تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

وإدغام الدال المهملة في الثاء المثلّثة نحو (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا) (١).

الثالث من الأقسام : هو إدغام النون الساكنة والتنوين في الستّة المتقدّمة ، بل الميم الساكنة أيضا ، حيث ذكروا أنّ حكمها الإدغام في مثلها نحو (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) (٢).

والإخفاء مع الغنّة في الباء الموحدة نحو (ما هُمْ بِضارِّينَ) (٣) وإن يحكى فيها الإدغام من بعضهم ، والإظهار عن بعض آخر ، سيّما في الواو والفاء.

ثمّ إنّ الأقسام الثلاثة وإن اشتركت في كونها من الإدغام الصغير الذي أفتى غير واحد من أصحابنا بوجوبه ، بل عن «فوائد الشرائع» : لا نعرف فيه خلافا إلّا أنّه لا يخفى على من اطّلع على كثرة الخلاف الواقع في كثير منها أنّه ينبغي التأمّل في جوازه بإطلاقه فضلا عن وجوبه ، نظرا إلى أنّه إخلال بالحروف وإبدال لها بغير من الكلمات الموضوعة ، وجوازه غير معلوم.

نعم ما علم اتّفاقهم عليه لا يبعد جوازه ، بل رجحانه ، دون وجوبه حسبما سمعت في القسم الرابع.

سادسها : الإدغام الكبير الّذى قد سمعت تعريفه وتسميته في سابقه ، ولا أعرف أحدا قال بوجوبه ، وإنّما الكلام في جوازه في كلّ من المثلين ، والمتجانسين ، والمتقاربين.

والمشهور عندهم أنّه مخصوص بقرائة أبى عمرو بن العلاء البصري (المتوفّى ١٥٤) من طريق السوسي (صالح بن زياد المتوفى ٢٦١) وعن عاصم الذي على قراءته سواد مصاحفنا الإدغام في خصوص كلمتين.

__________________

(١) آل عمران : ١٤٥.

(٢) البقرة : ٢٤٩.

(٣) البقرة : ١٠٢.

٤٤١

وهما : (ما مَكَّنِّي) (١) ، و (لا تَأْمَنَّا) (٢) ، مع روم ، أو إشمام في الأخير عن الجميع إلّا عن أبي جعفر (يزيد بن القعقاع المدني المتوفى ١٣٢) وإن أخلّ أحدهما أو كلاهما بتمام الإدغام.

وشرط الإدغام الكبير عندهم أن يتحرّك الحرفان ، فإن سكن الأوّل أدغم للجميع مثل (إِذْ ذَهَبَ) (٣) (قَدْ دَخَلُوا) (٤) ، وقد مرّ.

وإن سكن الثاني فلا إدغام للجميع نحو (إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها) (٥) (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ) (٦).

وأمّا إن تحرّكا فلا فرق بين كونهما في كلمة نحو (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٧) و (مَناسِكَكُمْ) (٨) و (يَرْزُقُكُمْ) (٩) ونحوه من المتماثلين والمتجانسين ، فإنّ المثلين منحصرة في المثالين ، أو في كلمتين ، وهو عامّ كثير بالنسبة الى أكثر الحروف ، وقد تصدّوا لذكر موارده في القرآن على سبيل الكلّية ، ومنهم من رتّبه على ترتيب السور ، ومنهم من حذفه رأسا.

وحكى الشهيد في «شرح النفليّة» عن أكثر القرّاء أنّهم تركوه ، وعن أبى عبيد القاسم ابن سلّام (المتوفى ٢٢٤) أنّه لم يذكره في مصنّفاته لكراهته له ، وأنّه

__________________

(١) الكهف : ٩٥.

(٢) يوسف : ١١.

(٣) الأنبياء : ٨٧.

(٤) المائدة : ٦١.

(٥) المائدة : ٥٨.

(٦) العنكبوت : ٤١.

(٧) المدّثر : ٤٢.

(٨) البقرة : ٢٠٠.

(٩) يونس : ٣١.

٤٤٢

قال في بعض كتبه : القرائة عندنا هي الإظهار ، لكراهتنا الإدغام إذا كان تركه ممكنا.

وجعل تركه في «النفلية أفضل ، وعلّله في «شرحه» بأنّ التفكيك أفصح ، وأكثر حروفا ، فيكثر معه ثواب القرائة ، ولأنّ فيه إيتاء كلّ حرف حقّه من إعرابه ، أو حركته الّتى يستحقّها ، والإدغام يلبس على كثير من النّاس وجه الإعراب ، ويوهم من المقصود من المعنى في قوله : (يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (١) (الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢).

وعلى كلّ حال فالأقرب عدم جواز القرائة به لاستلزامه تغيير كيفيّة الحروف بالإسكان ومادّته بالإبدال.

وأمّا ما في «الجواهر» من التوقّف في جوازه لو لا الإجماع المدّعى على القرائة بالسّبع أو العشر.

ففيه أنّ التوقف في موضعه ، والإجماع على فرض تسليمه إنّما هو في غير هذه الكيفيات الخارجة عن موادّ الكلمات.

فهو في الحقيقة تصرّف في الكلمات القرآنيّة بغير حجّة شرعيّة.

وأمّا ما في بعض كتب هذا الفنّ من الاستشهاد لهذا الإدغام ببعض أشعار العرب فمع الغضّ عن عدم ثبوت مثله لا ريب أنّه ربما دعتهم الضرورة فيه إلى تسكين المتحرّك وتحريك الساكن من غير الاقتصار في ذلك الى مواضع الإدغام ، ولذا يغتفر ما لا يغتفر في غيره ، بل قد اشتهر عندهم الاعتذار بضرورة الشعر ، وإن أجيب بأنّه لا ضرورة في الشعر.

__________________

(١) النمل : ٤٠ ـ لقمان : ١٢.

(٢) الحشر : ٢٤.

٤٤٣

وبالجملة فلا دليل على جوازه في المثلين ، مثل (الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (١) ، فضلا عن المتقاربين والمتجانسين نحو (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) (٢) (قَدْ سَمِعَ اللهُ) (٣) (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) (٤) (قَدْ جاءَكُمْ) (٥).

إذ فيها الإبدال ، مضافا الى ترك الإعراب والإدغام الذي هو تغيير في الهيئة.

فعدم الجواز في الأوّل من وجهين ، وفي الأخيرين من وجوه ثلاثة.

ولذا ، أو لكثرته سمّى كبيرا ، حسبما سمعت.

ثمّ إنّ الأمر في الأوّل واضح.

وقد ذكروا في ضبط الأخيرين : أنّ الحرفين إن اتفقا في المخرج واختلفا في الصفة أو بالعكس كانا متقاربين ، وإن اتفقا فيهما فمتجانسان ، أو اختلفا فيهما فمتباينان.

وعن الأكثر تعريف المتماثلين بالمتفقين في المخرج والصفة كاللامين والدالّين ، والمتجانسين بالمتفقين في المخرج دون الصفة ، كاللام والراء ، والمتقاربين بالمتفقين في أحدها ، أو خصوص الثاني ، والخطب عندنا سهل بعد عدم الاعتبار بالأصل.

__________________

(١) الفاتحة : ٣ ـ ٤.

(٢) البقرة : ٢٨٤.

(٣) المجادلة : ١.

(٤) يوسف : ٣٠.

(٥) آل عمران : ١٨٣.

٤٤٤

الفصل الثالث

في الوظائف الباطنية لقارئ القرآن

لا بدّ لقارئ القرآن من مراعاة الوظائف الباطنيّة وملازمتها ، والاستمرار عليها كما وجبت عليه رعاية الوظائف الظاهريّة الّتى مرّت الإشارة إليها ، حيث إنّ من الواضح أنّه ليس المقصود من التلاوة مجرّد التلفّظ بالكلمات والآيات ، ولو مع حفظ الحدود الظاهرة.

بل ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ربّ تال للقرآن والقرآن يلعنه» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله عند نزول بعض الآيات : «ويل لمن لاكها بين لحيتيه ولم يتدبّرها» (٢).

وفي «الكافي» و «الأمالى» و «الخصال» عن مولانا ابى جعفر عليه‌السلام قال : «قرّاء القرآن ثلاثة : رجل قرأ القرآن فاتّخذه بضاعة ، واستدرّ به الملوك واستطال به على النّاس.

ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه ، وضيّع حدوده ، وأقامه إقامة القدح ، فلا

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٩٢ ص ١٨٤ عن جامع الأخبار ص ٥٦.

(٢) مجمع البيان ج ٢ ص ٥٥٤ وفيه فويل لمن لاكها بين فكيّه ولم يتأمّل ما فيها.

٤٤٥

كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن.

ورجل قرأ القرآن ، فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله ، وأظمأ به نهاره ، وقام به في مساجده ، وتجافى به عن فراشه ، فبأولئك يدفع الله البلاء ، وبأولئك يديل الله من الأعداء ، وبأولئك ينزل الله الغيث من السماء ، فو الله لهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر (١).

وفي «الخصال» عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قرّاء القرآن ثلاثة : قارئ للقرآن ليستدرّ به الملوك ، ويستطيل به على النّاس ، فذلك من أهل النار.

وقارئ قرأ القرآن فحفظ حروفه ، وضيّع حدوده ، فذلك من أهل النار.

وقارئ قرأ القرآن فاستتر به تحت برنسه ، فهو يعمل بمحكمه ، ويؤمن بمتشابهه ، ويقيم فرائضه ، ويحلّ حلاله ، ويحرّم حرامه ، فهذا ممّن ينقذه الله تعالى من مضلّات الفتن ، وهو من أهل الجنّة ، ويشفع فيمن يشاء (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة الّتى ستسمع كثيرا منها إنشاء الله في الشروط والوظائف الباطنيّة.

منها : التخلّي عن الشواغل القالبية والقلبيّة ، قال مولانا الصادق عليه‌السلام على ما في «مصباح الشريعة» : «من قرأ القرآن ولم يخضع له ، ولم يرقّ قلبه ، ولم ينشئ حزنا ووجلا في سرّه فقد استهان بعظم شأن الله وخسر خسرانا مبينا ، فقارى القرآن يحتاج الى ثلاثة أشياء : قلب خاشع ، وبدن فارغ ، وموضع خال ، فاذا خشع لله قلبه فرّ عنه الشيطان الرجيم قال الله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ

__________________

(١) أصول الكافي ص ٦٠٥ ـ الأمالى ص ١٢٢ ـ الخصال ج ١ ص ٦٩.

(٢) الخصال ج ١ ص ٧٠.

٤٤٦

بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (١) وإذا تفرّغ نفسه من الأسباب تجرّد قلبه لقراءة القرآن ، فلا يعترضه عارض فيحرمه نور القرآن ، وإذا اتخذ مجلسا خاليا ، واعتزل عن الخلق بعد أن أتى بالخصلتين الأوليين استأذن روحه وسرّه بالله ، ووجد حلاوة مخاطبات الله تعالى عباده الصالحين ، وعلم لطفه بهم ، ومقام اختصاصه لهم بفنون كراماته ، وبدايع إشاراته ، فاذا شرب كأسا من هذا المشرب ، فحينئذ لا يختار على ذلك الحال حالا ، ولا على ذلك الوقت وقتا ، بل يؤثره على كلّ طاعة وعبادة ، لأنّ فيه المناجاة مع الربّ بلا واسطة ، فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك ، ومنشور ولايتك ، وكيف تجيب أوامره ونواهيه ، وكيف تمثّل حدوده ، فإنّه كتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فرتّله ترتيلا ، وقف عند وعده ووعيده ، وتفكّر في أمثاله ومواعظه ، واحذر أن تقع من إقامة حروفه في إضاعة حدود (٢).

اعلم أنّ المقصود الأصلى من الذكر ، والدعاء ، والتلاوة ، ونحوه إنّما هو التجنّب عن مهاوي الغفلة ، والجهالة ، والتخلّص عن فيافى بيداء الضلالة ، والتحقّق بحقيقة العبوديّة للحقّ المعبود ، والاستغراق في بحار الأنوار الشهود ، والتمكّن على بساط حريم حرم القدس ، واستشمام نفحات مواهب الأنس ، وكشف سبحات الجلال ، لإشراق أنوار تجليّات الجمال ، وذوق لذّة المناجاة الّتى هي لذائذ ثمار جنّات الوصال.

وهذا كلّه لا يحصل ما لم يحصل الطهارة الكليّة عن أرجاس الشواغل القلبيّة والبدنيّة ، فكما أنّ من ليس له الطهارة البدنية يحرم عليه مسّ ظاهر خطّ

__________________

(١) النحل : ٩٨.

(٢) مصباح الشريعة ، الباب الرابع عشر ـ المحجّة البيضاء ج ٢ ص ٢٤٩.

٤٤٧

المصحف بظاهر بدنه ، كذلك من ليس له الطهارة القلبيّة عن الأفكار الرديّة النفسانيّة ، والأخلاق الرذيلة الشيطانيّة محروم عن إدراك حقايق القرآن ، والصعود في مدارج مراتب الإيمان.

فالحرمة في الأول تشريعيّة ، وفي الثاني تكوينيّة ، كما أنّ الاستعاذة المندوب إليها عند القرائة قوليّة وفعليّة ، بل النافع منها هي الثانية.

كما لوّح إليه الإمام عليه‌السلام في قوله : «فاذا خشع لله قلبه فرّ منه الشّيطان الرجيم»

مستشهدا بالآية الشريفة.

بل ورد في النبوي : «لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بنى آدم لنظروا إلى الملكوت» (١).

ومن البيّن أنّ التدبّر في معاني القرآن وأسراره إنّما هو من الملكوت التي لا تدرك إلّا بالإدراكات القلبيّة الّتى هي من عالم النور ، فلا يدركها مدارك المحجوبين المنغسمين في غواسق عالم الغرور ، فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتى في الصدور.

ولذا جعل بالجعل التكويني الثانوى بمقتضى الفطرة المغيّرة الشيطانيّة بسوء اختيارهم في قلوبهم أكنّة أن يفقهوه ، وفي آذانهم وقرا ، (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (٢).

وهو الحجاب المشار إليه بقوله : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧٠ ص ٥٩ ح ٣٩ عن أسرار الصلاة.

(٢) فصلت : ٥.

٤٤٨

الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) (١).

وهذا الحجاب وهو حجاب الكفر أوّل الحجب وأعظمها ، وأشدّها على أهله ، وأبعدها من قبول الحقّ واستماع الصدق.

وثانى الحجب : حجاب الفسق والخروج عن الطاعة باقتراف كبيرة ، أو بالإصرار على صغيرة ، أو بالتخلّق بشيء من الأخلاق الرديّة المهلكة كالكبر ، والعجب ، والرياء ، وغيرها ممّا يجمعها متابعة الأهواء التي قد ورد أنّها الشرك الخفي.

بل في النبوي : «أبغض إله في الأرض الهوى».

وهذا كلّه مما يوجب ظلمة القلوب وكدورتها وزيفها ، وصداها ، كالمرآة الصافية إذا تراكمت عليها الغبار ، وحجبها عن إشراق الأنوار.

ولذا شرط الله تعالى الإنابة في الفهم والتذكّر ، قال تعالى : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (٢) وقال تعالى : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٣) وقال تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٤).

ومن البيّن أنّ الذي آثر غرور الدنيا العاجلة الفانية الداثرة على الفوز بالتقرّب إلى الله ، ونعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب ، ولذا يتراكم على مرآة قلبه أغطية القسورة والارتياب ، ولا ينكشف له أسرار الكتاب ، لأنّ بينه وبين

__________________

(١) الإسراء : ٤٥.

(٢) غافر : ١٣.

(٣) ق : ٨.

(٤) الرعد : ١٩ ـ الزمر : ٩.

٤٤٩

فهمها حجابا وأىّ حجاب ، بل ربما تورث ذلك للقلب الانطباع والانقلاب.

فقد ورد عن مولانا الباقر عليه‌السلام : «ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة ، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى يقلب عليه فيصير أعلاه أسفله» (١).

وقال الصادق عليه‌السلام : «يقول الله تعالى : إنّ أدنى ما أصنع بالعبد إذا أثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي».

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا عظّمت أمّتي الدينار والدرهم نزع عنها هيبة الإسلام ، وإذا تركوا الأمر بالمعروف حرموا بركة الوحي».

ثالثها : الإشتغال بالملاهي والعادات وفضول العيش بل التكسّب ، وغيرها من الأفعال المباحة الّتى توجب اشتغال القلب بها ، وصرفه عن غيرها إذ (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (٢) ، فمن اشتغل بشيء من المباحات ، بل المندوبات ، فضلا عن غيرها ، صرفت إليها همّته ، واجتمع له قلبه ، فمن أين يمكن له الإقبال وفراغ البال لفهم أسرار كلام ذي الجلال ، والاستيناس به في حريم حرم بساط الوصال.

ولذا قال الإمام عليه‌السلام في الخبر المتقدّم : «إنّه إذا تفرّغ نفسه من الأسباب تجرّد قلبه لقرائة القران» (٣).

بل شرط مع ذلك خلوّ المجلس ، والاعتزال عن الخلق في حال القرائة ، بل مطلقا ، فإنّ من يستكثر من معاشرة الخلق ومعاملتهم ومحادئتهم لا بدّ أن يقع

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧٠ ص ٥٤ ح ٢٢ عن الأمالي للصدوق ص ٢٣٩.

(٢) سورة الأحزاب : ٤.

(٣) مصباح الشريعة الباب الرابع عشر.

٤٥٠

بينه وبينهم علائق وارتباطات مختلفة متعلّقة بالأموال والأحوال ، والأفعال ، والأقوال ، فاذا خلى بنفسه ساعة ليستريح ، ترائت له تلك الارتباطات ، وحدثّت بها نفسه ، واشتغل بها قلبه ، وأقبل على التفكّر فيها إقبال المحبّ للمحبوب ، أو الكاره للمرهوب عنه ، لاشتمال تلك الخطرات على الأمور المطلوبة الّتى تسرّه ، أو الأفكار الرديّة الموحشة التي تسوؤه وتضرّه ، مضافا إلى مالا مخلص له عنه من التفكّر في تدبير المعاشرات المستأنفة ، وحفظ الارتباطات السّابقة في الأزمنة المستقبلة ، بل ربما يصل به الحال الى أن لا يملك البال ، بل لا يزال الخيال في تحوّل وانتقال من شيء الى شيء فينتقل معه القلب من حال الى حال.

ولذا قال مولانا الصادق عليه‌السلام : «إعراب القلوب على أربعة أنواع : رفع ، وفتح ، وخفض ، ووقف ، فرفع القلب في ذكر الله تعالى ، وفتح القلب في الرضا عن الله تعالى ، وخفض القلب في الاشتغال بغير الله ، ووقف القلب في الغفلة عن الله تعالى ، ألا ترى أنّ العبد إذا ذكر الله بالتعظيم خالصا ارتفع كلّ حجاب كان بينه وبين الله تعالى من قبل ذلك ، وإذا انقاد القلب لمورد قضاء الله بشرط الرضا عنه كيف ينفتح القلب بالسرور والراحة والروح ، وإذا اشتغل قلبه بشيء من أسباب الدنيا كيف تجده منخفضا مظلما كبيت خراب ليس فيه عمران ، ولا مؤنس ، وإذا غفل عن ذكر الله كيف تراه بعد ذلك موقوفا محجوبا قد قسى وأظلم منذ فارق نور التعظيم.

فعلامة الرّفع ثلاثة أشياء : وجود الموافقة ، وفقد المخالفة ، ودوام الشوق.

وعلامة الفتح ثلاثة أشياء : التوكّل ، والصدق ، واليقين.

وعلامة الخفض ثلاثة أشياء : العجب ، والرّياء ، والحرص.

وعلامة الوقف ثلاثة أشياء : زوال حلاوة الطاعة ، وعدم مرادة المعصية ،

٤٥١

والتباس علم الحلال بالحرام (١).

وقال عليه‌السلام : من رعى قلبه عن الغفلة ، ونفسه عن الشهوة وعقله عن الجهل فقد دخل في ديوان المتنبّهين ، ثم من رعى عمله عن الهوى ، ودينه عن البدعة ، وماله عن الحرام فهو في جملة الصالحين.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلم.

وهو علم الأنفس ، فيجب أن يكون نفس المؤمن على كل حال في شكر ، أو عذر ، على معنى إن قبل ففضل ، وإن ردّ فعدل ، وتطالع الحركات في الطاعات بالتوفيق ، ويطالع السكون عن المعاصي بالعصمة ، وقوام ذلك كلّه بالافتقار الى الله تعالى ، والاضطرار إليه ، والخشوع والخضوع ومفتاحها الإنابة الى الله تعالى ، مع قصر الأمل بدوام ذكر الموت ، وعيان الوقوف بين يدي الجبّار ، لأنّ في ذلك راحة من الحبس ، ونجاة من العدوّ وسلامة للنفس ، وسببا للإخلاص في الطّاعة بالتوفيق ، وأصل ذلك أن يردّ العمر الى يوم واحد.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الدّنيا ساعة فاجعلها طاعة».

وباب ذلك كلّه ملازمة الخلوة بمداومة الفكرة ، وسبب الخلوة القناعة ، وترك الفضول من المعاش ، وسبب الفكرة الفراغ ، وعماد الفراغ الزهد ، وتمام الزهد التقوى ، وباب التقوى الخشية ودليل الخشية التعظيم لله ، والتمسّك بخالص طاعته وأوامره ، والخوف والحذر مع الوقوف عن محارمه ، ودليلها العلم ، قال الله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢). (٣)

__________________

(١) مصباح الشريعة ص ٣.

(٢) فاطر : ٢٨.

(٣) مصباح الشريعة ص ٤.

٤٥٢

رابعها : حجاب الجهل بمعاني القرآن حتّى ترجمة ظاهر ألفاظه ، لأنّ الجاهل. بمعاني القرآن ، والصلاة ، والدعاء ، والأذكار ، وغيرها كالعجمى البحت الذي لا يعرف شيئا من ترجمة الألفاظ العربيّة التي ورد التوظيف بها ، أولا يعرف كثيرا من لغاتها بل ربما يلحن في موادّ ألفاظها وهيئتها ليس له من الفضل والثواب ما للعالم المطّلع على معانيها ومبانيها ، ووجوب ظاهرها. وتنزيلها ، كما أنّه ليس لهذا العالم من الأجر والثواب ما للعالم المطّلع بأنوار التنزيل ، وأسرار التأويل ، بل التفضيل بينهم على حسب مراتب العلم ودرجات المعرفة ، ولذا قال الله سبحانه : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (٤) وقال : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٥) ، وقال : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٦).

وعن أبى جعفر عليه‌السلام قال : ما استوى رجلان في حسب ودين قطّ إلّا كان أفضلهما عند الله عزوجل آدبهما ، قال : قلت : جعلت فداك قد علمت فضله عند النّاس في النادي والمجالس ، فما فضله عند الله عزوجل؟ قال عليه‌السلام : بقراءة القرآن كما أنزل ، ودعائه لله عزوجل من حيث لا يلحن ، وذلك أنّ الدعاء الملحون لا يصعد عند الله عزوجل (٧).

والأدب في الظاهر بمراعاة الحروف ، وإعراب الألفاظ ، وفي الباطن بحفظ الحدود ونور الاستيقاظ كما يومئ إليه أيضا قوله عليه‌السلام : «كما انزل».

__________________

(٤) المجادلة : ١١.

(٥) سورة يوسف : ٧٦.

(٦) الزمر : ٩.

(٧) عدّة الداعي ص ١٠.

٤٥٣

اعلم أنّه ربما يتوهّم أنّ الجاهل بمعاني القران ، والأذكار ، والأدعية ليس له أجر وثواب في ذلك ، وهو واضح الفساد ، بل مخالف لما هو الضروري من ثبوت الوظائف الشرعيّة الواجبة والمندوبة لعامّة المكلّفين ، وحصول الإجزاء بمجرّد امتثال الظواهر ، ولو في الصلاة والقرائة ، وعدم وجوب المعرفة بالمعاني والحقائق ، نعم يختلف مراتب العقول ، ودرجات الفضل والثواب باختلاف الناس في ذلك ولا كلام فيها.

خامسها : حجاب القرائة ، والاستقصاء في مراعاة تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها وحفظ صفاتها ، وهذا الحجاب كالحجب المتقدّمة من الحجب الظلمانيّة التي تمنع القلوب من مشاهدة أنوار الغيوب ، بل لا يزال الرجل معه مشتغلا بترديد الحروف وتكريرها ، مستغرق الهمّة في مراعاة صفاتها ، وآدابها الّتى ملأوا منها كتب التجويد والقرائة ، بل لو لم يكن إلّا مراعاة الصفات المتعددة المعدودة لكل حرف حرف لكفى به شغلا شاغلا عن التدبّر في معاني القرآن ، والتفكر في حقائقه وقد يقال : إنّه قد وكّل بذلك شيطان يصرف الناس عن فهم معاني كلام الله تعالى ، ولا يزال يحملهم على ترديد الحروف يخيّل إليهم أنّه لم يخرج من مخرجه ، حتى يكون تأمّله مقصورا على مخارج الحروف فهو أعظم أضحوكة للشيطان ، وأبعد عمّا يراد به من التدبر في القرآن.

وربّما ينضمّ الى ذلك الميل الى التغنّي وترجيع الصوت به ، والتردّد في صنوف الألحان.

بل يلحقهما أمر ثالث وهو ملاحظة الإعراب والبناء ، ووجوه القراءات.

ولذا ورد في الخبر : «من انهمك في طلب النحو سلب الخشوع».

وكلّ من هذه الثلاثة حجاب قويّ لمن ابتلي بها ، إلّا ما كان منها صادرا

٤٥٤

على وجه الملكة ، بحيث لا حاجة معها إلى التفات جديد أصلا ، فضلا عن التكلّف والتشدّق الذي لا ينفكّ عنه غالبا أرباب هذه الصناعة ، ولله درّ من قال :

وآخر منهم بالقراءات قد بلي

يغنّى بقول الشاطبي وحمزة

يلوّي بها شدقيه عند إمالة

كأنّ بها من ميلها ريح لقوة

سادسها : حجاب العلم بمعنى العقائد التي استمرّ عليها أكثر الناس بالتعلّم من المحجوبين ، وتقليد الآباء وأهل الضلال ، والرجوع الى تفاسير العامّة وبياناتهم ، وتأويلهم المتشابهات على مقتضى آرائهم وأهوائهم الباطلة.

ثمّ إنّ هذه العقائد الباطلة ربما تصير راسخة في النفس بحيث لا يكاد يلتفت معها الى غيرها ، وقد تكون مسموعة متردّدة في الذهن بحيث يمنعه الالتفات إليها عن التوجّه إلى غيرها ، أو الشوق الى تحصيله ، بل ربّما يكون العلم ببعض الظواهر حجابا عن الالتفات إلى الحقائق والبواطن ، وإن كان كلّ منهما حقّا وصدقا بالنسبة الى رتبته ومقامه ، فلا ينبغي الجمود على شيء من الظواهر ، وإن كان حقّا منطبقا على القواعد العربيّة ، لأنّه يؤدّى الى جحود الحقائق ، والبواطن المقصودة.

ولا تظنّن أنّ الغرض من هذا الكلام تسهيل الأمر وجواز التصرف في الآيات القرآنيّة بحسب الأهواء الباطلة والآراء الزائفة ، إذ المقصود ترك الجمود ، ومجانبة اللجاج والجحود ، وعدم الاقتصار على خصوص الظواهر المشهورة ، أو بعض البواطن المأثورة ، فإنّي أرى كثيرا من أهل هذا الزمان قد هجروا القرآن ، ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا. فبئس ما يشترون ، فاذا احتاجوا الى تفسير آية رجعوا الى ظواهر اللّغة العربيّة والتفاسير العاميّة ، بل ربما تصرّفوا في معناها بقريحتهم البتراء ، وبصيرتهم العمياء ، من غير رجوع إلى

٤٥٥

أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ، ولا استضاءة من أنوار أهل العصمة ، بل يردّونها بعد الاطّلاع عليها ، معلّلين بمخالفة الظاهر.

وقد يرد عليهم في تفسير آية واحدة أخبار يظنّون اختلافها ، فيعملون فيها قواعد الترجيح مع أنّه لا بأس بالجمع بينهما بحملها على وجوه التنزيل والتأويل.

وبالجملة قد أشرنا سابقا الى الميزان الكلّى في هذا الباب ، وأنّه يلزم في جميع ذلك الرجوع الى الأئمّة الّذين هم الحجّاب والأبواب مع ملازمة التقوى ، ودوام الانقطاع ، والأنس التامّ بأصولهم وقواعدهم ، والاطّلاع على أخبارهم وآثارهم ، والاقتباس من أشعّة أنوارهم ، إلى غير ذلك ممّا مرّت الإشارة إليه.

ومن الوظائف الباطنية : حسن النيّة والإخلاص في القرائة ، فإنّها من العبادات والطاعات المندوب إليها ، وصحّتها إنّما تكون بقصد التقرّب ، وتجريد العمل من كلّ شوب ، وحظّ نفساني ، أو دنيوي ، والنيّة روح الأعمال ، والعمل بلا نيّة كالجسد الملقى بلا روح ، بل ينبغي للبصير قصد العبوديّة ، وتخليص النيّة في كل حركة وسكون حتّى في الأمور العادية والحظوظ البدنيّة ، كى تكون عاداته عبادات ، ويتّصف بسلامة القلب.

قال مولانا الصادق عليه‌السلام : «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم».

لأنّ سلامة القلب من هواجس المحذورات ، فخلّص النيّة لله في الأمور كلّها قال الله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (١). (٢)

__________________

(١) الشعراء : ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) مصباح الشريعة ص ٤.

٤٥٦

بل ينبغي له أن يقصد في كلّ شيء من الطاعات جميع الغايات المترتبة عليها ، «فإنّما لكلّ امرئ ما نوى ، وإنّما الأعمال بالنيّات» (١) وإن اختلفت غايات الأفعال باختلاف المراتب والأحوال على اشتراك الجميع في الارتباط الى الحضرة القدسيّة.

كما يؤمي اليه العلويّ : «ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنّتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» (٢).

والجعفري : «العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله تعالى خوفا ، فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله عزوجل طلبا للثواب ، فتلك عبادة الأجراء ، وقوم عبدوا الله حبّا له فتلك عبادة الأحرار» (٣).

بل يستفاد منه ومن غيره من الآيات والأخبار جواز كون الباعث طلب الثواب أو المرضاة ، أو الخوف ، أو التعظيم ، أو الحياء ، أو الحبّ أو الغفران ، أو الأهليّة ، أو التقرّب ، أو الأنس ، أو المناجاة ، أو غير ذلك من المقاصد الكثيرة ، وربما تسمع في ضمن الآيات البحث عنها ، وعن قول من توهّم منافاة قصد الخوف والطمع للتقرّب ، وعن سائر مباحث النيّة وبطلانها بالرّياء والعجب مقارنا ولا حقا كبطلانه في المقام بالتغنّى ، وقصد اللهو وغيرهما.

بل يجب في المقام قصد التعيين أيضا لو وجبت بنذر ، أو إجارة ، أو شرط في ضمن عقد ، أو إمهار ، أو غيرها.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧٠ ص ٢١١.

(٢) بحار الأنوار ج ٧٠ ص ١٩٧.

(٣) بحار الأنوار ج ٧٠ ص ٢٠٥ عن الأمالي للصدوق مع تفاوت في الألفاظ.

٤٥٧

وقد ظهر من جميع ما مرّ اعتبار قصد اللّفظ فيها ، وفي سائر ، العبادات القوليّة من الدعاء ، والزيارة ، والذكر ، وغيرها.

نعم ، هل يعتبر فيها قصد الدّلالة والمدلول أم لا؟ وجهان قوّى أوّلهما كاشف الغطاء ، وفيه خفاء ، إذ لا يعتبر فيهما العلم بهما فضلا عن قصدهما تفصيلا أو إجمالا.

نعم لا يبعد مانعية قصد العدم ، بل معه يمكن التأمّل في صدق الموضوع ، وأمّا مجرّد عدم قصد المعنى فلا يقدح في الصدق ، بل التوظيف ولذا قال رحمه‌الله في موضع آخر : إنّ كلّا من القراءة ، والذكر والدعاء لا يخلو من ثلاثة أحوال : لفظ مجرّد عن المعنى ، ومعنى مجرّد من اللّفظ ، مقرون بالكلام النفسي ، وجامع للأمرين ، والجميع مستحبّ لكنّها مرتّبة ، فالمتقدّم فيها مفضول بالنسبة الى المتأخّر ، وان كان يمكن الجمع بين الكلامين بظهور الفرق بين قصد المعنى ولو اجمالا ، وبين فهمه كما لا يخفى.

ومن الوظائف أيضا : استشعار عظمة المتكلّم والكلام ، ومقام التلاوة ، فينبغي للقارىء إذا أراد الشروع في التلاوة أن يحضر في قلبه شيئا من عظمة الخالق الحكيم ، والقادر العليم ، والعلي العظيم الّذي عجزت العقول عن إدراك شيء من عظمته وجلاله ، وانحسرت البصائر والأبصار دون النظر الى سبحات وجهه ونور جماله ، الطريق مسدود ، والطلب مردود ، دليله آياته ، وآياته مرآقه.

وشيئا من عظمة الكلام ، فإنّه النور السّاطع ، والضياء اللّامع ، والشفاء النافع ، والقول الجامع ، والسحاب الهامع ، وهو ربيع القلوب ومفتاح الغيوب ، فيه منار الهدى ، ومصابيح الدجى ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، قد نزّله روح القدس من ربّ العالمين على قلب سيّد المرسلين ،

٤٥٨

ليبشّر به المؤمنين ، وينذر به المنافقين ، بعد أن كان مجرّدا في عالم الأنوار ، مصونا عن مسّ الأغيار مرفوعا عن عالم الأكدار ، فنزّله عن عرش جلاله إلى درجة أفهام خلقه ، مكسؤا بكسوة الألفاظ والعبارات ، مملوّا بحار معانيها من كنوز الحقائق ، ورموز الإشارات ، حسبما مرّ تفصيل الكلام في حقيقته وكيفيّة نزوله في الأبواب المتقدّمة.

وشيئا من عظمة مقام التلاوة ، فإنّه مقام وعر صعب ، عزيز المنال ، خارج عن إحاطة البيان والمقال ، لأنّ العبد يجد فيه روح الاستيناس والوصال ، ويذوق فيه حلاوة مخاطبات ذي الجلال.

ولذا قال الإمام في ضمن الخبر المقدّم ذكره : «فاذا شرب كأسا من هذا المشرب فحينئذ لا يختار على ذلك الحال حالا ، ولا على ذلك الوقت وقتا ، بل يؤثره على كلّ طاعة وعبادة ، لأنّ فيه المناجاة مع الربّ بلا واسطة ... الخبر (١).

وفي «مجمع البيان» : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من قرأ القرآن فظنّ أنّ أحدا أعطي أفضل ممّا أعطي ، فقد حقّر ما عظمّ الله ، وعظمّ ما حقّر الله (٢).

وفي تفسير مولانا العسكري عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «حملة القرآن هم المخصوصون برحمة الله ، المقرّبون عند الله ، من والاهم فقد والى الله ، ومن عاداهم فقد عادى الله ، يدفع الله عن مستمع القرآن بلوى الدّنيا ، وعن قارئه بلوى الآخرة ، والّذى نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده لسامع آية من كتاب الله وهو معتقد ... الى أن قال : أعظم أجرا من ثبير ذهبا يتصدّق به ، ولقارئ آية من كتاب الله معتقدا

__________________

(١) الحجّة البيضاء ج ٢ ص ٢٤٩ عن مصباح الشريعة.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ١٦.

٤٥٩

أفضل ممّا دون العرش إلى أسفل التخوم (١).

الى غير ذلك ممّا مر من الأخبار المتقدّمة الدالّة على شرف القرآن وحملته.

ثمّ إنّ استشعار العظمة ربما يحمل صاحبه على تحمّل المشاقّ العظيمة والأخطار الجسمية ، بل ربما لا يشعر بها أصلا.

ففي «البحار» عن بعض تواريخ أسفار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه قصد قوما من أهل الكتاب قبل دخولهم في الذمّة ، فظفر منهم بامرأة قريبة من زوجها ، وعاد من سفره ، وبات في طريقه ، وأشار الى عمّار وعبّاد بن بشر أن يحرساه ، فاقتسما الليلة قسمين ، وكان لعبّاد بن بشر النصف الأوّل ، ولعمّار بن ياسر النصف الثاني ، فنام عمّار ، وقام عبّاد يصلّي وقد تبعهم اليهودي يطلب امرأته أو يغتنم ، فنظر الى عبّاد بن بشر يصلّي في موضع العبور فلم يعلم في ظلام الليل هل هو شجرة أو دابّة ، أو إنسان ، فرماه بسهم فأثبته فيه فلم يقطع الصلاة ، فرماه بآخر ، فخفّف الصلاة وأيقظ عمّار ، فرأى عمّار السّهام في جسد عبّاد فعاتبه وقال : هلّا أيقظتنى في أوّل سهم؟ فقال : كنت بدأت بسورة الكهف فكرهت أن أقطعها ، ولو لا خوف أن يأتى على نفسي ويصل الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأكون قد ضيّعت ثغرا من ثغور المسلمين لما خفّفت صلاتي ولو أتى على نفسي ... فدّع العدوّ عما أراده» (٢).

وفي تفسير الإمام عليه‌السلام : خبر صلاة أبى ذرّ الغفاري واستشعاره عظمة الربّ فيها ، وتوكيل الله تعالى أسدا لحفظ قطيعة غنمه (٣) على ما يأتى إنشاء الله تعالى

__________________

(١) تفسير الإمام عليه‌السلام ص ٤ ـ بحار الأنوار ج ـ ٩٢ ص ١٨٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٢ ص ١١٦ عن الأمان من اخطار الأسفار والأزمان ص ١٢٢.

(٣) بحار الأنوار ج ٢٢ ص ٣٩٣ عن تفسير الامام عليه‌السلام ص ٢٦.

٤٦٠