تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

إنه ليس شيء أبعد عن قلوب الرجال من تفسير القرآن ، في ذلك تحيّر الخلائق أجمعون إلّا من شاء الله ، وإنّما أراد الله بتعميمه في ذلك أن ينتهوا الى بابه ، وصراطه ، وأن يعبدوه وينتهوا في قوله الى طاعة القوّم بكتابه ، والناطقين في أمره وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم ثم قال : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١) ، فأمّا عن غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا ، ولا يوجد.

وقد علمت أنّه لا يستقيم أن يكون الخلق كلهم ولاة الأمر لأنهم لا يجدون من يأتمرون عليه ، ومن يبلّغونه بأمر الله ونهيه فجعل الله الولاة خواصّ ليقتدى بهم فافهم ذلك إن شاء الله ، وإيّاك وتلاوة القرآن برأيك فإن الناس غير مشتركين في علمه كإشتراكهم فيما سواه من الأمور ، ولا قادرين على تأويله إلّا من حدّه وبابه الذي جعله الله له فافهم إن شاء الله واطلب الأمر من مكانه تجده إن شاء الله (٢).

قلت : وفيه إشارات الى أنّ المقصود علم جميع القرآن حتى المتشابه. بل جميع القرآن حتى التأويل والبطون ، وهذا هو الذي يوجب الرجوع الى من جعله الله أبوابه وصراطه كما لا يخفى على من تأمّل في هذا الخبر وغيره من الأخبار المتقدمة مضافا الى أنّ ما سمعت من الشواهد والأخبار حاكمة على هذه لو فرضنا فيها ظهورا أو إطلاقا ومعه يوهن الاستدلال بها جدّا.

وأوهن منه ما استدلّ به الشيخ الحرّ في فوائده الطوسية مضافا الى الأخبار التي قد سممعت الجواب عنها وأنّها بالدلالة على عكس مطلوبه أشبه من أن

__________________

(١) النساء : ٨٣.

(٢) المحاسن ص ٢٦٨ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٤١ عن المحاسن.

١٢١

النصّ المتواتر وإجماع الإمامية دلّا على أنّ الذي نزل من القرآن قراءة واحدة ، وأنّ الباقي رخص في التلاوة به في زمن الغيبة ، ولا دليل على جواز العمل بكل واحدة من القراءات مع كثرتها جدّا وكونها مغايرة للمعنى غالبا.

وأنّ ظواهر القرآن أكثرها متعارضة بل كلّها عند التحقيق ، وليس لنا قاعدة يدلّ عليها الدليل في الترجيح هناك ، وإنما وردت المرجّحات المنصوصة في الأحاديث المختلفة مع قلّة اختلافها بالنسبة الى اختلاف ظواهر الآيات فلو كنّا مكلّفين بالعمل بتلك الظواهر القرآنية من غير رجوع في معرفة أحوالها الى الإمام عليه‌السلام لو ردت مرجّحات وقواعد كلّية يعمل بها كما وردت هناك ، وإنما وجدنا جميع أهل المذاهب الباطلة والإعتقادات الفاسدة يستدلّون بظواهر القرآن استدلالا أقوى من الاستدلال على الأحكام التي استنبطها المتأخرون من آيات الأحكام بآرائهم ، فلو كان العمل بتلك الظواهر جائزا من غير رجوع الى الأئمة عليهم‌السلام في تفسيرها ومعرفة أحوالها من نسخ وتأويل وتخصيص وغيرها لزم صحّة جميع تلك المذاهب الباطلة من الجبر والتفويض والتشبيه ، بل الشرك ، والإلحاد ، ونفي الإمامية والعصمة بل مذهب المباحية ، بل مذهب النصيرية ، وكذا جميع المذاهب الباطلة.

والى هذا أشار الصادق عليه‌السلام بقوله : احذروا فكم من بدعة زخرفت بآية من كتاب الله ينظر الناظر إليها فيراها حقّا وهي باطل.

وأنّ ذلك لو جاز الاستغناء عن الإمام عليه‌السلام : لأنّه ما من مطلب من مطالب الأصول والفروع إلّا ويمكن أن يستنبط من ظاهر آية أو آيات فأيّ حاجة الى

١٢٢

الإمام؟ وقد صرّح بنحو ذلك القاضي عبد الجبّار (١) وغيره من علماء العامّة ، وذلك مباين لطريقة الإمامية معارض لأدلّة الإمامة ، واللازم باطل فكذا الملزوم.

وأنّ ظاهر حديث الثقلين وجوب التمسّك بهما معا فمن تمسك بالكتاب ولم يرجع في تفسيره ومعانيه الى العترة لم يكن قد تمسّك بهما وإلّا لزم كون المخالفين المستدلّين بتلك الظواهر قد تمسّكوا بهما لأنهم يعترفون بفضل العترة ، وهو واضح البطلان ، ولو علم معاني الكتاب وقدر على الاستنباط منه غير العترة لافترقا وهو خلاف النصّ ، لكن من تمسّك بالعترة كان قد تمسّك بهما لأنهم لا يخالفون الحقّ من تلك الظواهر المتعارضة ، وأكثر تلك الظواهر مخالفة للعترة فظهر الفرق ، والى هذا المعنى أشار مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : هذا كتاب الله الصامت ، وأنا كتاب الله الناطق.

وأن كلّ آية يحتمل النسخ والتأويل وغيرهما إذا قطعنا النظر عمّا سواه فلا وثوق بجواز العمل بها إلّا أن يقترن بها حديث عن الأئمة عليهم‌السلام.

وأنّ تعريف المتشابه صادق على كلّ آية من آيات الأحكام النظرية لاحتمال كل واحدة منها بل كل لفظة لوجهين فصاعدا إذا قطعنا النظر عن الأحاديث مضافا الى احتمال النسخ وغيره.

والوهن في الوجوه المذكورة بيّن لمن يكون له أدنى تأمل ، لضعف الأوّل بأنّ الاختلاف في القراءة سيّما في الآيات المتعلقة بالأحكام الشرعية ليس بحيث يوجب الاختلاف في الأحكام كما لا يخفى على من أمعن النظر في الاختلافات

__________________

(١) قاضي القضاة عبد الجبّار بن أحمد الهمذاني الأسد الأسدآبادي ، قاض ، أصولي ، كان شيخ المعتزلة في عصره ، ولي القضاة بالري ومات سنة ٤١٥. له تصانيف كثيرة منها : تنزيه القرآن عن المطاعن.

لسان الميزان ج ٣ ص ٣٨٦ ، تاريخ بغداد ج ١١ ص ١١٣.

١٢٣

المتعلقة بها ، وعلى فرضه كما في قوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) (١) ، فقد قيل بتواتر القراءات السبع أو العشر حسبما تأتي إليه الإشارة ، ومع تسليم العدم فقد ينزّل غير المتواتر منها منزلة الأخبار الآحاد ، سلّمنا التعارض لكن باب الترجيح مفتوح ، على أن الرجوع في مثله الى غيرها من الأدلّة لا يقدح في غيره مما لا اختلاف فيه ولا معارض له.

والثاني بمنع التعارض حقيقة في الجلّ فضلا عن الكلّ سيّما في الأحكام ، وعلى فرضه فالمرجع القواعد التي يفزع إليها في جملة المخاطبات من المحكم بالنسخ ، أو التخصيص ، أو التقييد ، أو البيان ، أو غيرها ممّا هو المقرّر عند أهل اللسان.

والثالث بأنّ ما ذكره من استدلال جميع أرباب المذاهب بالظواهر القرآنيّة حقّ لا شبهة فيه ، لكنّه يقضي بإجماعهم على حجيّته ووجوب الأخذ به ، نعم ما يستدلّون به على باطلهم ليس من الظواهر التي هي من المحكمات ، (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ ، وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٢) ، على أن التعارض والتشابه واقع في نوع الأخبار التي هي حجّة عندهم قطعا ، مضافا الى أنّ في قوله يستدلّون بظواهر القرآن استدلالا أقوى نظرا من وجهين ، فإن استدلالهم ليست بالظواهر فضلا من أن تكون أقوى ، ونسبة الاستنباط الى المتأخرين غريب جدا ، فإنّ الطريقة كانت جارية مستمرة من لدن نزول القرآن الى هذا الزمان على استنباط الأحكام من ظواهرها ، بل الأصول الاعتقادية أيضا حسبما صرّح به في كلامه.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

(٢) آل عمران : ٧.

١٢٤

ولذا قال مولانا أبو الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليه‌السلام في رسالته الي أهل الأهواز حين سئلوه عن الجبر والتفويض : إنه اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع فرقها ، فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون ، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تجتمع أمتي على ضلالة ، فأخبر عليه‌السلام أنّ ما اجتمعت عليه الأمّة ولم يخالف بعضها بعضا هو الحقّ فهذا معنى الحديث ، لا ما تأوله الجاهلون ، ولا ما قاله المعاندون من أبطال حكم الكتاب واتباع حكم الأحاديث المزورة والروايات المزخرفة ، واتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب ، وتحقيق الآيات الواضحات النيرات ، الى أن قال في أبطال الجبر وقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ، وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١) ، وقوله : «وما الله بظلام للعبيد» (٢) ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣) مع آي كثيرة في ذكر هذا الخبر (٤) بطوله المذكور في «الإحتجاج» وبوجه أبسط في «تحف العقول» وفيه الاستدلال بآيات كثيرة كلّها ظواهر في الردّ على أهل الجبر وغيره من الشواهد الكثيرة المتقدمة أنّ القرآن هو الصادق والمصدّق للأخبار ، والناطق عليها بالحق ، وأنه الميزان والمعيار في تصديق الأخبار ، وترجيح مختلفاتها كما أنّ عليها المدار في إيضاح مشكلات القرآن وتعيين متشابهاتها.

والرابع بما يغني عن بيانه وضوحه كيف وإنما الكلام في حجيّة الظواهر التي لا تشمل إلّا على قليل من الأحكام ، وأين هذا من استنباط جميع الحقائق

__________________

(١) الكهف : ٤٩.

(٢) (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ـ فصلت : ٤٦.

(٣) يونس : ٤٤.

(٤) الاحتجاج ص ٢٤٩ ـ ٢٥٢ إلّا أنه ليس في الحديث ذكر الآيتين الأخيرتين.

١٢٥

والأحكام المدلول عليها في مراتب بطونه وتأويلاته كي لا نحتاج معه الى الأمام الذي أودعه الله تعالى علم كتابه المشتمل على جميع كان وما يكون.

والخامس بما سمعت آنفا من الاستدلال بالخبر على المختار والظاهر أنّ المراد به الأخذ بما اتّضح من كلّ منهما ، فإذا علم شيء من محكمات الكتاب وظواهره علم أنه قول العترة الطاهرة ، وإذا صحّ شيء منهم علم أنه مأخوذ من الكتاب ، وإذا اختلف النقل منهم عرض على الكتاب الذي هو الحاكم على الأخبار المختلفة ، أو المجعولة كما أنّ الكتاب إذا تشابهت دلالته أو اختلف في ظاهر النظر آياته وجب الرجوع فيها الى العترة الطاهرة ، وأمّا المحكم منه فهو الحجة الحاكمة على ما وصل إلينا من أخبارهم.

ولذا قال مولانا أبو الحسن العسكري عليه‌السلام في الخبر المتقدم.

بعد ما سمعت حكايته : فأول خبر يعرف تحقيقه من الكتاب وتصديقه والتماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال عليه‌السلام : إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فلمّا وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب الله مثل قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١) ثم اتفقت روايات العلماء في ذلك لأمير المؤمنين عليه‌السلام أنه تصدّق بخاتمه وهو راكع (الى أن قال) فالخبر الأول الذي استنبط منه هذه الأخبار خبر صحيح ، وهو أيضا موافق للكتاب ، فإذا شهد الكتاب بتصديق الخبر لزم الإقرار به الخبر (٢).

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) الإحتجاج ص ٢٤٩ ـ ٢٥٢ ولا يخفى أن المؤلف نقل بالمعنى السطر الآخر لأنه على ما نقله المجلسي في البحار ج ٥ ص ٢١ ط. «فعلمنا أن الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار وتحقيق هذه الشواهد فيلزم

١٢٦

والسادس بأنّ مجرّد الاحتمال لا يدفع الاستدلال بعد حجيّة الظواهر مع أنه متطرّق الى الأخبار أيضا مضافا الى احتمالات أخرى من حيث السند.

والسابع بالمنع الواضح فإنّ مجرد احتمال المعاني المختلفة فضلا عن احتمال النسخ والتخصيص والتقييد وغيرها لا يوجب صيرورة المحكم الظاهر الدلالة متشابها.

نعم يجب الفحص في الأدلة اللفظية بلا فرق بين الرواية والآية عن المخصّص وسائر المعارضات للعلم الإجمالي بالاختلاف وطرق الطوارئ من التخصيص وغيره في الجملة ، وهذا لا اختصاص له بالآيات بل لعلّه في الأخبار أكثر منه فيها ، وأين هذا من القول بعدم حجيّة الظواهر السالمة عن جميع المعارضات أو الراجحة عليها بعد الفحص التامّ كما هو محل البحث في المقام ، فعدم وصول المعارض إلينا كاف في بقاء الظواهر على حجيّتها ، مع أنّ مجرد الاحتمال متطرّق إليهما معا ، وقد ورد عنهم عليهم‌السلام أنّ في أخبارنا محكما محكم القرآن ، ومتشابها كمثابة القرآن (١).

ثم إنّه قد ظهر من جميع ما مرّ ضعف ما ربّما يحكى عن الأمين الإسترابادي الذي هو أوّل من سدّ باب التمسك بالآيات حيث استدلّ لذلك بعدم ظهور دلالة قطعية على الحجيّة ، ويترتب المفاسد على فتح هذا الباب ، ألا ترى أنّ علماء العامّة قالوا في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢) : أنّ المراد بأولي الأمر ، السلاطين ، وبأنّ القرآن نزل على وجه التعمية بالنسبة الى أذهان الرعية ، وبأنّه إنما نزل على قدر عقول أهل الذكر ، وبأنّ

__________________

الأمة الإقرار بها كانت هذه الأخبار موافقة للقرآن ، ووافق القرآن هذه الأخبار».

(١) عيون الأخبار ط. قم ج ١ ص ٢٩٠ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٨٢ ط. بيروت.

(٢) النساء : ٥٩.

١٢٧

العلم بناسخه ومنسوخه ، والباقي على ظاهره ، وغير الباقي على ظاهره ليس إلّا عند أهل البيت عليهم‌السلام ، وإنّ الظن ببقائها على ظاهرها إنما يحصل للعامّة دون الخاصّة الى غير ذلك ممّا يتضح الجواب عنه بالتأمل فيما ذكرناه آنفا.

كما أنه يظهر منه أيضا ضعف ما ذكره السيد صدر الدين (١) في «شرح الوافية» حيث استدلّ من قبل القائلين بحجيّة الظواهر القرآنية بأنّ المتشابه كما يدلّ عليه بعض الأخبار ما اشتبه على جاهة ، فنقول لا شيء من الظاهر بمشتبه ، وكلّ متشابه مشتبه ، فلا شيء من الظاهر بمتشابه وإذا لم يكن متشابها فيكون محكما وكل محكم يجب العمل به وفاقا ، أما الكبرى فللأخبار ، وأما الصغرى فلأنّ معنى قوله ما اشتبه على جاهة هو أنّ غير الإمام المعبّر عنه بالجاهل بعد علمه بالوضع لا يتصور منه الجهل بالمراد من اللفظ بحيث يصير مترددا فيه ، ولا شكّ أن الظاهر يكون المراد منه مظنونا فلا يكون مشتبها بهذا المعنى.

وأجاب عنه ، أولا بما حاصله أنّ المظنون أيضا مشتبه لصدق الجهل المقابل للعلم الذي هو الإعتقاد الجازم على الظن ، فالظّان أيضا جاهل.

وثانيا أنه لا دليل على حصر الآيات في المحكم والمتشابه ، والآية غير دالّة عليه بل يجوز أن يكون الحكم وجوب إتباع المحكم وردّ المتشابه الى العالم والوقوف عند الظواهر.

قلت : وهو غريب جدا بعد قيام الإجماع القطعي على حجيّة الظواهر وأنّ

__________________

(١) السيّد صدر الدين بن محمد باقر الرضوي القميّ ، فقيه ، تلمذ على المدقق الشيرواني والآغا جمال الخونساري والشيخ جعفر القاضي ثم رحل الى قم وقام بالتدريس حتى كثرت الفتن فانتقل الى النجف الخونساري والشيخ جعفر القاضي ثم رحل الى قم وقام بالتدريس حتى كثرت الفتن فانتقل الى النجف وعظم موقعه في النفوس واشتغل بالتدريس وتلمذ عليه جمع من الأعاظم مثل الأستاذ الأكبر المحقق البهبهاني وغيره ، صنّف كتبا قيّمة مثل رسالة في حديث الثقلين ، وشرح الوافية في الأصول ، وكتاب الطهارة استقصى فيه المسائل ونصر مذهب ابن عقيل في عدم تنجس الماء القليل ، توفي سنة ١١٦٠.

١٢٨

الظن في باب اللغات حجّة وإن اختلفوا في حجيّته في الأحكام ، مضافا الى أن المعروف من مذهب الأخباريين تفسير العلم بالاعتقاد الراجح الشامل له ولذا ادّعوا قطعيّة الإخبار حسبما فصّل في الأصول ، وأغرب منه نفي الحصر والالتزام بالتثليث فإنّ الظاهر من الآية بل كاد أن يكون صريحها الحصر مضافا الى دلالة الأخبار الكثيرة عليه.

ثم أنه رحمه‌الله فرّق في آخر كلامه بين ظواهر الكتاب وظواهر الأخبار التي لا شك في حجيّتها ، مع أنّ قضية إلحاق المظنون بالمتشابه في الموضعين : بأنّا لو خلّينا وأنفسنا لعلمنا بظواهر الكتاب والسنّة عند عدم نصب القرينة العقلية والفعليّة ، والقوليّة المتصلة على خلافها ، ولكن منعنا عن ذلك في العمل بالقرآن إذ منعنا الله عن إتباع المتشابه ، ولم يبيّن حقيقته لنا ، ومنعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير القرآن ، ولا ريب أن غير النصّ محتاج الى التفسير لتحقق الاحتمال فيه ، وأوصيائه عليهم‌السلام أيضا منعونا.

وأيضا ورد الذمّ في إتباع الظنّ من غير استثناء ظواهر القرآن لا قولا لا تقريرا ، وليس هناك دليل قطعي بل ولا ظني ولا إجماع على الاستثناء.

وأما الأخبار فقد علمنا بجواز العمل بظواهرها من غير فحص من جهة الإجماع.

أقول : أمّا حجيّة الظواهر فموضع وفاق حسبما برهن عليه في الأصول إذ عليه بناء المخاطبات والمحاورات ، والمكاتبات في جميع اللغات ، مع عدم التأمل من أحد في العمل بها مع قيام احتمالات عديدة من المجاز ، والنسخ والتخصيص ، والتقييد ، وغيرها ، وبالجملة فالأصل المؤسّس في المقام هو حجيّة الظواهر كما وقع التصريح به في مواضع من كلامه الذي لا داعي الى الأطناب بحكايته ، وحينئذ فالاستدلال بالظواهر الناهية عن اتباع الظن مع كونه

١٢٩

دوريا بل من وجهين إذا كانت من ظواهر الكتاب ضعيف جدا ، نعم قد ادّعى المانع عن العمل بها وهو المنع عن إتباع المتشابه مع عدم بيان حقيقته.

وفيه أنّه مع فرض عدم البيان فالمرجع في فهم معناه العرف واللغة الحاكمين على عدم شموله للظواهر التي لا يتأمل أحد من أهل العرف واللغة في كونها من المحكم المفسر بما اتضح معناه وظهر لكل عارف باللغة ، لا المتشابه الذي لا يعلم المراد به إلّا بقرينة تدلّ عليه أو بغيره ممّا مرّت إليه الإشارة ، على أنّ دعوى عدم بيان حقيقته ممنوعة جدّا كيف وقد سمعت دلالة الأخبار عليه ، وقضيّتها كون المنسوخ منه لا ما احتمل نسخه سيّما بعد تأسيس الأصل المتقدم ، كما أنه لا يرفع اليد عن العام والمطلق وغيرهما من الظواهر التي هي الحقائق بمجرّد احتمال التخصيص والتقييد والإضمار وغيرها ممّا يعدّ في المجاز ، هذا مضافا الى أنهما مفسّران في الأخبار بما يؤول الى المعنى العرفي حسبما سمعت في ما مرّ.

ومن هنا يظهر النظر فيما أطنب من الكلام من نصرة الأخباريين سيّما فيما مهّده من المقدمة الثانية لذلك فلاحظ بل وفيما ذكره المحدث البحراني (رحمه‌الله تعالى) (١) في مقدمات «الحدائق» ، وفي «الدرر النجفية». وان اختار في آخر

__________________

(١) المحدث الكبير ، والفقيه العظيم الشيخ يوسف بن أحمد البحراني ، كان محدثا ، فقيها ، غزير العلم. ولد في قرية ماحوز سنة ١١٠٧ وقام والده العلّامة الكبير بتدريبه وتربيته وتصدّى لتدريسه وتعليمه حتى أكمل في العلوم الأدبية ومهر فيها ، مضى من عمره أربع وعشرون سنة وقد صار جامعا للعلوم العقلية والنقلية ولكن في هذه السنة أي ١١٣١ مات والده تغمده الله برحمته ، بقي المترجم بعد أبيه بالقطيف سنتين حتى احتلّت الأفاغنة بلاد إيران وقتلوا الشاه سلطان حسين آخر ملوك الصفوية وتفاقمت الاضطرابات في البحرين واستمرّت الثورات الداخلية حتى ألجأت المترجم له الى الجلاء عن وطنه فارتحل الى إيران برهة في كرمان ثم ارتحل الى شيراز ولبث بها غير يسير مدرّسا وإماما وتفرّغ للمطالعة والتأليف ، والبحث والتدريس فألف جملة من الكتب وعدّة من الرسائل ولكن ما أمهله الدهر

١٣٠

كلامه التفصيل المستفاد من تبيان الشيخ رحمه‌الله المؤيّد بالعلوي المروي في الإحتجاج حسب ما مرّ حكايتها.

__________________

حتى عصفت بتلك البلاد عواصف الأيام وألجأت المترجم له إلى الالتجاء بقرية (فسا) وابتدأ هناك بتصنيف الحدائق حتى ثار طاغية شيراز (نعيم داغ خان) في سنة ١١٦٣ وقتل حاكم فسا وهجم على دار المترجم له وهو مريض ونهبت أمواله وأكثر كتبه ففّر منها مريضا بعائلته صفر اليد بناحية اصطهبانات ولبث بها مدة يقاسي مرارات الآفات ولكن تلك الظروف القاسية ، والمواقف الحرجة لم تمنعه عن المطالعة والتأليف فتراه في خلالها كلها مكبّا على مطالعاته ، جادّا في تأليفاته ، سائرا في نهجه ، فقد أنتج من بين الظروف وهاتيك الأدوار كتبا قيّمة ناهزت الأربعين سيما الحدائق الناضرة ولنعم ما قال في حقه العلامة المولى شفيع الجابلقي البروجردي في إجازته الكبيرة المسماة ب الروضة البهية في الإجازات الشفيعية : أما الشيخ المحدث المحقق الشيخ يوسف قدس‌سره صاحب الحدائق فهو من أجلّاء هذه الطائفة ، كثير العلم ، حسن التصانيف ، نقي الكلام ، بصير بالأخبار المروية عن الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) يظهر كمال تتبعه وتبحره في الآثار المرويّة بالنظر إلى كتبه سيما الحدائق الناضرة ، فإنها حقيق أن تكتب بالنور على صفحات وجنات الحور ، وكل من تأخر عنه استفاد من حدائقه ، وكان ثقة ، ورعا ، عابدا ، زاهدا .. فلينظر إلى ما وقع على هذا الشيخ من البلايا والمحن ، ومع ذلك كيف اشغل نفسه وصنف تصنيفات فائقة؟ .. أرباب التراجم وأصحاب المعاجم بعده كلهم أثنوا عليه ، قد حلّ المترجم له بالحائر المقدس على عهد زعيمها الأكبر المحقق البهبهاني قبل سنة ١١٦٩ ودارت بينه وبين البهبهاني مناظرات كثيرة في الأبحاث العلميّة ، توفي قدس‌سره رابع ربيع الأول سنة ١١٨٦ ودفن بالحائر.

الأعلام ج ٩ ص ٢٨٦ ، روضة البهية ، مقدمة الحدائق للسيد عبد العزيز الطباطبائي.

١٣١
١٣٢

الباب السابع

في معنى الإنزال والتنزيل والسورة وأقسامها

الأربعة والآية والكلمة والحروف وغيرها

وفيه ضبط السور والآيات والحروف

١٣٣
١٣٤

وفيه فصول :

الفصل الأول

في الانزال والتنزيل والفرق بينهما

قد سبق جملة من الكلام في تحقيق معنى التنزيل والوحي والإلهام ، والذي ينبغي ذكره في المقام أنّ القرآن تارة قد وصف بالإنزال وأخرى بالتنزيل ، وهما وإن اشتركا في الحلول من عال الى أسفل ، بل قال في القاموس نزّله تنزيلا وأنزله إنزالا ومنزلا كمجمل ، واستنزله بمعنى : إلّا أنّه قد يفرق بين الأمرين باختصاص الأوّل بأحداث الفعل من غير تكثر بأن كان النزول دفعة واحدة ، والثاني بإحداثه على وجه التكثير والتدريج ، ولعلّه لما في معنى التفعيل من الإشعار على تكثير الفعل أو الفاعل أو المفعول ، والمقام من الأوّل حيث إنّه قد أنزل الى السماء الدنيا ، وإلى البيت المعمور في ليلة القدر ، ثم أنزل منجما مفرقا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ثلاث وعشرين سنة ، أو في عشرين سنة ، بل يستفاد ذلك أيضا من قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (١) وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٢) بل من قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٣) ،

__________________

(١) الدخان : ٣.

(٢) القدر : ١.

(٣) البقرة : ١٨٥.

١٣٥

سيما بعد ملاحظة الأخبار الواردة في تفسيرها حسبما تسمع إنشاء الله تفصيل الكلام فيها وفي قوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١) وغيره مما يدل على الأمرين ، ولذا جاء بالفعل في الثلاثة على صيغة الأفعال ، والرابعة على صيغة التفعيل ، بل نبّه سبحانه بجعله فرقانا بعد كونه قرآنا مجتمعا في النزول ، أو في صفة وجوده ، وبالجملة هذا الفرق بين الفعلين وإن لم ينبّه عليه جمهور أهل اللغة إلّا أنّه لا بأس بعد مساعدة الأخبار ودلالتها على قسمي النزول ، ومناسبة الإطلاق لهما في خصوص الموارد.

ففي «الكافي» عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله عزوجل : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٢) ، وإنما أنزل القرآن في عشرين سنة بين أوله وآخره فقال عليه‌السلام : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان الى البيت المعمور ، ثم نزل في طول عشرين سنة ثم قال عليه‌السلام قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان ، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان ، وأنزل القرآن في ليلة ثلاث وعشرين (٣).

وفيه وفي «الفقيه» بالإسناد عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال نزلت التوراة في ست مضين من شهر رمضان ، ونزل الإنجيل في اثنتي عشرة ليلة مضت من شهر رمضان ، ونزل الزبور في ليلة ثمان عشرة من شهر رمضان ، ونزل

__________________

(١) الأسراء : ١٠٦.

(٢) البقرة : ١٨٥.

(٣) الأصول من الكافي كتاب فصل القرآن باب النوادر الحديث السادس ج ٢ ص ٤٦٠ ط. الإسلامية.

١٣٦

القرآن في ليلة القدر (١).

وعن بعض نسخ «الفقيه» الفرقان بدل القرآن ، ولا بأس به فإن الأوّل باعتبار النزول الأول الجمعي ، والأخير باعتبار ما يؤول اليه من النزول المنجم التفريقي.

وفيهما عن حمران بن أعين سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (٢) قال هي ليلة القدر ، وهي في كل سنة في شهر رمضان من العشر الأواخر ، ولم ينزل القرآن إلّا في ليلة القدر ، قال الله تبارك وتعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٣) ، قال عليه‌السلام يقدّر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة الى مثلها من قابل من خير أو شر أو طاعة أو معصية ، أو مولود ، أو أجل ، أو رزق الحديث (٤).

وروى القمي عن الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (٥) قال عليه‌السلام أي أنزلنا القرآن ، والليلة المباركة ليلة القدر ، أنزل الله القرآن فيها الى البيت المعمور جملة واحدة ، ثم نزل من البيت المعمور على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في طول عشرين سنة الخبر (٦).

أقول : وصريح هذا الخبر كبعض ما مرّ أنّ القرآن وقد نزل جملة واحدة الى البيت المعمور ، والأخبار وإن اختلفت في تعيين موضعه حيث إنّه قد ورد في

__________________

(١) الفروع من الكافي ج ص ١٥٧ ، الفقيه ج ٢ ص ١٠٢.

(٢) الدخان : ٣.

(٣) الدخان : ٤.

(٤) الفروع من الكافي ج ٤ ص ١٥٧ ، الفقيه ج ٢ ص ٣٠١.

(٥) الدخان : ٣.

(٦) الصافي ج ٢ ص ٥٤٠ ط. الإسلامية بطهران عن مجمع البيان والقمي.

١٣٧

العلوي المذكور في «الدر المنثور» أنه الضراح (١) بيت فوق سبع سموات تحت العرش ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون اليه الى يوم القيمة (٢).

وفي علل ابن سنان المروي عن مولانا الرضا عليه‌السلام : إنه بيت في السماء الدنيا بحذاء العرش (٣).

بل قد ورد مثله في أخبار آخر ، وعن بعضهم أنه هو الكعبة البيت الحرام لكونه معمورا بالحج والعمرة ، إلّا أن المستفاد من أكثر الروايات ، وأشهرها وأظهرها أنه بيت في السماء الرابعة وهو الضراح حيث إنّ الملائكة لمّا ردّوا على الله سبحانه في جعله في الأرض خليفة ، فقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (٤) فحجبهم عن نوره سبعة آلاف عام ، فلاذوا بالعرش سبعة آلاف سنة الى أن تاب عليهم ، وجعل لهم البيت المعمور في السماء الرابعة بحذاء العرش مثابة ، وأمنا لهم ، ومطافا لهم ، وقبولا لتوبتهم ، وأمرهم ببناء بيت في الأرض بمثاله وقدره (٥) ، بل قد يقال : أنّ هذه الأخبار الأخيرة وإن كانت أشهر وأكثر إلا أن مقتضى الجمع بينهما مع صحّة جميعها القول بتحقّق البيت في جميع تلك المواضع ، والخطب فيه سهل.

__________________

(١) الضراح بضم الضاد بيت في السماء حيال الكعبة يدخل كل يوم سبعون ألف ملك.

(٢) بحار الأنوار ج ١٤ ص ١٠٥ ط. القديم عن الدر المنثور.

(٣) في البحار ج ١٤ ص ١٠٤ عن العلل : فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش يسمى الضراح ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى البيت المعمور بحذاء الضراح.

(٤) البقرة : ٣٠.

(٥) كما في البحار ج ١٤ ص ١١٤ عن العلل عن الصادق عليه‌السلام وعن الدر المنثور عن علي بن الحسين عليهما‌السلام.

١٣٨

الفصل الثاني

في معنى السورة

المشهورة في السور أنها بالواو ، والهمز إما لغة فيها على ما في القاموس ، أو أنه للاختلاف في اشتقاقها كما في المجمع وغيره ، فإنّها على الأول مأخوذة من سور المدينة لحائطها المحيط بها ، أو من السورة التي جمعها السور بالضم فالسكون للمنزلة الرفيعة ، ومنه قول النابغة (١) :

ألم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب

وعلى الثاني من السؤر الذي هو البقية غلب استعمالها على جملة من

__________________

(١) النابغة الذبياني زياد بن معاوية ، أبو أمامة ، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى من أهل الحجاز. كانت تضرب له قبّة من جلد أحمر بسوق عكاظ فتقصده الشعراء فتعرض عليها أشعارها وكان الأعشى وحسّان والخنساء ممن يعرض شعره على النابغة ، وكان أبو عمرو بن العلاء يفضّله على سائر الشعراء وهو أحد الأشراف في الجاهلية ، وكان حظيا عند نعمان بن المنذر حتى شبّب في قصيدة له بالمتجردة (زوجة النعمان) فغضب النعمان ، ففرّ النابغة ووفد على الغسّانيّين بالشام ، وغاب زمنا. ثم رضي عنه النعمان ، فعاد إليه واعتذر بقصائد تعرف بالاعتذاريات وكان أحسن شعراء العرب ديباجة ، لا تكلف في شعره ولا حشو. وعاش عمرا طويلا وديوانه مشهور طبع بمصر وباريس. مات نحو ثمانية وعشر قبل الهجرة وما أدرك عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الأعلام ج ٣ ص ٩٢ ، الأغاني ج ١١ ص ٣ ، نهاية الارب ج ٣ ص ٥٩.

١٣٩

الآيات تزيد على الثلث ، ذات ترجمة.

وعرّفت بتعريفات لا داعي في التعرض لها في المقام ، وستسمع بعض الكلام في ترجمة الفاتحة ، إنما المهم تحديد سور القرآن لإناطة جملة من الأحكام عليها في الشرع كوجوب قراءة سورة كاملة في كل سورة من أوليي الفرائض ، وحرمة القران بين سورتين في ركعة فضلا عمّا قد يلزم قراءتها أو تعليمها لنذر وشبهه ، أو استئجار ، أو إمهار ، فالمشهور عند العامّة مائة وأربعة عشر سورة ، وعن أبيّ بن كعب (١) ستة عشر بزيادة القنوتين (٢) ، وعن بعضهم ثلاثة

__________________

(١) أبي بن كعب بن قيس من بني النجار من الخزرج ، صحابي أنصاري ، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود ، مطلعا على الكتب القديمة يكتب ويقرأ على قلة العارفين بالكتابة في عصره ولما أسلم كان من كتّاب الوحي ، وشهد بدرا وأحدا وخندقا والمشاهد كلها وكان من الاثنى عشر الذين أنكروا على أبي بكر خلافته وأرادوا تنزيله عن منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال أبو الصلاح في التقريب : أبي بن كعب من المعروفين بولايتهم عليهم‌السلام. وكان من فضله وجلالته أنه في حديث حكى عنه الصادق عليه‌السلام قولا في حسن الظن كما في سفينة البحار في كلمة ظنن ج ٢ ص ١١٠ عن الصادق عليه‌السلام : حسن الظن أصله من حسن إيمان المرء وسلامة صدره الى أن قال : وقال أبي كعب إذا رأيتم أحد إخوانكم في خصلة تستنكروها منه فتأولوا لها سبعين تأويلا فإن اطمأنت قلوبكم على أحدهم وإلا فلوموا أنفسكم حيث لم تعذروه في خصلة سترها عليه سبعون تأويلا وأنتم اولى بالإنكار على أنفسكم منه. وكان أبي بن كعب من كتّاب الوحي ولذلك أمره عثمان بجمع القرآن وفي الحديث أقرأ أمتي أبي بن كعب ـ قال في الأعلام : له في الصحيحين وغيرهما ١٦٤ حديثا ، وكان نحيفا قصيرا أبيض الرأس واللحية مات بالمدينة سنة ٢١ ه‍. الأعلام ج ١ ص ٧٨ ، وسفينة البحار ج ١ ص ٨ وج ٢ ص ١١٠ ، وحلية الأولياء ج ١ ص ٢٥٠.

(٢) سورتا القنوتين سورتان مجعولتان مرويتان عن طريق العامة. قال السيوطي في الإتقان والدر المنثور : أخرج الطبراني والبيهقي ، وابن الضريس : أن من القرآن سورتين وقد سماهما الراغب في المحاضرات سورتي القنوت ونسبوهما الى تعليم علي وقنوت عمر ومصحف ابن عبّاس وزيد بن ثابت وقراءة ابن موسى إحداهما : بسم الله الرحمن الرحيم إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك ـ والثانية بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد

١٤٠