تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

وإلّا فالحقّ أنّ البشارة كان شائعا ذائعا عندهم يعرفه أحبارهم بل عامتهم ، ولذا هاجر كثير منهم قبل مبعثه عن أوطانهم الى المدينة انتظارا لبعثته ، وإن لم يؤمنوا به بعده وفي ذلك نزل : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (١).

ويؤيده أنّ كثيرا ممّن أسلم من أهل الكتاب بل ممّن لم يسلم منهم قد أقرّ بذلك ، ونحن قد باحثنا مع كثير منهم فأقرّ جمع منهم بأنّ موسى قد وصّانا بل نؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان إلّا أنه لم يجيء بعد وهو الذي تسمّونه بصاحب العصر عجّل الله فرجه.

ثمّ مع تسليم على عدم تنبيه موسى عليه‌السلام على نسخ شريعته فلا نسلّم استحالة النسخ ، والتلبيس ممنوع بعد عدم التكليف به قبل وقوعه ، واحتمال تطّرقه إلى شرعنا مدفوع بالضرورة القطعية.

والدليل الثاني أيضا ضعيف للمنع مع أنه قد قال ذلك ، وقد سمعت انقطاع تواترهم ، بل قد ينسب وضع هذا القول الى ابن الراوندي (٢) ليعارض به دعوى

__________________

(١) البقرة : ٨٩.

(٢) ابن الراوندي أحمد بن يحيى بن إسحاق : فيلسوف مجاهر بالإلحاد من سكّان بغداد نسبته الى راوند من قرى أصبهان ، له مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، طلبه السلطان فهرب ، ولجأ الى لاوي اليهودي بالأهواز وصنّف له في مدة مقامه عنده كتابه الذي سمّاه «الدامغ للقرآن» ووضع كتابا في قدم العالم ونفى الصانع وغيرها التي عدّوها الى اثني عشر كتابا كلها في الطعن على الشريعة ، ولكن قال السيد المرتضى في الشافعي : إنّ ابن الراوندي قصد في الكتب المذكورة الطعن على المعتزلة ولا يعتقد هو إلّا مذهب الحق ، (الأعلام ج ص ٢٥٢ ، الكنى والألقاب ج ٢ ص ١١١.

٨١

الرسالة لما ظهر منه الاستخفاف بالدين ، ولهذا لمّا أسلم كثير من أحبارهم مثل كعب الأحبار (١) وابن سلام (٢) ووهب بن منبّه (٣) وغيرهم من العارفين بالملّة اليهود لم يذكروا ذلك بل أنكروه.

مع أن الدوام في عبارته بعد تسليمه محمول على الزمان الطويل ، بل قيل قد جاء في مواضع من التورية بهذا المعنى ، فقد قال في العبد يستخدم ستّ سنين ثم يعتق في السابعة ، فإن أبى العتق يستخدم أبدا ، وقال في البقرة التي أمروا بذبحها : يكون ذلك سنّة أبدا ، ثم انقطع التعبد به الى غير ذلك من المواضع التي استعمل فيها التأبيد للزمان الطويل.

والثالث أيضا مردود بأنّ الحكمة ظاهرة له سبحانه عالم بها في الأزل إلّا أنه لا يظهره إلّا بظهوره المقتضى المتجدّد بتجدّد الزمان.

والرابع أيضا مردود بمنع الملازمة إذ من المصالح ما لا يتبدّل باختلاف الأزمنة أبدا كالتوحيد وسائر المعارف الّتي يحكم بها العقل ، ولذا قيل : إنّه لا نسخ

__________________

(١) كعب الأحبار بن ماتع بن ذي هجن الحميري أبو إسحاق : تابعي. كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن ، وأسلم في زمن أبي بكر ، وقدم المدينة في دولة عمر ، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم كثيرا من أخبار الأمم الغابرة ، وأخذ هو من الكتاب والسنّة عن الصحابة. وخرج الى الشام وسكن حمص ، وتوفّي فيها عن مائة وأربع سنين سنة ٣٢ ه‍ (تذكرة الحفاظ ج ١ ص ٤٩ ، الأعلام الزركلي ج ٦ ص ٨٥).

(٢) عبد الله بن سلام بن حارث الإسرائيلي ، أبو يوسف صحابي قيل أنه من نسل يوسف بن يعقوب. أسلم عند قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ، وكان اسمه «الحصين» فسماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله ، وشهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية ، وله ٢٥ حديثا ، وتوفّي بالمدينة سنة ٤٣ ه‍ ، تهذيب التهذيب ج ٥ ص ٢٤٩ ، الأعلام ج ٥ ص ٢٢٣.

(٣) قد مرّت ترجمة وهب بن منبّه.

٨٢

في العقليّات ، وذلك انّ حكم العقل القطعي لا يتغيّر أصلا.

والخامس أيضا ضعيف بأنّ المنسوخ مطلق ، أو مؤبّد في الظاهر ، واللّازم ممنوع حسب ما سمعت سابقا.

بقي الكلام فيما يحكي عن أبي مسلم بن بحر الاصفهاني من إنكار النسخ في القرآن نظرا إلى بعض ما مرّ ممّا قد ظهر الجواب عنه ، وإلى قوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (١) ، فلو جاز النسخ لبطل بعض الآيات إذ النسخ إبطال.

وضعف هذا لدليل واضح فإنّ الآيات قد فسّرت بأنه لا يأتيه الباطل من قبل التوراة ولا من قبل الإنجيل والزبور ولا يأتيه من بعده كتاب يبطله ، ونسخ الآية ولو من حيث التلاوة ليس إبطالا للكتاب الموضوع للمجموع ، مع أنّ الظاهر من الباطل ما يشهد ببطلانه لا ما يرفع الحكم والتلاوة.

على أنّه قد ورد في تفسيرها عنهم عليهم‌السلام : ليس في اخباره عمّا مضى باطل ، ولا في اخباره عمّا يكون في المستقبل باطل ، بل أخباره كلّها موافقة كلّها لمخبراتها.

هذا مضافا الى الإجماع بل الضرورة على وقوع النسخ ودلالة جملة من الآيات عليه ـ كآية الاعتداد بالحول (٢) المنسوخة بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر (٣) ، وتوهّم أنّه لم يزل بالكلية لأنّها لو كانت حاملا وامتدّ حملها حولا

__________________

(١) فصلت : ٤٢.

(٢) أي آية (٢٤٠) من سورة البقرة وهي : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) إلخ ..

(٣) أي آية (٢٣٤) من سورة البقرة وهي : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) إلخ ..

٨٣

أعتدّت به لا ينبغي الإصغاء اليه.

ومن الآيات الدالّة على النسخ آية تحويل القبلة الى المسجد الحرام (١) وآية الدّالّة على ثبات الواحد في مقابل الإثنين الناسخة (٢) للآية الأخرى الدالّة على الثبات في مقابل العشرة (٣) ، والآية الآمرة بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول (٤) المنسوخة برفعها (٥) ، وآية ما ننسخ من آية (٦) على ما سيأتي على أن الخطب في ردّ أبي مسلم الأصفهاني سهل بعد مخالفته لإجماع المسلمين بل الضرورة من الدّين.

__________________

(١) البقرة : ١٤٤ وهي آية : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) إلخ ...

(٢) الأنفال : ٦٦ وهي آية (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) إلخ ..

(٣) الأنفال : ٦٥ وهي (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) إلخ ...

(٤) المجادلة ١٢ وهي (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) إلخ ...

(٥) المجادلة : ١٣ وهي آية (أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) إلخ ...

(٦) البقرة : ١٠٤.

٨٤

تبصرة في أقسام النسخ

النسخ على ثلاثة أقسام الأول نسخ الحكم دون التلاوة ، وهو الشائع المعروف من النسخ في القرآن ، فيكون الآية المنسوخة والناسخة ثابتين في التلاوة وإن ارتفع حكم الأول ، كآية عدّة المتوفي عنها زوجها (١) ، ومصابرة الواحد للعشرة ، والصدقة قبل النجوى ، وتحويل القبلة ، والتخيير بين المّن والفداء (٢) والأمر بقتال الكفار (٣) ، والحبس المؤبد (٤) المنسوخ بالجلد (٥) والإرث بعقد الولاء (٦) على الخلاف في بعضها ، ومثلها كثير في القرآن ، بل قيل : إنّ آية السيف قد نسخت مائة وأربعين آية من أربعة وخمسين سورة مع بقاء تلاوتها.

وإن كان لا يخلو من نظر فإنّ كثيرا من الآيات المعدودة من ذلك لا تنافي بينهما كي يلتزم بالنسخ المنفي بالأصل فيها إلّا أن تقوم عليه حجة.

والثاني العكس أي نسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم المذكورة في كثير من الأخبار وإن اختلفت في خصوص العبارة.

__________________

(١) البقرة : ٢٣٤ و ٢٤٠.

(٢) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٤.

(٣) التوبة ٢٩ وهي آية (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ).

(٤) النساء : ١٥ وهي آية (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً).

(٥) النور : ٢ وهي آية (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

(٦) النساء : ٣٣ وهي آية (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ).

٨٥

ففي تفسير القمي كانت آية الرجم نزلت الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة نكالا من الله والله عليم حكيم ، وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام مثله الى قوله من الله (١) وقد روته العامّة أيضا (٢) ، ومن طريقهم أن من الآيات قوله تعالى : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ

__________________

(١) في الفقيه ج ٤ ص ١٧ : روى هشام بن سالم عن سليمان بن خالد قال : قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : في القرآن رجم؟ قال عليه‌السلام نعم قلت : كيف؟ قال : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٣٥٠ ، وفي الكافي ج ٧ ص ١٧٧ عن يونس ، عن عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الرجم في القرآن قول الله عزوجل : إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة ، وفي تهذيب الأحكام ج ١٠ ص ٣ روى الحديث كما في الكافي.

أقول : ولا يخفى على المتأمّل في كلمات المحققين أنّ هذه الروايات وأمثالها لا تنهض حجّة على المطلوب لأنها دالّة على وجود النقص في الكتاب الكريم وهو خلاف الحق. ولعل الروايات على فرض صدورها صدرت تقيّة لأن العامّة رووا عن عمر بن الخطاب أنه ادّعى أنّ آية الرجم من القرآن ، ولكنه لمّا كان وحده لم يقبل منه زيد بن ثابت ولم يكتبها في القرآن كما قال السيوطي في الإتقان ج ص ١٠١ : خرج ابن أشته في المصاحف عن الليث بن سعد قال : أوّل من جمع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد ... وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده وسيأتي أنّ حديث آية الرجم مرويّ في الصحيح والمسند من كتب العامّة عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب.

(٢) صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٦ : عن ابن عباس أنّ عمر قال فيما قال ، وهو على المنبر : إنّ الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله عليه آية الرجم فقرأناها وعقلناها ، ووعيناها ، فلذا رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورجمنا بعده فأخشى أن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضل بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال ، ثم إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم.

وفي مسند أحمد بن حنبل ج ٥ ص ١٣٢ عن زرّ بن حبيش ، عن أبىّ بن كعب لقد رأيت سورة الأحزاب وإنّها التعادل سورة البقرة ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عليم حكيم.

٨٦

جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب (١).

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ج ٥ ص ١١٧ بإسناده عن ابن عباس : جاء رجل الى عمر فقال : أكلتنا الضبع ـ يعني ـ فقال عمر : لو أنّ لامرئ واديا أو واديين لا ابتغى إليهما ثالثا فقال ابن عباس : ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ثم يتوب الله على من تاب. فقال عمر لابن عباس : ممّن سمعت هذا؟ قال : من أبيّ قال فإذا كان بالغداة فاغد عليّ فرجع الى أمّ الفضل فذكر ذلك لها فقالت مالك وللكلام عند عمر وخشي ابن عباس أن يكون أبىّ نسي فقالت أمه عسى أن يكون أبىّ نسي فغدا الى عمر ومعه الدّرة فانطلقا الى أبىّ فخرج أبىّ عليهما وسأله عمر عما قال ابن عباس فصدّقه.

وفي مسنده أيضا ج ٥ ص ١٣١ مسندا عن أبي كعب قال ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال : فقرأ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب. قال فقرأ فيها ولو أنّ ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب إلخ ...

وفي صحيح مسلم بهامش صحيح البخاري ج ٤ ص ٤٣٧ في باب كراهة الحرص على الدنيا عن أبي الأسود قال : بعث أبو موسى الأشعري الى قرّاء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبهم كما قست قلوب من كان قبلكم ، وإنّا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب إلخ ...

أقول : مع ورود هذه الروايات وغيرها في مسانيد القوم وصحاحهم الدالّة على إسقاط كلمات وآيات من القرآن الكريم لماذا يشنّعون على الإمامية ويطعنون عليهم بأنهم قائلون بتحريف الكتاب ونقصه مع أنّ القول بالنقص لا يقول به المحققون بل أجمعوا على عدم النقص وإليك ما قاله رؤساء علماء الشيعة ومحققوهم في هذا الشأن :

قال الشيخ الطوسي في التبيان : أما الكلام في زيادة القرآن ونقصه فممّا لا يليق به لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى وهو الظاهر في الروايات ، غير أنه رويت روايات من جهة الشيعة والعامّة بنقصان آي من آي القرآن طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا والأولى الأعراض عنه إلخ ...

قال السيد المرتضى على ما حكى عنه صاحب مجمع البيان : إنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن لأنه يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له وأنه كان يعرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتلى عليه وأن جماعة من

٨٧

والثالث نسخهما معا كما روى مما يتلى في كتاب الله عشر

__________________

الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عدة ختمات كل ذلك يدل على أنه كان مجموعا مرتبا. وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإمامية وحشوية العامة لا يعتد بخلافهم فإنه مضاف الى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم إلخ ...

قال الشيخ الصدوق في الإعتقادات : اعتقادنا في القرآن أنّه ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس وليس بأكثر من ذلك ومن نسب إلينا أنّا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب إلخ ...

قال السيد محسن الأعرجي المحقق البغدادي في شرح الوافية : الإجماع على عدم الزيادة والمعروف بين علمائنا حتى حكى عليه الإجماع على عدم النقيصة إلخ ...

قال المحدث الخبير والمفسر الشهير المولى محسن القاساني في كتابه الوافي ج ٢ ص ٢٧٣ و ٢٧٤ بعد ما حكى قول الصدوق في الإعتقادات : أشار في أول كلامه : «أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما بين الدفتين وما في ايدي الناس ليس بأكثر من ذلك» الى إنكار ما قيل أن القرآن الذي بين أظهرنا بتمامه كما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله ومنه ما هو محرّف مغيّر ، وقد حذف منه شيء كثير : منها اسم أمير المؤمنين عليه‌السلام في كثير من المواضع ، ومنها غير ذلك ، وأنّه ليس أيضا على الترتيب المرضيّ عند الله وعند رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد روى ذلك كلّه علي بن إبراهيم في تفسيره وروى بإسناده عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : ما من أحد من هذه الأمّة جمع القرآن إلّا وصي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبإسناده عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي : يا علي القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة فانطلق علي عليه‌السلام فجمعه في ثوب أصفر ثمّ ختم عليه في بيته وقال : لا أرتدي حتى أجمعه ، قال : كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو أنّ الناس قرءوا القرآن كما أنزل ما اختلف اثنان ثمّ قال الفيض : أقول : وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قرءوا القرآن كما انزل الإشارة إلى صحّة ما أوّلنا به تلك الأخبار ... إلى أن قال : إن مرادهم عليهم‌السلام بالتحريف والتغيير والحذف إنّما هو من جهة المعنى دون اللفظ أي حرّفوه وغيّروه في تفسيره وتأويله يعنى حملوه على خلاف مراد الله تعالى فمعنى قولهم عليهم‌السلام : كذا نزلت أنّ المراد به ذلك لما يفهمه الناس من ظاهره وليس مرادهم عليهم‌السلام أنّها نزلت كذلك في اللفظ فحذف ذلك. كلّه يخطر ببالي في تلك الأخبار إن صحّت فإن أصبت فمن الله تعالى وله الحمد وإن أخطأت فمن نفسي والله غفور رحيم ، واستوفينا الكلام في هذا المعنى وفيما يتعلّق بالقرآن في كتابنا الموسوم بعلم اليقين فمن أراد فليراجع إليه. علم اليقين ص ١٣٠.

٨٨

رضعات يحرمن (١) ويقال : إنّ سورة الأحزاب كان بقدر السبع الطول وأزيد ثم وقع النقصان (٢) وعلى كل حال فلا مانع منه كما لا مانع من

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٤ ص ١٦٧ : روى عمرة عن عائشة أنها قالت : كان فيما أنزل من القرآن : «عشر رضعات معلومات يحرمن» ثم نسخن به : خمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهن فيما يقرأ من القرآن.

(٢) الإتقان ج ٢ ص ٤٠ : روى عروة بن الزبير عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مأتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلّا ما هو الآن.

وفي منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد حنبل ج ٢ ص ٤٣ : روى زرّ قال : قال أبيّ بن كعب : يا زرّ ، كأيّ تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت : ثلث وسبعين آية ، قال : إن كانت لتضاهى سورة البقرة ، أو هي أطول من سورة البقرة ، أقول : لا يخفى أن نسخ التلاوة أعمّ من أن يكون مع نسخ الحكم أو بدونه كما في سابقه هو بعينه التحريف والإسقاط كما نبّه عليه زعيم الأكبر آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي في بيانه حيث قال : إنّ نسخ التلاوة هذا إمّا أن يكون قد وقع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو أمر يحتاج الى الإثبات ، وقد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، وقد صرّح بذلك جماعة في كتاب الأصول وغيرها مثل كتاب الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي ج ٣ ص ١٠٦ ، بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ، بل إنّ جماعة ممّن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منه وقوعه كما في الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج ٣ ص ٢١٧ وعلى ذلك فكيف تصحّ نسبة النسخ الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أنّ نسبة النسخ الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تنافي جملة من الروايات التي تضّمنت أنّ الإسقاط قد وقع بعده. وإن أرادوا أنّ النسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزعامة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو عين القول بالتحريف. وعلى ذلك فيمكن أن يدّعي أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء السنة ، لأنّهم يقولون بجواز نسخ التلاوة. سواء أنسخ الحكم أم لم ينسخ ، بل تردد الأصوليون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته ، وفي جواز أن يمسّه المحدث واختار بعضهم عدم الجواز. نعم ذهبت طائفة من المعتزلة الى عدم جواز التلاوة كما في الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج ٣ ص ٢٠١ ـ ٢٠٣.

ومن العجب أن جماعة من علماء أهل السنة أنكروا نسبة القول بالتحريف الى أحد من علمائهم حتى أنّ الآلوسي كذّب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف الى الحشوية وقال : إن أحدا من علماء أهل السنة لم يذهب الى ذلك ، وأعجب من ذلك أنّه ذكران قول الطبرسي بعدم التحريف نشأ من فساد قول

٨٩

سابقيه (١) لما سمعت من دليل الجواز بل الوقوع ، مع أنّ التلاوة بمعنى استحبابها واستحقاق الثواب عليها فضلا عن غيرها كحرمة المسّ للمحدث حكم شرعي يجوز أن ينسخ كغيره من الأحكام بل وكذا إرجاعه الى نوع من الوضع ككونه قرآنا يترتب عليه أحكامه حتى في النذور والأيمان ، لكونه من جعليّات الشارع القابلة للرفع مضافا الى أنه لا يخرجه عن الحكم القابل له.

فما ربما يحكى عن شاذّ من المعتزلة من المنع عن الأوليين أعني نسخ الحكم دون التلاوة والعكس نظرا الى عدم الانفكاك بينهما نظير التفكيك بين المنطوق والمفهوم ، وبين العلم والعالميّة ، وأن بقاء التلاوة خاصة يوهم بقاء الحكم فيؤدي الى إعتقاد الجهل وهو قبيح من الحكيم ، مع استلزامه خلوّ القرآن عند الفائدة ، وأن العكس يشعر بزوال الحكم حيث أن الآية ذريعة الى معرفته ، فالتفكيك تعريض للمكلّف لاعتقاد الجهل مع أنه عبث لا يلزم منه إثبات حكم ولا رفعه.

ضعيف جدا لا ينبغي الإصغاء اليه ، ولا الى دليله بعد ظهور أن بناء النسخ بل الشريعة ولو فيما يتعلق بخصوص التلاوة الحكم على اعتبار المصالح المختلفة بالوجوه والاعتبارات التي ربما يدعو بعضها الى إثبات الحكم أو ـ التلاوة في بعض الأزمنة أو رفع أحدهما خاصة.

وأما ما ذكر من الوجوه فضعفها واضح.

__________________

أصحابه بالتحريف ، فالتجأ هو الى إنكاره (روح المعاني ص ٢٤ ج ١) مع أن القول بعدم التحريف هو المشهور بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم ، حتى أن الطبرسي قد نقل كلام السيد المرتضى بطوله ، واستدلاله على بطلان القول بالتحريف بأتمّ بيان وأقوى حجّة كما في مجمع البيان ج ١ مقدمة الكتاب ص ١٥.

(١) قد عرفت سابقا أنّ نسخ التلاوة سواء كان مع نسخ الحكم أم لا هو بعينه التحريف الممنوع جدا عند المحققين.

٩٠

الفصل الخامس

في حجية القرآن والاستدلال بظواهره

في الأصول والفروع

اعلم أن جمهور أهل العلم من الفرق كلها على حجيته ، والرجوع اليه والتمسك بمحكماته في جميع العلوم وكافة الفنون من الأصول والأحكام والحكم والمواعظ ، والقصص ، والوعد ، والوعيد ، وغيرها ، وكان الأمر مستمرا على ذلك في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام بلا نكير منهم في الرجوع الى محكماته ، وكانت الأمة تفزع اليه في إثبات مذاهبها المختلفة التي قد يعّد الإعتقاد بها من الأصول فضلا عن رجوعهم اليه في الفروع ، ولم يزل الأمر على ذلك الى أن حدث بعض المحدثين فأحدثوا القول بعدم جواز الرجوع اليه في شيء من الأحكام ، بل منهم من منع فهم شيء منه مطلقا حتى المحكمات مثل قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، ونحوهما إلّا بتفسير من أصحاب العصمة عليهم‌السلام ، وفصّل بعضهم بين النصّ والظاهر.

ومذهب جمهور متأخريهم أنّ كلّه متشابه بالنسبة إلينا ولا يجوز أخذ شيء من الأحكام منه بل لا يجوز تفسير شيء من آياته إلّا بعد ورود بيانه وتفسيره عن أهل البيت عليهم‌السلام دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن الأخبار النبوية أيضا عند كثير

٩١

منهم كالكتاب لا يجوز الرجوع إليه إلّا بعد ورود بيانه في اخبار الأئمة عليهم‌السلام حسبما تسمع اليه الإشارة.

وذكر بعضهم وهو المحدث الحرّ العاملي قدّس الله نفسه (١) إن لنا أن نستدل بالقرآن ولا يلزم التناقض لوجهين :

أحدهما أنه دليل إلزامي للخصم لأنّه يعتقد حجية تلك الظواهر مطلقا.

وثانيهما وجود النصوص المتواترة المخالفة للتقيّة الموافقة لتلك الظواهر

__________________

(١) شيخ المحدثين العالم الفقيه المتبحر الورع الشيخ الحر العاملي محمد بن الحسن بن علي صاحب الرسائل الذي مّن على جميع أهل العلم بتأليف هذا الكتاب الشريف والجامع المنيف الذي هو كالبحر ولد في ٨ رجب سنة ١٠٣٣ قرء على أبيه وعمه وجده لأمه وخال أبيه وغيرهم في مشقر «من جبل عامل بسورية» وجبع وأنتقل بعد أربعين سنة إلى العراق وانتهى إلى طوس بخراسان واتفق مجاورته بها حتى توفي سنة ١١٠٤ ه‍ له غير الوسائل تصانيف قيمة آخر منها «أمل الآمال في ذكر علماء جبل عامل» و «الجواهر السنية في الأحاديث القدسية» و «رسالة في ردّ الصوفية» و «رسالة في تواتر القرآن» و «إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات» و «أرجوزة في الإرث» و «أرجوزة في الإرث» و «أرجوزة في الهندسة» وله ديوان فيه نحو عشرين ألف بيت منها في نظم الحديث القدسي الذي رواه المسعودي في كتاب أخبار الزمان ، إن الله تعالى أوحى الى إبراهيم عليه‌السلام : إنك لما سلّمت مالك للضعيفان وولدك للقربان ونفسك للنيران وقلبك للرحمن اتخذناك خليلا :

فضل الفتى بالجود والإحسان

والجود خير الوصف للإنسان

أو ليس إبراهيم لما أصبحت

أمواله وقفا على الضيفان

حتى إذا أفنى اللهى أخذ أبنه

فسخى به للذبح والقربان

ثم ابتغى النمرود إحراقا له

فسخى بمهجته على النيران

بالمال جاد وبابنه وبنفسه

وبقلبه للواحد الديان

أضحى خليل الله جل جلاله

ناهيك فضلا خلّة الرحمان

صح الحديث به فيا لك رتبة

تعلو بأخمصها على التيجان

توفي الحر العاملي في يوم (٢١) رمضان سنة ١١٠٤ في المشهد المقدس بخراسان.

٩٢

فاستدلالنا في الحقيقة بالكتاب والسنّة معا ، ولا خلاف في وجوب العمل بهما.

وعلى كلّ حال فالحق الذي لا محيص عنه هو حجية ما كان منه محكما متضح الدلالة ، ولو من جهة الظهور العرفي الذي يفهمه أهل اللسان ويدلّ عليه بوجوه :

منها الإجماع القطعي على ذلك المنعقد من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام المستمر في جميع الأعصار والأمصار قبل ظهور الخلاف من بعض الأخباريين ، بل الظاهر اتفاق قاطبة المسلمين من أهل الفرق والمذاهب كلها على التمسك بظواهره ، والأخذ بمحكماته ، والاستدلال بها في المقاصد الدينية ، والأحكام الشرعية ، والمواعظ والقصص حتى في أصول عقائدهم من العدل والكلام ، والقدرة والإختيار ، والمعاد ، والجنة والنار والحساب والثواب والعقاب ونحوها ، بل في إثبات صحة مذاهبهم كعصمة الإمام وتعيينه ولم يعهد من أحد منهم المناقشة فيه بعدم حجية الكتاب ، وأنّه لا عبرة بظواهره.

والالتزام بورود نصّ مفسّرا له في كلّ ما استدلّوا به تكلّف جدّا ، بل لعلّه مقطوع العدم ، كظهور عدم اعتبارهم على ذلك النصّ على فرض وروده قبل تعيين المذهب.

ثم منهم من لا يعمل بأخبار الآحاد ، وكثير منهم من لا يقول بحجيتها في أصول العقائد فمن أين كان سكونهم الى ذلك الخبر ، ولم لم يقتصروا في الاستدلال على خصوص الآيات المفسّرة في الإخبار.

ويؤيّده استقرار الأمر من الخاصّة والعامّة خلفا عن سلف على تفسير الآيات قراءة وكتابة من دون الاقتصار على خصوص ما ورد من النبيّ والأئمة عليهم‌السلام في كل آية من الآيات إلّا في خصوص الكلمات والآيات المعدودة عندهم

٩٣

في المتشابهات ، بل تراهم يعدّون المرويّ عنهم فيها أحد الوجوه ، ويتصدّون لذكر غيرها أيضا نظرا الى قوة دلالة اللفظ أو تطرّق الاحتمال ، أو ظهور كون ما ورد عنهم من البطون لا الظواهر ، بل يمكن دعوى الضرورة القطعيّة على إرادة ظواهر كثير من الآيات حسبما يفهمه أهل اللسان الذين هم المطّلعون بأساليب الكلام ، وقوانين العربية ، كما أنّه يمكن دعواها أيضا على تشابه بعض الآيات والكلمات الموجب للرجوع فيها الى العلماء من آل محمد.

ولذا قال الشيخ في «التبيان» : إنّ معاني القرآن على أربعة أوجه :

أحدها ما اختصّ الله تعالى بالعلم به ، فلا يجوز لأحد تكلّف القول فيه.

وثانيهما ما يكون ظاهره مطابقا لمعناه ، فكلّ من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناه ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) (١). وثالثها ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصّلا مثل قوله تعالى : أقيموا الصلاة ، ثم ذكر كثيرا من الآيات التي هي من هذا القبيل ، وقال : إنّه لا يمكن استخراجها إلّا ببيان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ورابعها ما كان اللفظ فيه مشتركا بين معنيين فما زاد عليهما ، ويمكن أن يكون كلّ واحد منهما مرادا ، فإنّه لا ينبغي أن يقدم أحد فيقول : إنّ مراد الله بعض ما يحتمله إلّا بقول نبي أو إمام معصوم الى آخر ما ذكره قدّس سره ، ولعلّ المراد بالاختصاص في القسم الأوّل بالنسبة الى غير النبي والأئمّة عليهم‌السلام وإلّا فقد علّمهم الله سبحانه جميع علم القرآن ، كما أنّ المراد بالرابع ما لم يكن هناك ظهور أو قرينة على التعيين ، وما ذكره من التفصيل لعّله مستفاد عن العلويّ المرويّ في

__________________

(١) الإسراء : ٣٣.

٩٤

«الإحتجاج» في جواب الزنديق وقد مرّ (١).

ومنها الأخبار الكثيرة الدّالة على استدلال الأئمة عليهم‌السلام بجملة من آياته واحتجاج أصحابهم بعضهم على بعض ، وعلى خصمائهم في المذهب في مقامات كثيرة جدا من الأحكام ، وغيرها الدّالة على حجية ظواهرها واعتمادهم عليها في إثبات مقاصدهم ، وردّهم على خصمائهم في إنجاح مطالبهم ، وتقرير الأئمة عليهم الصلاة والسلام لهم بذلك لاستدلالهم لأصحابهم بها مرشدين لهم اليه ، واستمرار هذه الطريقة بين أصحابهم والتابعين لهم من دون نكير منهم عليه خلفا عن سلف ، كما لا يخفى على من تتبع الأخبار الكثيرة الواردة في أبواب الأصول والفروع.

ومنها أنّ ألفاظ الكتاب لو لم تكن دليلا على إرادة معانيها بدون التفسير لتوقّف كونها معجزة على ورود التفسير وبيان المعاني المرادة ضرورة أنّ من أظهر وجوه اعجازه على ما يأتي اشتماله على الفصاحة والبلاغة التي لا يسعها طاقة البشر حتى اعترف به فصحاء العرب ، حيث عجزوا عن الإتيان بأقصر سورة من مثله ، ومن البيّن أنّ ذلك لا يتّم إلّا بمعرفة المعاني المتصورة من الإلفاظ ، لأنّ البلاغة إنما تعرض اللفظ باعتبار ما أريد به من المعنى ، ولم ينقل أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتحدّى العرب بالقرآن بعد تفسيره وبيانه لهم ، كيف ولو كان الأمر كذلك لشاع وذاع ، بل قد يقال : إنّ ذلك يوجب خروج القرآن عن كونه معجزا بالبلاغة لتوقّفه حينئذ على التفسير ، وصحّته مبنّية على ثبوت النبوّة فإذا توقف ثبوتها على كونه معجزا لزم الدور.

__________________

(١) الإحتجاج ص ١٣٠ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٤٣.

٩٥

وتوهّم أنّ إعجازه إنما هو من حيث الصرفة ، أو خصوص الأسلوب أو ـ غيرهما مما لا توقف معه على فهم المعاني ضعيف جدا حسبما تأتي اليه الإشارة في البحث عن وجوه إعجازه.

ومنها أنّ الآيات المحكمة الناصّة أو الظاهرة الواردة في بيان الأحكام والقصص وغيرها.

قد ورد في تفسيرها عن أصحاب العصمة ما يوافق ظاهرها كالأخبار الكثيرة المتواترة الواردة في أبواب الإرث موافقة لظاهر الآيات ، والواردة في أحكام النكاح والطلاق ومدة العدة ، والظهار ، والإيلاء ، والكفّارات والمطاعم ومصارف الخمس ، والصدقات ، ومناسك الحج ، وكيفية الوضوء ، والتيمم ، وغيرها ، بل الواردة في بيان قصص الأنبياء والمواعظ والمواعيد وأحوال المعاد ونحوها ، وبالجملة من تصفّح جملة يسيرة مما ذكرناه حصل له القطع بأنّ ظواهر هذه الآيات هي المقصودة منها ، بل من ملاحظة المطابقة بينها وبين الأخبار المروية في تفسيرها المطابقة لظواهرها على حسب ظاهر الأفهام يحصل القطع بأنّ ظاهر كل ما له ظاهر من الآيات هو الحجة ، وهو المقصود من سوق الخطاب ، وإن كان غيره مقصودا أيضا من باب التأويل واستنباط شيء من البطون السبعة أو السبعين التي لا يمنع حجيّة بعضها بعد استفادته من حجيّة غيره كما ستسمعه في موضعه.

ومنها جملة من الآيات الكريمة التي لا دور في الاستدلال بها بعد القطع بإرادة مفادها الذي هو كون القرآن عربيا واضح الدلالة منزلا عليهم بلسانهم لتذكرهم ، وتفكرهم ، وخشيتهم.

كقوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ

٩٦

يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١).

وقوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢).

وقوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٣).

وقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٤) ، الى قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (٥).

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) (٦).

وقوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٧).

وقوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٨).

__________________

(١) الزمر : ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) محمد : ٢٤.

(٣) النساء : ٨٢.

(٤) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٥) الشعراء : ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٦) طه : ١١٣.

(٧) الشورى : ٧.

(٨) الحشر : ٢١.

٩٧

وقوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) (١).

وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٢).

وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) (٣).

وقوله تعالى : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٤). وفي آية : (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (٥). وفي أخرى : (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (٦).

وقوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧) (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) (٨).

وقوله : (إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). (٩)

وقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٠).

__________________

(١) ص : ١٩.

(٢) المائدة : ٩٣.

(٣) المائدة : ٧٥.

(٤) الأنعام : ٤٦.

(٥) الأنعام : ٩٧.

(٦) الأنعام : ٩٧.

(٧) الأعراف : ٥٢.

(٨) الإسراء : ١٠٦.

(٩) التوبة : ١٢٤.

(١٠) النمل : ٧٦.

٩٨

وقوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) (١).

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) (٢).

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) (٣).

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٤).

الى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي لا يخفى وجوه دلالتها على المطلوب فلا داعي الى الإطناب بالتقريب ، بل ربما يحصل القطع بذلك أيضا من ملاحظة بعض الخطابات الواردة فيه النازلة منزلة الخطابات الشفاهية التي لا واسطة فيها أصلا.

كقوله تعالى : يا أيّها الناس ، يا أيّها الذين آمنوا ، يا أهل الكتاب ، يا بني آدم ، يا عبادي الذين آمنوا ، يوصيكم في أولادكم ، الى غير ذلك من الآيات الكثيرة المشتملة على الخطاب لعامّة المكلفين ، أو المصدّرة بذكر المخاطب المستفاد منها كونها خطابا منه سبحانه لهم ، أو لصنف منهم المستلزم لفهمهم تلك الخطابات من دون واسطة.

ولذا ورد الأمر بسؤال الجنّة وغيرها من الخيرات ، والاستعاذة عن النار

__________________

(١) الحج : ٧٢.

(٢) يونس : ٥٧.

(٣) الإسراء : ٤١.

(٤) القمر : ٢٢.

٩٩

وغيرها من الشرور عند قراءة الآيات المتضمنة لها ، وورد في كثير من الآيات الأمر بالتفكر والتدبّر عند التلاوة ، قال شيخنا الطوسي في تفسير قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (١).

إنّ فيه دلالة على بطلان قول من قال : لا يجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن إلّا بخبر وسمع وفيه تنبيه أيضا على فساد قول من يقول : إنّ الحديث ينبغي أن يروى على ما جاء وإن كان مخالفا لأصول الديانات في المعنى لأنه سبحانه دعا الى التدبر والتفكر ، وذلك مناف للتعامي والتجاهل (٢).

وقال في تفسير (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) الآية (٣) : أنّها تدلّ على فساد قول من زعم أنّ القرآن لا يفهم معناه إلّا بتفسير الرسول من الحشويّة (٤) وغيرهم لأنه تعالى حثّ على تدبّره ليعرفوه ويتبيّنوه (٥).

ومن هذا الباب ما يدلّ على كونه خطابا للمشركين واحتجاجا عليهم وعلى اليهود والنصارى مع أنّ ذلك يتوقف على فهمهم ولو لاه لما صحّ ذلك ومنه

__________________

(١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٢٤.

(٢) مجمع البيان ج ٩ ص ١٤٠ ط. صيدا أفست مصطفوي.

(٣) النساء : ٨٢.

(٤) قال العلامة النسّابة الفقيه البحّاثة آية الله السيد شهاب الدين المرعشي رحمه‌الله في تعليقاته القيّمة على «إحقاق الحق» ما هذا لفظه : الحشوية قيل بإسكان الشين لأنّ منهم المجسّمة والمجسمة محشو والمشهور أنه بفتحها نسبة الى الحشا لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته فوجد في كلامهم «رويا» فقال ؛ رووا هؤلاء الأحشاء الحلقة أي جانبها والجانب يسمى حشاء ومنه الأحشاء لجوانب البطن ـ أقول : كلمة رويا مفعول وجد والمراد أن الحسن رأى قوما في حلقته يستندون في كل شيء من العقليات والسمعيات برواية رويت.

(٥) مجمع البيان ج ٣ ص ٨٠ ط. صيدا.

١٠٠