تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

تَأْوِيلُهُ) (١) وذلك أنّك قد سمعت منّا أولا أن التصديق التفصيلي في هذا الباب غير ممكن لنا ، كيف وهو موقوف على تمام العلم والإحاطة بظاهر القرآن وباطنه ، وباطن باطنه ، وهكذا إلى سبعة بطون أو سبعين بطنا أو أزيد من ذلك ، بل قد ورد أنّ الكلمة من آل محمّد عليهم‌السلام لتنصرف على سبعين وجها فما ظنّك بالقرآن الذي لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم.

ولذا قال مولانا الباقر عليه‌السلام لقتادة (٢) على ما رواه في «الكافي» في الصحيح ويحك يا قتادة إن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به (٣) وقال مولانا الصادق عليه‌السلام لابن الصباح : إنّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل ، فعلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه خطب خطبة ذكر فيها : أن عليا هو أخي ، ووزيري ، وهو خليفتي وهو المبلّغ عني ، إن استرشدتموه أرشدكم ، وإن خالفتموه ظللتم ، إنّ الله أنزل عليّ القرآن وهو الذي من خالفه ضلّ ، ومن يبتغي علمه عند غير عليّ هلك (٤).

وقال مولانا الرضا عليه‌السلام لابن الجهم (٥) اتق الله ، تأوّل كتاب الله برأيك ، فإن الله

__________________

(١) يونس : ٣٩.

(٢) قتادة بن دعامة من أكابر محدّثي العامة ومفسّريهم ، وقيل إنه أحفظ أهل البصرة وكان رأسا في العربية ومفردات اللغة وأيام العرب والنسب ، ويظهر منه أنّه كان محبا لعلي أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث سمع خالد بن عبد الله قوله السيء في عليّ عليه‌السلام قام فانصرف قائلا في حق خالد : زنديق ورب الكعبة. ولد قتادة في سنة ٦١ ه‍ ومات بواسط في الطاعون سنة ١١٨ ه‍.

(٣) بحار الأنوار ج ص ١٣٩ ط القديم باب تأويل قوله تعالى : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً) إلخ.

(٤) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٨٢ ط القديم عن الأمالي للصدوق.

(٥) ابن الجهم هو علي بن محمد بن الجهم هو من المنحرفين عن أهل البيت ، ولذا قال الصدوق في العيون بعد ما نقل كلماته مع علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام في مجلس المأمون : هذا الحديث غريب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه ، وبغضه ، وعداوته لأهل البيت عليهم‌السلام.

٢١

يقول : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (١). (٢)

وقال عليه‌السلام فيما كتبه للمأمون : إنّ الأئمة عليهم‌السلام هم المعبّرون عن القرآن والناطقون عن الرسول بالبيان (٣).

وقال مولانا الصادق عليه‌السلام بعد ذكر كلام طويل في تفسير القرآن إلى أقسام وفنون ووجوه تزيد على مائة وعشر إلى أن قال : وهذا دليل واضح على أن كلام الباري سبحانه لا يشبه كلام الخلق كما لا تشبه أفعاله أفعالهم ولهذه العلّة وأشباهها لا يبلغ أحد كنه حقيقة تفسير كتاب الله تعالى إلا نبيّه وأوصيائه (٤).

ثمّ اعلم أن ما ذكر في السؤال من حصر وجوه الدلالة فيما هو المعروف عند أهل العرف ممنوع جدا فإنّ التفاهم بالدلالات الثّلاث إنما هو للعامّة وللخواصّ والخصّيصين طرق أخرى لا يجري بها القلم ، ولا يحتوي عليها الرقم ، وناهيك في ذلك أنّ جواب كل سؤال مطويّ فيه مستفاد منه بالقواعد التكسيرية التي ليست من الدلالات اللفظية ، بل يشهد به أيضا ملاحظة العلوم المستنبطة من الحروف المقطّعة في فواتح السور. وقول أبي جعفر عليه‌السلام لأبي لبيد : إنّ لي فيها لعلما جمّا (٥) ، واستخراج قيام الأئمة والخلفاء منها. وما ذكره عليه‌السلام في جواب وفد (٦) فلسطين حيث سألوا عن الصمد من العلوم الغريبة التي يشتمل على جملة منها الخبر إلى أن قال عليه‌السلام : لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله عزوجل

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) بحار الأنوار ج ١٩ ص ٢٨ باب تفسير القرآن بالرأي ط. القديم.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ج ٢ ص ١٢٢ ط. دار الكتب الإسلامية بطهران.

(٤) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٤٨ عن المحكم والمتشابه للسيد المرتضى ص ٥.

(٥) الصافي للفيض في تفسير سورة البقرة ذيل تفسير (ألم) ص ٥٧ ع العياشي

(٦) الوفد بفتح الواو وسكون الفاء : قوم يجتمعون فيردون البلاد.

٢٢

حملة لنشرت التوحيد ، والإسلام ، والإيمان والدين ، والشرائع من الصمد ، وكيف لي بذلك ولم يجد جدي أمير المؤمنين عليه‌السلام حملة لعلمه ، حتى كان يتنفّس الصعداء ويقول على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّ بين الجوانح مني لعلما جمّا هأه هآه ألا لا أجد من يحمله الخبر (١).

وما يأتي نقله عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام من طرق الخاصة والعامة من تفسير بسم الله لابن عباس ليلة تامّة ، وأنّه قال : لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير بسم الله. إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على من جاس (٢) خلال ديارهم ، وله أنس بأخبارهم ، واستنار قلبه بتجلّي أشعّة أنوارهم.

وأما كون القرآن عربيّا أنزله الله تعالى تفهيما وتبيانا للناس فلا ينافي ما ذكرناه ، لأنّا لا نمنع دلالة ظاهرة كسائر الألفاظ والعبارات ، لجريانه على طريقة العرف واللغة ، إنما الكلام في أنّ فيه وجوها من الإشارة والدلالة ، يستنبط منها الأمور التكوينية ، والأحكام الشرعية بأسرها ، وإنّما يعلمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله الطيّبون الذين يستنبطونه منه. ولذا قال مولانا الصادق عليه‌السلام على ما رواه في الغوالي (٣) : القرآن على أربعة أشياء : على العبارة ، والإشارة ، واللطائف ،

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٧١٣ ، بحار الأنوار ج ٣ ص ٢٢٥ ط. الآخوندي بطهران.

(٢) جاس يجوس جوسا الشيء : طلبه بالحرص والاستقصاء.

(٣) غوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحساوي في الحديث لم يعتمد العلماء عليه. قال المجلسي قدس سرّه في الفصل الثاني من مقدمة البحار : كتاب غوالي اللئالي وإن كان مشهورا ومؤلفه في الفضل معروفا لكنه لم يميز القشر من اللباب ، وأدخل أخبار المتعصبين بين روايات الأصحاب فلذا اقتصرنا منه على نقل بعضها. وقال صاحب الحدائق بعد نقل مرفوعة زرارة في الأخبار العلاجية : أن الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب الغوالي مع ما هي عليها من الإرسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه الى التساهل في نقل الأخبار ، ولإهمال وخلط غثها بسمينها ، وصحيحها بسقيمها كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور. مقدمة البحار ط. الآخوندي بطهران.

٢٣

والحقائق ، فالعبارة للعوامّ والإشارة للخواصّ ، واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء (١).

ومن جميع ما مرّ يظهر الجواب عن اقتصار المفسّرين على الظاهر ، بل وعن الاستبعاد الذي في السؤال حسبما قد ينسبق الى بعض الأذهان وإن لم ينطق به اللسان بعد تظافر الأخبار ، وتكاثر الآثار ، بل قد ظهر مما مرّ ومن التأمل في وجوه التأويلات ، والبطون المأثورة في الأخبار أنّ وجوه الدلالة فيها غير منحصرة في جهة واحدة ، بل منها من جهة الحمل على الحقيقة الأوليّة ، والحقيقة بعد الحقيقة واعتبارها في ساير المجالي التي ينبغي التعبير عنها بالمصاديق والأفراد حسبما تأتي اليه الاشارة في تحقيق البطون ، ومنها من جملة الاستنباطات العددية ، والقواعد التكسيرية ، والاعتبارات الوفقية ، وغير ذلك مما يطول شرحها ، ومنها من جهات أخرى لا يحيط بأكثرها الأفهام ، ولا يجري عليها الأقلام بل لعله لا يدرك نوع سنخيته بوجه من الوجوه فضلا عن إدراك حقيقته ، والاطّلاع على كلّية قاعدته.

وأمّا ما حكاه في «الصافي» ملخّصا عن بعض أهل المعرفة من أنّ العلم بالشيء إما يستفاد من الحسّ برؤية ، أو تجربة ، أو سماع خبر ، أو شهادة ، أو اجتهاد ، أو نحو ذلك ، ومثل هذا العلم لا يكون إلّا متغيرا فاسدا محصورا متناهيا غير محيط ، لأنه إنما يتعلّق بالشيء في زمان وجوده علم ، وقبل وجوده علم آخر ، وبعد وجوده علم ثالث ، وهكذا كعلوم أكثر الناس.

وإما يستفاد من مباديه ، وأسبابه ، وغاياته علما واحدا كليا بسيطا محيطا على وجه عقليّ غير متغيّر ، فإنّه ما من شيء إلّا وله سبب ، ولسببه سبب ، وهكذا

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٩ ص ٣٧ ط. القديم عن الدرّة الباهرة.

٢٤

الى أن ينتهي الى مسبب الأسباب ، وكلّ ما عرف سببه من حيث يقتضيه ويوجبه فلا بد أن يعرف ذلك الشيء علما ضروريا دائما ، فمن عرف الله تعالى بأوصافه الكمالية ، وعرف ملائكته المدبّرين المسخّرين للأغراض الكليّة العقليّة ، بالعبادات الدائمة ، والنسك المستمرّة من غير فتور ولغوب الموجبة لأن يترشّح عنها صور الكائنات كلّ ذلك على الترتيب السببي والمسبّبي ، فيحيط علمه بكل الأمور وأحوالها ولواحقها علما بريئا من التغيّر والشّك والغلط ، فيعلم من الأوائل الثواني ، ومن الكليات الجزئيات المترتبة عليها ، ومن البسائط المركبات ، ويعلم حقيقة الإنسان وأحواله ، وما يكمّلها ويزكّيها ويصعدها الى عالم القدس وما يدنّسها ويرديها ويشقيها ويهويها إلى أسفل السافلين ، علما تابعا غير قابل للتغير ، ولا محتملا لتطّرق الريب ، فيعلم الأمور الجزئيّة من حيث هي دائمة كلية ، ومن حيث لا كثرة فيه ولا تغيّر ، وإن كانت كثيرة متغيرة في أنفسها ، وبقياس بعضها الى بعض ، وهذا كعلم الله سبحانه بالأشياء ، وعلم الملائكة المقربين ، وعلوم الأنبياء والأوصياء بأحوال الموجودات الماضية المستقبلة ، وعلم ما كان وعلم ما سيكون الى يوم القيامة من هذا القبيل ، فإنّه علم كلّي ثابت غير متجدّد بتجدّد المعلومات ولا متكثّر بتكثّرها ، ومن عرف كيفيّة هذا العلم عرف معنى قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (١) ويصدّق بأنّ جميع العلوم والمعاني في القرآن الكريم عرفانا حقيقيا ، وتصديقا يقينيا على بصيرة لا على وجه التقليد والسماع ونحوهما ، إذ ما من أمر من الأمور إلّا وهو مذكور في القرآن إمّا بنفسه أو بمقوّماته وأسبابه ومباديه وغاياته ، ولا يتمكّن من فهم آيات القرآن ، وعجائب أسراره وما يلزمها من الأحكام والعلوم التي لا تتناهي إلّا من

__________________

(١) النحل : ٨٩.

٢٥

كان علمه بالأشياء من هذا القبيل (١).

ففيه أنّ سوق هذا الكلام إنّما هو في تحقيق علم الباري تعالى حسبما ذهب اليه بعض المحقّقين وإن كان لا يخلو من نظر ، نظرا الى عدم ترتّب الحوادث الكونية حتى الأفعال الاختيارية بقاعدة السببيّة التي هي أشبه بالأمور الطبيعية ، وكأنه مبنّي على القول بفاعليّة سبحانه بالعليّة والإيجاب ، بل قد يظهر منه الاضطرار في أفعال العباد ، وإلّا فالمختار قد يختار المرجوح أو الراجح باختياره الّذي هو السبب التامّ ، وإن كان مرجّحات آخر لغيره.

وجعل الإرادة أيضا من جملة الأسباب المسببّة عن كينونة الطبيعة تكوينا جعليا ابتدائيا منه سبحانه أو تبعيّا للأعيان الثابتة حسبما توهّموه.

فاسد من وجوه : كالجبر وانثلام قاعدة السببيّة المقصودة وبطلان القول بالأعيان ، وعدم استحقاق الثواب ، وقبح العقاب الى غير ذلك مما تأبى عنه قواعد العدليّة المستفادة عن الشريعة الحقّة النبويّة. ومن هنا يظهر فساد ما فرّع عليه من اشتمال القرآن على العلوم بالوجه المرسوم ، مع أنّه لا اختصاص له حينئذ به كلّ اسم من أسمائه ممّا يتكلّم به كلّ أحد لدلالته على مسبّب الأسباب يدلّ على تفاصيل المصنوعات المترتبة الى ما لا نهاية لها وهو كما ترى.

هذا مضافا الى ما يظهر منه من التسوية بين علمه سبحانه وعلوم ملائكته وأنبيائه ، لفقد الجامع فضلا عن الاتّحاد بين ما هو ذات الواجب بلا مغايرة حقيقة واعتبارية وبين صفة الممكن ، وإرادة العلم الفعلي مع أنّه ليس من مذهب الحاكي ولا المحكّي عنه كما يظهر من ساير كتبهما توجب التسوية بين ذات الممكن ووصفه.

__________________

(١) تفسير الصافي للفيض الكاشاني ـ المقدمة السابعة.

٢٦

الباب السادس

في بيان معنى التفسير ، والتنزيل والتأويل ،

والظاهر والباطن ، والمحكم والمتشابه ،

والناسخ والمنسوخ ، والكلام في حجية

القرآن ، وصحة الاستدلال بظواهره في

الأصول والفروع ، والمنع عن التفسير

بالرأي وضابط التأويل

٢٧
٢٨

وفيه فصول :

الفصل الأول

قد اختلفوا في اتحاد معنى التفسير والتنزيل والتأويل واختلافه ، فعن ظاهر الأكثر الثاني ، ولذا يقابل كل من الأوليين بالثالث ، بل صرّح بعضهم ، ولعلّه يؤمي إليه أصل الاشتقاق أيضا. قال في الصحاح (١) : الفسر البيان ، وقد فسرت الشيء أفسره بالكسر فسرا والتفسير مثله ، وقال : التأويل تفسير ما يؤول إليه الشيء ، وقد أوّلته تأويلا وتأوّلته تأوّلا بمعنى ، ومنه قول الأعشى (٢) : على أنّها

__________________

(١) الصحاح في اللغة لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي أخذ عن خاله إبراهيم الفارابي ، وعن السيرافي ودخل بلاد ربيعة ومضر ، فأقام فيها مدة في طلب علم اللغة ثم عاد الى خراسان ، وأقام بنيسابور مدة فبرز في اللغة وتعلّم الكتاب وحسن الخط ، ومات متردّيا من سطح داره ، وقيل : إنّه تغيّر عقله وعمل له دفّتين وشدّهما كالجناحين وقال أريد أن أطير ووقع من علو فهلك في سنة ٣٩٣ ، كتاب الصحاح كتاب حسن الترتيب سهل المطلب ، وهو مفرد نعت كصحيح وصحاح وشحيح وشحاح وبرىء وبراء قيل في مدح الصحاح :

ليس صحاح الجوهري

إلّا صحاح الجوهر

بل هو بحر ذهب

أمواجه من درر

كشف الظنون ج ٨ ص ٤٠٠

(٢) الأعشى ميمون بن قيس جندل من بني قيس المعروف بأعشى قيس ، والأعشى الكبير من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية ، وأحد أصحاب المعلّقات ، كان كثير الوفود على الملوك من العرب والفرس ، عاش عمرا طويلا وأدرك الإسلام ولم يسلم ، ولقّب بالأعشى لضعف بصره ، وعمي في آخر عمره ، توفّي سنة ٧ ه‍ في قرية منفوحة باليمامة قرب مدينة الرياض. الأعلام للزركلي ج ٨ ص ٣٠٠.

٢٩

كانت تأول حبها* تأول ربعي السقاب فأصحبا ، يعني أن حبها كان صغيرا في قلبه فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديما كهذا السقب (١) الصغير لم يزل حتى صار كبيرا مثل أمه فصار له ابن يصحبه. وفي القاموس : الفسر الإبانة وكشف المغطى كالتفسير ، والفعل كضرب ونصر ، ونظر الطبيب الى الماء ، كالتفسرة ، أو هي البول يستدلّ به على المرض ، أو هي مولّدة.

قال ثعلب (٢) : التفسير والتأويل واحد ، أو هو كشف المراد عن المشكل والتأويل ردّ أحد المحتملين الى ما يطابق الظاهر (٣).

وقال : أوّل الكلام تأويلا وتأوّله دبّره وقدّره وفسّره ، والتأويل عبارة الرؤيا (٤).

وفي النهاية الأثيرية (٥) : في حديث ابن عباس اللهم فقّهه في الدين ، وعلّمه التأويل ، هو من آل الشيء يؤول إلى كذا أي رجع وصار إليه ، والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ من وضعه الأصلي الى ما يحتاج الى دليل لولاه ما ترك ظاهر

__________________

(١) السقب بفتح السين وسكون القاف ج أسقب وسقاب : ولد الناقة ساعة يولد.

(٢) ثعلب أحمد بن يحيى بن زيد أبو العباس أمام الكوفيين في النحو واللغة والحديث كان مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة ، ولد في بغداد سنة ٢٠٠ وأصيب في أواخر أيامه بصمم فصدمته فرس فسقط في هوة فتوفّي على الأثر سنة ٢٩١ له مصنفات في الأدب والشعر واللغة والتفسير منها : إعراب القرآن ، معاني القرآن ـ تذكرة الحفّاظ ج ٢ ص ٢١٤ ـ.

(٣) تاج العروس في شرح القاموس الزبيدي ج ٣ ص ٤٧٠.

(٤) تاج العروس في شرح القاموس للزبيدي ج ٧ ص ٢١٦.

(٥) نهاية الأثيرية هي النهاية في غريب الحديث وهي مجلدات للشيخ أبي السعادات مبارك بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى سنة ٦٠٦ أخذ هذا الكتاب من الغريبين للهروي وغريب الحديث لأبي موسى الأصبهاني ، ورتبه على حروف المعجم بالتزام الأول والثاني من كل كلمة واتباعهما بالثالث. ـ كشف الظنون ج ٢ ص ١٩٨٩ ـ.

٣٠

اللفظ ، ومنه حديث عائشة : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم وبحمدك ، بتأوّل القرآن ، يعني أنّه مأخوذ من قول الله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) (١).

وفي «مجمع البيان» : التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل ، والتأويل ردّ أحد المحتملين الى ما يطابق الظاهر ، والمعنى البيان.

وقال أبو العباس المبرّد (٢) : التفسير والتأويل والمعنى واحد ، وقيل : التفسير كشف المغطى ، والتأويل انتهاء الشيء ومصيره وما يؤول إليه أمره (٣) ، وقال في موضع آخر : التأويل : التفسير ، وأصله المرجع (٤) ، وتبعه فيه الرازي الى أن قال : هذا معنى التأويل في اللغة ، ثم يسمى التفسير تأويلا قال تعالى : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٥) ، وقال تعالى : (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٦) وذلك لأنه إخبار عمّا يرجع إليه اللفظ من المعنى (٧).

__________________

(١) سورة النصر : ٣.

(٢) المبرد محمد بن يزيد الثمالي أبو العباس ، أديب ، لغوي ، نحوي ، إمامي ، مقبول القول عند الخاصّة والعامّة ، ولد بالبصرة سنة ٢١٠ وتوفي ببغداد سنة ٢٨٦ قيل بموته وموت الثعلبي مات الأدب. قال ابن أبي الأزهر في حقهما :

أيا طالب العلم لا تجهلن

وعذ بالمبرد أو ثعلب

تجد عند هذين علم الورى

فلا تك كالجمل الأجرب

علوم الخلايق مقرونة

بهذين في الشرق والمغرب

(٣) مجمع البيان للطبرسي ج ١ ص ٢٣ مقدمة الكتاب ، الفن الثالث.

(٤) مجمع البيان للطبرسي ج ٢ ص ٤٠٨ ط. الصيداء.

(٥) الكهف : ٧٨.

(٦) النساء : ٥٩.

(٧) التفسير الكبير للفخر الدين الرازي ج ٧ ص ١٧٦ ، سورة آل عمران آية : ٧.

٣١

وفي «مجمع البحرين» : التأويل إرجاع الكلام وصرفه عن معناه الظاهر الى معنى أخفى منه مأخوذ من آل يؤول إذا رجع وصار إليه ، وتأوّل فلان الآية أي نظر الى ما يؤول معناها الى أن قال : وفي حديث عليّ عليه‌السلام ما من آية إلّا وعلّمني تأويلها أي معناها الخفي الذي هو غير المعنى الظاهر ، لما تقرّر أنّ لكل آية ظهرا وبطنا ، والمراد أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أطلعه على تلك الخفيّات المصونة والأسرار المكنونة (١).

وعلى كلّ حال فالتفسير كالفسر لغة بمعنى الإبانة والإيضاح والتفعيل للمبالغة ، وغلط من أخذه من التفسرة بمعنى الطبيب أو استدلاله ـ أو ـ القارورة ، أو غيرها لا لأنه يوناني ولم يعهد أخذ لغة من أخرى إذ هو أيضا ضعيف بل لدلالة المادّة على هذا المعنى الساري في جميع مشتقاتها التي منها ، نعم قد يقال أنه مقلوب التسفير من سفر الصبح وأسفر بمعنى أضاء وأشرق وسفرت المرأة كشفت عن وجهها.

وفيه أنّ القلب وإن كان يقع في الأسماء كآرام ، وآدر ، ومعيق ، من ارام وادءر وعميق ، وفي الأفعال كجبذ من جذب ، إلّا أنه مع مخالفته للأصل والغلبة سيّما مع فقد الداعي الى التزامه مردود بأمثلة اشتقاقه ، بل هذه المادّة المأخوذة عن س ف ر بصورها الستّة لفقد الترتيب واعتبارها أنحاء التركيب يظهر منها الظهور والكشف كالسفر الكاشف عن حال المسافر والسفير المبلغ للخبر ، والسفر بالكسر الذي هو الكتاب ونحوه ، والسرف الذي هو البذل با إظهار وانتشار وإكثار ، والفراسة التي بها كشف الأحوال والاطلاع على الأخبار ، والفروسة التي هي إظهار الشجاعة والجلادة ولا يخلو ذلك عن تكلّف في الرفس

__________________

(١) مجمع البحرين ص ٤٢٤ باب ما أوله الألف ، حرف اللام ط. طهران.

٣٢

الذي هو الركض برجلك والرسف الذي هو المشي كمشي المقيّد ، لكنّ الخطب في مثله سهل كسهولته في وجوه الفرق التي سمعت شطرا منها بينه وبين التأويل ، حيث لا شاهد على جملة منها عدا الإطلاق المشترك بينهما كما لا شاهد على ما يقال أيضا من أنّ التفسير إخبار عمّن أنزل فيه القرآن وعن سبب نزوله فهو علم من شاهد النزول وأسبابه ، ولذا يجب فيه الاقتصار على النقل والرواية ، وذلك بخلاف التأويل الذي يختلف باختلاف الأفهام ويصرف إليه من ظاهره الكلام ، فعلم التفسير مختصّ بأقوام وباب التأويل مفتوح الى يوم القيامة ، وعليه أكثر المتأخرين من العامّة.

ومن هنا قال في عوارف المعارف (١) : إنّ التفسير علم نزول الآية وشأنها وقصتها والأسباب التي نزلت فيها وهو محظور على الناس كافة القول فيه إلّا بالسماع والأثر ، وأمّا التأويل فصرف الآية الى معنى تحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه يوافق الكتاب والسنة ، فالتأويل يختلف باختلاف حال المؤول من صفاء الفهم ورتبة المعرفة ونصيب القرب من الله.

ولهم أقوال أخرى في المقام كقولهم : إنّ التفسير في الألفاظ والتأويل في المعاني ، وإنّ التفسير يتعلّق بالمحكمات ، والتأويل يختصّ بالمتشابهات وإنّ التفسير بالرواية ، والتأويل بالدراية ، وإنّ التفسير بيان الظاهر ، والتأويل كشف

__________________

(١) عوارف المعارف في التصوف مشتمل على ثلاثة وستين بابا كلها في سير القوم وأحوال سلوكهم وأعمالهم للشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي المتوفي سنة ٦٣٢ ، كان من كبار الصوفية ، شافعي مفسر ، فقيه ، واعظ ، مولده في سهرود (مدينة في إيران في الجبال سكنها الأكراد في القرن العاشر ثم خربت بالمغول) ٥٣٩ ، كان شيخ الشيوخ ببغداد ، وأقعد في آخر عمره ، فكان يحمل الى الجامع في محفّة ، له مصنفات منها ، عوارف المعارف ، ونخبة البيان في تفسير القرآن وغيرهما.

ـ طبقات الشافعية ج ٥ ص ١٤٣ ـ

٣٣

السرائر ، الى غير ذلك مما لا شاهد على كثير منها مع إمكان إرجاع بعضها الى بعض.

نعم الّذي يستفاد من تصانيف كلمات الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين هو أنّ التفسير كشف المراد من ظواهر الآيات وبواطنها السبعة أو السبعين أو الأزيد من ذلك مما لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم ، بحيث إنّه يشمل كل شيء من دون ذلك دون اشتراط انضمامه الى غيره ، ومن هنا يطلق على العلم بالظواهر مع ضميمة بعض البواطن أو بدونها على وجه التسامح في الإطلاق ، وإلّا فالعلم به حقيقة إنّما يحصل بالعلم بتمام ما سمعت ، ولذا يستفاد من كثير من الأخبار اختصاص التفسير بأهل الذكر الذين هم مهابط الوحي ، وخزنة العلم.

ففي «المحاسن» بالإسناد عن أبي جعفر عليه‌السلام يا جابر إنّ للقرآن بطنا وله ظهر ، وللظهر ظهر ، وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، إنّ الآية يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل منصرف على وجوه (١).

وفي «الكافي» عنه عليه‌السلام إنّ من علم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه (٢).

وعن «تفسير النعماني» عن الصادق عليه‌السلام بعد كلام طويل مضى جملة منه ولهذه العلة وأشباهها لا يبلغ أحد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب الله إلّا نبيه وأوصيائه (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٩ ص ٢٤ ط. القديم.

(٢) بحار الأنوار ج ٧ ص ٣٩ ط. القديم عن «البصائر» مسندا عن عمر بن مصعب أنه قال : سمعت الصادق عليه‌السلام أنه قال : إنّ من علم ما أوتينا تفسير القرآن وحكاية علم تغيير الزمان وحدثاته.

(٣) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٤٨ أبواب صفات القاضي.

٣٤

وفي خبر طويل عن مولانا الصادق عليه‌السلام : إنّما يكفيهم القرآن لو وجدوا له مفسرا ، قيل وما فسّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال عليه‌السلام : بلى قد فسّره لرجل واحد ، وفسّر للأمة شأن ذلك وهو علي بن أبي طالب (١). إلخ.

وقد مرّ قول أبي جعفر عليه‌السلام لقتادة ، إن كنت فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به (٢) بل قد مرّ أيضا في النبوي في احتجاجه يوم الغدير : عليّ تفسير كتاب الله ، والداعي إليه الى أن قال عليه‌السلام : معاشر الناس تدبّروا القرآن وافهموا آياته ، وانظروا في أحكامه ، ولا تتّبعوا متشابهه ، فو الله لن يبيّن لكم زواجره ، ولا يوضح لكم عن تفسيره إلّا الذي أنا آخذ بيده (٣).

وفي «البصائر» بالإسناد عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : تفسير القرآن على سبعة أوجه ، منه ما كان ومنه ما لم يكن بعد ، تعرفه الأئمة عليهم‌السلام (٤).

وفيه ، عن يعقوب بن جعفر ، قال : كنت مع أبي الحسن عليه‌السلام بمكة فقال له رجل : إنّك لتفسّر من كتاب الله ما لم تسمع ، فقال عليه‌السلام : علينا نزل قبل الناس ، ولنا فسّر قبل أن يفسّر في الناس ، فنحن نعلم حلاله وحرامه ، وناسخه ومنسوخه ، وسفريته وحضريته ، وفي أي ليلة نزلت كم من آية ، وفيمن نزلت ، فنحن حكماء الله في أرضه. الخبر (٥).

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٣١ أبواب صفات القاضي.

(٢) بحار الأنوار ج ٧ ص ١٣٩ ط. القديم باب تأويل قوله تعالى : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ) إلخ.

(٣) بحار الأنوار ج ٣٧ ص ٢٠٩ ط. الآخوندي بطهران عن الإحتجاج للطبرسي ص ٣٣ ـ ٤١.

(٤) بحار الأنوار ج ١٩ ص ٢٦ ط. القديم باب أن للقرآن ظهرا وبطنا عن البصائر.

(٥) بحار الأنوار ج ٧ ص ٤٠ ط. القديم باب أنهم عليهم‌السلام أهل علم القرآن ـ عن البصائر.

٣٥

وروى العيّاشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن الحكومة فقال عليه‌السلام : من حكم برأيه بين إثنين فقد كفر ، ومن فسّر آية من كتاب الله فقد كفر (١). أي إذا كان التفسير برأيه كما يظهر من أخبار آخر الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على أن المراد بالتفسير هو العلم بجميع المقاصد والمرادات والحقائق القرآنية من الظاهر ، وظاهر الظاهر ، وهكذا والباطن ، وباطن الباطن الى ما شاء الله فهو يشمل التنزيل والتأويل بالمعنى المستفاد لهما من الأخبار الكثيرة التي منها النبوي المرويّ في الأمالي : يا علي أنا صاحب التنزيل وأنت صاحب التأويل (٢). يعني أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يحكم بالظاهر الذي نزل عليه الكتاب ويقاتل عليه خاصّة ، ولذا لم يؤمر بقتال المنافقين بل كان يقرّبهم ويؤلّفهم وأمّا مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام فكان يقاتل على التأويل ، ولذا قاتل مع أهل القبلة.

ولذا ورد أيضا عنه عليه‌السلام : أنا أقاتل على التنزيل ، وعليّ يقاتل على التأويل (٣).

وفي «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام إنّ الله تعالى علّم نبيه التنزيل والتأويل فعلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا. إلخ (٤).

وفي «البصائر» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ أنت تعلّم الناس تأويل القرآن بما لا يعلمون ، فقال عليه‌السلام : على ما أبلّغ رسالتك من بعدك يا رسول الله؟

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ١٨ ، بحار الأنوار ج ١٩ ص ٢٩ ط القديم.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٣٩.

(٣) تفسير العياشي ج ١ ص ١٥ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٥٠ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، وهو علي بن أبي طالب.

(٤) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٣٥.

٣٦

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تخبر الناس بما يشكل عليهم من تأويل القرآن (١).

وفيه ، عن الصادق عليه‌السلام إنّ للقرآن تأويلا فمنه ما جاء ، ومنه ما لم يجيء ، فإذا وقع التأويل في زمان إمام من الأئمة عرفه ذلك الإمام (٢). وفي حديث عمرو ابن عبيد عن أبي جعفر عليه‌السلام إنما على الناس أن يقرءوا القرآن كما أنزل ، فإذا احتاجوا الى تفسيره فالاهتداء بنا وإلينا (٣). والمراد أنّ التنزيل يفهمه الناس بظواهر العربية حيث إنّ القرآن قد نزل بلسانهم ، وأمّا تفسير الشامل له ولوجوه التأويل والبواطن فإنما يطلب منهم.

وفي «الكافي» عن أحدهما عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٤) قال عليه‌السلام : فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الراسخين في العلم قد علّمه الله جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئا لا يعلّمه تأويله ، وأوصيائه من بعده يعلمونه (٥) الى غير ذلك من الأخبار الظاهرة فيما سمعت ، ولو بقرينة المقابلة وملاحظة الاشتقاق الذي لعلّه كاف في إثبات المرام ، وكأنّ ما سمعت هو الذي يظهر من القمي أيضا في أول تفسيره ، حيث ذكر في عداد وجوه القرآن : أنّ منه ما تأويله في تنزيله ، ومنه ما تأويله مع تنزيله ، ومنه ما تأويله قبل تنزيله ، ومنه ما تأويله بعد تنزيله الى أن قال : أمّا ما تأويله في تنزيله فكل آية نزلت في حلال أو حرام مما لا يحتاج الناس فيها الى تأويل مثل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) (٦) الآية ، وقوله تعالى :

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ١٩٥ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٤٥.

(٢) بصائر الدرجات ص ١٩٥ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٤٥.

(٣) تفسير فرات بن إبراهيم ص ٩١ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٤٩.

(٤) آل عمران : ٧.

(٥) الكافي ج ١ ص ١٩١ ووسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٣٢.

(٦) النساء : ٢٣.

٣٧

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (١) ومثله كثير مما تأويله في تنزيله ، وهو من المحكم الذي ذكرنا ، وأمّا ما تأويله مع تنزيله فمثل قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢) فلم تستغن الناس بتنزيل الآية حتى فسّر الرسول من أولي الأمر ، وقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (٣) فلم تستغن الناس الذين سمعوا هذا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتنزيل الآية حتى عرّفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الصادقين ، وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٤) فلم تستغن الناس بهذا حتى أخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كم يصلّون وكم يزكّون.

وأمّا ما تأويله قبل تنزيله فالأمور التي حدثت في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مما لم يكن عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها حكم مثل الظهار حيث إنّ أوس بن الصامت (٥) ظاهر من امرأته فجاءت الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبرته بذلك ، فانتظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحكم من الله تعالى ، فأنزل الله سبحانه : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) (٦) الآية ومثله ما نزل في اللعان وغيره مما لم يكن عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه حكم حتى نزل عليه القرآن به من الله عزوجل ، فكان التأويل قد تقدّم التنزيل.

وأمّا ما تأويله بعد تنزيله فالأمور التي حدثت بعد عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) التوبة : ١١٩.

(٤) البقرة : ٤٣ ، ٨٣ ، ١١٠ والنور : ٥٦.

(٥) أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت الأنصاري ، صحابيّ شاعر قيل سكن بيت المقدس ، وتوفي بالرملة سنة ٣٢.

(٦) المجادلة : ٢.

٣٨

غصب حقوق آله المعصومين وما وعدهم الله به من النصر على أعدائهم ومن أخبار القائم عليه‌السلام وخروجه ، وأخبار الرجعة والساعة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١) وقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٢) إلخ ... وقوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) (٣) إلخ .. ومثله كثير مما تأويله بعد تنزيله.

أقول : وهو وإن كان يؤيد ما ذكرناه في الجملة إلّا أنه يستفاد ممّا ذكره في القسمين الآخرين إطلاق آخر لهما ، ولعلّك ترى في الأخبار ما يؤيد كلا من الوجهين. نعم للأصوليين في المقام نمط آخر من الكلام ، وهو أنّهم قسّموا اللفظ باعتبار كيفية دلالته وضعا على معناه الى النصّ ، والظاهر ، والمجمل ، والمؤول ، فإن لم يحتمل غيره بحسب ما يفهم منه في لغة التخاطب فهو نصّ يتعين حمله عليه لعدم احتماله غيره ، منقسم عند بعضهم الى ما هو نصّ بلفظه ومنطوقه كقوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الزِّنى) (٤) ، (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٥) ، أو بفحواه ومفهومه كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (٦) ، (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧) ، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٨) ، (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٥.

(٢) النور : ٥٥.

(٣) القصص : ٥.

(٤) الإسراء : ٣٢.

(٥) النساء : ٢٩.

(٦) الإسراء : ٢٣.

(٧) النساء : ٤٩.

(٨) الزلزلة : ٨.

٣٩

تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) (١) ، إذ المعلوم أنّ فهم ما فوق التأفيف من الضرب والشتم وما وراء الفتيل والذرّة من المقدار الكثير وما وراء القنطار من القليل والدينار من الكثير أسبق الى الفهم من نفس التأفيف ، والفتيل ، والذرّة ، والقنطار والدينار.

ولذا قالوا إنّه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى وبالعكس ، وتوهّم كونه قياسا ولو بالأولوية غلط جدا ، إذ المقصود التنبيه لحكم المسكوت عنه الّذي هو المدلول عرفا وأين هذا من الإلحاق. وإن احتمل بحسب الفهم العرفي فلا يخلو إمّا أن يكون المحتملات متساويين ، أو أحدهما راجحا والآخر مرجوحا ، فإن تساويا إمّا للاشتراك أو لتصادم الأمارات أو غير ذلك فهو مجمل ومبهم ذاتي أو عرضي ، بحسب الموارد أو المصداق مع تعيين المراد وعدمه ، وإلّا فالراجح ظاهر ، بلا فرق بين كون الرجحان ناشئا عن الحقيقة بأقسامها أو عن القرائن ، والمرجوح مأوّل صحيح إن تعذر إرادة الظاهر ، وفاسد مع جوازه ، وقد يخصّ بالأول ، ويردّه صحة التقسيم ، وقولهم تأويل فاسد ، وورد النهي عنه ، ولذا عرّف أيضا بالمحمول على المرجوح وربما يضاف اليه لمقتضى والأولى تركه.

وقد ظهر ممّا مرّ صحّة قولهم بعدم تمشّي التأويل في النصّ والمجمل لاختصاصه بالظاهر ، وهذا مبني على اصطلاحهم الذي لا مشاحّة فيه ، وإلّا فالمستفاد من نصوص أهل الخصوص ثبوت التأويل الذي يعبّر عنه بالباطن والتخوم لكل آية من الآيات ، بل للكلمات والحروف بلا فرق بين المجملات ، والظواهر ، والنصوص ، ولذا ورد فيما رواه جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام : إنّ للقرآن

__________________

(١) آل عمران : ٧٥.

٤٠