تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

بطنا ، وللبطن بطن ، وظهرا ، وللظهر ظهر (١).

بل ورد إن القرآن غضّ طريّ لا يبلى أبدا ، وإنه وإن نزل في قوم إلّا أنّه جار في أقوام آخرين الى يوم القيامة (٢) وهذا الجريان هو أحد إطلاقات التأويل المقابل للتنزيل ، ويقال له الباطن أيضا.

ففي «تفسير العيّاشي» عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ظهر القرآن الذين نزل فيهم ، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم (٣).

وبإسناده عن الفضيل بن يسار ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الرواية : ما في القرآن إلّا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف إلّا وله حد ، ولكلّ حد مطلع (٤) ، ما يعني بقوله لها ظهر وبطن؟ قال عليه‌السلام : ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله ، منه ما مضى ، ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما يجري الشمس والقمر كلما جاء منه شيء وقع قال الله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٥) ونحن نعلمه. (٦)

__________________

(١) المحاسن ص ٣٠٠ والرسائل ج ١٨ ص ١٤٢ : يا جابر إنّ للقرآن بطنا وله ظهر ، وللظهر ظهر إلخ.

(٢) بحار الأنوار ج ١٩ ص ٥ ط. القديم : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلّا غضاضة؟ فقال عليه‌السلام : لأن الله لم يجعله لزمان دون زمان فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة.

(٣) بحار الأنوار ج ١٩ ص ٢٢ ط. القديم باب أن للقرآن ظهرا أو بطنا ـ مع تفاوت يسير.

(٤) قال الفيض في الصافي في المقدمة الرابعة بعد ذكر الحديث : أقول : المطّلع : (بتشديد الطاء المهملة وفتح اللام) مكان الاطّلاع من موضع عال ، ويجوز أن يكون بوزن مصعد بفتح الميم ومعناه أي مصعد يصعد إليه من معرفة علمه ، ومحصّل معناه قريب من معنى التأويل والبطن ، كما أنّ الحدّ قريب من معنى التنزيل والظهر. ـ تفسير الصافي ج ١ / ١٨ طبع الاسلامية بطهران.

(٥) آل عمران : ٧.

(٦) تفسير العياشي ج ١ ص ١١ ط. الإسلامية بطهران.

٤١
٤٢

الفصل الثاني

في حدود حروف القرآن ومطالعها وتخومها

قد تظافرت الروايات على أنّ لكل آية بل لكل حرف من حروف القرآن حدّا ومطلعا ، وأنّ له تخوما ولتخومه تخوما ، وقد مرّ خبر العياشي وغيره في اشتماله على الحدّ ، والمطلع ، والظهر والبطن.

وفي «الكافي» و «تفسير العياشي» : إنّ القرآن له ظهر وبطن ، فظاهره حكم ، وباطنه علم ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له تخوم ، وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه (١).

وفي «المحاسن» عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ للقرآن ظاهرا وباطنا ومعاني ، وناسخا ، ومنسوخا ، ومحكما ، ومتشابها ، وسننا ، وأمثالا ، وفصلا ، ووصلا ، وأحرفا ، وتصريفا ، فمن زعم أن الكتاب مبهم فقد هلك وأهلك (٢).

قيل : المراد أنّه ليس بمبهم على كل حدّ ، بل يعلمه الإمام ومن علّمه إياه من قبل.

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ٣ ط. الإسلامية بطهران.

(٢) المحاسن ص ٢٧٠ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٤١ أبواب صفات القاضي.

٤٣

ومن طريق العامّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا (١).

وعنه عليه‌السلام : إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع (٢).

وفي رواية : ولكل حرف حد ومطلع (٣) وعنه عليه‌السلام : إنّ للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطن الى سبعة أبطن (٤).

وعن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : ما من آية إلّا ولها أربعة معان ظاهر ، وباطن ، وحد ومطلع ، فالظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحد هو أحكام الحلال والحرام ، والمطّلع هو مراد الله من العبد بها (٥).

أقول : في النهاية الأثيرية : إنّ في الخبر في ذكر القرآن لكل حرف حدّ ، ولكل حد مطلع ، أي لكل حرف مصعد يصعد اليه من معرفة علمه ، والمطلع مكان الاطلاع من موضع عال يقال مطلع هذا الجبل من مكان كذا أي مأتاه ومصعده. وقيل : معناه أنّ لكل حدّ منهتكا ينتهكه مرتكبه ، أي إنّ الله لم يحرّم حرمة إلّا علم أن سيطلعها مستطلع. ويجوز أن يكون لكل حرف مطلع على وزن مصعد ومعناه. ومنه حديث عمر : لو أنّ لي ما في الأرض جميعا لافتديت به هول المطلع يريد به الموقف يوم القيامة ، أو ما يشرف عليه من أمر الآخرة عقيب الموت فشبهه بالمطلع الذي يشرف عليه من موضع عال.

وفي القاموس : المطّلع للمفعول : المأتي وموضع الاطّلاع من إشراف الى انحدار ، وقول عمر : لافتديت به من هول المطلع ، تشبيه لما يشرف عليه من أمر الآخرة بذلك ، وفي الحديث ما نزل من القرآن آية إلّا لها ظهر وبطن ، ولكل حرف

__________________

(١) تفسير الصافي ج ١ ص ١٨ ط. الإسلامية بطهران.

(٢) تفسير الصافي ج ١ ص ١٨ ط. الإسلامية بطهران.

(٣) تفسير الصافي ج ١ ص ١٨ ط. الإسلامية بطهران.

(٤) تفسير الصافي ج ١ ص ١٨ ط. الإسلامية بطهران.

(٥) تفسير الصافي ج ١ ص ١٨ ط. الإسلامية بطهران.

٤٤

حد ولكل حدّ مطلع أي مصعد يصعد اليه من معرفة علمه ، وبكسر اللام القوى العالي القاهر (١)

قلت : الوجه الأول المذكور في «النهاية» كأنّه بالفتح والتشديد كالأول من القاموس أيضا ، والوجه الثاني المستفاد من الأول التخفيف ، والثالث المستفاد من الثاني الكسر والتشديد ، ومعناه على فرض احتماله في المقام أنّ لكل حد من الحدود الشرعية وليّا قويّا قاهرا يقوم بإقامته على مستحقه.

ثمّ إنّه قد فسّر الحد في العلوي المتقدم بأحكام الحلال والحرام ، والمطلع بمراد الله تعالى من العبد بها أي بتلك الأحكام أو بتلك الآية ، ولعل الثاني أظهر ، والمراد بقوله لكل آية حدّ اشتماله على حكم من الأحكام الشرعية الفرعية من الحلال والحرام وإن كانت الآية بحسب الظاهر من القصص والمواعظ وغيرها مما لا يستفاد لنا منها شيء من الأحكام ، أو أنّ لها حكما من حيث التحقق والتخلّق والاتّصاف ، أو القبول والتصديق أو غير ذلك ، والأول أنسب ، ومعه فالمراد بالمطلع المفسر في الخبر إنما هو التحقق والتخلق وتحصيل الملكات الفاضلة المطلوبة التي هي مراد الله من العبد بتلك الخطابات والأحكام ، ويحتمل أيضا أن يكون الظاهر والباطن للآية من حيث نفسها بأن يراد بهما النوع وإن انتهى أحدهما أو كلاهما الى السبعين أو أكثر ، والحدّ والمطلع لها بالنسبة الى تكاليف المكلّفين ، وأحكامهم وحدود استعدادهم وقابليّاتهم المقتضية لاختلاف أحكامهم ولو باختلاف في شرائط التكليف من العلم والقدرة وغيرهما مما يرجع الى اختلاف الموضوع ، فلكل آية لكل واحد من آحاد المكلفين حدّ هو حكمه ، وإن اشتركت ألوف منهم في حكم واحد لكونهم من مصاديق موضوع واحد ، ولها

__________________

(١) تاج العروس في شرح القاموس تأليف الزبيدي ج ٥ ص ٤٤٢.

٤٥

مطلع وهو التحقق بذلك الحكم من حيث الامتثال والقبول ، ولاختلاف أحكام المكلّفين حينئذ حسبما سمعت ورد أن لكلّ حدّ مطلعا كما في بعض الأخبار المتقدمة.

وأن يراد بالظهر تنزيل الآية وبالبطن تأويلها الذي جرت الآية فيه بعد وقوعه حسبما مرّت إليهما الإشارة ، وبالحد حدود الاستقامة التي ينفتح منها أبواب البواطن ، بحيث يحصل من الانحراف فيها اعوجاج النظر وسوء الفهم وعدم الوصول الى المطلوب ، وبالمطلع الإشراف والاطلاع على تلك البواطن والحقائق المقصودة والإحاطة بها علما أو التحقّق بها عملا.

وأمّا ما في «الصافي» من أنّ محصّل معنى المطلع قريب من معنى التأويل والبطن كما أنّ معنى الحد قريب من معنى التنزيل والظهر ، فلعله بعيد جدّا سيما بعد المقابلة في النبوي والعلوي المتقدمين ، بل واختلاف التفسير في الثاني.

وأغرب منه ما حكاه في الحاشية من بعض أهل المعرفة بعد النبوي المتقدم المشتمل على نزول القرآن على سبعة أحرف إلخ .. من أنّ الوجه في انحصار الأحرف في السبعة أنّ لكل من الظهر والبطن طرفين فذاك حدود أربعة ، وليس لحد الظهر الذي من تحته مطلع ، لأنّ المطلع لا يكون إلّا من فوق فالحد أربعة والمطلع ثلاثة والمجموع سبعة (١).

قلت : وهو كما ترى.

وأمّا ما يقال : من أن الحدّ الحكم ، والمطلع ما يتوسّل به اليه أي دليله ، أو

__________________

(١) تفسير الصافي المقدمة الرابعة ج ١ ص ١٨ ط. الإسلامية طهران.

٤٦

أنّ الحدّ الثواب والعقاب ، والمطلع الاطلاع عليهما في الآخرة فلا يخفى ضعفه.

نعم قد يقال : أنّ المراد بالظهر ما ظهر من المعنى الجلي المنكشف ، وبالبطن ما بطن ولم يظهر على غير من نوّر الله قلبه بنور المعرفة ، وبالحدّ طرفا الظهر والبطن وبالمطلع يصعد به اليه ، فمطلع الظاهر العلوم العربية وأسباب النزول الخاص والعام والناسخ والمنسوخ وأمثال ذلك ، ومطلع الباطن تطهير النفس عن أدناس دار الغرور ، وترقيها بملازمة الطاعات والرياضات الى عالم النّور.

٤٧
٤٨

الفصل الثالث

في المحكم والمتشابه

اعلم أنّ الكتاب الكريم وإن اتصّف كلّه بل كلّ آية منه بكونه محكما أي محفوظا من الغلط ، وفساد المعنى ، وركاكة اللفظ كما في قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١) أو المعنى ضمنت الحكمة المطلقة التي هي مطابقة التدوين للتكوين.

وبكونه متشابها لأنه يشبه بعضه بعضا في جزالة اللفظ ، وفصاحته ، وصحة المعنى ، وتصديق بعضه بعضا كما في قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) (٢) أي متماثلا فيما مرّو غيره بلا اختلاف ولا تناقض ، (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٣). إلّا أنّه من حيث وضوح الدلالة وخفائها بحسب أفهام أغلب الأنام ينقسم الى محكم ومتشابه كما أشير اليه في قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (٤) ، وفي أخبار مستفيضة بل متواترة تأتي الى بعضها الإشارة. وهما

__________________

(١) هود : ١.

(٢) الزمر : ٢٣.

(٣) النساء : ٨٢.

(٤) آل عمران : ٧.

٤٩

مأخوذان من الإحكام الذي هو الإتقان ، والتشابه الذي هو تماثل المراد بغيره ، فيحصل الاشتباه فيه ، وإن اختلفوا في المراد بهما : فقيل : إنّ المحكم ما اتضّح معناه وظهرت دلالته لكل عارف باللغة ، والمتشابه ما لا يعلم المراد به إلّا بقرينة تدل عليه ، فاللغات الغامضة لا توجب التشابه ، والمجازات كلها منه على وجه وإن كان يمكن أن يفرق بين القرائن ، حيث أن القرائن المتصلة سيما اللفظية منها لا تشابه معها أصلا.

وقيل : إنّ المحكم هو الناسخ أو ما لم ينسخ أو ما لم يخصّص ولم يقيّد أيضا ، والمتشابه هو المنسوخ أو ما يشمل المخصّص والمقيّد.

وقيل : إنّ المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجها واحدا ، والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا.

وقيل : إنّ المحكم ما لم يتكرر ألفاظه ، والمتشابه هو المتكرر كقصة موسى وغيره.

وقيل : إنّ المحكم ما يعلم تعيين تأويله ، والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله كقيام الساعة.

الى غير ذلك من الأقوال التي لا شاهد لها ولو من جهة ظهور اللفظ ، وانسباق المعنى منه ، ولذا وقع الاختلاف في تعيين معناه حتى من أهل اللغة وإن كان اختلافهم ليس على محض اللغة بل باعتبار استيفاء الأقوال بعد وقوع الخلاف ، ولذا اكتفى في «الصحاح» و «المصباح» على تفسير المتشابهات بالمتماثلات ، وقال في «القاموس» : سورة محكمة غير منسوخة والآيات المحكمات : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) (١) الى آخر السورة ، أو التي

__________________

(١) الأنعام : ١٥١ ـ ١٥٣.

٥٠

أحكمت فلا يحتاج سامعها الى تأويلها لبيانها كأقاصيص الأنبياء (١).

أقول : ولعل قوله : الى آخر السورة توهّم منه ، بل الأولى الآيات الثلاثة كما حكاه الرازي عن ابن عباس (٢) ولعله أراد الإشارة اليه مع اشتمال ما بعدها من الآيات على ما هو من المتشابه قطعا كقوله : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) (٣) وغيره.

وفي «النهاية» الأثيرية في حديث صفة القرآن هو الذكر الحكيم : أي الحاكم لكم وعليكم ، وهو المحكم الذي لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، فعيل بمعنى المفعول فهو محكم ، ومنه حديث ابن عباس : قرأت المحكم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يريد المفصّل من القرآن لأنه لم ينسخ منه شيء ، وقيل : هو ما لم يكن متشابها لأنه أحكم بيانه بنفسه ولم يفتقر الى غيره (٤).

وقال في شبه : في صفة القرآن آمنوا بمتشابهه ، واعملوا بمحكمه المتشابه ما لا يتعلق معناه من لفظه ، وهو على ضربين : أحدها إذا ردّ الى المحكم عرف معناه ، والآخر ما لا سبيل الى معرفة حقيقته ، فالمتتبع له متبع للفتنة ، لأنّه لا يكاد ينتهي الى شيء تسكن نفسه اليه.

أقول : وهذه الأقوال وإن اختلفت بحسب الظاهر حتى عدّها بعضهم اختلافا في المعنى المقصود ، وآخرون من تكثّر المعاني بل قد يظهر ذلك أيضا من الطريحي في مجمعة حيث فسّر المحكم في اللغة بالمضبوط المتفق. قال :

__________________

(١) تاج العروس في شرح القاموس تأليف محمد مرتضى الزبيدي ج ٨ ص ٢٥٣.

(٢) قال فخر الدين الرازي في تفسيره ج ٧ ص ١٧٠ : المسألة الثالثة في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأوّل ما نقل عن ابن عباس أنه قال : المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام (قل تعالوا) الى آخر الآيات الثلاث.

(٣) الأنعام : ١٥٨.

(٤) مجمع البحرين كتاب الميم باب أوله الحاء ـ مادة حكم ـ ص ٤٦٨.

٥١

وفي الاصطلاح على ما ذكره بعض المحققين يطلق على ما اتضح معناه وظهر لكلّ عارف باللغة ، وعلى ما كان محفوظا من النسخ أو التخصيص ، أو منهما معا ، وعلى ما كان نظمه مستقيما خاليا عن الخلل ، وعلى ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجها واحدا ، ويقابله بكلّ من هذه المعاني المتشابه انتهى (١).

إلّا أنّها لعلّها ناشئة عن الاختلاف في التعبير عن بعض المصاديق بأن يكون المحكم ما اتّضح وظهر دلالته على المعنى المقصود من المخاطبين ، والمتشابه ما لم يتضح دلالته ، للإبهام ، أو الاشتراك ، أو كون المفاد منه متعذر الإرادة ، لمخالفته لما ثبت بالعقل أو النقل القاطع به كالآيات الدالّة على ثبوت الجوارح والجهات لله سبحانه ، وثبوت الإضلال والجبر منه تعالى ، وغيرها مما ثبت خلافه بالضرورة من الدين إذا لم تقم هناك قرينة على تعيين شيء مما يخالف الظاهر ، أو اتضّحت دلالته لكن المعنى ليس مقصودا من المخاطبين لطروّ النسخ أو التخصيص والتقييد على وجه وإن كان الأظهر خلافه ، كما أنّ اختلاف المكلّفين من حيث الشروط والموانع الراجعة الى الموضوع أو الحكم لا مدخلية له في صيرورة الدلالة متشابهة. ولعلّك بما سمعت أمكن لك الجمع بين تلك الأقوال المختلفة إلّا ما شذ منها بالحمل على ذكر بعض المصاديق بل بين الأخبار التي ربما يتراءى منها الاختلاف.

ففي تفسير العيّاشي بالإسناد عن مسعدة بن صدقة (٢) : قال سئلت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، قال عليه‌السلام : الناسخ الثابت المعمول به ، والمنسوخ ما قد يعمل به ثم جاء ما نسخه ، والمتشابه ما اشتبه على جاهة (٣) قال وفي رواية : الناسخ الثابت ، والمنسوخ ما مضى ، والمحكم ما يعمل

__________________

(١) مجمع البحرين كتاب الميم باب من أوله الحاء ـ مادة حكم ـ ص ٤٦٨.

(٢) مسعدة بن صدقة عامي ، ولكن رواياته في غاية المتانة والسداد ، روى عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام.

(٣) تفسير العيّاشي ج ١ ص ١١ ، بحار الأنوار ج ١٩ ص ٩٤.

٥٢

به ، والمتشابه الذي يشبه بعضه بعضا (١) ففي قوله : ما يعمل به ، دلالة على ما سمعت حيث إنّ العمل إنّما يكون بعد ظهور الدلالة وبقاء الحكم ، وبانتفاء كلّ منهما يكون من المتشابه ، ولا يقدح فيه اقتصاره في الخبر على الأوّل كما لا يقدح في الاقتصار في غيره على الثاني.

ولذا عبّر عنه بمن المفيدة للتبعيض فيما رواه في «الكافي» عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ أناسا تكلّموا في القرآن بغير علم ، وذلك أنّ الله تعالى يقول : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) (٢) الآية ، الى أن قال : فالمنسوخات من المتشابهات ، والناسخات من المحكمات (٣).

والى ذلك ينظر ما في الخبر الآخر : والمحكم ليس بشيئين إنما هو شيء واحد فمن حكم بحكم ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم الله عزوجل ، ومن حكم بحكم فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت (٤) وفي توحيد الصدوق وتفسير العياشي عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : المحكم ما يعمل به ، والمتشابه ما اشتبه على جاهة (٥).

الى غير ذلك من الأخبار المنطبقة على ما سمعت ، نعم هل الإحكام والتشابه من الصفات الذاتية أو الدلالة للآية أو اللفظ أو الدلالة ، أو الإضافية بالنسبة الى أفهام المخاطبين فيختلف الوصف باختلاف أفهامهم وادراكاتهم ودرجاتهم ، فيكون المحكم لشخص أو في زمان متشابها لغيره أو زمان آخر

__________________

(١) تفسير العيّاشي ج ١ ص ١٠ ، بحار الأنوار ج ١٩ ص ٣٠.

(٢) آل عمران : ٧.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٢٨ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٣٤.

(٤) الكافي ج ١ ص ٢٤٢ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٣١.

(٥) تفسير العيّاشي ج ١ ص ١١ ، بحار الأنوار ج ١٩ ص ٩٤.

٥٣

وبالعكس ، وجهان يحتمل الأول ، لظاهر قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (١) الظاهر في انقسام آياته الى القسمين بالنظر إليها قطع النظر عن الاعتبارات الخارجة ولظواهر الأخبار المتقدمة حسب التقريب المتقدّم مع أنّ في كثير منها بل في ظاهر الآية توصيفها بالوصفين المتغايرين المتمانعين في الصدق سيما صفتي الناسخة والمنسوخة. ويحتمل الثاني لإناطة الفرق على الفهم المختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة ، ولو بمعونة العلم بالقرائن المتصلة الحالية أو المقالية أو المنفصلة المشتملة على بيان المجمل وتخصيص العام وتقييد المطلق وغيره مع أنّ التأويل كلّه من المتشابه وما من آية إلّا ولها تأويل.

بل ورد في الخبر أنّه ما من آية إلّا ولها ظاهر وباطن وحدّ ومطلع (٢) ، وقد مرّ أن البطون كلها من التأويل فلكل آية معنى متشابه وإن كانت من المحكمات بناء على أن مغايرة الوصفين إنما هي بالاعتبار ، فلا تمانع في الصدق بل يمكن تنزيل التقسيم من الآية وغيرها على ذلك وإن كان لا يخلو عن ضعف ، إذ لا منافاة بين انتفاء الظهور بالنسبة الى الدلالة اللفظية المبنيّة على القواعد المؤسّسة عن بعض الآيات وبين ثبوت التأويل للكلّ مع ثبوت الظهور للبعض ، بل يضعّف حكاية الإناطة أيضا بأنّ المنوط به هو فهم أهل اللسّان المبنيّ على القواعد الممهّدة ، فإذا الأوّل أظهر ، ومنه يظهر أنّه لا ملازمة بين المتشابه والجهل بالمراد لجواز العلم بالتأويل ولو مع عدم سبق الجهل.

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) في البصائر ص ١٩٥ عن الصادق عليه‌السلام ما من القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن إلخ ..

٥٤

تذييل في الجواب عن إشكال الملاحدة على وجود

المتشابهات في القرآن

حكى الرازي في تفسيره عن بعض الملاحدة أنّهم طعنوا في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات وقالوا : إنّكم تقولون : إنّ تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن الى قيام القيامة ، ثم أنّا نريه بحيث يتمسّك به صاحب كلّ مذهب على مذهبه. فالجبري يتمسّك بآيات الجبر كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) (١) ، والقدري يقول : بل هذا مذهب الكفّار بدليل أنه تعالى حكى ذلك منهم في معرض ذمّهم في قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) (٢) وفي موضع آخر : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) (٣) وأيضا مثبت الرؤية يتمسّك بقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٤) والنافي لها يتمسّك بقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٥) ، ومثبت الجهة يتمسّك بقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦) وبقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٧) ،

__________________

(١) الأنعام : ٢٥ ، والإسراء : ٤٦.

(٢) فصلت : ٥.

(٣) البقرة : ٨.

(٤) القيامة : ٢٢.

(٥) الأنعام : ١٠٣.

(٦) النحل : ٥٠.

(٧) طه : ٥.

٥٥

والنافي لها يتمسّك بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١).

ثمّ إنّ كلّ واحد يسمّي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة ، وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على البعض الى ترجيحات خفيّة ، ووجوه ضعيفة ، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع اليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا ، أليس أنّه لو جعله ظاهرا جليّا نقيّا عن هذه المتشابهات كان أقرب الى حصول الغرض (٢).

ثمّ حكى عن العلماء وجوها في فوائد المتشابهات كأنّه جعلها جوابا عن السؤال المتقدم فذكر أولا : أنّه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول الى الحقّ أصعب وأشقّ ، وزيادة المشقّة توجب مزيد الثواب ، قال الله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (٣).

وثانيا : لو كان القرآن محكما بالكلّية لما كان مطابقا إلّا لمذهب واحد ، وكان تصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب ، وذلك مما ينفّر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه فالانتفاع به إنّما حصل لما كان مشتملا على المحكم والمتشابه فحينئذ يطمع صاحب كلّ مذهب أن يجد فيه ما يقوّي مذهبه ويؤثّر مقالته ، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب ، ويجتهد في التأمّل فيه كلّ صاحب مذهب ، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسّرة للمتشابهات ، فبهذا الطريق يتخلّص المبطل عن باطله ويصل الى الحق.

__________________

(١) الشورى : ١١.

(٢) تفسير فخر الدين الرازي ج ٧ ص ١٧١.

(٣) آل عمران : ١٤٢.

٥٦

وثالثا : أنّه إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه الى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلّص عن ظلمة التقليد ، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبيّنة ، أمّا لو كان كلّه محكما لم يفتقر إلى التمسّك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد.

ورابعا : أنّه لاشتماله على الأمرين افتقر الناظر فيه الى تعلّم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر في تحصيل ذلك الى تعلّم علوم كثيرة من علم اللّغة والنحو وعلم أصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان الى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة.

وخامسا : وهو السبب الأقوى (عنده) في هذا الباب أنّ القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواصّ والعوامّ بالكليّة ، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوامّ في أوّل الأمر إثبات موجود ليس بجسم ، ولا بمتحّيز ، ولا مشار اليه ، ظنّ أنّ هذا عدم ونفي ، فوقع في التعطيل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالّة على بعض ما يناسب ما يتوهّمونه ويتخيّلونه ، ويكون ذلك مخلوطا بما يدّل على الحقّ الصريح ، فالقسم الأوّل وهو الّذي يخاطبون به في أوّل الأمر يكون من باب المتشابهات ، والقسم الثاني وهو الّذي يكشف لهم في آخر الأمر وهو المحكمات ، فهذا ما حضرنا في هذا الباب والله اعلم بمراده (١). هذه الوجوه وإن سبقه غيره من المفسّرين في جلّها أو كلّها بل يوجد في كلام بعض المفسّرين منّا إلّا أنها غير حاسمة لمادّة الأشكال ، بل منها ما يؤيّد أصل السؤال ، لضعف الأوّل بأن الوصول الى الحق حينئذ متعسّر بل

__________________

(١) التفسير الكبير تأليف الفخر الرازي ج ٧ ص ١٧٢.

٥٧

متعذّر للأكثر لعدم معرفة عامّة الناس بل وخاصّتهم أيضا بالتأويل الذي لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم فإناطة التبليغ ومعرفة الحقائق به نقض للغرض ، سيّما مع ما في النفوس من الانحرافات والاعوجاجات والميل الى الأهواء الباطلة والمذاهب الفاسدة التي لا تقوم بالمتشابهات عليهم الحجّة ولا تنقطع بها عنهم المعذرة.

والثاني بأنّه ممّا يقرّر أصل السؤال ويزيد في الإشكال ، فإنّ المقصد من إرسال الرسل وإنزال الكتب إنّما هو اجتماع الكلمة على الحقّ واستيصال الباطل وردع أهل الضلال ، فكيف يليق بصاحب الشريعة الإجمال في المرام والتشابه في الكلام كي يتشّبث به كلّ فريق من المبطلين ، ويأوّله على مذهبه كل مبطل من المنتحلين ، سيّما بأن يكون فتنة ومضلّة لأهل ملّته والمتدينين بدينه ، والمنقادين لأمره.

فالمراد بأرباب المذاهب المذكور في كلامه إن كان أصحاب المذاهب المتخربة في هذا الدين ففتح باب التأويل والإلحاد والاعتذار بالانحرافات الباطلة لهم شقّ لعصا كلمة الأمّة عن الحقّ الذي به يؤمنون ، وماذا بعد الحق الّا الضلال فأنّى يؤفكون.

وإن كان المراد الفرق الكافرة الّتي لم يسلموا أصلا كعبدة الأصنام وأهل الكتاب فالأمر أشنع وأفظع ، (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (١).

والثالث والرابع بأنّ مجرّد الاستعانة بدليل العقل وتحصيل مثل اللغة والنحو والأصول كيف صارت غاية مقصودة حتى أوجب قصد التوصل

__________________

(١) يونس : ٥٩.

٥٨

إليها إخفاء الحق في جملة المذاهب المختلفة ، وهل العلوم المذكورة إلّا من المبادي والمقدمات العامّة التي يتوقّف على العلم بها فهم عامّة المخاطبات العربيّة وإن لم تكن شرعية فالناس يطلبونها لمعرفة الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة لكونها عربيّة لا متشابهة ، على أن أسباب التشابه من الاشتراك اللفظي والمعنوي وخفاء القرائن وغيرها شايعة في ألسنة العرب ، وأين هذا من خصوص ما أوجب افتراق المذاهب والاختلاف في الدين.

ومن جميع ما مرّ ظهر ضعف الخامس أيضا فإن التدرّج في الإرشاد إنّما هو بالإجمال والتفصيل لا بما يوهم الجبر والتجسّم والتعطيل.

والتحقيق في دفع الأشكال أن يقال إنّ الله تعالى قد بعث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرّسالة وختم به النبوة ، وجعله حجّة على جميع العالمين ، وجعل شريعته باقية في عقبه الى يوم الدين ، وأنزل عليه كتابا جامعا لعلوم الأولين والآخرين ، بل حاويا لجميع الحقائق والمعارف والأحكام والحوادث مما كان أو يكون أبد الآبدين حسبما مرّت اليه الإشارة ، وحيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتفرّغ في البرهة التي كان فيها بين الأنام لتبليغ جميع الأحكام ، بل ساير المعارف التي لم تستعدّ أصحابه لقبولها وإدراكها لقرب عهدهم بالجاهلية الجهلاء ، مع أنّهم أعراب عرباء أولو أحقاد وقسوة وجفاء ، فلذا أودع علمها عند خليفته ووصيّه بل أودع عنده جميع معاني القرآن وبطونه وحقائقه ، وأمر بحفظهما واتباعهما والتمسك بهما معا وأنّهما لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض ، وحيث إنّه علم أنّ من أمته من يرتدّ عن دينه ، ويترك وصيته في خليفته ، وينازعه في أمر هو أحق من غيره ، فلذا جعل الله سبحانه ، ظاهر كتابه مشتملا على المحكم الذي لا يختلف فيه اثنان لظهوره ووضوحه ، وعلى المتشابه الذي أخبر في كتابه أنّه لا يعلمه إلّا الله

٥٩

والراسخون في العلم الذين هم حججه على عباده ، وأمنائه في بلاده على ما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما ورد من طرق الخاصّة والعامّة ، بل أخبر في كتابه : أنهم (لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١).

فالمتشابهات هي الّتي يضطرّ الناس ويلجئهم إلى الإقرار والإذعان بولاية أولياء الأمر الذين هم الباب والحجّاب ، وحملة الكتاب وفصل الخطاب (لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٢) ، (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) (٣). ولو كان القرآن كلّه محكما لتوهّموا أنّه مقصور على ظاهره الذي هو غير مشتمل إلّا على أقّل قليل من الأحكام ، ولم يمكن الإحتجاج عليهم بأنّهم محتاجون في معرفة حقائق الكتاب ، وشرايع الحلال والحرام الى الإمام عليه‌السلام. وتوهّم أنّه مع ذلك لم ينفع به من هداه الله بنور الإيمان ثم إنّ ما ذكرناه من الحكمة هو المستفاد من كلام أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) :

ففي المحكيّ عن تفسير النعماني بالإسناد عن الصادق عليه‌السلام قال : إن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فختم به الأنبياء فلا نبيّ بعده ، وأنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده الى أن قال : فجعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كل زمان حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر وطلب علومهم ، وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنون أنّه الناسخ ، واحتجّوا بالخاصّ وهم يقدّرون أنّه العامّ واحتجّوا بأوّل الآية وتركوا السنّة في تأويلها ، ولم ينظروا الى ما يفتح الكلام والى ما يختمه ، ولم يعرفوا

__________________

(١) النساء : ٨٣.

(٢) الأنعام : ٣٣.

(٣) النحل : ٨٣.

٦٠