تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

١

٢

٣

٤

سورة يس

مكية وهي ثلاث وثمانون اية

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٤) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٥)

١ ـ (يس) عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه يا إنسان في لغة طيىء ، وعن ابن الحنفية يا محمد ، وفي الحديث : (إن الله سماني في القرآن بسبعة أسماء : محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله) (١) وقيل يا سيد. ياسين بالإمالة عليّ وحمزة وخلف وحماد ويحيى.

٢ ـ (وَالْقُرْآنِ) قسم (الْحَكِيمِ) ذي الحكمة ، أو لأنه دليل ناطق بالحكمة ، أو لأنه كلام حكيم ، فوصف بصفة المتكلّم به.

٣ ـ (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) جواب القسم وهو ردّ على الكفار حين قالوا : لست مرسلا.

٤ ـ (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) خبر بعد خبر ، أو صلة للمرسلين ، أي الذين أرسلوا على صراط مستقيم ، أي طريقة مستقيمة وهو الإسلام.

٥ ـ (تَنْزِيلَ) بنصب اللام شامي وكوفي غير أبي بكر على اقرأ تنزيل ، أو على أنه مصدر أي نزل تنزيل ، وغيرهم بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل ،

__________________

(١) لم أجده.

٥

(لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ) (٨)

والمصدر بمعنى المفعول (الْعَزِيزِ) الغالب بفصاحة نظم كتابه أوهام ذوي العناد (الرَّحِيمِ) الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهام أولي الرشاد.

٦ ـ واللام في (لِتُنْذِرَ قَوْماً) متصل بمعنى المرسلين ، أي أرسلت لتنذر (١) (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) ما نافية عند الجمهور أي قوما غير منذر آباؤهم على الوصف بدليل قوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) (٢) (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٣) أو موصولة منصوبة على المفعول الثاني أي العذاب الذي أنذره آباؤهم كقوله : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) (٤) أو مصدرية أي لتنذر قوما إنذار آبائهم ، أي مثل إنذار آبائهم (فَهُمْ غافِلُونَ) إن جعلت ما نافية فهو متعلق بالنفي ، أي لم ينذروا فهم غافلون ، وإلا فهو متعلق بقوله : إنك لمن المرسلين لتنذر ، كما تقول أرسلتك إلى فلان لتنذره فإنه غافل أو فهو غافل.

٧ ـ (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٥) أي تعلّق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب ، لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر.

ثم مثّل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحقّ ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له ، وكالحاصلين بين السّدّين (٦) لا يبصرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمّل لهم ولا تبصّر وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله بقوله :

٨ ـ (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) معناه فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) مرفوعة رؤوسهم ، يقال قمح البعير فهو قامح إذا روي فرفع رأسه ، وهذا لأن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود خارجا من الحلقة إلى الذقن فلا يخلّيه

__________________

(١) زاد في (ز) قوما.

(٢) القصص ، ٢٨ / ٤٦ السجدة ، ٣٢ / ٣.

(٣) سبأ ، ٣٤ / ٤٤.

(٤) النبأ ، ٧٨ / ٤٠.

(٥) هود ، ١١ / ١١٩ السجدة ، ٣٢ / ١٣.

(٦) في (ظ) و (ز) سدين ، والحاصل : الثابت (انظر القاموس ٣ / ٣٥٧).

٦

(وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (٩) وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (١٢)

يطأطىء رأسه فلا يزال مقمحا.

٩ ـ (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) بفتح السين حمزة وعليّ وحفص ، وقيل ما كان من عمل الناس فبالفتح ، وما كان من خلق الله كالجبل ونحوه فبالضم (فَأَغْشَيْناهُمْ) فأغشينا أبصارهم ، أي غطّيناها وجعلنا عليها غشاوة (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الحقّ والرشاد ، وقيل نزلت في بني مخزوم ، وذلك أنّ أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضّخنّ رأسه ، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه به ، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكّوه عنها بجهد ، فرجع إلى قومه فأخبرهم ، فقال مخزومي آخر أنا أقتله بهذا الحجر ، فذهب فأعمى الله بصره (١).

١٠ ـ (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي سواء عليهم الإنذار وتركه ، والمعنى من أضلّه الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار ، وروي أنّ عمر بن عبد العزيز قرأ الآية على غيلان القدريّ (٢) فقال : كأني لم أقرأها أشهدك أني تائب عن قولي في القدر ، فقال عمر : اللهم إن صدق فتب عليه وإن كذّب فسلط عليه من لا يرحمه ، فأخذه هشام بن عبد الملك (٣) من عنده ، فقطع يديه ورجليه وصلبه على باب دمشق.

١١ ـ (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي إنما ينتفع بإنذارك من اتبع القرآن (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) وخاف عقاب الله ولم يره (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) وهي العفو عن ذنوبه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي الجنة.

١٢ ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) نبعثهم بعد مماتهم ، أو نخرجهم من الشرك إلى

__________________

(١) ابن إسحاق في السيرة ، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن إسحاق بنحوه عن عكرمة عن ابن عباس.

(٢) غيلان القدري : هو غيلان بن مسلم الدمشقي ، أبو مروان ، كاتب من البلغاء تنسب إليه فرقة «الغيلانية» من القدرية ، ناظره الأوزاعي فأفتى بقتله ، فصلب على باب كيسان بدمشق (الأعلام ٥ / ١٢٤) انظر (الأوزاعي إمام السلف للمحقق ص ١١١ ـ دار النفائس).

(٣) هشام بن عبد الملك بن مروان ، من ملوك الدولة الأموية في الشام ، ولد في دمشق عام ٧١ ه‍ وبويع عام ١٠٥ ه‍ وتوفي عام ١٢٥ ه‍ وكان حسن السياسة (الأعلام ٨ / ٨٦).

٧

(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ) (١٤)

الإيمان (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) ما أسلفوا من الأعمال الصالحة (١) وغيرها (وَآثارَهُمْ) ما هلكوا عنه من أثر حسن كعلم علّموه ، أو كتاب صنّفوه ، أو حبيس (٢) ، أو رباط ، أو مسجد صنعوه ، أو سيئ كوظيفة وظّفها بعض الظلمة ، وكذلك كلّ سنّة حسنة أو سيئة يستنّ بها ، ونحوه قوله تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (٣) قدّم من أعماله وأخّر من آثاره ، وقيل : هي خطاهم إلى الجمعة أو إلى الجماعة (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) عددناه وبيّنّاه (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) يعني اللوح المحفوظ ، لأنه أصل الكتب ومقتداها.

١٣ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) ومثّل لهم ، من قولهم ؛ عندي من هذا الضرب كذا ، أي من هذا المثال وهذه الأشياء على ضرب واحد ، أي على مثال واحد ، والمعنى واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية ، أي أنطاكية ، أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية ، والمثل الثاني بيان للأول ، وانتصاب (إِذْ) بأنه بدل من أصحاب القرية (جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) رسل عيسى عليه‌السلام إلى أهلها بعثهم دعاة إلى الحق وكانوا عبدة أوثان.

١٤ ـ (إِذْ) بدل من إذ الأولى (أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ) أي أرسل عيسى بأمرنا (اثْنَيْنِ) صادقا وصدوقا ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له ، وهو حبيب النجار ، فسأل عن حالهما ، فقالا : نحن رسولا عيسى ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن ، فقال : أمعكما آية؟ فقالا : نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص ، وكان له ابن مريض مذ سنين (٤) ، فمسحاه فقام فآمن حبيب ، وفشا الخبر فشفي على أيديهما خلق كثير ، فدعاهما الملك وقال لهما : ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا : نعم من أوجدك وآلهتك ، فقال : حتى أنظر في أمركما ، فتبعهما الناس وضربوهما ، وقيل حبسا ، ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكرا ، وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ، ورفعوا خبره إلى الملك ، فأنس به ، فقال له ذات يوم : بلغني أنك حبست رجلين

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الصالحات.

(٢) في (ظ) أو جيش حبسوه ، وفي (ز) أو حبيس حبسوه ، والحبيس : الوقف.

(٣) القيامة ، ٧٥ / ١٣.

(٤) في (ظ) و (ز) مدة سنتين.

٨

(قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ١٥ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) (١٧)

فهل سمعت قولهما؟ قال : لا ، فدعاهما ، فقال شمعون : من أرسلكما؟ قالا : الله الذي خلق كلّ شيء ، ورزق كلّ حيّ ، وليس له شريك ، فقال : صفاه وأوجزا ، قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، قال : وما آيتكما؟ قالا : ما يتمنى الملك ، فدعا بغلام أكمه ، فدعوا الله ، فأبصر الغلام ، فقال له شمعون : أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف؟ قال (١) : ليس لي عنك سرّ إنّ إلهنا لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ، ثم قال : إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به ، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام ، فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار لما متّ عليه من الشرك وأنا أحذّركم ما أنتم فيه فآمنوا ، وقال : فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة ، قال الملك : ومن هم؟ قال : شمعون وهذان ، فتعجّب الملك ، فلما رأى شمعون أنّ قوله قد أثر فيه نصحه فآمن وآمن قوم ، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل فهلكوا (فَكَذَّبُوهُما) فكذّب أصحاب القرية الرّسولين (فَعَزَّزْنا) فقوّيناهما ، فعززنا أبو بكر من عزّه يعزّه إذا غلبه أي فغلبنا وقهرنا (بِثالِثٍ) وهو شمعون ، وترك ذكر المفعول به ، لأنّ المراد ذكر المعزّز به وهو شمعون وما لطف فيه من التدبير حتى عزّ الحقّ وذلّ الباطل ، وإذا كان الكلام منصبا إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجّهه إليه كأن ما سواه مرفوض (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) أي قال الثلاثة لأهل القرية.

١٥ ـ (قالُوا) أي أصحاب القرية (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) رفع بشر هنا ونصب في قوله : (ما هذا بَشَراً) (٢) لانتقاض النفي بإلّا فلم يبق لما شبه بليس وهو الموجب لعمله (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) أي وحيا (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) ما أنتم إلّا كذبة.

١٦ ـ (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) أكّد الثاني باللام دون الأول ، لأن الأول ابتداء إخبار والثاني جواب عن إنكار ، فيحتاج إلى زيادة تأكيد ، وربنا يعلم جار مجرى القسم في التوكيد ، وكذلك قولهم شهد الله ، وعلم الله.

١٧ ـ (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي التبليغ الظاهر المكشوف بالآية

__________________

(١) في (ظ) و (ز) قال الملك.

(٢) يوسف ، ١٢ / ٣١.

٩

(قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (١٩) وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ) (٢١)

الشاهدة لصحته (١).

١٨ ـ (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) تشاءمنا بكم ، وذلك أنهم كرهوا دينهم ، ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتيمّنوا بكلّ شيء مالوا إليه وقبلته طباعهم ، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابهم بلاء أو نعمة قالوا بشؤم هذا وبركة ذلك ، وقيل حبس عنهم القطر (٢) ، فقالوا ذلك (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) عن مقالتكم هذه (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) لنقتلنّكم ، أو لنطردنّكم ، أو لنشتمنّكم (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) وليصيبنّكم منا عذاب الحريق (٣) ، وهو أشدّ عذاب.

١٩ ـ (قالُوا طائِرُكُمْ) أي سبب شؤمكم (مَعَكُمْ) وهو الكفر (أَإِنْ) بهمزة الاستفهام وحرف الشرط كوفي وشامي (ذُكِّرْتُمْ) وعظتم ودعيتم إلى الإسلام ، وجواب الشرط مضمر وتقديره تطيرتم ، آين بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة أبو عمرو ، وأين بهمزة مقصورة بعدها ياء مكسورة مكي ونافع ، ذكرتم بالتخفيف يزيد (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) مجاوزون الحدّ في العصيان ، فمن ثمّ أتاكم الشؤم (٤) لا من قبل رسل الله وتذكيرهم ، أو بل أنتم مسرفون في ضلالكم وغيّكم حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله.

٢٠ ـ (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) هو حبيب النجار وكان في غار من الجبل يعبد الله ، فلما بلغه خبر الرّسل أتاهم وأظهر دينه وقال : أتسألون على ما جئتم به أجرا قالوا : لا (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).

٢١ ـ (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) على تبليغ الرسالة (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي الرسل ، فقالوا : أو أنت على دين هؤلاء؟ فقال :

__________________

(١) في (ظ) و (ز) بالآيات الشاهدة بصحته.

(٢) في (ظ) و (ز) المطر. والقطر والمطر بمعنى.

(٣) في (ز) وليصيبنكم عذاب النار.

(٤) زاد في (ز) من قبلكم.

١٠

(وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ (٢٨) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) (٢٩)

٢٢ ـ (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) خلقني (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وإليه مرجعكم ، ومالي حمزة.

٢٣ ـ (أَأَتَّخِذُ) بهمزتين كوفي (مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) يعني الأصنام (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) شرط جوابه (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) من مكروه ، ولا ينقذوني فاسمعوني في الحالين يعقوب.

٢٤ ـ (إِنِّي إِذاً) أي إذا اتخذت (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ظاهر بيّن.

ولمّا نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرّسل قبل أن يقتل فقال لهم :

٢٥ ـ (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) أي اسمعوا إيماني لتشهدوا لي به ، ولمّا قتل :

٢٦ ـ (قِيلَ) له (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) وقبره في سوق أنطاكية ، ولم يقل قيل له لأنّ الكلام سيق لبيان المقول لا لبيان المقول له مع كونه معلوما ، وفيه دلالة أنّ الجنة مخلوقة. وقال الحسن : لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إليه وهو في الجنة ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض ، فلما دخل الجنة ورأى نعيمها (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).

٢٧ ـ (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) أي بمغفرة ربي لي ، أو بالذي غفر لي (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) بالجنة.

٢٨ ـ (وَما أَنْزَلْنا) ما نافية (عَلى قَوْمِهِ) قوم حبيب (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد قتله أو رفعه (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) لتعذيبهم (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) وما كان يصحّ في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندا من السماء ، وذلك لأنّ الله تعالى أجرى هلاك كلّ قوم على بعض الوجوه دون بعض لحكمة اقتضت ذلك.

٢٩ ـ (إِنْ كانَتْ) الأخذة أو العقوبة (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) صاح جبريل عليه‌السلام

١١

(يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) (٣٣)

صيحة واحدة (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) ميّتون كما تخمد النار ، والمعنى أنّ الله كفى أمرهم بصيحة ملك ولم ينزل لإهلاكهم جندا من جنود السماء كما فعل يوم بدر والخندق.

٣٠ ـ (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الحسرة شدّة الندم ، وهذا نداء للحسرة عليهم ، كأنما قيل لها تعالي يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقّك أن تحضري فيها ، وهي حال استهزائهم بالرّسل ، والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسّر عليهم المتحسّرون ، ويتلهّف على حالهم المتلهفون ، أو هم متحسّر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثّقلين.

٣١ ـ (أَلَمْ يَرَوْا) ألم يعلموا (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) كم نصب بأهلكنا ويروا معلق عن العمل في كم ، لأنّ كم لا يعمل فيها عامل قبلها كانت للاستفهام أو للخبر لأنّ أصلها الاستفهام إلّا أن معناه نافذ في الجملة ، وقوله (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) بدل من كم أهلكنا على المعنى لا على اللفظ ، تقديره ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم أنّهم (١) غير راجعين إليهم.

٣٢ ـ (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) لمّا بالتشديد شامي وعاصم وحمزة بمعنى إلّا ، وإن نافية ، وغيرهم بالتخفيف على أنّ ما صلة للتأكيد ، وإن مخففة من الثقيلة ، وهي متلقاة باللام لا محالة ، والتنوين في كلّ عوض من المضاف إليه ، والمعنى إن كلّهم محشورون مجموعون محضرون للحساب ، أو معذبون ، وإنما أخبر عن كلّ بجميع لأنّ كلّا يفيد معنى الإحاطة ، والجميع فعيل بمعنى مفعول ، ومعناه الاجتماع ، يعني أنّ المحشر يجمعهم.

٣٣ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ) مبتدأ وخبر ، أي وعلامة تدلّ على أنّ الله يبعث الموتى ، إحياء الأرض الميتة ويجوز أن يرتفع آية بالابتداء ولهم صفتها وخبرها (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) اليابسة وبالتشديد مدني (أَحْيَيْناها) بالمطر ، وهو استئناف بيان لكون الأرض

__________________

(١) في (ظ) و (ز) كونهم.

١٢

(وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) (٣٥)

الميتة آية ، وكذلك نسلخ ، ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين (١) لا أرض وليل بأعيانهما ، فعوملا معاملة النكرات في وصفهما بالأفعال ، ونحوه (٢) : ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا) أريد به الجنس (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) قدّم الظرف ليدلّ على أنّ الحبّ هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنسان (٣) ، وإذا قلّ جاء القحط ووقع الضرّ ، وإذا فقد حضر الهلاك ونزل البلاء.

٣٤ ـ (وَجَعَلْنا فِيها) في الأرض (جَنَّاتٍ) بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) من زائدة عند الأخفش وعند غيره ، المفعول محذوف تقديره ما ينتفعون به.

٣٥ ـ (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) والضمير لله تعالى أي ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر. من ثمره حمزة وعليّ (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي ومما عملته أيديهم من الغرس والسّقي والتلقيح وغير ذلك من الأعمال إلى أن يبلغ الثمر منتهاه ، يعني أنّ الثمر في نفسه فعل الله وخلقه ، وفيه آثار من كدّ بني آدم ، وأصله من ثمرنا كما قال وجعلنا وفجّرنا ، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات ، ويجوز أن يرجع (٤) إلى النخيل وتترك الأعناب غير مرجوع إليها ، لأنه علم أنها في حكم النخيل مما علّق به من أكل ثمره ، ويجوز أن يراد من ثمر المذكور وهو الجنّات ، كما قال رؤبة.

فيها خطوط من بياض وبلق (٥)

كأنه في الجلد توليع البهق (٦)

فقيل له ، فقال : أردت كأن ذاك ، وما عملت كوفي غير حفص ، وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك ، وفي مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام مع الضمير ، وقيل ما نافية على أنّ الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه (أَفَلا يَشْكُرُونَ) استبطاء وحثّ على شكر النعمة.

__________________

(١) في (ظ) جنسان مطلقين ، وفي (ز) جنسان مطلقان.

(٢) لم أصل إلى أصله.

(٣) في (ظ) و (ز) الإنس.

(٤) في (ظ) و (ز) أن يرجع الضمير.

(٥) البلق : سواد وبياض (القاموس ٣ / ٢١٤).

(٦) البهق : بياض رقيق ظاهر البشرة لمخالطة المرّة السوداء الدم (القاموس ٣ / ٢١٦).

١٣

(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٩)

٣٦ ـ (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ) الأصناف (كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من النخيل والشجر والزرع والثمر (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) الأولاد ذكورا وإناثا (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها ، ولا توصلوا إلى معرفتها ، ففي الأودية والبحار أشياء لا يعلمها الناس.

٣٧ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) نخرج منه النهار إخراجا لا يبقى معه شيء من ضوء النهار ، أو ننزع عنه الضوء نزع القميص الأبيض فيعرى نفس الزمان كشخص زنجيّ أسود ، لأنّ أصل ما بين السماء والأرض من الهواء الظلمة فاكتسى بعضه ضوء الشمس كبيت مظلم أسرج فيه فإذا غاب السراج أظلم (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) داخلون في الظلام.

٣٨ ـ (وَالشَّمْسُ تَجْرِي) وآية لهم الشمس تجري (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) لحدّ لها موقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة ، شبه بمستقرّ المسافر إذا قطع مسيره ، أو لحدّ لها من مسيرها كلّ يوم في مرائي عيوننا ، وهو المغرب ، أو لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا (ذلِكَ) الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الغالب بقدرته على كلّ مقدور (الْعَلِيمِ) بكل معلوم.

٣٩ ـ (وَالْقَمَرَ) نصب بفعل يفسّره (قَدَّرْناهُ) وبالرفع مكي ونافع وأبو عمرو وسهل على الابتداء ، والخبر قدرناه ، أو على وآية لهم القمر (مَنازِلَ) وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر كلّ ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو يسير فيها من ليلة المستهلّ إلى الثامنة والعشرين ، ثمّ يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر ، ولا بدّ في قدرناه منازل من تقدير مضاف لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل أي قدرنا نوره فيزيد وينقص ، أو قدرنا سيره (١) منازل فيكون ظرفا ، فإذا كان في آخر منازله دقّ واستقوس (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ) هو عود الشّمراخ إذا يبس واعوجّ ،

__________________

(١) في (ز) مسيره.

١٤

(لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(٤٠) وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ (٤٣) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٤٤) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤٥)

ووزنه فعلون من الانعراج وهو الانعطاف (الْقَدِيمِ) العتيق المحول ، وإذا قدم دقّ وانحنى واصفر ، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.

٤٠ ـ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها) أي لا يتسهل لها ولا يصحّ ولا يستقيم (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه فتطمس نوره لأنّ لكلّ واحد من النيّرين سلطانا على حياله ، فسلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) ولا يسبق الليل النهار ، أي آية الليل آية النهار وهما النّيّران ، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن تقوم القيامة فيجمع (١) بين الشمس والقمر وتطلع الشمس من مغربها (وَكُلٌ) التنوين فيه عوض من المضاف إليه ، أي وكلّهم والضمير للشموس والأقمار (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يسيرون.

٤١ ـ (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) ذرياتهم مدني وشامي (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي المملوء ، والمراد بالذرية الأولاد ومن يهمّهم حمله ، وكانوا يبعثونهم إلى التجارات في بر أو بحر ، أو الآباء لأنها من الأضداد ، والفلك على هذا سفينة نوح عليه‌السلام ، وقيل معنى حمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم. وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم.

٤٢ ـ (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) من مثل الفلك (ما يَرْكَبُونَ) من الإبل ، وهي سفائن البرّ.

٤٣ ـ (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) في البحر (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) فلا مغيث أو فلا إغاثة (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) لا ينجون.

٤٤ ـ (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي ولا ينقذون إلا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل ، فهما منصوبان على المفعول له.

٤٥ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ) أي ما تقدّم من ذنوبكم وما

__________________

(١) في (ظ) و (ز) فيجمع الله.

١٥

(وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) (٥١)

تأخر مما أنتم تعملون من بعد أو من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذّبة بأنبيائها وما خلفكم من أمر الساعة ، أو فتنة الدنيا وعقوبة الآخرة (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لتكونوا على رجاء رحمة الله ، وجواب إذا مضمر أي أعرضوا ، وجاز حذفه ، لأن قوله :

٤٦ ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) يدلّ عليه ومن الأولى لتأكيد النفي ، والثانية للتبعيض أي ودأبهم الإعراض عند كلّ آية وموعظة.

٤٧ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) لمشركي مكة (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي تصدّقوا على الفقراء (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان بمكة زنادقة ، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا : لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن! (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) قول الله لهم ، أو حكاية قول المؤمنين لهم ، أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين.

٤٨ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي وعد البعث والقيامة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تقولون ، خطاب للنبيّ وأصحابه.

٤٩ ـ (ما يَنْظُرُونَ) ينتظرون (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) هي النفخة الأولى (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد ، من خصمه إذا غلبه في الخصومة ، وشدّد الباقون الصّاد أي يخصّمون بإدغام التاء في الصاد ، لكنه مع فتح الخاء مكي ، بنقل حركة التاء المدغمة إليها ، وبسكون الخاء مدني ، وبكسر الياء والخاء يحيى فأتبع الياء الخاء في الكسر ، وبفتح الياء وكسر الخاء غيرهم ، والمعنى تأخذهم وبعضهم يخصم بعضا في معاملاتهم.

٥٠ ـ (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) فلا يستطيعون أن يوصوا في شيء من أمورهم توصية (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم بل يموتون حيث يسمعون الصيحة.

٥١ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هي النفخة الثانية ، والصور القرن ، أو جمع صورة

١٦

(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ) (٥٦)

(فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) يعدون (١).

٥٢ ـ (قالُوا) أي الكفار (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا) من أنشرنا (مِنْ مَرْقَدِنا) أي مضجعنا ، وقف لازم عن حفص ، وعن مجاهد : للكفار مضجعة يجدون فيها طعم النوم ، فإذا صيح بأهل القبور قالوا من بعثنا (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) كلام الملائكة ، أو المتقين ، أو الكافرين يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضا ، أو ما مصدرية ومعناه هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق ، أو موصولة وتقديره هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون ، أي والذي صدق فيه المرسلون.

٥٣ ـ (إِنْ كانَتْ) النفخة الأخيرة (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) للحساب ، ثم ذكر ما يقال لهم في ذلك اليوم :

٥٤ ـ ٥٥ ـ (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) بضمتين كوفي وشامي ، وبضمة وسكون مكي ونافع وأبو عمرو ، والمعنى في أي شغل وفي شغل لا يوصف (٢) ، وهو افتضاض الأبكار على شط الأنهار تحت الأشجار ، أو ضرب الأوتار ، أو ضيافة الجبار (فاكِهُونَ) خبر ثان ، فكهون يزيد ، والفاكه والفكه : المتنعّم المتلذّذ ، ومنه الفاكهة لأنها مما يتلذّذ به وكذلك (٣) الفكاهة.

٥٦ ـ (هُمْ) مبتدأ (وَأَزْواجُهُمْ) عطف عليه (فِي ظِلالٍ) حال ، جمع ظلّ وهو الموضع الذي لا تقع عليه الشمس ، كذئب وذئاب ، أو جمع ظلّة كبرمة وبرام (٤) ، دليله قراءة حمزة وعليّ ، ظلل جمع ظلّة وهي ما سترك عن الشمس (عَلَى الْأَرائِكِ)

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) : بكسر السين وضمها.

(٢) في (ظ) في أي شغل لا يوصف ، وفي (ز) في شغل في أي شغل وفي شغل لا يوصف.

(٣) في (ظ) و (ز) وكذا.

(٤) البرمة : القدر.

١٧

(لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (٥٧) سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (٥٨) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٦٠) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (٦٢)

جمع الأريكة ، وهي السرير في الحجلة (١) أو الفراش فيها (مُتَّكِؤُنَ) خبر ، أو في ظلال خبر ، وعلى الأرائك مستأنف.

٥٧ ـ (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) يفتعلون من الدعاء ، أي كلّ ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم ، أو يتمنون من قولهم ادع عليّ ما شئت أي تمنّه عليّ ، عن الفراء : هو من الدعوى ولا يدّعون ما لا يستحقّون.

٥٨ ـ (سَلامٌ) بدل مما يدعون ، كأنه قال : لهم سلام يقال (٢) (قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) والمعنى أنّ الله يسلّم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيما لهم ، وذلك متمناهم ، ولهم ذلك لا يمنعونه. قال ابن عباس : والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من ربّ العالمين.

٥٩ ـ (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) وانفردوا عن المؤمنين وكونوا على حدة ، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة ، وعن الضّحّاك : لكلّ كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى أبدا ، ويقول لهم يوم القيامة.

٦٠ ـ (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) العهد الوصية ، وعهد إليه إذا وصّاه ، وعهد الله إليهم ما ركّزه فيهم من أدلة العقل ، وأنزل عليهم من دلائل السمع ، وعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزيّنه لهم.

٦١ ـ (وَأَنِ اعْبُدُونِي) وحّدوني وأطيعوني (هذا) إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي صراط بليغ في استقامته ولا صراط أقوم منه.

٦٢ ـ (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا) بكسر الجيم والباء والتشديد مدني وعاصم

__________________

(١) الحجلة : موضع يزيّن بالثياب والستور للعروس (القاموس ٣ / ٣٥٥).

(٢) في (ظ) و (ز) يقال لهم.

١٨

(هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ)(٦٨)

وسهل ، جبلّا بضم الجيم والباء والتشديد يعقوب ، جبلا مخففا شامي وأبو عمرو ، وجبلا بضم الجيم والباء وتخفيف اللام غيرهم وهذه لغات في معنى الخلق (كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) استفهام تقريع على تركهم الانتفاع بالعقل.

٦٣ ـ (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها.

٦٤ ـ (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ادخلوها بكفركم وإنكاركم لها.

٦٥ ـ (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) أي نمنعهم من الكلام (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) يروى أنهم يجحدون ويخاصمون فتشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم ، فيحلفون ما كانوا مشركين ، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلّم أيديهم وأرجلهم ، وفي الحديث : (يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز عليّ إلا شاهدا من نفسي ، فيختم على فيه ويقال لأركانه أنطقي فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكنّ وسحقا فعنكنّ كنت أناضل) (١).

٦٦ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) لأعميناهم وأذهبنا أبصارهم ، والطمس تعفية شقّ العين حتى تعود ممسوحة (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) على حذف الجارّ وإيصال الفعل ، والأصل فاستبقوا إلى الصراط (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) فكيف يبصرون حينئذ وقد طمسنا أعينهم.

٦٧ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) قردة وخنازير أو حجارة (عَلى مَكانَتِهِمْ) على مكاناتهم أبو بكر وحماد ، والمكانة والمكان واحد كالمقامة والمقام ، أي لمسخناهم في منازلهم حيث يجترحون المآثم (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) فلم يقدروا على ذهاب ولا مجيء ، أو مضيّا أمامهم ولا يرجعون خلفهم.

٦٨ ـ (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ) عاصم وحمزة ، والتنكيس : جعل الشيء أعلاه أسفله ، الباقون ننكسه (فِي الْخَلْقِ) أي نقلبه فيه ، بمعنى من أطلنا عمره نكسنا خلقه

__________________

(١) مسلم والنسائي من طريق الشعبي عن أنس.

١٩

(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) (٦٩)

فصار بدل القوة ضعفا وبدل الشباب هرما ، وذلك أنّا خلقناه على ضعف في جسد (١) وخلوّ من عقل وعلم ، ثم جعلناه يتزايد إلى أن يبلغ أشدّه ويستكمل قوّته ويعقل ويعلم ما له وما عليه ، فإذا انتهى نكسناه في الخلق ، فجعلناه يتناقص حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبيّ في ضعف جسده وقلة عقله وخلوّه من العلم كما ينكس السهم ، فيجعل أعلاه أسفله قال عزوجل : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) (٢) (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أنّ من قدر على أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم ، ومن القوّة إلى الضعف ، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز قادر على أن يطمس على أعينهم ويمسخهم على مكانتهم ويبعثهم بعد الموت ، وبالتاء مدني ويعقوب وسهل.

وكانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعر فنزل :

٦٩ ـ (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) أي وما علمنا النّبيّ عليه‌السلام قول الشعر (٣) أو وما علمناه بتعليم القرآن الشعر ، على معنى أنّ القرآن ليس بشعر ، فهو كلام موزون مقفّى يدلّ على معنى فأين الوزن وأين التقفية؟ فلا مناسبة بينه وبين الشعر إذا حقّقت (٤) (وَما يَنْبَغِي لَهُ) وما يصحّ له ، ولا يليق بحاله ، ولا يتطلب لو طلبه أي جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهّل ، كما جعلناه أميّا لا يتهدّى (٥) إلى الخطّ لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض ، وأما قوله :

أنا النبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطلب (٦)

وقوله :

هل أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت (٧)

فما هو إلا من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة من غير صنعة فيه ولا تكلّف إلا أنه اتفق من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه أن جاء موزونا كما يتفق في خطب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة ولا يسميها أحد شعرا لأن

__________________

(١) في (ظ) و (ز) جسده.

(٢) الحج ، ٢٢ / ٥.

(٣) في (ظ) و (ز) الشعراء.

(٤) في (ز) حققته.

(٥) في (ظ) و (ز) يهتدي.

(٦) متفق عليه من حديث البراء بن عازب في حديث.

(٧) متفق عليه من حديث جندب بن سفيان في حديث.

٢٠