تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

__________________

بأنّه الوصيّ دون ثان

لأحمد المطهّر العدناني

بأنّه الوصيّ دون ثان

لأحمد المطهّر العدناني

ثم يدرتد بها الأبيا

أجبت يكفى (خمّ) بالخصوص

من آية التبليغ بالمخصوص

وجملة الأخبار والنصوص

غير الذي انتاشت يد اللصوص

موهبة خص بها صبيا

أما سمعت يا بعيد الذهن

ما قاله أحمد كالمهنّى

أنت كهارون لموسى منّي

إذ قال موسى لأخيه اخلفني

ومنح النبي والوصيا

أما سمعت خبر المباهلة

أما علمت أنّها مفاضلة

بين الورى فهل رأى من عادلة

في الفضل عند ربّه وقابله

إذ قد أصاب الغرض العرفيا

أمّا سمعت أنّا أوصاه

وكان ذا فقر كما تراه

فخصّ بالدين الذي يرعاه

فإن عداه وهو ما عداه

فهو علي إذ علا العديا

فقال : هل من آية تدلّ

على عليّ الطهر لا تعلّ

بحيث فيها الطهر يستقلّ

تدنيه للفضل فيقصي كلّ

فنال منه المنزل العليا

وآل إبراهيم فازوا إلّا

إذ شرّف الآباء والأنسالا

إنّا وهبنا لهم إفضالا

لسان صدق منهم عليّا

فنال منه المرتضى العلويا

فكان إبراهيم ربانيّا

ثمّ رسولا منذرا رضيّا

ثمّ خليلا صفوة صفيّا

ثمّ إماما هاديا مهديّا

فوال ذاك العالم السميا

فعندها قال : «ومن ذريّتى»

قال له : لا لن ينال رحمتي

ثمّ خليلا صفوة صفيّا

ثمّ إماما هاديا مهديّا

٢٤١

__________________

ويعرفوا النبي والوصيا

بأنّه الوصيّ دون ثان

لأحمد المطهّر العدناني

بأنّه الوصيّ دون ثان

لأحمد المطهّر العدناني

حتى تجوز سالما سويا

أجبت يكفى (خمّ) بالخصوص

من آية التبليغ بالمخصوص

وجملة الأخبار والنصوص

غير الذي انتاشت يد اللصوص

عزوجل ملكا قويا

أما سمعت يا بعيد الذهن

ما قاله أحمد كالمهنّى

أنت كهارون لموسى منّي

إذ قال موسى لأخيه اخلفني

قد ثبت فاغفر ذنبي العديا

أما سمعت خبر المباهلة

أما علمت أنّها مفاضلة

بين الورى فهل رأى من عادلة

في الفضل عند ربّه وقابله

غرا تزين العرش والكرسيا

أمّا سمعت أنّا أوصاه

وكان ذا فقر كما تراه

فخصّ بالدين الذي يرعاه

فإن عداه وهو ما عداه

والحسن الذي جلا المهديا

فقال : هل من آية تدلّ

على عليّ الطهر لا تعلّ

بحيث فيها الطهر يستقلّ

تدنيه للفضل فيقصي كلّ

والحشر معهم في العلي سويا

وآل إبراهيم فازوا إلّا

إذ شرّف الآباء والأنسالا

إنّا وهبنا لهم إفضالا

لسان صدق منهم عليّا

كفى بربي راجعا كفيا

الغدير ج ٤ ص ١٥٦ ـ ١٦١.

٢٤٢

الباب العاشر

في اعجاز القرآن

٢٤٣
٢٤٤

لا ريب في كون القرآن معجزة من معجزات سيّد الأنام عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام ، باقية على مرّ الدهور والأعوام والشهور والأيّام ، وإنّما الكلام في جهة إعجازه وكيفيّته ، فاختلفوا فيه على أقوال :

أحدها : أنّه معجز بفصاحته ، ذهب إليه كثير من المتكلمين ، واختاره الجبّائيان (١) ، والرازي ، والمحكىّ عن الفاضل العلّامة أعلى الله مقامه ذلك في «المناهج» وهو الظاهر منه في كتابه «نهج المسترشدين» ويظهر أيضا من علماء المعاني والبيان حيث ذكروا أنّ من فوائده كشف الأستار عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن.

ولا ينافيه ما ذكره بعضهم من أنّ مدرك الأعجاز هو الذوق ليس إلّا ، سيّما بعد تصريحهم بأنّ وجه الإعجاز أمر من جنس الفصاحة والبلاغة ، نعم عن بعضهم أنّه لا علم بعد علم الأصول اكشف للقناع عن وجه الإعجاز من هذين العلمين ، وفيه إيماء إلى أنّ من وجوه الإعجاز أيضا عنده اشتماله على العلوم الحقيقيّة والمعارف الربانية.

__________________

(١) الجبّائيان : هما أبو على محمّد بن عبد الوهاب كان من الأئمّة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره ، ولد في جبّا (خوزستان) واشتهر في البصرة ، وتوفي فيه سنة (٣٠٣) ه تنسب إليه الطائفة الجبّائيّة ، وابنه أبو هاشم عبد السلام ابن محمّد ، هو أيضا من كبار المعتزلة نسب إليه الطائفة البهشميّة ، تعلّم على أبيه ، وتوفّى ببغداد سنة (٣٢١ ه‍).

٢٤٥

ثانيها : إعجازه من حيث الأسلوب وعنوا به الفنّ والضرب.

ثالثها : ما ذهب إليه الجويني (١) من أنّه معجز بفصاحته وأسلوبه معا ، قال : لأنّ كلّ واحد منهما غير متعذّر على العرب ، لأنّه وجد في كلامهم ما هو بفصاحته وليس مثل أسلوبه ، وكلام مسيلمة (٢) كأسلوبه وليس كفصاحته ، وأمّا مجموعهما فغير مقدور للخلق.

رابعها : ما يحكى عن الشيخ كمال الدين (٣) ميثم البحراني من أنّه معجز بأمور ثلاثة معا : فصاحته ، وأسلوبه ، واشتماله على العلوم الشريفة من علم التوحيد والسلوك الى الله تعالى ، وتهذيب الأخلاق ، فإن الفصاحة خاصّة قد وجدت في كلام العرب ، والأسلوب وإن أمكن عند التكلّف ، لكن اجتماعه مع الفصاحة نادر ، لأنّ تكلّف الأسلوب مذهب بالفصاحة ، وأمّا العلوم الشريفة فلم يوجد لها عين ولا أثر إلّا ما يوجد في كلام قسّ بن (٤) ساعدة وأضرابه ممّن وقف على الكتب الإلهيّة نقلا من غيره.

والحاصل أن كلامهم يوجد فيه ما يناسب بعض القرآن في الفصاحة وهو في مناسبته له في أسلوبه أبعد ، وأمّا في العلوم المذكورة فأشدّ بعدا.

خامسها : أنّه خلوّه من التناقض كما أشار إليه سبحانه بقوله :

__________________

(١) الظاهر انّ المراد به هو عبد الملك بن عبد الله أبو المعالي الفقيه الشافعي توفي سنة (٤٧٨ ه‍) نيسابور.

(٢) هو أبو ثمامة مسيلمة بن حبيب اليمامي ادّعى النبوة قبل الهجرة وسمّى بمسيلمة الكذاب وحاربه المسلمون وقتله الوحشي سنة (١٣ ه‍).

(٣) هو كمال الدين ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني الفقيه الحكيم له تصانيف منها «شرح نهج البلاغة» توفى به سنة (٦٨١ ه‍).

(٤) قسّ بن ساعدة الإيادي من معدّ بن عدنان. قيل : إنّه عمّر (٧٠٠) سنة وهو أوّل من تألّه وتعبّد من العرب ، وقد أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمعه ومات قبل البعثة ـ بلوغ الأرب ج ٢ ص ٢٤٤.

٢٤٦

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

سادسها : إنّه من جهة اشتماله على الغيوب ، والإخبار عن الكائنات قبل وقوعها.

سابعها : ما يحكى عن السيّد المرتضى (٢) رضى الله عنه ، والنظّام (٣) من العامّة وربما يحكى أيضا عن الأستاذ أبي إسحاق (٤) من الأشاعرة ، وكثير من المعتزلة وهو الصرفة ، بمعنى أنّ الله تعالى صرف النّاس عن معارضته.

قيل : وهذا يحتمل أمورا ثلاثة :

الأوّل : أنّه تعالى سلبهم القدرة.

الثاني : أنه سبحانه سلبهم الدّاعية وهمم المتحدين عن معارضته مع قدرتهم عليه.

الثالث : أنّه سلبهم العلوم الّتي كانوا يتمكّنون بها من المعارضة ، وربما يقال : إنّ مختار السيّد هو الأخير.

ثامنها : التوقّف في ذلك كما يحكى عن سديد (٥) الدّين سالم عزيزة ، وربّما

__________________

(١) النساء : ٨٢.

(٢) هو الشريف المرتضى على بن الحسين فقيه الشيعة في عصره ، ولد في بغداد سنة (٣٥٥) وتوفي بها سنة (٤٣٦).

(٣) هو إبراهيم سيّار المتكلّم المعتزلي البصري توفّي ببغداد سنة (٢٣١) ه.

(٤) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ابو إسحاق الاسفرائني المتوفى (٤١٨) ـ الاعلام ج ١ / ٥٩.

(٥) هو سديد الدين سالم بن شمس الدين محفوظ بن عزيزة بن وشاح السوراني الحلّى كان من الفقهاء المتكلمين في القرن السابع له التبصرة والمنهاج في الكلام قرأ عليه السيّد رضى الدين على بن طاوس

٢٤٧

يؤمي اليه كلام الوحيد (١) في «التجريد» حيث قال : وإعجاز القرآن ، قيل : لفصاحته ، وقيل : لاسلوبه وفصاحته ، وقيل : للصرفة ، والكلّ محتمل ، إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة.

لكنّه لا يخفى عليك أنّ الاختلاف في ذلك غير قادح في الإعجاز الّذى اتّفق عليه جميع أهل الإسلام ، بل كافّة الأنام من الخواصّ والعوامّ ، حيث إنّه من الضروريّات القطعية المعلومة لجميع أهل الفرق والأديان أنّ نبيّنا خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ادّعى النبوّة العامّة الخاتميّة على فترة من الرّسل وانقطاع من الوحي ، وضلالة من الأمم ، وجهالة في أهل العالم ، واندراس لجملة العلوم والحكم ، فجاءهم بهذا القرآن الهادي للّتي هي أقوم ، هدى من الضلالة ، ورشدا من العمى والجهالة ، ونورا من الظلمة ، وضياء عن الغياهب (٢) المدلهمّة ، واستبصارا لكافة الأمّة ، وكشفا للغمّة ، ساطعا تبيانه ، قاطعا برهانه ، قرأنا عربيّا غير ذي عوج ، داعيا إلى خير مقصد ومنهج ، مصدّقا لما بين يديه من الكتب السماويّة ، محتويا على أكثر ممّا اشتملت عليه من العلوم الحقّة والمعارف الإلهيّة ، معجزا سائرا دائرا ، باقيا على مرّ الدهور ، متجليا منه أنوار الحقائق تجلّى النور من الطّور ، أفحم به من تصدّى لمعارضته من العرب العرباء ، وأبكم به من تحدّى من مصاقع الخطباء الفصحاء الّذين هم كانوا أمراء الكلام ، وبلغاء الأنام ، فلم يظهر منهم إلّا الضعف والفتور ، مع ما كان يتلو عليهم من الآيات الحاكمة عليهم بالعجز والقصور مثل قوله تعالى :

__________________

المتوفى (٦٦٤) ، طبقات أعلام الشيعة ج ٣ / ٧١.

(١) المقصود به هو الخراجة نصير الدين الطوسي المتوفى (٦٧٢).

(٢) الغياهب جمع الغيهب وهي الظلمة ، والمدلهمّة من ادلهمّ اللّيل اى اشتدّ سواده.

٢٤٨

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ...) الآية (١) ، وقوله تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) ، وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٣) ، وقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٤).

فعجزوا عن معارضته ببليغ الكلام حتى اختاروا الخصام بالنبال والسهام ، وقصروا عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه فالتجأوا إلى قبول جراحة السنان للقصور عن فصاحة اللّسان.

ولم يعهد من واحد منهم في ذلك الزّمان ولا في غيره من الأزمان إلى هذا الأوان معارضته بمثل أقصر سورة منه مع وقوع التحدّي والإخبار عن عجز الجميع عن الإتيان به كما في الآيات المتقدّمة ، وتوفّر الدواعي على المعارضة والمناقضة ، وتراكم الأسباب الدينيّة والدنيوية على المغالبة والمنافسة.

__________________

(١) البقرة : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) يونس : ٣٧ ـ ٣٨.

(٣) هود : ١٢ ـ ١٤.

(٤) الإسراء : ٨٨.

٢٤٩

وهذا غاية الإعجاز للكلام بلا فرق بين تسليم اشتماله على مراتب الفصاحة والبلاغة ، والأسرار الحكميّة والآداب الإلهيّة وعدمه ، فإنّ إعجازه على الأوّل ظاهر ، وكونه خارقا للعادة معجزا لجميع البشر باهر ، وكذا على الثاني أى على فرض عدم التسليم بأنّ إعجازه للفصاحة ، بل للصرفة أيضا ظاهر ، بل لعلّه أظهر ، إذ سلب القدرة عن آحاد النّاس عمّا كانوا يقدرون عليه واستمرار ذلك السّلب في حال حياة السالب وبعدها الى أبد الدهر أعجب وأغرب من إظهار القدرة على ما لا يقدرون عليه.

ألا ترى أنّه لو ادّعى أحد النبوة وقال : إنّ معجزتي المشي على الماء ، وادّعاها آخر وقال : إنّ معجزتي سلب قدرة الناس عن المشي على الأرض لكانا مشتركين في خرق العادة ، بل لعلّ الثاني أعظم قدرا وأجلّ خطرا لكونه تصرفا في الغير ، سيّما مع عمومه وشموله لجميع آحاد النوع ، خصوصا مع استمراره مدّة حياته وبعد وفاته.

وبالجملة كون القرآن معجزا أمر بديهيّ لا شك فيه ولا شبهة يعتريه ، سيّما مع الإخبار فيه في كمال القوّة والاطمئنان بمحضر ومنظر من فصحاء آل عدنان وبلغاء قحطان بأنّه (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١) مع أنّهم قد أذعنوا له بكمال الفصاحة والبلاغة وأعظموا أمره حتّى نسبوه الى السّحر كما حكى عنهم فيه بقوله : (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٢) ، وقد ورد في تفسير قوله تعالى :

__________________

(١) الإسراء : ٨٨.

(٢) الصّافّات : ١٥.

٢٥٠

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١) : إنّها نزلت في الوليد (٢) بن المغيرة وكان شيخا كبيرا مجرّبا من دهاة العرب ، وكان من المستهزئين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يجلس في الحجر ويقرأ القرآن ، فاجتمعت قريش الى الوليد وقالوا : يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال : دعوني أسمع كلامه ، فدنى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا محمّد أنشدنى من شعرك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما هو بشعر ، ولكنّه كلام الله الذي ارتضاه الملائكة ـ وأنبياؤه ورسله ، فقال : أتل عليّ منه شيئا ، فقرأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (حم ، تنزيل) السجدة فلمّا بلغ قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (٣) فاقشعرّ الوليد وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته ومرّ الى بيته ولم يرجع الى قريش من ذلك ، فمشوا إلى أبى جهل وقالوا : يا أبا الحكم إنّ أبا عبد شمس صبأ إلى دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أما تراه لم يرجع إلينا ، فغدا أبو جهل الى الوليد وقال له : يا عمّ نكسّت رؤسنا وفضحتنا وأشمتّ بنا عدوّنا ، وصبوت إلى دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : ما صبوت الى دينه ولكنّي سمعت كلاما صعبا تقشعرّ منه الجلود ، فقال أبو جهل : أخطب هو؟ قال : لا ، الخطب كلام متصل وهذا كلام منثور ، ولا يشبه بعضه بعضا ، قال : أفشعر هو؟ قال : لا ، أما إنّى لقد سمعت أشعار العرب بسيطها ، ومديدها ، ورملها ، ورجزها ، وما هو بشعر ، قال : فما هو؟ قال : أفكّر فيه ، فلمّا كان من الغد قال له : يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال : قولوا : هو سحر ، فإنّه أخذ بقلوب الناس ، فأنزل الله على رسوله في ذلك (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ

__________________

(١) المدثر : ١١.

(٢) الوليد بن المغيرة بن عبد الله ابو عبد الشمس المخزومي من زنادقة العرب ، هلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر (١ ه‍) ـ الاعلام ج ٩ / ١٤٤.

(٣) فصلت : ١٣.

٢٥١

وَحِيداً) (١).

وإنّما سمّى وحيدا لأنّه قال لقريش : أنا أتوحّد بكسوة البيت سنة ، وعليكم في جماعتكم سنة ، وكان له مال كثير وحدائق ، وكان له عشر بنين بمكّة ، وكان له شعر عبيد عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها ، فأنزل الله تعالى : (ذَرْنِي) إلى قوله : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٢). (٣)

وفي خبر آخر : أنّ الوليد قال لبني مخزوم : والله لقد سمعت من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس والجنّ ، إنّ له لحلاوة وإن عليه لطلاوة (٤) ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق (٥) ، وإنّه ليعلو ولا يعلى ، فقال قريش : صبأ (٦) الوليد ، فقال ابن أخيه أبو جهل : أنا أكفيكموه ، فقعد إليه حزينا ، وكلّمه بما أحماه ، فقام وناداهم فقال : تزعمون أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله مجنون ، فهل رأيتموه يخنق؟ وتقولون : إنّه كاهن ، فهل رأيتموه يتكهّن؟ وتزعمون أنّه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا؟ فقالوا : لا ، فقال : ما هو إلّا ساحر ، أما رأيتموه يفرّق بين المرء وأهله وولده ومواليه؟ ففرحوا به وتفرّقوا مستعجبين منه (٧)

__________________

(١) المدثر : ١١.

(٢) المدثر : ١١ ـ ٢٤.

(٣) بحار الأنوار ج ٩ ص ٢٤٥ عن تفسير القمى ص ٧٠٢.

(٤) الطلاوة بتثليث الطاء : الحسن والبهجة.

(٥) أغدقت الأرض : أخصبت.

(٦) صبأ : أى خرج من دين الى دين آخر.

(٧) بحار الأنوار ج ٩ ص ١٦٧ ـ مجمع البيان ج ٥ ص ٣٨٧ بتفاوت يسير.

٢٥٢

وفي «مجمع البيان» : يروى أنّ كفّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن ، فعكفوا على لباب البرّ ، ولحوم الضأن ، وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم ، فلمّا أخذوا فيما أرادوا واسمعوا قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) (١) ، فقال بعضهم لبعض : هذا كلام لا يشبهه شيء من الكلام ، ولا يشبهه كلام المخلوقين ، وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا (٢).

وفي «الإحتجاج» عن هشام بن الحكم (٣) ، قال : اجتمع ابن أبي العوجاء (٤) ، وأبو شاكر الديصاني ، وعبد الملك البصري ، وابن المقفّع (٥) عند بيت الله الحرام يستهزءون بالحاجّ ويطعنون على القرآن ، فقال أبن أبي العوجاء : تعالوا ينقض كلّ واحد منّا ربع القرآن ، وميعادنا من قابل في هذا الموضع تجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلّه ، فإنّ في نقض القرآن إبطال نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي إبطال نبوّته إبطال الإسلام ، وإثبات ما نحن فيه ، فاتّفقوا على ذلك وافترقوا ، فلمّا كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام.

فقال ابن أبى العوجاء : أمّا أنا فمتفكّر منذ افترقنا في هذه الآية : (فَلَمَّا

__________________

(١) هود : ٤٤.

(٢) مجمع البيان ج ٣ ص ١٦٥ ط صيدا.

(٣) هو هشام بن الحكم أبو محمد الشيباني بالو لاء الكوفي كان من أصحاب الامام جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام نشأ بواسط وسكن بغداد وصنف كتبا في الكلام وفي الرد على المخالفين ، توفى حدود سنة (١٩٠) ه ـ انظر الاعلام ج ٩ / ٨٢.

(٤) هو عبد الكريم بن أبى العوجاء كان من الزنادقة وكان خال معن بن زائدة الشيباني قتل حدود سنة (١٥٣) قتله محمد بن سليمان بن على العباسي الحاكم بالكوفة ـ الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٣٨.

(٥) هو عبد الله بن المقفع من أكابر الكتاب ولد في العراق مجوسيا سنة (١٠٦) وأسلم على يد عيسى ابن علي عم السفاح وولى كتابة الديوان للمنصوب العباسي ، واتهم بالزندقة فقتله أمير البصرة سفيان المهلبي سنة (١٤٢) ـ الاعلام ج ٤ / ٢٨٣.

٢٥٣

اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) (١) فما أقدر أن أضمّ إليها في فصاحتها وجمع معانيها فشغلتني هذه الآية عن التفكّر فيما سواها.

وقال عبد الملك : وأنا منذ فارقتكم متفكّر في هذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (٢) ولم أقدر بمثلها.

فقال أبو شاكر : وأنا منذ فارقتكم متفكّر في هذه الآية : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٣) ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفّع : يا قوم إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر ، وأنا منذ فارقتكم متفكّر في هذه الآية : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) (٤) لم أبلغ غاية المعرفة بها ، ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم : فبيناهم في ذلك إذ مرّ بهم جعفر بن محمّد الصّادق عليهما‌السلام فقال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٥).

فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا : لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت وصيّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا إلى جعفر بن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله ما رأيناه قطّ إلّا هبناه

__________________

(١) يوسف : ٨٠.

(٢) الحجّ : ٧٣.

(٣) الأنبياء : ٢٣.

(٤) هود : ٤٤.

(٥) الإسراء : ٤٤.

٢٥٤

واقشعرّت جلودنا لهيبته ، ثمّ تفرقوا مقرّين بالعجز (١).

إن قلت : إنّ الاختلاف في تعيين الوجه في الإعجاز قادح في أصله ، نظرا إلى أنّ الدعوة عامّة إلى كافّة النّاس ، فلا بدّ أن تكون المعجزة عامّة واضحة بحيث يفهمها النّاس كافّة ، ولا يشكّ فيها أحد منهم وإن أنكرها بلسانه ، والاختلاف في ذلك ينبئ عن اختفاء كلّ من الوجوه الظاهرة لكلّ من المختلفين عن الآخرين ، حيث إنّ كلّ واحد منهم منكر لما يثبته الآخرون من وجوه الإعجاز ، وكلّ من هذه الوجوه المختلفة فيها قابل للإنكار لعدم القطع بتحقّقه ، وعدم الاتفاق عليه.

بل ومن هنا يظهر عدم الاتفاق على اعجاز القرآن في الجملة ، لأنّ كلّا من الفرق يعلّل جهة الإعجاز بما ينكره الآخر.

فالجواب أنّه مجرّد الاختلاف في ذلك لا يقتضي الشكّ في الإعجاز بعد الاتّفاق عليه ، بل لعلّ الاختلاف إنّما نشأ من فهم كلّ منهم غير ما فهمه الآخر لعجزه عن ذلك ، أو لأنّه ليس من أهله ، وليست تلك الوجوه مانعة الجمع كى يمنع تحقّق كلّ منها من الآخر ، بل يمكن تصويب كلّ منهم من جهة فهمه ، كما لو اتّفق جماعة على إكرام زيد غير أنّ واحدا منهم يكرمه لعلمه ، وآخر يكرمه لعدالته ، وثالث يكرمه لسخائه ، ورابع يكرمه لشجاعته ، وكلّ هذه الأوصاف ظاهرة للكلّ ظهور البعض للبعض ، فلا مانع من كونه مجمعا لها ، على أنّه ليس المقصود إثبات جامعيّته عند الجميع بل الاتّفاق على وجوب الإكرام وهو حاصل بتصديق كلّ فرقة منهم بصفة من تلك الصفات ، ولو مع فرض التضادّ بين الجهات ، كالصّرفة وغيرها لرجوعهما إلى الإثبات والنفي ، فإنّ الاتّفاق على ما هو المراد دافع

__________________

(١) الإحتجاج : ٢٠٥.

٢٥٥

للإيراد ، ومن البيّن أنّ الجهات التعليليّة لا توجب اختلافا أو تغايرا فيما علّل بها ، لأنّها علل وكواشف ، ومعرّفات لا يتقيّد بها المطلوب.

فان قلت : إنّ الجهات في المقام تقييديّة ترجع الى اختلاف الأحكام تبعا لاختلاف الموضوعات كما في المثال المذكور ، إذ توجب الفرقة الأولى إكرام العالم ، والثانية إكرام العادل ، والثالثة إكرام السخي ، وهكذا ، والاتّفاق في مثله منتف جدّا ، ولذا لم يعتبروا به في باب الإجماع أيضا.

قلت : لا ريب في أنّ المقصود في المقام إعجاز القرآن ، وهو حكم خاصّ في موضع خاصّ وإن اختلفت علله إثباتا ونفيا أو جميعا واستقصاء ، وهذا لا يقتضي اختلاف الموضوع ، وذلك لأنّه ليس الكلام في أنّ نوعا خاصّا خارقا للعادة من الفصاحة والبلاغة أو من البيانات المشتملة على الآداب والحكم ، أو الصرفة ، أو غير ذلك معجزة أم لا ، فإنّ الخارق من كلّ شيء معجزة بشرطها ، بل الكلام في إثبات إعجاز القرآن ولو بأيّ وجه كان وهذا ممّا اطبقوا عليه.

فإن قلت : مجرّد الاختلاف في ذلك ممّا يقدح في الإطباق على الإعجاز لعدم حصول الإطباق على شيء من تلك الجهات بل لعلّه ربما يتوهّم أنّ الاتّفاق الحاصل على اعجازه إنّما وقع بمجرّد التعبّد والتقليد والأخذ من غير دليل ولذا اختلفوا في وجهه حتى ذهبوا فيه كلّ مذهب حسبما سمعت ، وهذا ممّا يقدح في الإعجاز.

قلت : نمنع من تحقّق القدح فيه بمجرّد الاختلاف ، كيف ومراتب النّاس واستعداداتهم مختلفة وبحسبها تختلف أنظارهم ومقاصدهم ، ومن كمال المعجزة اشتمالها على جهات عديدة ظاهرة وخفيّة ، والتوهم المذكور في السؤال ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه بعد وقوع التحدّى به على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل في آيات كثيرة

٢٥٦

تتلى على المصاقع الخطباء في كلّ صباح ومساء.

وكيف كان فالحقّ أنّ إعجاز القرآن ليس من جهة واحدة بل هو من جهات كثيرة وإن اختصّ ادراك بعضها بالبعض :

منها : ما سمعت من الفصاحة العجيبة والبلاغة الغريبة الّتى أذعن لها جميع فصحاء العرب وبلغاء محافل الأدب مع كمال حرصهم واجتهادهم على معارضته ومناقضته ، حتى انّهم قد أفحموا عند سماع قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) ، وأبكموا من نداء (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) ، بل كانوا عموا عن ذلك وصمّوا وإن بذلوا جهدهم في ذلك وهمّوا.

وتوهّم أنّه لعلّهم قد عارضوه بما لم يصل إلينا ، مدفوع بأنّه لو كان لبان ، سيّما مع توفّر الدّواعى واجتماع الهمم على نقل الأمور العجيبة والشّئون الغريبة خصوصا في مثل هذا الأمر الذي جمعوا فيه متفرّقات ما صدر عنهم في مقام المعارضة حسبما سمعت سابقا ، ولا يخفى عليك توفّر الدواعي على نقل القصائد والخطب والاشعار والأمثال الفصيحة من الجاهليّة والإسلام وقد لفّق مسيلمة الكذّاب جملة من المزخرفات والاضحوكات قد بقيت حكايتها إلى الآن كقوله : والزارعات زرعا ، فالطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، والطابخات طبخا ، وقوله الآخر : الفيل ، ما الفيل ، وما أدريك ما الفيل ، له ذنب وثيل وخرطوم طويل.

فإن قلت : لعلّهم قد عارضوه بما قد ذهب من البين بعد ظهر شوكة الإسلام ، وتبدّل المعارضة بالكلام بالمجادلة بالسيوف والسّهام.

قلت : بعد تسليم ذهابه من بين المسلمين فلا ريب في توفّر الدواعي على بقائه بين الكفّار من أهل الكتاب وغيرهم ، سيّما اليهود الّذين هم أشدّ الناس

٢٥٧

عداوة للمؤمنين ، مضافا إلى ظهور وجود أهل اللّسان في كل زمان وأوان بكلّ مكان ، واتّفاق الجميع بحصول الإعجاز بحيث لم يظهر إلى الآن المعارضة من فصحاء نجد ، واليمن ، والعراق ، والحجاز.

ومنها : نظمه العجيب وأسلوبه الغريب الّذي لا يشبه شيئا من أساليب الكلام للعرب العرباء ، ولا صنفا من صنوف تركيبات مصاقع الخطباء ، ولا فنّا من فنون توصيفات بلغاء الأدباء ، بحيث تنادي كلّ جزء منه من الآيات والسور : ما يشبه نقد الكلام البشر ، ولذا لمّا عجز الوليد عن معارضته ، قال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) مع شيوع الفصاحة وغلبتها في ذلك الزمان ، بل ربما يظهر من بعض الأخبار ، ويؤيّده الاعتبار أنّ الأولى في معجزة كل نبيّ أن تكون من سنخ الصنعة الغالبة على أهل زمانه.

كما روى في «العلل» و «العيون» و «الاحتجاج» عن ابن السكّيت (١) أنّه قال لأبى الحسن الرّضا عليه‌السلام : لماذا بعث الله موسى بن عمران عليه‌السلام بيده البيضاء والعصاء ، وآلة السّحر ، وبعث الله عيسى عليه‌السلام بالطبّ ، وبعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكلام والخطب ، فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى لمّا بعث موسى عليه‌السلام كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله عزوجل بما لم يكن في وسع القوم مثله وبما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجّة عليهم ، وأنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى عليه‌السلام في وقت ظهرت فيه الزمانات ، واحتاج الناس الى الطبّ فأتاهم من عند الله عزوجل بما لم يكن عندهم مثله وبما أحيى لهم الموتى ، وأبرأ الأكمه

__________________

(١) ابن السكيت : يعقوب أبو يوسف كان من أكابر اللغويّين من الاماميّة ولد في بغداد سنة (١٨٦ ه‍) أدرك الامام الرّضا عليه‌السلام واستفاد منه في أبان شبابه ، واتصل بالمتوكل العبّاسى وجعله المتوكّل من ندمائه ثمّ قتله لتشيّعه سنة (٢٤٤ ه‍) ـ الاعلام ج ٩ ص ٢٥٥.

٢٥٨

والأبرص بإذن الله ، واثبت به الحجّة عليهم ، وإنّ الله تبارك وتعالى بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله في وقت كان الأغلب على عصره الخطب والكلام ـ وأظنّه قال : والشعر ، فأتاهم من كتاب الله ومواعظه وأحكامه بما أبطل به قولهم وأثبت الحجّة عليهم.

فقال ابن السكيت : تالله ما رأيت مثل اليوم قطّ ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال عليه‌السلام : العقل تعرف به الصادق على الله فتصدّقه ، والكاذب على الله فتكذّبه ، فقال ابن السكّيت : هذا والله الجواب (١).

وبالجملة غرابة الأسلوب ممّا أذعن به الجميع ، ولذا حكى في بعض التفاسير عن أبي عبيدة (٢) : أنّ أعرابيّا سمع قول الله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فخرّ ساجدا في الحال ، فقيل له : أسجدت لله تعالى وآمنت به؟ فقال : لا بل سجدت لفصاحة هذا الكلام.

ثمّ إنّ الأولى عدّ هذين الوجهين سببا واحدا للعلم بالإعجاز ، ولذا تعرّضنا لما يتعلّق بكلّ منهما في الآخر.

وأمّا ما يحكى عن القائلين بالصرفة في إبطال القول بالفصاحة من أنّ الإعجاز لو كان مستندا إليها لكان إمّا من حيث ألفاظه المفردة أو من حيث الهيئة التركيبيّة ، أو منهما معا ، والأقسام الثلاثة بأسرها باطلة ، فاعجازه بسبب الفصاحة باطل ، فيكون للصرفة ، إذ ما عداها من الأقوال ضعيفة ، وإنّما قلنا إنّ الأقسام باطلة لأنّ العرب كانوا قادرين على المفردات وعلى التراكيب ، ومن

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٢٤ ـ بحار الأنوار ج ١٧ ص ١٢٠.

(٢) هو أبو عبيدة معمر بن المثنّى اللّغوى البصري ولد سنة (١٠٦ ه‍) وتوفّى سنة (٢٠٣ ه‍) ـ الاعلام ج ٨ ص ١٩٨.

٢٥٩

كان قادرا عليهما منفردين يكون قادرا عليهما معا ، فثبت من ذلك أنّ العرب كانوا قادرين على المعارضة وإنّما منعوا منها ، ليكون المنع هو العجز.

ففيه أوّلا أنّ فساد الأقسام لا يقضى بتعيين القول بالصرفة لأنّ بطلان غيرها ليس ببيّن ولا مبيّن ، بل الحقّ صحتها أيضا في الجملة حسبما يفصّل الكلام فيها ، سيّما اشتماله على الاخبار بالمغيبات وغيرها ممّا يأتي.

وثانيا إنّ ما ذكره من قدرة العرب على المفردات وعلى التراكيب. إن كان المراد قدرتهم جميعا أو بعضهم على جميع أفراد النوعين حتّى الكلام البليغ الفصيح الذي هو في نهاية الفصاحة والبلاغة فتطرّق المنع اليه ، واضح جدّا ، كيف ومن البيّن أنّه أوّل الكلام ، بل الضرورة قاضية بأنّ الطائفة المشتركين في لغة واحدة من اللّغات ليسوا بمتساويين في الاقتدار على المفردات الفصيحة ومركّباتها ولا على أداء الكلام مطابقا لمقتضى الحال على نحو واحد ، فضلا من أن يشركوا في القدرة على المرتبة العليا الّتي يعجز عنها القوى البشريّة.

وإن كان المراد قدرتهم على معرفة اللّغات العربيّة وتركيبها في الجملة ، فمع تسليمه لا يجدي ، ضرورة أنّ مجرّد معرفة اللّغات لا يستلزم القدرة على التعبير عن المعاني بالألفاظ الجامعة لوصفى الفصاحة والبلاغة ، وبالجملة فالفرق واضح بين العلم باللّغات والألفاظ المفردة وكيفيّة التركيب وبين ملكة إنشاء الكلام جامعا للوصفين. هذا.

مضافا إلى أنّ القائل بالصرفة إن أراد سلب الداعية فمن البيّن نحقّقها ، سيّما بالنّسبة إلى الّذين شمّروا عن ساق الجّد للمعارضة. وإن أراد سلب العلم أو القدرة فمن المفروض تسليم القائل بالصرفة قدرتهم المستلزمة للعلم أيضا.

أللهمّ إلّا أن يقال : إنّ ما هو المسلّم في كلامه إنّما هو القدرة لا عند

٢٦٠