم البيان ، ولو كان الأمر كما زعم المشبّه لكان من حقّ الساق أن تعرّف

__________________

(١) ليس في (ز) في خبره.

(٢) الصافات ، ٣٧ / ٧٨ ـ ٧٩.

(٣) ضيق عطنه : ضيق مشربه ، وهو تعبير يفسره ما بعده (انظر القاموس ٤ / ٢٤٨).

٤١٤

(خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ) (٤٦)

لأنها ساق معهودة عنده (وَيُدْعَوْنَ) أي الكفار ثمة (إِلَى السُّجُودِ) لا تكليفا ولكن توبيخا على تركهم السجود في الدنيا (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) ذلك لأنّ ظهورهم تصير كصياصي البقر (١) لا تنثني عند الخفض والرفع.

٤٣ ـ (خاشِعَةً) ذليلة ، حال من الضمير في يدعون (أَبْصارُهُمْ) أي يدعون في حال خشوع أبصارهم (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تغشاهم صغار (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ) على ألسن الرسل (إِلَى السُّجُودِ) في الدنيا (وَهُمْ سالِمُونَ) أي وهم أصحاء فلا يسجدون فلذلك منعوا عن السجود ثمّ.

٤٤ ـ (فَذَرْنِي) يقال ذرني وإياه أي كله إليّ أكفيكه (وَمَنْ يُكَذِّبُ) معطوف على المفعول ، أو مفعول معه (بِهذَا الْحَدِيثِ) بالقرآن ، والمراد كل أمره إليّ خلّ بيني وبينه ، فإني عالم بما ينبغي أن يفعل به مطيق له ولا تشغل قلبك بشأنه وتوكّل عليّ في الانتقام منه ، تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد للمكذبين (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سندنيهم من العذاب درجة درجة ، يقال استدرجه إلى كذا إذا (٢) استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه ، واستدراج الله تعالى العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازدياد المعاصي (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج ، قيل : كلما جدّدوا معصية جدّدنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها ، قال عليه‌السلام : (إذا رأيت الله تعالى ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج) (٣) وتلا الآية.

٤٥ ـ (وَأُمْلِي لَهُمْ) وأمهلهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) قويّ شديد ، فسمى إحسانه وتمكينه كيدا كما سمّاه استدراجا لكونه في صورة الكيد حيث كان سببا للهلاك. والأصل أنّ معنى الكيد والمكر والاستدراج هو الأخذ من جهة الأمن ، ولا يجوز أن يسمى الله كائدا وماكرا ومستدرجا.

٤٦ ـ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ) على تبليغ الرسالة (أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) غرامة (مُثْقَلُونَ) فلا

__________________

(١) صياصي البقر : قرونها (القاموس ٢ / ٣٠٧).

(٢) في (ظ) و (ز) أي.

(٣) لم أجده.

٤١٥

(أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) (٥١)

يؤمنون استفهام بمعنى النفي ، أي لست تطمع (١) أجرا على تبليغ الوحي ، فيثقل عليهم ذلك ، فيمتنعوا لذلك.

٤٧ ـ (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي اللوح المحفوظ عند الجمهور (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) منه ما يحكمون به.

٤٨ ـ (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم ، لأنهم وإن أمهلوا لهم يهملوا (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) كيونس عليه‌السلام في العجلة والغضب على القوم حتى لا تبتلى ببلائه. والوقف على الحوت لأن إذ ليس بظرف لما تقدّمه ، إذ النداء طاعة فلا ينهى عنه بل مفعول محذوف أي اذكر (إِذْ نادى) دعا ربّه في بطن الحوت : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢) (وَهُوَ مَكْظُومٌ) مملوء غيظا ، من كظم السّقاء إذا سلأه.

٤٩ ـ (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ) رحمة (مِنْ رَبِّهِ) أي لو لا أنّ الله أنعم عليه بإجابة دعائه وقبول عذره (لَنُبِذَ) من بطن الحوت (بِالْعَراءِ) بالفضاء (وَهُوَ مَذْمُومٌ) معاتب بزلّته ، لكنه رحم فنبذ غير مذموم.

٥٠ ـ (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) اصطفاه لدعائه وقبول (٣) عذره (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) من المستكملين لصفات الصلاح ولم يبق له زلّة ، وقيل من الأنبياء ، وقيل من المرسلين ، والوجه هو الأول ، لأنه كان مرسلا ونبيا قبله لقوله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٤). الآيات.

٥١ ـ (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) وبفتح الياء مدني ، إن مخففة من الثقيلة ، واللام علمها ، زلّقه وأزلقه أزاله عن مكانه ، أي قارب الكفار من شدة نظرهم إليك شزرا بعيون العداوة أن يزيلوك بأبصارهم عن مكانك أو يهلكوك لشدة حنقهم عليك. وكانت العين في بني أسد ، فكان الرجل منهم يتجوّع ثلاثة أيام فلا

__________________

(١) في (ز) تطلب.

(٢) الأنبياء ، ٢١ / ٨٧.

(٣) ليس في (ز) وقبول.

(٤) الصافات ، ٣٧ / ١٣٩ ـ ١٤٠.

٤١٦

(وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) (٥٢)

يمرّ به شيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا هلك ، فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله مثل ذلك ، فقال : لم أر كاليوم مثله رجلا فعصمه الله من ذلك ، وفي الحديث : (العين حق) (١) و (إنّ العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر) (٢). وعن الحسن : رقية العين هذه الآية (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) القرآن (وَيَقُولُونَ) حسدا على ما أوتيت من النبوة (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) إنّ محمدا لمجنون حيرة في أمره وتنفيرا عنه.

٥٢ ـ (وَما هُوَ) أي القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) وعظ (لِلْعالَمِينَ) للجنّ والإنس ، يعني أنهم جننوه لأجل القرآن ، وما القرآن إلا موعظة للعالمين ، فكيف يجنّن من جاء بمثله ، وقيل لما سمعوا الذكر أي ذكره عليه‌السلام ، وما هو أي محمد عليه‌السلام إلا ذكر شرف للعالمين فكيف ينسب إليه الجنون؟ (٣).

__________________

(١) كنز العمال ، ٦ / ١٧٦٥٦.

(٢) كنز العمال ، ٦ / ١٧٦٦٠.

(٣) زاد في (ز) والله أعلم.

٤١٧

سورة الحاقة

مكية وهي اثنتان وخمسون آية (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ)(٤)

٦٩ / ١ ـ ٤ ١ ـ (الْحَاقَّةُ) الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها ، من حقّ يحقّ بالكسر أي وجب.

٢ ـ (مَا الْحَاقَّةُ) مبتدأ وخبر ، وهما خبر الحاقة ، والأصل الحاقة ما هي؟ أي أيّ شيء هي؟ تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها ، أي حقّها أن يستفهم عنها لعظمها ، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التهويل.

٣ ـ (وَما أَدْراكَ) وأي شيء أعلمك (مَا الْحَاقَّةُ) يعني أنّك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها ، لأنه من العظم والشّدّة بحيث لا تبلغه دراية المخلوقين. وما رفع بالابتداء وأدراك الخبر ، والجملة بعده في موضع نصب لأنها مفعول ثان لأدري.

٤ ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي بالحاقة ، فوضعت القارعة موضعها لأنها من أسماء القيامة وسميت بها لأنها تقرع الناس بالأفزاع والأهوال ، ولمّا ذكرها وفخّمها أتبع ذكر ذلك ذكر من كذّب بها وما حلّ بهم بسبب التكذيب تذكيرا لأهل مكة وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) سورة الحاقة إحدى وخمسون آية مكية.

٤١٨

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (٨) وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً) (١٠)

٥ ـ (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) بالواقعة المجاوزة للحدّ في الشدة. واختلف فيها ، فقيل الرجفة ، وقيل الصيحة ، وقيل الطاغية مصدر كالعافية أي بطغيانهم ، ولكن هذا لا يطابق قوله :

٦ ـ (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ) أي بالدّبور لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدّبور) (١) (صَرْصَرٍ) شديدة الصوت من الصّرّة الصيحة ، أو باردة من الصّرّ كأنها التي كرّر فيها البرد وكثّر فهي تحرق بشدة بردها (عاتِيَةٍ) شديدة العصف ، أو عتت على خزّانها فلم يضبطوها بإذن الله غضبا على أعداء الله.

٧ ـ (سَخَّرَها) سلّطها (عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) وكان ابتداء العذاب يوم الأربعاء آخر الشهر إلى الأربعاء الأخرى (حُسُوماً) أي متتابعة لا تنقطع ، جمع حاسم كشهود تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكيّ على الداء كرّة بعد أخرى حتى ينحسم ، وجاز أن يكون مصدرا أي تحسم حسوما بمعنى تستأصل استئصالا (فَتَرَى) أيها المخاطب (الْقَوْمَ فِيها) في مهابّها ، أو في الليالي والأيام (صَرْعى) حال جمع صريع (كَأَنَّهُمْ) حال أخرى (أَعْجازُ) أصول (نَخْلٍ) جمع نخلة (خاوِيَةٍ) ساقطة أو بالية.

٨ ـ (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) من نفس باقية ، أو من بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان.

٩ ـ (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) ومن تقدّمه من الأمم ، ومن قبله بصري وعليّ ، أي ومن عنده من أتباعه (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) قرى قوم لوط فهي ائتفكت أي انقلبت بهم (بِالْخاطِئَةِ) بالخطأ ، أو بالفعلة ، أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم.

١٠ ـ (فَعَصَوْا) أي قوم لوط (رَسُولَ رَبِّهِمْ) لوطا (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) شديدة زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح.

__________________

(١) كنز العمال ١١ / ٣١٩٢٥ ، ٣٢٠٧١.

٤١٩

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ(١٢) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ)(١٨)

١١ ـ (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) ارتفع وقت الطوفان على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعا (حَمَلْناكُمْ) أي آباءكم (فِي الْجارِيَةِ) في سفينة نوح عليه‌السلام.

١٢ ـ (لِنَجْعَلَها) أي الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين (لَكُمْ تَذْكِرَةً) عبرة وعظة (وَتَعِيَها) وتحفظها (أُذُنٌ) بضم الذال غير نافع (واعِيَةٌ) حافظة لما تسمع ، قال قتادة : وهي أذن عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت.

١٣ ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) هي النفخة الأولى ويموت عندها الناس ، والثانية يبعثون عندها.

١٤ ـ (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) رفعتا عن موضعهما (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) دقّتا وكسرتا ، أي ضرب بعضها ببعض حتى تندقّ وترجع كثيبا مهيلا وهباء منبثّا.

١٥ ـ (فَيَوْمَئِذٍ) فحينئذ (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) نزلت النازلة ، وهي القيامة ، وجواب إذا وقعت ، ويومئذ بدل من إذا.

١٦ ـ (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) فتّحت أبوابا (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) مسترخية ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة.

١٧ ـ (وَالْمَلَكُ) للجنس بمعنى الجمع ، وهو أعمّ من الملائكة (عَلى أَرْجائِها) جوانبها ، واحدها رجى مقصور لأنها إذا انشقت وهي مسكن الملائكة فيلجأون إلى أطرافها (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) فوق الملك الذين على أرجائها (يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) منهم ، واليوم تحمله أربعة وزيدت أربعة أخر (١) يوم القيامة ، وعن الضحاك : ثمانية صفوف ، وقيل ثمانية أصناف.

١٨ ـ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) للحساب والسؤال ، شبّه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحواله (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا ، وبالياء كوفي غير عاصم ، وفي الحديث : (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأمّا

__________________

(١) في (ز) أخرى.

٤٢٠