تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

عشر بعدّ الأنفال والتوبة واحدة ، وعن ابن مسعود (١) اثنتي عشرة سورة بنقصان المعوذتين ، لكن الذي استقرّ عليه مذهب الإمامية أنّها مائة واثنتي عشرة سورة بعدّ المعوذتين سورتين ، والضحى والإنشراح سورة واحدة ، وكذا الفيل والإيلاف أمّا المعوذتين بكسر الواو فقد أجمع علمائنا وأكثر العامّة على أنّهما من القرآن ، وأنّه يجوز القراءة بهما في المكتوبة ، ولم يحك الخلاف في ذلك إلّا عن عبد الله بن مسعود حيث زعم أنّهما ليستا من القرآن وإنما أنزلتا لتعويذ الحسن والحسين (عليهما‌السلام) وقد انقرض القول به.

بل في «الذكرى» أنه قد استقر الإجماع من العامّة والخاصّة على خلافه مضافا الى استفاضة الأخبار بذلك.

ففي كثير عن منها أنّ مولانا الصادق عليه‌السلام قرأ بهما في الفريضة ، ثم قال عليه‌السلام :

__________________

وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدّ إن عذابك بالكافرين ملحق.

نقض الوشيعة في نقد عقائد الشيعة تأليف السيد محسن الأمين ص ٢٠٤.

(١) عبد الله بن مسعود بن غافل : صحابي ، من أكابرهم فضلا وعقلا وقربا من رسول الله (ص) وهو من أهل مكة ، ومن السابقين الى الإسلام ، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة ، وكان خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصاحب سره ، ورفيقه في حله وترحاله وغزواته ، نظر اليه عمر يوما وقال : وعاء مليء علما وولي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بيت مال الكوفة ، ثم قدم المدينة في خلافة عثمان وكان من الذين شهدوا جنازة أبي ذر وباشروا تجهيزه وهو أيضا من الإثني عشر الذين أنكروا على الأول خلافته ، وكان قصيرا جدا ، يكاد الجلوس يوارونه. وكان يحب الإكثار من التطيب فإذا خرج من بيته عرف جيران الطريق أنه مرّ من طيب رائحته ، له ٨٤٨ حديثا وأورد الجاحظ في البيان والتبيين خطبة له ومختارا من كلامه ، كان عالما بالقرآن ، أخذ سبعين سورة من القرآن من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبقيّته من علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، روي الكشي في رجاله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : من أحب ان يسمع القرآن غضا فليسمعه من ابن أم عبد يعني ابن مسعود في المستدرك نقلا عن تلخيص الشافعي أنه قال : لا خلاف بين الأمة في طهارة ابن مسعود وفضله وايمانه ومدحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وثنائه عليه ، توفي بالمدينة سنة ٣٢ ه‍ ودفن بالبقيع.

الأعلام ج ٤ ص ٢٨٠ ، وغاية النهاية ج ١ ص ٤٥٨ وسفينة البحار ج ٢ ص ١٣٨.

١٤١

أنّهما من القرآن (١).

وروى الحسين بن بسطام في «طبّ الأئمة» عنه عليه‌السلام أنه سئل عن المعوذتين أهما من القرآن؟ فقال عليه‌السلام : إنّهما من القرآن ، فقال الرجل : إنّهما ليستا من القرآن في قراءة ابن مسعود ولا في مصحفه ، فقال عليه‌السلام : أخطأ ابن مسعود ، أو قال عليه‌السلام كذب ابن مسعود ، هما في القرآن ، قال الرجل : فأقرأهما في المكتوبة؟ قال نعم (٢).

وروى القمي بالإسناد عن أبي بكر الحضرمي قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف ، فقال : كان أبي يقول إنّما فعل ذلك ابن مسعود برأيه ، وهما من القرآن (٣). الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المعتضدة بالإجماع نقلا وتحصيلا.

فما يحكى عن عبارة الفقه الرضوي حيث قال عليه‌السلام : وإنّ المعوذتين من الرقية ليستا من القرآن ، أدخلوها في القرآن ، وقال : إنّ جبرائيل علّمهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (الى أن قال) وأمّا المعوذتان فلا تقرأهما في الفرائض ، ولا بأس بالنوافل انتهى (٤).

فمع الغضّ عمّا في سنده لعدم ثبوت اعتباره يجب حمله على التقيّة (٥).

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ١٦١ ، وسائل الشيعة ج ٢ ص ٧٨٦.

(٢) طبّ الأئمة ص ١١٩ ، وسائل الشيعة ج ٢ ص ٧٨٦.

(٣) تفسير القمي ص ٧٧٤ ، وسائل الشيعة ج ٢ ص ٧٨٧.

(٤) فقه الرضوي ص ٩ ، الحدائق ج ٨ ص ٢٣٢ ط الآخوندي بالنجف.

(٥) فقه الرضوي أو فقه الرضا كتاب منسوب الى الرضا عليه‌السلام ولكنه ليس بمعتمد عند المحققين ولا يعتمدون على متفرداته ومن أراد تحقيقه فليراجع المستدرك للنوري ، والذريعة لآغا بزرك.

١٤٢

وأمّا اتحاد الضحى والإنشراح كالفيل والإيلاف فهو وإن تردّد فيه المحقّق في «المعتبر» ، بل قطع بعض من تأخر عنه بالتعدّد كثاني المحققين ، والشهيدين ، وسيّد المدارك ، وغيرهم من المتأخرين نظرا الى عدم دلالة واضحة من الأخبار على الاتحاد ، مع الفصل بالبسملة والترجمة في جميع المصاحف ، وتسميتها سورتين في خبر المفضل قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا تجمع بين السورتين في ركعة واحدة إلّا الضحى وألم نشرح ، وسورة الفيل والإيلاف ، لكون الاستثناء حقيقة في المتصل ، ولا أقل من الظهور.

إلّا أن الذي ينبغي القطع به هو الاتحاد كما هو المشهور فتوى وعملا وعن غير واحد منهم نسبته الى علمائنا.

وفي «الانتصار» أنه مذهب الإمامية.

وعن «أمالي» الصدوق أنه من دين الإمامية الذي يجب الإقرار به.

وعن «الإستبصار» أنّ الأولين سورة واحدة عند آل محمد عليهم‌السلام ، بل لم يعهد ممن سبق على المحقق التأمل فيه ، الى غير ذلك مما يقطع معه بتحقق الإجماع سيما مع كونه من متفردات الإمامية ، مضافا الى الأخبار الكثيرة كالمروي عن «هداية» الصدوق عن الصادق عليه‌السلام قال : وموسّع عليك أيّ سورة في فرائضك الأربع ، وهي الضحى وألم نشرح في ركعة لأنهما جميعا سورة واحدة والإيلاف ، وألم تر في ركعة لأنهما جميعا سورة واحدة (١) ، ونسبه في التبيان.

و «مجمع البيان» ، و «الشرائع» ، وغيرها من كتب الجماعة الى رواية

__________________

(١) البحار ج ١٨ ص ٣٤٢ ط القديم ، الحدائق ج ٨ ص ٢٠٤ ط الآخوندي بنجف.

١٤٣

أصحابنا وصحيح الشحّام : صلّى بنا أبو عبد الله عليه‌السلام فقرأ الضحى وألم نشرح في ركعة (١).

وعن كتاب القراءة لأحمد بن محمد بن سيّار عن الصادق عليه‌السلام الضحى وألم نشرح سورة واحدة (٢).

وروى العيّاشي عن أبي العباس عن أحدهما ألم تر كيف فعل ربك والإيلاف سورة واحدة (٣).

قال : وروى أنّ أبيّ بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه (٤) ، الى غير ذلك من الأخبار الدالّة على الاتحاد ، فضلا عمّا يدلّ على عدم الاجتزاء بواحدة منهما في الفريضة ، وأنّه يجب قراءتهما معا مع حرمة الجمع بين السورتين فيها حسب ما قرّر في موضعه ، ومن هنا يظهر ضعف ما ذكروه من عدم الدليل على الاتحاد.

وأمّا حكاية الفصل والترجمة التي قيل : إنّها من أعظم الشبه في ذهاب المتأخرين الى خلاف ما عليه المتقدّمون ، سيما مع ما اشتهر بينهم من دعوى تواتر السبع المتفقة على إثبات البسملة ، ففيها مع الغضّ عمّا سمعت من عدم إثباتها في مصحف أبيّ ، أنّه لا عبرة بمجرد الفصل والترجمة بعد صراحة الأخبار بل استقرار المذهب على ما مرّ ، على أنّ جماعة من القائلين بالاتّحاد ذهبوا الى لزوم البسملة بينهما ، بل عن الحليّ في «السرائر» أنّه لا خلاف في عدد آياتهما فإذا لم يبسمل بينهما نقصتا من عددهما. ولم يكن قد قرأهما جميعا ، وإن كان الأظهر عدم الفصل ، لظواهر بعض الأخبار.

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٢٥٤ ، وسائل الشيعة ج ٢ ص ٧٤٢.

(٢) مستدرك الوسائل ج ١ ص ٢٧٥.

(٣) مجمع البيان ج ١٠ ص ٥٤٤ ، وسائل الشيعة ج ٢ ص ٧٤٤.

(٤) مجمع البيان ج ١٠ ص ٥٤٤ ، وسائل الشيعة ج ٢ ص ٧٤٤.

١٤٤

وأما خبر المفضّل فكأنه خرج مخرج التجوز والمسامحة في التعبير حسبما يسمّيها الناس سورتين للفصل ، ولذا وقع مثله في خبر «الهداية» وغيره مع التصريح بالاتحاد.

وأما الأنفال والتوبة فبعض العامّة وإن نسب الى أئمتنا عليهم‌السلام القول بالاتحاد ، إلّا أنّ الظاهر من عدم تعرّض أحد من الأصحاب لذلك في باب قراءة السورة التامة في الفريضة العدم.

بل في العلوي المرويّ في «المجمع» تعليل عدم نزول البسملة على رأس سورة برائة بأنّ بسم الله للأمان والرحمة ، ونزلت براءة لرفع الأمان بالسيف (١).

ويؤيّده الأخبار الكثيرة من طرق الفريقين المشتملة على بيان سبب نزول السورة ، حيث علّق الحكم فيها بنزول السورة لا الآية والآيات ، بل الأخبار الدالّة على فضلها ، وفضل الأنفال ، مؤيدا بتقرير الثابت في المصاحف ، وضبط آيات كلّ منها وغير ذلك ممّا يشير الى استقرار المذهب على التعدد ، سيّما مع سكوتهم عن الحكم بالاتحاد عند البحث عن وجوب التبعيض مع تعرّضهم للحكم في السورتين المتقدمتين ، وأما ما رواه العيّاشي والطبرسي في تفسيرهما عن مولانا الصادق عليه‌السلام من اتحادهما (٢).

ففيه ، مع الغضّ عن ضعف السند ، وعدم ثبوت مثل هذا الحكم بمثله ، أنّه لا يصلح لمقاومة ما مرّ ، مضافا إلى عدم صراحة المتن في المطلوب ، وإن كان ظاهرا فيه ، نعم قد يؤمي إليه عدّهما سابعة السبع الطول ، وإن قيل : إنّ ذلك

__________________

(١) مجمع البيان تأليف الفضل بن الحسن الطبرسي المطبوع بطهران من منشورات المعارف الإسلامية (ج ٥ ص ٢).

(٢) تفسير العيّاشي ج ٢ ص ٧٣ ، والبحار ج ١٩ ص ٦٩ ، والصافي ج ١ ص ٦٨٠ ، مجمع البيان ج ٥ ص ١.

١٤٥

لنزولهما جميعا في المغازي ، وتسميتهما بالقرينين ، بل من القريب حمل خبر الاتحاد على شيء من هذه الوجوه ، إلّا أنّ الاحتياط في مثل القراءة وغيرها لا يخفى سبيله ، ولا ينبغي تركه. وإن كان الأظهر حرمة كلّ من التبعيض ، والجمع بين مطلق السورتين ، كما أنّ الأظهر في المقام التعدّد.

١٤٦

الفصل الثالث

في تقسيم السور

قسّموا السور الى أقسام أربعة : أحدهما الطول كصرد جمع الطولى بالضم مؤنثة الأطول كالكبر والفضل في جمع الكبرى والفضلى.

وفي «النهاية» إنّ هذا البناء يلزمه الألف أو الإضافة ، قال : والسبع الطول هي البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والتوبة ، وهو مبنّي على إسقاط الأنفال رأسا ، وعدّ التوبة سورة مستقلة ، لكن في القاموس أنّها من البقرة الى الأعراف ، والسابعة سورة يونس ، أو الأنفال وبراءة جميعا ، لأنّهما سورة واحدة عنده انتهى.

ولا يخفى أنّ هذين القولين يخالفان ما في «النهاية» بل لعلّ ظاهره أنّ من عدّهما سورتين جعل السابعة سورة يونس ، وليس كذلك ، بل يظهر من بعضهم أنّهما معا السابعة ، ولو عند من قال بالتعدد نظرا الى وحدة البسملة فيهما ، أو نزولهما جميعا في المغازي ، أو لقربهما في الآي للستّة السابقة ، أو لأن الأولى في ذكر العهود ، والثانية في رفع العهود.

وفي «المجمع» عن ابن عباس أنه قال لعثمان بن عفّان : ما حملكم على أن

١٤٧

عمدتم الى براءة وهي من المئين والى الأنفال وهي من المثاني ، فجعلتموها في السبع الطول ، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تنزيل عليه الآيات فيدعو بعض من يكتب له فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله له : ضع هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوّل ما نزل من القرآن بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما نزلت من القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصّتها ، فظنّنا أنها منها ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يبيّن أنها منها ، فوضعناهما في السبع الطول ، ولم نكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم (١).

ثمّ أنه يظهر من «النهاية» الأثيرية إطلاق الطوليين على الأنعام والأعراف قال : ومنه حديث أمّ سلمة كان يقرأ في المغرب بطولي الطوليين ، تثنية الطولي ومذكرها الأطول ، أي أنه كان يقرأ فيها بأطول السورتين الطويلتين يعني الأنعام والأعراف.

ثانيهما : المئون جمع المائة والنون ، قال في «الصحاح» : أصله يعني المائة مأي مثال معيّ والهاء عوض عن الياء وإذا جمعت بالواو والنون قلت مئون بكسر الميم ، وبعضهم يقول مئون بالضم.

أقول : والمراد منها ما آياتها في حدود المائة بشيء من زيادة أو نقصان ، قالوا : وهي من يونس الى الفرقان ، وقيل : من بني إسرائيل الى سبع سور ، لأن كلّها منها على نحو مائة آية ، والتسمية للسور باعتبار الآيات فإنّها يوصف بها كما يقال مررت برجل مائة أبله كما في «القاموس» وإن قال : والوجه الرفع.

ثالثها المثاني جمع المثنى كالمعنى والمعاني ، وعن الفرّاء أنّ واحدها

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ٢.

١٤٨

مثناة ، والمثاني وإن كانت تطلق على الفاتحة لمّا مرّ ، وعلى جميع القرآن بمعنى المجموع ، أو كلّ آية منه لاقتران آية الرحمة بآية العذاب ، أو لغيره ممّا مرّ ، ولكن المراد بها في المقام ما كان أقلّ من المئين وأزيد من المفصّل ، قيل : كأنّ المئين جعلت مبادئ ، والتي تليها مثاني.

وفي «مجمع البيان» أنّها مثاني السبع الطول قال : وأولها سورة يونس ، وآخرها النمل ، وقيل : والمشهور بين العامّة أنّه من الطواسين الى الحجرات ، وقيل : إنّه بقيّة السور غير الطول السبع ، والمئين السبع ، والمفصّل المفسّر بسورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الى آخر القرآن ، وهي تقصر عن المئين وتزيد على المفصّل ، كأنّ الطول جعلت مبادئ أخرى ، والتي تليها مثاني لها فهي مثاني لكل منهما ، وقيل : أقوال أخر أشار الى جملة منها في «القاموس» قال : والمثاني القرآن ، أو ما ثنّى منه مرّة بعد مرّة ، أو الحمد ، أو البقرة ، الى براءة ، أو كل سورة دون الطول ، ودون المئين ، وفوق المفصّل ، أو سورة الحجّ والقصص ، والنمل ، والعنكبوت ، والنور ، والأنفال ، ومريم ، والرّوم وياسين ، والفرقان ، والحجر والرعد ، وسبأ ، والملائكة ، وإبراهيم ، وص ، ومحمّد ، ولقمان ، والنون ، والزخرف ، والمؤمن ، والسجدة ، والأحقاف ، والجاثية ، والدخان ، والأحزاب.

رابعها المفصّل بفتح الصاد المشدّدة ، قال في «القاموس» ، إنّه من الحجرات الى آخر القرآن في الأصحّ ، أو الجاثية ، أو القتال أو ق عن النووي (١)

__________________

(١) النووي يحيى بن شرف الشافعي ، أبو زكريّا يحيى الدين : علّامة بالفقه والحديث ولد في نوا (من قرى حوران بسورية) وإليها نسبته سنة ٦٣١ تعلّم في دمشق وأقام بها زمنا طويلا له مصنّفات كثيرة : منها تهذيب اللغات والأسماء ، المنهاج في شرح صحيح مسلم خمس مجلدات ، التبيان في آداب حملة القرآن .. توفي سنة ٦٧٦ في النوا ، الأعلام ج ٩ ص ١٨٤ طبقات ، الشافعية للسبكي ج ٥ ص ١٦٥.

١٤٩

والصّافّات ، أو الصّف ، أو التبارك ، عن أبي الصيف (١) ، أو إنّا فتحنا ، عن الدزمارى (٢) ، أو سبّح اسم ربّك الأعلى ، عن الفركاح (٣) أو والضحى ، عن الخطّابي (٤). (٥)

أقول : والذي استقرّ عليه مذهب أصحابنا الإمامية عطّر الله مراقدهم أنّه من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الى آخر القرآن ، بل عن «التبيان» نسبته الى أكثر أهل العلم ، واقتصر عليه في «مجمع البيان» من غير إشارة الى غيره ، وقد يؤيد ذلك بما في المروي مرسلا في «مجمع البحرين» (٦) ولعلّه خبر سعد الآتي ، أو غيره ، فيعضده أنّ المفصل ثمان وستون سورة نظرا إلى انطباق هذا العدد عليه بداية ونهاية كما لا يخفى وإنما سميّت به لكثرة الفصول بين سورة بالبسملة ، من قوله

__________________

(١) محمد بن إسماعيل بن علي بن أبي الصيف ، فقيه ، شافعي يمنى أصله من زبيد أقام وتوفي بمكة سنة ٦٠٩ ه‍ له مصنّفات : منها (الأربعون حديثا جمعها عن أربعين شيخا من أربعين مدينة. طبقات الشافعية ج ٦ ص ١٩.

(٢) هو : أحمد بن كشاسب بن علي الدزمارى كمال الدين الفقيه الصوفي الشافعي ، توفّي سنة (٦٤٣) ه ونسبته الى دزمار (بكسر الدال) قلعة حصينة من نواحي آذربايجان قرب تبريز ، طبقات السبكى ج ٨ ص ٣٠.

(٣) الفركاح عبد الرحمن بن إبراهيم الفزازي تاج الدين ، مورخ من علماء الشافعية بلغ رتبة الاجتهاد ، مصري الأصل ، دمشقي الإقامة والشهرة له مصنّفات : منها شرح الورقات لإمام الحرمين في الأصول ، وكشف القناع في حلّ السماع ـ طبقات الشافعية للسبكي ج ٥ ص ٦٠ ـ الأعلام ج ٤ ص ٦٤.

(٤) الخطابي حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب بن سليمان : فقيه محدث من أهل بست (من بلاد كابل) من نسل زيد بن الخطاب (أخي عمر بن الخطاب) له مصنفات منه : معالم السنن في شرح سنن أبي داود ، إصلاح غلط المحدثين ، شرح البخاري ، بيان إعجاز القرآن. ولد في سنة ٣١٩ وتوفي ببست سنة ٣٨٨ ه‍ ، ـ يتيمة الدهر للثعالبي ج ٤ ص ٢٣١ ـ الأعلام للزركلي ج ٢ ص ٣٠٤.

(٥) تاج العروس في شرح القاموس للزبيدي ص ٦٠ ج ٨ فصل ألفا من باب اللّام.

(٦) مجمع البحرين حرف اللام ما أوله الفاء ص ٤٤٨ في كلمة فصل.

١٥٠

عقد مفصل أي جعل بين كل لؤلؤتين منه جوهرة ، أو لقلة المنسوخ فيه من قولهم حكم فاصل وفيصل ماض أو لكثرة فواصله في سورة ، أو آياته فإن الفاصلة الخرزة بين الخرزتين ، وأواخر آيات التنزيل بمنزلة قوافي الشعر.

ثمّ إنّ التسمية في هذه الأسماء الأربعة مشهورة بين العامّة ، بل وبين الخاصة أيضا ، وإن توهّم بعض المتأخرين أنّه لا أصل لها في أخبارنا ، بل ذكر السيد (١) في مداركه بعد نقل الشهرة على استحباب قراءة المفصّل في الصلوة أنّه ليس في إخبارنا تصريح بعد هذا الاسم ولا تحديده ، وإنما رواه الجمهور عن عمر (٢) وتبعه البحراني ، في حدائقه قال بعد نقل كلامه : ومن هنا يعلم أنّ الظاهر أنّ أصحابنا (رضي الله عنهم) قد تبعوا في ذلك العامّة ، ثم قال بعد أن حكى عن مجمع البحرين : إن في الحديث فضّلت بالمفصّل.

وفي الخبر أنه ثمان وستون إلخ إنّه ربما أشعر كلامه بأن الأخبار المذكورة في كلامه مرويّة عن طرقنا ، ولم أقف على من نقلها كذلك سواه ، والظاهر أنّها من

__________________

(١) محمد بن علي بن الحسين العاملي صاحب المدارك ، كان فاضلا ، متبحرا ، ماهرا ، محققا ، مدققا ، زاهدا ، عابدا ، ورعا ، فقيها ، محدثا ، جامعا للعلوم والفنون جليل القدر ، عظيم المنزلة قرأ على أبيه وعلى المولى أحمد الأردبيلي وتلامذة جدّ لأمه الشهيد الثاني ، وكان شريك خاله الشيخ حسن في الدرس ، وكان كل منهما يقتدي بالآخر في الصلاة ، ويحضر درسه له كتاب مدارك الأحكام في شرح شرايع الإسلام خرج منه العبادات في ثلاث مجلدات فرغ منه سنة ٩٩٨ وهو من أحسن كتب الاستدلال ، وحاشية الإستبصار ، وحاشية التهذيب ، وحاشية على ألفية الشهيد ، وشرح المختصر النافع وغير ذلك. توفي سنة ١٠٠٩ في قرية جبع. ـ سفينة البحار ج ١ ص ٣٢٨ ـ.

(٢) في بدائع الصنائع ج ١ ص ٢٠٥ كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري : أن اقرأ في الفجر والظهر بطول المفصل وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل وفي المغرب بقصار المفصل.

ـ تعليقه الحدائق ج ٨ ص ١٧٧ ط. الآخوندي بالنجف ـ

١٥١

طرق العامّة وإن تناقلها أصحابنا في كتب الفروع.

نعم وقفت على ذلك في كتاب دعائم الإسلام (١) إلّا أنّه من كلامه ولم يسنده الى رواية حيث قال : ولا بأس أن يقرأ في الفجر بطوال المفصّل وفي الظهر والعشاء الآخرة بأوساطه ، وفي العصر بأوساطه ، وفي العصر والمغرب بقصاره انتهى (٢).

ونسج على منوالهم كثير ممن تأخر عنهم ، لكن القدح ليس في موضعه إذ في «الكافي» بالإسناد عن سعد الإسكاف أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطيت

__________________

(١) دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد بن منصور أبي حنيفة ابن حيون التميمي ، قال المجلسي في مقدمة البحار : وكتاب دعائم الإسلام قد كان أكثر أهل عصرنا يتوهمون أنه تأليف أبي حنيفة النعمان بن منصور قاضي مصر في أيام الدولة الإسماعيلية ، وكان مالكيا أولا ثم اهتدى وصار إماميا ، وأخبار هذا الكتاب أكثرها موافقة لما في كتبنا المشهورة لكن لم يرو عن الأئمة بعد الصادق خوفا من الخلفاء الإسماعيلية ، وتحت سرّ التقية أظهر الحق لمن نظر فيه متعمقا ، وأخباره تصلح للتأييد والتأكيد. قال ابن خلكان : هو أحد الفضلاء المشار إليهم ذكره الأمير المختار المسيحي في تاريخه فقال : كان من العلم والفقه والدين والنبل على ما لا مزيد عليه. وقال ابن زولاق في ترجمة ولده علي بن النعمان : كان أبوه النعمان بن محمد القاضي في غاية الفضل من أهل القرآن والعلم بمعانيه ، وعالما بوجوه الفقه وعلم اختلافات الفقهاء واللغة والشعر والمعرفة بأيام الناس مع عقل وإنصاف وألّف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف وأملح سجع ، وعمل في المناقب والمثالب كتابا حسنا ، وله ردود على المخالفين : له ردّ على أبي حنيفة وعلى مالك ، والشافعي وعلى شريح ، وكتاب اختلاف ينتصر فيه لأهل البيت عليهم‌السلام قال الزركلي في الأعلام : ابن حيون النعمان بن محمد بن منصور كان واسع العلم بالفقه والقرآن والأدب والتاريخ ، من أهل القيروان ، مولدا ومنشئا تفقه بمذهب المالكية ، وتحول الى مذهب الباطنية. عاصر المهدي والقائم والمنصور والمعزّ وخدمهم ، وقدم مع المعز إلى مصر وتوفي بها سنة ٣٦٣ هو صفة الذهبي بالعلامة المارق وقال : كتبه كبار مطوّلة ، وكان وافر الحشمة عظيم الحرمة ، في أولاده قضاة وكبراء. الأعلام ج ٩ ص ٨ ، وفيات الأعيان ج ٢ ص ١٦٦ ، بحار الأنوار ج ١.

(٢) الحدائق الناظرة ج ٨ ص ١٧٨ ط. الآخوندي بالنجف.

١٥٢

السور الطول مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، والمثاني مكان الزبور ، وفضّلت بالمفصل ثمان وستين سورة ، وهو مهيمن على سائر الكتب فالتوراة لموسى ، والإنجيل لعيسى ، والزبور لداود صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وفي «مجمع البيان» أنّه قد شاع في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : أعطيت لمكان التوراة السبع الطول ، ومكان الإنجيل المثاني ، ومكان الزبور المئين ، وفضّلت بالمفصّل ، قال وفي رواية واثلة بن الأسقع (٢) : وأعطيت مكان الإنجيل المئين ، ومكان الزبور المثاني ، وأعطيت فاتحة وخواتيم البقرة من تحت العرش لم يعطها أحد قبلي ، وأعطاني ربي المفصّل نافلة (٣).

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٤٣٩ ط الإسلامية بطهران.

(٢) واثلة بن الأسقع بن عبد العزي : صحابي ، من أهل الصفة. كان قبل إسلامه ينزل ناحية المدينة. ودخل المسجد بالمدينة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلى الصبح ، فصلى معه وكان من عادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا انصرف من صلاة الصبح تصفح وجوه أصحابه ، ينظر إليهم فلما دنا من واثلة أنكره ، فقال من أنت؟ فأخبره ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله ما جاء بك؟ قال : أبايع فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : على ما أحببت وكرهت؟ قال : نعم وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتجهز الى تبوك ، فشهدها معه. قيل خدم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث سنين ، ثم نزل البصرة وكانت له بها دار وشهد فتح دمشق وسكن قرية البلاط على ثلاثة فراسخ منها وحضر المغازي في البلاد الشامية ، وتحول الى بيت المقدس ، فأقام ويقال : كان مسكنه ببيت جبرين وكفّ بصره وعاش ١٠٥ سنين وقيل : ٩٨ سنة وهو آخر الصحابة موتا في دمشق ، له ٧٦ حديثا ووفاته بالقدس أو بدمشق سنة ٨٣ ه‍. أسد الغابة ج ٥ ص ٧٧ ، الأعلام ج ٩ ص ١٢٠.

(٣) مجمع البيان ج ١ مقدمة الكتاب الفن الرابع في ذكر أسامي القرآن ومعانيها.

١٥٣
١٥٤

الفصل الرابع

في معنى الآية والكلمة والحروف

أما الآية فهي في الأصل بمعنى العلامة ، أو العلامة التي فيها العبرة ، أو التي فيها الحجّة ، أو العلامة الظاهرة ، وبمعنى العجب من قولهم فلان آية في العلم ، والعبرة ، والشخص ، ولعل الأظهر كونها حقيقة في الأول ، وإن أطلقت على الجميع باعتبار الموارد ، وعليه حمل قوله تعالى : (عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ) (١) أي علامة لإجابتك دعانا ، وآيات الكتاب علامات ودلالات على معانيها.

وعن أبي عبيدة (٢) أن معنى الآية أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها

__________________

(١) المائدة : ١١٤.

(٢) معمر بن المثنّى بالولاء البصري ، أبو عبيدة النحوي : من أئمة العلم بالأدب واللغة مولده في سنة ١١٠ ووفاته في البصرة ٢٠٩ ه‍ استقدمه هارون الرشيد الى بغداد سنة ١٨٨ ه‍ ، وقرأ عليه أشياء من كتبه. قال الجاحظ : لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. وكان أباضيا ، شعوبيا ، من حفّاظ الحديث ، قال ابن قتيبة : كان يبغض العرب وصنف في مثالبهم كتبا ولمّا مات لم يحضر جنازته أحد ، لشدّة نقده معاصريه ، وكان مع سعة علمه ، ربّما أنشد البيت فلم يقم وزنه ويخطئ إذا قرأ القرآن نظرا له نحو ٢٠٠ مؤلّف منها «مجاز القرآن» و «معاني القرآن» «واعراب القرآن» و «طبقات الشعراء» وغيرها.

وفيات الأعيان ج ٢ ص ١٠٥ ـ تأريخ بغداد ج ١٣ ص ٢٥٢ ـ الأعلام ج ٨ ص ١٩١.

١٥٥

وانقطاعه عمّا بعدها ، ويقال : إنّ الآية هي القصّة والرسالة ، قال كعب بن زهير (١) : ألا أبلغا هذا المعرّض آية أيقظان هذا القول أم قال ذا الحلم ، أي رسالة فمعنى الآيات القصص ، أي قصّة تتلو قصّة.

وعن ابن السكيت : خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا ورائهم شيئا ، فمعنى الآية جماعة من الحروف دالّة على معنى مخصوص ، ووزنها فعله بسكون العين ، أو بفتحها ، أو فاعله ، قال في الصحاح : الآية : العلامة ؛ والأصل أوية بالتحريك ، قال سيبويه (٢). موضع العين من الآية واو لأنّ ما كان موضع العين منه واوا ياء أكثر مما موضع العين واللام منه ياء ، مثل شويت أكثر من حييت ، ويكون النسبة إليها آووي.

__________________

(١) كعب بن زهير بن أبي سلمى المازني : شاعر عالي الطبقة ، من أهل نجد له ديوان شعر مطبوع كان ممّن اشتهر في الجاهلية ، ولمّا ظهر الإسلام هجا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقام يشبّب بنساء المسلمين ، فهدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دمه فجاءه كعب مستأمنا وقد أسلم ، وأنشده لا ميتّه المشهورة التي مطلعها : «بانت سعاد وقلبي اليوم مبتول» فعفا عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلع عليه بردته وهو من أعرق الناس في الشعر ، قوله في أمير المؤمنين عليه‌السلام مشهور :

صهر النبي وخير الناس كلهم

فكل من رامه بالفخر مفخور

صلى الصلوة مع الأمي أولهم

قبل العباد وربّ الناس مفخور

خزانة الأدب ج ٤ ص ١١ ـ الأعلام ج ٦ ص ٨١ ـ سفينة البحار ج ٢ ص ٤٨٣.

(٢) سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشير : إمام النحاة وأول من بسط علم النحو ـ ولد في إحدى قرى شيراز ، وقدم البصرة فلزم الخليل بن أحمد ففاقه ، وصنّف كتابه المسمى «كتاب سيبويه» في النحو لم يصنع قبله ولا بعده مثله ، ورحل الى بغداد ، فناظر الكسائي وأجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم وعاد الى الأهواز فتوفي بها ، قيل : وفاته وقبره بشيراز. ولد سنة ١٤٨ ه‍ وتوفي سنة ١٨٠ ه‍ وسيبويه بالفارسية رائحة التفاح.

ـ وفيات الأعيان ج ١ ص ٣٨٥ ـ تاريخ بغداد ج ١٢ ص ١٩٥ ـ الأعلام ج ٥ ص ٢٥٢.

١٥٦

ثم حكى عن الفراء (١) أنها من الفعل فأعلّت وإنما ذهبت منه اللام ، ولو جاءت تامة لجاءت أيية ، ولكنها خفّفت ثم ذكر أن جمعها أي ، وآياي ، وآيات.

وحكى عن إنشاد أبي زيد (٢) رابعا ، قال : لم يبق هذا الدهر من آيائه غير أثافيه وارمدائه.

وقال القاضي (٣) ، اشتقاقها من أيّ لأنها تبيّن أيا من أيّ ، أو من أوى اليه وأصلها أيّه أو أويه كتمرة فأبدلت عينها ألفا على غير قياس ، أو أوية ، أو أيية

__________________

(١) الفراء يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي : إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب ، ومن كلام ثعلب : لو لا الفراء ما كانت اللغة ، ولد بالكوفة سنة ١٤٤ ه‍ وانتقل الى بغداد وعهد اليه المأمون بتربيته ابنيه فكان أكثر مقامه بها ، فإذا جاء آخر السنة انصرف الى الكوفة فأقام أربعين يوما في أهله يوّزع عليه ما جمعه ويبرّهم ، وتوفى في طريق مكة سنة ٢٠٧ ، وكان مع تقدمه في اللغة والنحو فقيها متكلما ، عالما بأخبار العرب وأيامها ، عارفا بالنجوم والطب ، يميل الى الاعتزال له مصنفات منها «المقصور والممدود» و «معاني القرآن» أملاها في مجالس عامة كان في جملة من يحضرها نحو ثمانين قاضيا ، و «المذكر والمؤنث» و «الجمع والتشبيه في القرآن» ألّفه بأمر المأمون ، واشتهر بالفرّاء مع أنه لم يعمل في صناعة الفراء ، فقيل : لأنه كان يفري الكلام ، وعرف أبوه «زياد» بالأفطح لأن يده قطعت في معركة فخ سنة ١٦٩ ه‍ وقد شهدها مع الحسين بن علي بن الحسن ، في خلافة موسى الهادي.

ـ وفيات الأعيان ج ٢ ص ٢٢٨ ـ الأعلام للزركلي ج ٩ ص ١٧٨.

(٢) أبو زيد الأنصاري أحد أئمة الأدب واللغة ، من أهل البصرة ، ولد سنة ١١٩ ه‍ وتوفي بالبصرة سنة ٢١٥ ه‍ وهو من ثقاة اللغويين قال ابن الأنباري كان سيبويه إذا قال سمعت الثقة عني أبا زيد ، له مصنفات منها ، «كتاب النوادر» في اللغة «واللباء واللبن» و «المياه» و «خلق الإنسان» و «لغات القرآن» و «الوحوش» و «بيوتات العرب».

ـ وفيات الأعيان ج ١ ص ٢٠٧ ـ تاريخ بغداد ج ٩ ص ٧٧ ـ الأعلام ج ٣ ص ١٤٤.

(٣) القاضي هو البيضاوي عبد الله بن عمر بن محمد ، قاض مفسّر ولد في بيضاء قرب شيراز وولي قضاء شيراز مدة ، فانصرف عن القضاء ورحل الى تبريز وتوفي فيها سنة ٦٨٦ ه‍ له آثار منها : «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» يعرف بتفسير البيضاوي.

ـ البداية والنهاية ج ١٣ ص ٣٠٩ ـ الأعلام ج ٤ ص ٢٤٨.

١٥٧

كرملة فأعلّت ، أو آئيه كقابلة فحذفت الهمزة تخفيفا.

ثم أنها قد غلبت في دين الإسلام غلبة عرفية عامة ، أو خاصة متشرعة ، أو شرعية وإن كان الأظهر الأخير في جماعة حروف أقصرها اثنان ، مثل حمّ ويسن ، وأطولها آية المداينة في أواخر البقرة (١) وهي مائة وثلاثة وثلاثون كلمة على ما قيل ، وهو مبنيّ على عدم عدّ الحرف الواحد آية كما استقرت عليه كلمتهم.

قال شيخنا (٢) الطبرسي في المجمع لم يعدّق آية ، ولا نظرائه من ن وص ،

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢ ـ صدرها : (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ..) إلخ.

(٢) أمين الدين أو أمين الإسلام أبو الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي الطوسي : مفسّر فقيه ، جليل ، كامل ، نبيل ، محقق ، لغوي من أجلاء الإمامية ولقد أذعن لفظه كل من عاصره أو تأخر عنه : قال الأفندي في رياض العلماء : رأيت نسخة من مجمع البيان بخط القطب الكيدري قد قرأها نفسه على نصير الدين الطوسي وعلى ظهرها أيضا بخطه هكذا : تأليف الشيخ الإمام الفاضل السعيد الشهيد انتهى ـ قال في الروضات : الشيخ الشهيد السعيد والحبر الفقيه الفريد ، الفاضل العالم المفسّر الفقيه المحدّث الجليل الثقة ، الكامل النبيل ، قال الشيخ أسد الله التستري في المقاييس عند ذكر ألقاب العلماء ومنها أمين الإسلام الشيخ الأجل الأوحد الأكمل الأسعد قدوة المفسرين وعمدة الفضلاء المتبحرين أمين الدين أبي علي إلخ .. يروي المترجم له عن جماعة منهم : أبو علي بن الشيخ الطوسي ، والشيخ أبو الوفاء عبد الجبار بن علي والشيخ الحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمي ، والسيد أبو طالب الجرجاني وغيرهم مصنفات كثيرة رائعة منها «مجمع البيان» وهو من أحسن التفاسير وأجمعها لفنون العلم فرع منه منتصف ذي القعدة سنة ٥٣٦ ه‍ «وجوامع الجامع مختصر مجمع البيان والكشاف» و «تاج المواليد» و «أعلام الورى بأعلام الهدى» في فضائل الأئمة وغيرها. توفي سنة ٥٤٨ ه‍ عن الأفندي في رياض العلماء أنه قال : مما اشتهر بين الخاص والعام أن الطبرسي رحمه‌الله أصابته السكتة فظنّوا به الوفاة فغسلوه وكفنوه ودفنوه وانصرفوا فأفاق ووجد نفسه مدفونا فنذر إن خلصّه الله تعالى من هذه البلية أن يؤلف كتابا في تفسير القرآن واتفق أن بعض النباشين كان قد قصد قبره في تلك الحال وأخذ في نبشه فلما نبشه وجعل ينزع عنه الأكفان قبض بيده عليه فخاف النباش خوفا عظيما ثم كلمه فازداد خوف النباش فقال له : لا تخف وأخبره بقصته فحمله النباش على ظهره وأوصله الى

١٥٨

لأنه مفرد وكلّ مفرد فإنه لا يعدّ لبعده عن شبه الجملة ، فأما المركّب فما أشبه الجملة ووافق رؤوس الآي فإنه يعدّ مثل طه ، وحم ، وألم.

أقول : ومن هنا يظهر انهم اعتبروا في معناها معنى الجمعية التي أحد معانيها من قولهم خرج القوم بآيتهم أي بأجمعهم ، وإن كانت مع ذلك عبرة وعلامة واضحة ، وحجة بينة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولذا كان كل آية منه معجزة أبد الدهر ، وعلى الحقائق الكلية والعلوم الربانية ، والمعارف الإلهية التي هي دليل عليها حسبما سمعت فكأنه قد لوحظت في المنقول إليه جميع المعاني كما هو الأوفق بالجمعية المعتبرة في مسماها فإن الأظهر حصول النقل الشرعي فيها.

ولذا قال الجاحظ (١) : سمى الله كتابه اسما مخالفا لما سمى العرب كلامهم

__________________

بيته فأعطاه الأكفان ووهب له مالا جزيلا وتاب النباش على يده ثم وفيّ بنذره وألّف كتاب مجمع البيان انتهى قال المحدث النوري في مستدركات الوسائل بعد نقل هذه الحكاية ومع هذا الاشتهار لم أجدها في مؤلف أحد قبله وربما نسبت الى العالم الجليل المولى فتح الله الكاشاني صاحب تفسير منهج الصادقين وخلاصته وشرح هذه الحكاية مع بعدها في نفسها من حيث بقاء حياة المدفون بعد الإفاقة أنها لو صحّت لذكرها في مقدمة مجمع البيان لغرابتها ولاشتمالها على بيان السبب في تصنيفه مع أنه لم يتعرض لها والله أعلم ، توفى بسبزوار ونقل الى المشهد الرضوي ودفن في جوار الرضا عليه‌السلام.

والطبرسي بالطاء المهملة والباء المفتوحتين والراء الساكنة بعدها سين مهملة نسبة الى طبرستان وهي بلاد مازندران ، قال في معجم البلدان الطبر بالتحريك هو الذي يشقق به الأحطاب وما شاكله بلغة الفرس واستان الموضع أو الناحية فطبرستان أي ناحية الطبر لأن أكثر أهل تلك الجبال مسلحون بالطبر. مقدمة مجمع البيان ، الأعلام ج ٥ ص ٣٥٢ ، روضات الجنان ص ٥١٢.

(١) الجاحظ هو أبو عثمان عمرو بن بحر البصري اللغوي النحوي كان من غلمان النظام وكان من كبار أئمة الأدب ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة ومائلا الى النصب والعثمانية ولد في البصرة سنة ١٦٣ ه‍ وتوفي فيها سنة ٢٥٥ ه‍ فلج في آخر عمره وكان مشوه الخلقة وقيل في قبحه ، لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ما كان إلّا دون قبح الجاحظ ، مات والكتاب على صدره ، قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه ، له تصانيف كثيرة منها «الحيوان» مجلدات و «البيان والتبيين» و «المحاسن والأضداد» و

١٥٩

على الجمل والتفصيل ، سمى جملته قرآنا كما سموا ديوانا ، وبعضه سورة كقصيدة وبعضها آية كالبيت ، وآخرها فاصلة كقافية.

ثم لا يخفى أن ما ذكرناه في تعريف الآية تعريف لفظي لم نقصد به إلّا المعرفة الإجماليّة التي يتميز بها النوع عن غيره في الجملة إذ لا يهمّنا الاستقصاء في تعريفه بما يسلم طردا وعكسا من المناقشات ، وإن كان ملحوظا فيما ذكرناه حيثيّة الجعل الشرعي الذي معها يسلم عن كثير من الاعتراض بخلاف ما ذكره القوم في المقام ، مثل ما قيل من أنها كل كلام يتصل الى انقطاعه ، أو أنها ما يحسن السكوت عليه ، أو أنها جماعة حروف ، الى غير ذلك مما لا يسلم منها لو لا اعتبار الحيثيّة المتقدّمة.

وأما الكلمة فعن الفراء وغيره أن فيها ثلث لغات : فتح الأول وكسر الثاني ، وهو الأشهر ، ويجوز سكون الثاني مع فتح الأول وكسره ، بل قد يقال باطراد الثلاثة في كل ما كان على فعل بفتح الفاء وكسر العين نحو كبد وورق وتطلق على كل لفظ وضع لمعنى مفرد ، وتجمع على كلمات وكلم على الأظهر من الأقوال فيها ، كما صرّح به في «الصحاح» وغيره.

وقد يقال : إنّها مشتقة من الكلم بالفتح فالسكون بمعنى الجراحة نظرا الى أن السمع والقلب يتأثران بها كما أنّ البدن قد يتأثر بالجراحة ، بل قد يكون الأول

__________________

«العثمانية» التي نقض عليها أبو جعفر الإسكافي والشيخ المفيد ، والسيد أحمد بن طاووس ومن أشعار الجاحظ ما أنشده في أواخر عمره عند المبرد :

أترجو أن تكون وأنت شيخ

كما قد كنت في أيام الشباب

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب

دريس كالجديد من الثياب

الكنى والألقاب ، سفينة البحار ج ١ ص ١٤٦ ، الأعلام ج ٥ ص ٢٣٩.

١٦٠