تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

 

(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٧٥)

٧٤ ـ (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أنجزنا ما وعدنا في الدنيا من نعيم العقبى (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أرض الجنة وقد أورثوها أي ملّكوها وجعلوا ملوكها ، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون تشبيها بحال الوارث وتصرّفه فيما يرثه واتساعه فيه (نَتَبَوَّأُ) حال (مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي يكون لكلّ واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة ، فيتبوأ أي فيتخذ مقرا ومتبوأ (١) من جنته حيث يشاء (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) في الدنيا الجنة.

٧٥ ـ (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ) حال من الملائكة (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي محدقين من حوله ، ومن لابتداء الغاية أي ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله (يُسَبِّحُونَ) حال من الضمير في حافين (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي يقولون : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، أو سبوح قدوس ربّ الملائكة والروح ، وذلك للتلذّذ دون التعبّد لزوال التكليف (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الأنبياء والأمم ، أو بين أهل الجنة والنار (بِالْحَقِ) بالعدل (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي يقول أهل الجنة شكرا حين دخلوها (٢) ، وتم وعد الله لهم ، كما قال : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣) ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر (٤). الحواميم (٥) كلّها مكّيات (٦) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

__________________

(١) في (ز) متبوأ ومقرا.

(٢) في (ظ) و (ز) دخولها.

(٣) يونس ، ١٠ / ١٠.

(٤) النسائي عن عائشة رضي الله عنها في أثناء حديث.

(٥) في (ز) الحواميم السبع.

(٦) في (ظ) و (ز) مكية.

١٠١

سورة غافر (١)

 خمس وثمانون آية

بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم

(حم (١) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣)

١ ـ (حم) وما بعده بالإمالة حمزة وعليّ وخلف ويحيى وحماد ، وبين الفتح والكسر مدني ، وغيرهم بالتفخيم ، وعن ابن عباس أنه اسم الله الأعظم.

٢ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي هذا تنزيل الكتاب (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) أي المنيع بسلطانه عن أن يتقوّل عليه متقوّل (الْعَلِيمِ) بمن صدّق به وكذّب ، فهو تهديد للمشركين وبشارة للمؤمنين.

٣ ـ (غافِرِ الذَّنْبِ) ساتر ذنب المذنبين (٢) (وَقابِلِ التَّوْبِ) قابل توبة الراجعين (شَدِيدِ الْعِقابِ) على المخالفين (ذِي الطَّوْلِ) ذي الفضل على العارفين ، أو ذي الغنى عن الكلّ ، عن ابن عباس : غافر الذنب وقابل التوب لمن قال لا إله إلا الله ، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله.

والتّوب والثّوب والأوب أخوات في معنى الرجوع ، والطّول الغنى والفضل ، فإن قلت كيف اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا والموصوف معرفة ، قلت : أما

__________________

(١) في (ز) زاد : مكية وهي. واعتمدت (أ) و (ظ) تسمية السورة بسورة المؤمن ، وهي في المصاحف المتداولة «غافر».

(٢) في (ظ) و (ز) المؤمنين.

١٠٢

(مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) (٥)

غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين حتى يكونا في تقدير الانفصال فتكون إضافتهما غير حقيقية ، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، وأما شديد العقاب فهو في تقدير شديد عقابه فتكون نكرة ، فقيل هو بدل ، وقيل لمّا وجدت هذه النكرة بين هذه المعارف آذنت بأنّ كلّها أبدال غير أوصاف ، وإدخال الواو في قابل التوب لنكتة وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين ، بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محّاءة للذنوب كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول.

وروي أنّ عمر رضي الله عنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام ، فقيل له تتابع في هذا الشراب ، فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر إلى فلان سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. بسم الله الرحمن الرحيم حم إلى قوله إليه المصير ، وختم الكتاب وقال لرسوله لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى. ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته ، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلة فسدّدوه ووقّفوه وادعوا له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه (١) (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة أيضا لذي الطّول ، ويجوز أن يكون مستأنفا (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) المرجع.

٤ ـ (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ما يخاصم فيها بالتكذيب بها والإنكار لها ، وقد دلّ على ذلك في قوله : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها ، وحلّ مشكلها ، واستنباط معانيها ، وردّ أهل الزيغ بها ، فأعظم جهاد في سبيل الله (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة سالمين غانمين فإنّ عاقبة أمرهم إلى العذاب.

ثم بيّن كيف ذلك ، فأعلم أنّ الأمم الذين كذّبت قبلهم أهلكت فقال :

٥ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) نوحا (وَالْأَحْزابُ) أي الذين تحزبوا

__________________

(١) أبو نعيم في الحلية في ترجمة يزيد بن الأصم بتمامه ٤ / ٩٧.

١٠٣

(وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (٧)

على الرّسل وناصبوهم ، وهم عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم (مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد قوم نوح (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ) من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب (بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) ليتمكنوا منه فيقتلوه. والأخيذ : الأسير (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) بالكفر (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ليبطلوا به الإيمان (فَأَخَذْتُهُمْ) مظهر مكي وحفص ، يعني أنهم قصدوا أخذه فجعلت جزاءهم على إرادة أخذ الرسل أن أخذتهم فعاقبتهم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) وبالياء يعقوب. أي فإنكم تمرون على بلادهم فتعاينون أثر ذلك ، وهذا تقرير فيه معنى التعجب (١).

٦ ـ (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) كلمات ربّك مدني وشامي (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) في محلّ الرفع بدل من كلمة ربّك ، أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار ، ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة ، أو في محلّ النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل والذين كفروا قريش ، ومعناه كما وجب إهلاك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء ؛ لأنّ علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار ، ويلزم الوقف على النار ، لأنه لو وصل لصار :

٧ ـ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) يعني حاملي العرش والحافين حوله وهم الكروبيون سادة الملائكة صفة لأصحاب النار وفساده ظاهر.

روي أنّ حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وفي الحديث : (إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة) (٢) وقيل : حول العرش سبعون ألف صفّ من الملائكة يطوفون به مهلّلين مكبّرين ومن ورائهم سبعون ألف صفّ (٣) قيام يهلّلون ويكبّرون ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الإيمان على الشمائل ما منهم أحد إلّا وهو يسبّح بما لا يسبّح به الآخر (يُسَبِّحُونَ) خبر

__________________

(١) في (ظ) و (ز) التعجيب.

(٢) قال ابن حجر : لم أجده.

(٣) زاد في (ز) : من الملائكة قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم.

١٠٤

(رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) (١٠)

المبتدأ وهو الذين (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي مع حمده ، أو (١) الباء تدل على أنّ تسبيحهم بالحمد له (٢) (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) وفائدته مع علمنا بأنّ حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبّحون بحمده مؤمنون إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمال الخير بقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٣) فأبان بذلك فضل الإيمان ، وقد روعي التناسب في قوله : ويؤمنون به (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) كأنه قيل ويؤمنون به ويستغفرون لمن في مثل حالهم ، وفيه دليل على أنّ الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة ، وإن تباعدت الأجناس والأماكن (رَبَّنا) أي يقولون ربّنا وهذا المحذوف حال (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) فالرحمة والعلم هما اللذان وسعا كلّ شيء في المعنى ، إذ الأصل وسع كلّ شيء رحمتك وعلمك ، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم ، وأخرجا منصوبين على التمييز مبالغة في وصفه بالرحمة والعلم (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) أي للذين علمت منهم التوبة لتناسب ذكر الرحمة والعلم (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي طريق الهدى الذي دعوت إليه (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ).

٨ ـ (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) من في موضع نصب عطف على هم في وأدخلهم أو في وعدتّهم ، والمعنى وعدتّهم ووعدتّ من صلح من آبائهم (وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الملك الذي لا يغلب ، وأنت مع ملكك وعزّتك لا تفعل شيئا خاليا عن الحكمة ، وموجب حكمتك أن تفي بوعدك.

٩ ـ (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي جزاء السيئات وهو عذاب النار (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ) أي دفع (٤) العذاب (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) أي يوم القيامة إذا دخلوا النار ومقتوا

__________________

(١) في (ز) إذ.

(٢) في (ظ) و (ز) بالحمدلة.

(٣) البلد ، ٩٠ / ١٧.

(٤) في (ظ) و (ز) رفع.

١٠٥

(قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ)(١١)

أنفسهم فيناديهم خزنة النار (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم ، فاستغنى بذكرها مرة ، والمقت أشدّ البغض ، وانتصاب (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) بالمقت الأول عند الزمخشري ، والمعنى أنه يقال لهم يوم القيامة : كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشدّ مما تمقتونهنّ اليوم وأنتم في النار إذا وقعتم فيها باتّباعكم هواهنّ ، وقيل معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض كقوله : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (١) وإذ تدعون تعليل ، وقال جامع العلوم وغيره : إذ منصوب بفعل مضمر دلّ عليه لمقت الله ، أي يمقتهم الله حين دعوا إلى الإيمان فكفروا ولا ينتصب بالمقت الأول ، لأنّ قوله لمقت الله مبتدأ ، وهو مصدر وخبره أكبر من مقتكم (٢) ، فلا يعمل في إذ تدعون ؛ لأنّ المصدر إذا أخبر عنه لم يجز أن يتعلّق به شيء يكون في صلته لأنّ الإخبار عنه يؤذن بتمامه ، وما يتعلّق به يؤذن بنقصانه ، ولا بالثاني لاختلاف الزمانين ، وهذا لأنهم مقتوا أنفسهم في النار وقد دعوا إلى الإيمان في الدنيا (فَتَكْفُرُونَ) فتصرّون على الكفر.

١١ ـ (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي إماتتين وإحياءتين أو موتتين وحياتين.

وأراد بالإماتتين خلقهم أمواتا أولا وإماتتهم عند انقضاء آجالهم ، وصحّ أن يسمى خلقهم أمواتا إماتة ، كما صحّ أن يقال : سبحان من صغّر جسم البعوضة وكبّر جسم الفيل ، وليس ثمة نقل من كبر إلى صغر ، ولا من صغر إلى كبر ، والسبب فيه أنّ الصّغر والكبر جائزان على المصنوع الواحد ، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه.

وبالإحياءتين : الإحياءة الأولى (٣) ، وإحياءة البعث ، ويدل عليه قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (٤) وقيل : الموتة الأولى في الدنيا ، والثانية في

__________________

(١) العنكبوت ، ٢٩ / ٢٥.

(٢) زاد في (ظ) و (ز) أنفسكم.

(٣) في (ز) : في الدنيا والاحياءة الثانية البعث.

(٤) البقرة ، ٢ / ٢٨.

١٠٦

(ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) (١٥)

القبر بعد الإحياء للسؤال ، والإحياء الأول إحياؤه في قبره (١) بعد موته للسؤال ، والثاني للبعث (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) لما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّرا عليهم علموا أنّ الله قادر على الإعادة كما هو قادر على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) من النار. أي إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء لنتخلّص (مِنْ سَبِيلٍ) قطّ أم اليأس واقع دون ذلك ، فلا خروج ولا سبيل إليه؟ وهذا كلام من غلب عليه اليأس وإنما يقولون ذلك تحيّرا ، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله :

١٢ ـ (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي ذلكم الذي أنتم فيه ، وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك به (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) حيث حكم عليكم بالعذاب السّرمد (الْعَلِيِ) شأنه ، فلا يردّ قضاؤه (الْكَبِيرِ) العظيم سلطانه ، فلا يحدّ جزاؤه ، وقيل كأن الحروريّة أخذوا قولهم : لا حكم إلّا لله من هذا. وقال قتادة : لما خرج أهل حروراء قال علي رضي الله عنه : من هؤلاء؟ قيل المحكّمون. أي يقولون : لا حكم إلا الله ، فقال علي رضي الله عنه : كلمة حقّ أريد بها باطل.

١٣ ـ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ) وبالتخفيف مكي وبصري (رِزْقاً) مطرا ؛ لأنه سبب الرزق (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) وما يتّعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله ، فالمعاند (٢) لا يتذكّر ولا يتّعظ ، ثم قال للمنيبين :

١٤ ـ (فَادْعُوا اللهَ) فاعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) وإن عاب (٣) ذلك أعداؤكم ممن ليس على دينكم.

١٥ ـ (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ) ثلاثة أخبار لقوله هو مرتبة على

__________________

(١) في (ظ) و (ز) القبر.

(٢) في (ظ) و (ز) فإن المعاند.

(٣) في (ظ) و (ز) غاظ.

١٠٧

(يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (١٨)

قوله : الذي يريكم. أو أخبار مبتدأ محذوف ، ومعنى رفيع الدرجات رافع السماوات بعضها فوق بعض ، أو رافع درجات عباده في الدنيا بالمنزلة ، أو رافع منازلهم في الجنة ، ذو العرش مالك عرشه الذي فوق السماوات خلقه مطافا للملائكة إظهارا لعظمته مع استغنائه في مملكته ، الروح جبريل عليه‌السلام ، أو الوحي الذي تحيا به القلوب (مِنْ أَمْرِهِ) من أجل أمره ، أو بأمره (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ) أي الله ، أو الملقى عليه وهو النبيّ عليه‌السلام ويدلّ عليه قراءة يعقوب لتنذر (يَوْمَ التَّلاقِ) يوم القيامة لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض والأولون والآخرون ، التلاقي مكي ويعقوب.

١٦ ـ (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) أي من أعمالهم وأحوالهم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) أي يقول الله تعالى ذلك حين لا أحد يجيبه ، ثم يجيب نفسه بقوله (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي الذي قهر الخلق بالموت ، وينتصب اليوم بمدلول لمن أي لمن ثبت الملك في هذا اليوم؟ وقيل ينادي مناد فيقول : لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر : لله الواحد القهار.

١٧ ـ (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لما قرر أنّ الملك لله وحده في ذلك اليوم عدّد نتائج ذلك وهي أنّ كلّ نفس تجزى بما كسبت عملت في الدنيا من خير وشرّ ، وأنّ الظلم مأمون (١) لأنه ليس بظلّام للعبيد ، وأنّ الحساب لا يبطىء ، لأنه لا يشغله حساب عن حساب ، فيحاسب الخلق كلّه في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين.

١٨ ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) القيامة (٢) سمّيت بها لأزوفها ، أي لقربها ، ويبدل من يوم الآزفة (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) أي التراقي ، يعني ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم ، فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروّحوا (كاظِمِينَ) ممسكين بحناجرهم. من كظم القربة شدّ رأسها ، وهو حال من القلوب محمول على أصحابها ، وإنما جمع الكاظم جمع السلامة لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء (ما لِلظَّالِمِينَ) الكافرين (مِنْ حَمِيمٍ) محبّ مشفق (وَلا شَفِيعٍ

__________________

(١) زاد في (ز) منه.

(٢) في (ظ) و (ز) أي القيامة.

١٠٨

يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ) (٢١)

(يُطاعُ) أي يشفع ، وهو مجاز (١) لأنّ الطاعة حقيقة لا تكون إلا لمن فوقك ، والمراد نفي الشفاعة والطاعة كما في (٢) : ولا ترى الضّبّ بها ينجحر. يريد نفي الضّبّ وانجحاره ، وإن احتمل اللفظ انتفاء الطاعة دون الشفاعة ، فعن الحسن : والله ما يكون لهم شفيع البتة.

١٩ ـ (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة ، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحلّ (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) وما تسرّه من أمانة أو خيانة ، وقيل هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوة مسارقة ، ثم يتفكّر بقلبه في جمالها ولا يعلم بنظرته وفكرته من بحضرته والله يعلم ذلك كلّه ، ويعلم خائنة الأعين خبر من أخبار هو في قوله : هو الذي يريكم آياته. مثل يلقي الرّوح ، ولكن يلقي الرّوح قد علّل بقوله : لينذر يوم التلاق ، ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله : ولا شفيع يطاع فبعد لذلك عن أخواته.

٢٠ ـ (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) أي والذي هذه صفاته لا يحكم إلا بالعدل (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) وآلهتهم لا يقضون بشيء ، وهذا تهكّم بهم لأنّ ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي. تدعون نافع (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) تقرير لقوله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون ، وأنه يعاقبهم عليه ، وتعريض بما يدعون من دون الله (٣) ، وأنها لا تسمع ولا تبصر.

٢١ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي آخر أمر الذين كذّبوا الرسل من قبلهم (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) هم فصل ، وحقّه أن يقع بين معرفتين إلّا أنّ أشدّ منهم ضارع المعرفة في أنه لا يدخله الألف واللام ،

__________________

(١) في (ز) مجاز عن الطاعة.

(٢) في (ظ) و (ز) كما في قوله. والقول شطر بيت سبق الاستشهاد به في ٣ / ١٥١.

(٣) في (ز) من دونه.

١٠٩

(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (٢٦)

فأجري مجراه. منكم شامي (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) أي حصونا وقصورا (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) عاقبهم بسبب ذنوبهم (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) ولم يكن لهم شيء يقيهم من عذاب الله.

٢٢ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي الأخذ بسبب أنهم (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌ) قادر على كلّ شيء (شَدِيدُ الْعِقابِ) إذا عاقب.

٢٣ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) التسع (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وحجة ظاهرة.

٢٤ ـ (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا) هو (ساحِرٌ كَذَّابٌ) فسمّوا السلطان المبين سحرا وكذبا.

٢٥ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِ) بالنبوة (مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا (وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) للخدمة (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ضياع ، يعني أنهم باشروا قتلهم أولا فما أغنى عنهم ، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه ، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني ، وكان فرعون قد كفّ عن قتل الولدان ، فلما بعث موسى عليه‌السلام وأحسّ بأنه قد وقع أعاده عليهم غيظا وظنا منه أنه يصدّهم بذلك عن مظاهرة موسى عليه‌السلام ، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرّتين جميعا.

٢٦ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ) لملئه (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) كان إذا همّ بقتله كفّوه بقولهم : ليس بالذي تخافه وهو أقلّ من ذلك ، وما هو إلا ساحر ، وإذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجّة ، والظاهر أنّ فرعون قد استيقن أنه نبيّ وأنّ ما جاء به آيات وما هو بسحر ، ولكن كان فيه خبّ (١) وكان قتّالا

__________________

(١) الخبّ : الخدّاع والخداع والخبث والغش (القاموس ١ / ٥٩).

١١٠

(وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (٢٧) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٢٨)

سفّاكا للدماء في أهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحسّ بأنه هو الذي يهدم ملكه ، ولكنه (١) كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك ، وقوله (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربّه ، وكان قوله : ذروني أقتل موسى تمويها على قومه وإيهاما أنهم هم الذين يكفّون (٢) ، وما كان يكفّه إلا ما في نفسه من هول الفزع (إِنِّي أَخافُ) إن لم أقتله (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أن يغير ما أنتم عليه ، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ) موسى (فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) بضمّ الياء ونصب الدال مدني وبصري وحفص ، وغيرهم بفتح الياء ورفع الدال ، والأول أولى لموافقة يبدّل ، والفساد في الأرض التقاتل والتهارج (٣) الذي يذهب معه الأمن ، وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش ويهلك الناس قتلا وضياعا ، كأنه قال إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه ، أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه ، وقرأ غير أهل الكوفة وأن ، ومعناه إني أخاف فساد دينكم ودنياكم معا.

٢٧ ـ (وَقالَ مُوسى) لما سمع بما أجراه فرعون من حديث قتله لقومه (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) وفي قوله وربّكم بعث لهم على أن يقتدوا به فيعوذوا بالله عياذه ، ويعتصموا بالتوكّل عليه اعتصامه ، وقال من كلّ متكبّر لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة ، وليكون على طريقة التعريض فيكون أبلغ ، وأراد بالتكبّر الاستكبار عن الإذعان للحقّ ، وهو أقبح استكبار ، وأدلّه (٤) على دناءة صاحبه وعلى فرط ظلمه ، وقال : لا يؤمن بيوم الحساب ؛ لأنه إذا اجتمع في الرجل التكبّر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده ، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها ، وعذت ولذت أخوان. وعدت بالإدغام أبو عمرو وحمزة وعليّ.

٢٨ ـ (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) قيل : كان قبطيا ابن

__________________

(١) في (ظ) و (ز) ولكن.

(٢) في (ظ) و (ز) يكفونه.

(٣) في (ز) التهايج ، والهرج : الفتنة والاختلاط.

(٤) في (ز) وأدل.

١١١

(يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (٢٩)

عمّ لفرعون آمن بموسى سرّا ، ومن آل فرعون صفة لرجل ، وقيل : كان إسرائيليا ومن آل فرعون صلة ليكتم أي يكتم إيمانه من آل فرعون واسمه سمعان أو حبيب أو خربيل أو حزبيل ، والظاهر الأول (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ) لأن يقول وهذا إنكار منه عظيم كأنه قيل أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق ، وهي قوله (رَبِّيَ اللهُ) وهو ربّكم أيضا لا ربه وحده (وَقَدْ جاءَكُمْ) الجملة حال (بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني أنه لم يحضر لتصحيح قوله ببينة واحدة ولكن ببينات من عند من نسبت (١) إليه الربوبية وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) احتجّ عليهم بطريق التقسيم وهو أنه (٢) لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا ، فإن يك كاذبا فعليه وبال كذبه ولا يتخطاه ، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم من العذاب ، ولم يقل كلّ الذي يعدكم مع أنه وعد من نبيّ صادق القول مداراة لهم وسلوكا لطريق الإنصاف ، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له وليس فيه نفي إصابة الكلّ ، فكأنه قال لهم أقلّ ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض ما يعدكم وهو العذاب العاجل وفي ذلك هلاككم ، وكان وعدهم عذاب الدنيا والآخرة ، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل أيضا ، وتفسير البعض بالكلّ مزيف (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) مجاوز للحدّ (كَذَّابٌ) في ادعائه ، وهذا أيضا من باب المجاملة ، والمعنى أنه إن كان مسرفا كذابا خذله الله وأهلكه فتتخلصون منه ، أو لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله بالنبوة ولما عضده بالبينات ، وقيل أوهم أنه عنى بالمسرف موسى وهو يعني به فرعون.

٢٩ ـ (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) غالبين (٣) ، وهو حال من كم في لكم (فِي الْأَرْضِ) في أرض مصر (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) يعني أنّ لكم ملك مصر ، وقد علوتم الناس وقهرتموهم ، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ، ولا تتعرضوا لبأس الله أي عذابه ، فإنه لا طاقة لكم به إن جاءكم ولا يمنعكم منه أحد ،

__________________

(١) في (ظ) و (ز) نسب.

(٢) في (ظ) و (ز) فإنه.

(٣) في (ظ) و (ز) عالين.

١١٢

(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (٣١) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) (٣٢)

وقال ينصرنا وجاءنا لأنه منهم في القرابة ، وليعلمهم بأنّ الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتله يعني لا أستصوب إلا قتله ، وهذا الذي تقولونه غير صواب (وَما أَهْدِيكُمْ) بهذا الرأي (إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) طريق الصواب والصلاح ، أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدّخر منه شيئا ولا أسرّ عنكم خلاف ما أظهر. يعني أنّ لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول ، وقد كذب فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى عليه‌السلام ، ولكنه كان يتجلّد ، ولو لا استشعاره لم يستشر أحدا ولم يقف الأمر على الإشارة.

٣٠ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) أي مثل أيامهم ؛ لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسّرهم بقوله :

٣١ ـ (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ولم يلبس (١) أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دمار اقتصر على الواحد من الجمع ، ودأب هؤلاء دؤبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي وكون ذلك دائبا دائما منهم لا يفترون عنه ، ولا بدّ من حذف مضاف ، أي مثل جزاء دأبهم ، وانتصاب مثل الثاني بأنه عطف بيان لمثل الأول (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) أي وما يريد الله أن يظلم عباده فيعذبهم بغير ذنب أو يزيد على قدر ما يستحقّون من العذاب ، يعني أنّ تدميرهم كان عدلا لأنهم استحقوه بأعمالهم ، وهو أبلغ من قوله : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢) حيث جعل المنفيّ إرادة ظلم منكّر ومن بعد عن إرادة ظلم مّا لعباده كان عن الظلم أبعد وأبعد ، وتفسير المعتزلة بأنه لا يريد لهم أن يظلموا بعيد ، لأنّ أهل اللغة قالوا : إذا قال الرجل لآخر لا أريد ظلما لك معناه لا أريد أن أظلمك ، وهذا تخويف بعذاب الدنيا ، ثم خوّفهم من عذاب الآخرة بقوله :

٣٢ ـ (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) أي يوم القيامة. التنادي مكي ويعقوب في الحالين وإثبات الياء هو الأصل وحذفها حسن لأنّ الكسرة تدلّ على

__________________

(١) في (ز) يلتبس.

(٢) فصلت ، ٤١ / ٤٦.

١١٣

(يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٣٥)

الياء ، وآخر هذه الآي على الدال (١) ، وهو ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) (٢) (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) (٣) (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) (٤) وقيل ينادي مناد : ألا إنّ فلانا سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، ألا إنّ فلانا شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبدا.

٣٣ ـ (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) منصرفين (٥) عن موقف الحساب إلى النار (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ) من عذاب الله (مِنْ عاصِمٍ) مانع ودافع (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) مرشد.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) هو يوسف بن يعقوب ، وقيل يوسف بن إبراهيم (٦) بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نبيا عشرين سنة ، وقيل إنّ فرعون موسى هو فرعون يوسف عمّر إلى زمنه ، وقيل هو فرعون آخر ، وبّخهم بأنّ يوسف أتاكم من قبل موسى بالمعجزات (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) فشككتم فيها ولم تزالوا شاكّين (حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) حكما من عند أنفسكم من غير برهان. أي أقمتم على كفركم وظننتم أنه لا يجدّد عليكم إيجاب الحجّة (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي مثل هذا الإضلال يضلّ الله كلّ مسرف في عصيانه مرتاب شاك في دينه.

٣٥ ـ (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) بدل من من هو مسرف وجاز إبداله منه ، وهو جمع لأنه لا يريد مسرفا واحدا بل كلّ مسرف (فِي آياتِ اللهِ) في دفعها وإبطالها (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) حجّة (أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً) أي عظم بغضا ، وفاعل كبر ضمير من هو

__________________

(١) في (أ) أثبت الياء وفي (ظ) و (ز) حذفها.

(٢) الأعراف ، ٧ / ٤٤.

(٣) الأعراف ، ٧ / ٥٠.

(٤) الأعراف ، ٧ / ٤٨.

(٥) في (ز) منحرفين.

(٦) في (ز) أفراييم.

١١٤

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) (٣٧)

مسرف وهو جمع معنى وموحّد لفظا فحمل البدل على معناه ، والضمير الراجع إليه على لفظه ، ويجوز أن يرفع الذين على الابتداء ، ولا بدّ في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في كبر تقديره جدال الذين يجادلون كبر مقتا (عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) قلب بالتنوين أبو عمرو ، وإنما وصف القلب بالتكبّر والتجبّر لأنه منبعهما كما تقول : سمعت الأذن وهو كقوله : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (١) وإن كان الآثم هو الجملة.

٣٦ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ) تنويها (٢) على قومه أو جهلا منه (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) قصرا (٣). وقيل الصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد ، ومنه يقال : صرح الشيء إذا ظهر (لَعَلِّي) وبفتح الياء حجازي وشامي وأبو عمرو (أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) ثم أبدل منها تفخيما لشأنها وإبانة أنه يقصد أمرا عظيما.

٣٧ ـ (أَسْبابَ السَّماواتِ) أي طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها ، وكلّ ما أدّاك إلى شيء فهو سبب إليه كالرّشاء ونحوه (فَأَطَّلِعَ) بالنصب حفص على جواب الترجّي تشبيها للترجّي بالتمني ، وغيره بالرفع عطفا على أبلغ (إِلى إِلهِ مُوسى) والمعنى فأنظر إليه (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي موسى (كاذِباً) في قوله له إله غيري (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك التزيين وذلك الصدّ (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) المستقيمة. وبفتح الصاد غير كوفي ويعقوب (٤) ، أي غيره صدا ، أو هو بنفسه صدودا والمزيّن الشيطان بوسوسته كقوله : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) (٥) أو الله تعالى ، ومثله : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) (٦) (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) خسران وهلاك.

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ٢٨٣.

(٢) في (ظ) و (ز) تمويها.

(٣) في (ظ) و (ز) أي صرحا.

(٤) في (ظ) و (ز) كوفي ويعقوب ، والصواب ما أثبتناه من (أ) وهو يتفق مع القراءات.

(٥) النمل ، ٢٧ / ٢٤. العنكبوت ، ٢٩ / ٣٨.

(٦) النمل ، ٢٧ / ٤.

١١٥

(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) (٤٢)

٣٨ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) اتبعوني في الحالين مكي ويعقوب وسهل (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) وهو نقيض الغيّ ، وفيه تعريض شبيه بالتصريح أنّ ما عليه فرعون وقومه سبيل الغيّ. أجمل أولا ، ثم فسر فافتتح بذمّ الدنيا وتصغير شأنها بقوله :

٣٩ ـ (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) تمتع يسير ، فالإخلاد إليها أصل الشرّ ومنبع الفتن ، وثنّى بتعظيم الآخرة وبيّن أنها هي الوطن والمستقرّ بقوله (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ).

ثم ذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كلّ منهما ليثبّط عما يتلف وينشّط لما يزلف بقوله :

٤٠ ـ (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) يدخلون مكي وبصري ويزيد وأبو بكر.

ثم وازن بين الدعوتين دعوته إلى دين الله الذي ثمرته الجنات ، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار بقوله :

٤١ ـ (وَيا قَوْمِ ما لِي) وبفتح الياء حجازي وأبو عمرو (أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) أي الجنة (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ).

٤٢ ـ (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ) هو بدل من تدعونني الأول يقال : دعاه إلى كذا ودعاه له ، كما يقال هداه إلى الطريق وهداه له (وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي بربوبيّته ، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال : وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلها (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) وهو الله سبحانه وتعالى ، وتكرير النداء لزيادة التنبيه لهم والإيقاظ عن سنة الغفلة ، وفيه أنهم قومه وأنه

١١٦

(لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٤٤) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (٤٦)

من آل فرعون ، وجيء بالواو في النداء الثالث دون الثاني ، لأنّ الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل وتفسير له بخلاف الثالث.

٤٣ ـ (لا جَرَمَ) عند البصريين لا ردّ لما دعاه إليه قومه وجرم فعل بمعنى حقّ وأنّ مع ما في حيزه فاعله أي حقّ ووجب بطلان دعوته (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) معناه أنّ ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط ، أي من حقّ المعبود بالحقّ أن يدعو العباد إلى طاعته وما تدعون إليه وإلى عبادته لا يدعو هو إلى ذلك ، ولا يدّعي الربوبية ، أو معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا وفي الآخرة (١) ، أو دعوة مستجابة ، جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة كلا دعوة ، أو سمّيت الاستجابة باسم الدعوة كما سمّي الفعل المجازى عليه بالجزاء في قوله : كما تدين تدان (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) وأن رجوعنا إليه (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) المشركين (٢) (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ).

٤٤ ـ (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) أي من النصيحة عند نزول العذاب (وَأُفَوِّضُ) وأسلّم (أَمْرِي) وبفتح الياء مدني وأبو عمرو (إِلَى اللهِ) لأنهم توعّدوه (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) بأعمالهم ومآلهم.

٤٥ ـ (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) شدائد مكرهم وما همّوا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم ، وقيل إنه خرج من عندهم هاربا إلى جبل فبعث قريبا من ألف في طلبه فمنهم من أكلته السباع ، ومن رجع منهم صلبه فرعون (وَحاقَ) ونزل (بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ).

٤٦ ـ (النَّارُ) بدل من سوء العذاب أو خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ما سوء العذاب؟ فقيل هو النار ، أو مبتدأ خبره (يُعْرَضُونَ عَلَيْها) وعرضهم عليها إحراقهم

__________________

(١) في (ز) ولا في الآخرة.

(٢) في (ز) وأن المشركين.

١١٧

(وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ (٤٧) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (٤٨) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (٤٩) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)(٥٠)

بها يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) أي في هذين الوقتين يعذّبون بالنار ، وفيما بين ذلك إمّا أن يعذّبوا بجنس آخر أو ينفّس عنهم ، ويجوز أن يكون غدوّا وعشيا عبارة عن الدوام هذا في الدنيا (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) يقال لخزنة جهنم (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) من الإدخال مدني وحمزة وعليّ وحفص وخلف ويعقوب ، وغيرهم أدخلوا أي يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون (أَشَدَّ الْعَذابِ) أي عذاب جهنم ، وهذه الآية دليل على عذاب القبر.

٤٧ ـ (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ) واذكر وقت تخاصمهم (فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) يعني الرؤساء (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) تبّاعا كخدم في جمع خادم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) دافعون (عَنَّا نَصِيباً) جزءا (مِنَ النَّارِ).

٤٨ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) التنوين عوض من المضاف إليه أي إنا كلّنا فيها لا يغني أحد عن أحد (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) قضى بينهم بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.

٤٩ ـ (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) للقوّام بتعذيب أهلها وإنما لم يقل لخزنتها لأنّ في ذكر جهنم تهويلا وتفظيعا ، ويحتمل أنّ جهنم هي أبعد النار قعرا من قولهم بئر جهنّام بعيدة القعر ، وفيها أعتى الكفار وأطغاهم ، فلعلّ الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله تعالى فلهذا تعمّدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً) قدر يوم من الدنيا (مِنَ الْعَذابِ).

٥٠ ـ (قالُوا) أي الخزنة توبيخا لهم بعد مدة طويلة (أَوَلَمْ تَكُ) أي أولم تك قصة ، وقوله (تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ) تفسير للقصة (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات (قالُوا) أي الكفار (بَلى قالُوا) أي الخزنة تهكما بهم (فَادْعُوا) أنتم ولا استجابة لدعائكم (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) بطلان ، وهو من قول الله تعالى ، ويحتمل أن يكون من كلام الخزنة.

١١٨

(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) (٥٥)

٥١ ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي في الدنيا والآخرة ، يعني أنه يغلبهم في الدارين جميعا بالحجة والظفر على مخالفيهم وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحانا من الله والعاقبة لهم ويتيح الله من يقتصّ من أعدائهم ولو بعد حين ، ويوم نصب محمول على موضع الجار والمجرور كما تقول جئتك في أمس واليوم ، والأشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب ، يريد الأنبياء والحفظة ، فالأنبياء يشهدون عند ربّ العزة على الكفرة بالتكذيب ، والحفظة يشهدون على بني آدم بما عملوا من الأعمال. تقوم بالتاء الرازي (١) عن هشام (٢).

٥٢ ـ (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) هذا بدل من يوم يقوم أي لا يقبل عذرهم. لا ينفع كوفي ونافع (٣) (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) البعد من رحمة الله (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي سوء دار الآخرة وهو عذابها.

٥٣ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) يريد به جميع ما أتى به في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي التوراة والإنجيل والزبور لأنّ الكتاب جنس (٤).

٥٤ ـ (هُدىً وَذِكْرى) إرشادا وتذكرة ، وانتصابهما على المفعول له أو على الحال (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوي العقول.

٥٥ ـ (فَاصْبِرْ) على ما يجرّعك قومك من الغصص (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ)

__________________

(١) الرازي : هو أحمد بن محمد بن عثمان بن شبيب الرازي نزيل مصر ويكنى أبا بكر مقرىء مشهور ضابط روى عنه الحروف الداجوني توفي بمصر عام ٣١٢ ه‍ (غاية النهاية ١ / ١٢٣).

(٢) هشام : هو هشام بن عمار بن نصير ويكنى أبا الوليد السلمي الدمشقي إمام أهل دمشق ولد سنة ١٥٣ ه‍ ومات سنة ٢٤٥ ه‍ (غاية النهاية ٢ / ٣٥٤ ـ ٣٥٦).

(٣) في مصحف النسفي لا تنفع وهي قراءة.

(٤) زاد في (ز) أي تركنا الكتاب من بعد هذا إلى هذا.

١١٩

(إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ) (٥٨)

يعني إنّ ما سبق به وعدي من نصرتك وإعلاء كلمتك حقّ (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أي لذنب أمتك (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي دم على عبادة ربّك والثناء عليه ، وقيل هما صلاتا العصر والفجر ، وقيل قل سبحان الله وبحمده.

٥٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) لا وقف عليه لأنّ خبر إنّ (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) تعظّم وهو إرادة التقدّم والرياسة وأن لا يكون أحد فوقهم (١) فلهذا عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك لأنّ النبوة تحتها كلّ ملك ورياسة ، أو إرادة أن تكون لهم النبوة دونك حسدا وبغيا ، ويدلّ عليه قوله : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (٢) أو إرادة دفع الآيات بالجدال (٣) (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ببالغي موجب الكبر ومقتضيه وهو متعلق إرادتهم (٤) من الرياسة أو النبوة أو دفع الآيات (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فالتجىء إليه من كيد من يحسدك ويبغي عليك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقول ويقولون (الْبَصِيرُ) بما تعمل ويعملون فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرّهم.

٥٧ ـ (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) لما كانت مجادلتهم في آيات الله مشتملة على إنكار البعث وهو أصل المجادلة ومدارها حجّوا (٥) بخلق السماوات الأرض لأنهم كانوا مقرّين بأنّ الله خالقها ، فإنّ من قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم.

٥٨ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) لا زائدة (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) تتعظون بتاءين كوفي ، وبياء وتاء غيرهم ، وقليلا صفة مصدر محذوف أي تذكرا قليلا يتذكرون ، وما صلة زائدة.

__________________

(١) ليس في (أ) فوقهم.

(٢) الأحقاف : ٤٦ / ١١.

(٣) في (ز) بالجدل.

(٤) في (أ) إرادته.

(٥) حجّوا : أي غلبوا.

١٢٠