تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

وأما لفظ الهبة فهو وغيره فيه سواء ، وكذلك كل لفظ ينعقد به الملك من صدقة وبيع.

قال المنصور بالله : وبلفظ الإنحال إن قصد به النكاح.

وقال صاحب اللمع : إن جرى به عرف انعقد ، وللحنفية قولان في لفظ الإجارة ، فقال الكرخي : ينعقد النكاح بها لقوله تعالى : (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ).

وقال أبو بكر الرازي : لا ينعقد ؛ لأن الإجارة مؤقتة ، واختاره الإمام يحيى ، والنكاح مؤبد.

وقال الشافعي : الخاصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كونه ينعقد في حقه بلفظ الهبة لا في حق غيره.

وقيل : كونه لا يحتاج وليا ولا شاهدا.

وثمرة هذه الجملة قد بين بعضها في بيان المعنى ، وهي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحل له أزواجه اللاتي كنّ معه ، وإن زدن على الأربع ، وهذا من خواصه عليه‌السلام ، وأنه أحل له الوطء بملك اليمين ، وقد تقدم هل يعتبر الإيمان في حق الزوجة والمملوكة أو لا يعتبر في الموطوءة بالملك لا في الزوجة ، وإن كان النكاح يستباح بالهبة ، لكن هل يختص به عليه‌السلام أم لا؟

قال الحاكم : وفي ذلك دلالة على أن استباحة المباح لا يؤثر في الزهد ، وأن تركها ليس من الزهد ، والمأخذ محتمل ، وقد تقدم ما قيل فيه.

وقوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ).

يعني بيّنّا تحليل النكاح والإماء ، واختصصناك بما اختصصت به لنفي الحرج عنك.

وقيل : معناه ما فرضنا عليهم عدم الزيادة على الأربع ، وقيل : اعتبار الولي والشهود.

٨١

قوله تعالى :

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) [الأحزاب : ٥١ ـ ٥٢]

المعنى قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ) أي تؤخر وتترك ، (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تضم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم بين أزواجه ، فأحل الله تعالى له ترك القسم هذا ، عن قتادة ، وهو الظاهر.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرجى سودة ، وجويرية وصفية ، وأم حبيبة وميمونة ، وكان يقسم لهنّ ما شاء ، وآوى عائشة وحفصة ، وأم سلمة وزينب.

وروي أنه كان يسوي مع ما أطلق له ، وخير فيه ، إلا سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة ـ رضي الله عنها ـ وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك.

وقيل : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ) أي : تترك زواجة من تشاء من نساء أمتك ، وتزوج من تشاء.

وعن الحسن كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها.

وقيل : يقبل من يشاء من الموهوبات منه ، ويرد من يشاء.

وقيل : لما نزلت آية التخيير فخيرهن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنه يقسم لمن يشاء ويترك من يشاء ، وكذلك النفقة إن شاء ساوى وإن شاء فاضل ، وهذا من خواصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٨٢

وأما في حق غيره فتجب التسوية ، وقد يستدل على هذا بقوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وبما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من كان له امرأتان ولم يعدل بينهما في القسمة جاء يوم القيامة وشقه مائل» وهذا إذا كنّ حرائر الجميع ، أو إماء الجميع ، وهنّ زوجات ، فأما الحرة والأمة فللحرة يومان وللأمة يوم ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للحرة ثلثان في القسمة وللأمة ثلث».

وعن علي عليه‌السلام أنه قال : يقسم للحرة يومان ، وللأمة يوم واحد ، وأحد قولي أبي العباس ومالك تجب التسوية بين الحرة والأمة ، أما لو كانت عنده زوجة ، وتزوج بغيرها فإنه يقيم عند البكر سبعا وعند الثيب ثلاثا ، ولا يحتسب بها عندنا ، وهو قول الشافعي ومالك

وقال أبو حنيفة : الإقامة سواء في البكر والثيب ، وتقضى الزوجة المتقدمة أيام الإقامة.

قال في النهاية : وسبب الخلاف تعارض حديث أنس أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا ، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ، وحديث أم سلمة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما تزوجها فأصبحت عنده قال : «إنه ليس بك على أهلك هوان ، إن شئت سبعت عندك ، وسبعت عندهنّ ، وإن شئت ثلثت لك ودرت».

قال ابن القاسم : هذه الإقامة واجبة.

وقال ابن عبد الحكم : مستحبة.

قوله تعالى : (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ) المعنى : لك أن تترك من شئت ، وإذا تركتها فلك طلبها ، ولا حرج عليك.

وقوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) المعنى : إذا علمن أن الله سبحانه لام يلزمك قسمة ، وجعل لك هذه الخاصية ، ذهب حزنهن.

٨٣

وقوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ)

قيل : إن الله سبحانه أراد إكرام زوجات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما اخترن الله ورسوله في آية التخيير أن جازاهن بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحل له غيرهن ، ولا أن يتبدل بهن غيرهن ، ويلزم من التعليل أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحل له طلاقهن وهن التسع التي مات عنهن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائشة بنت ابي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وصفية بنت حيي الخيبرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويريه بنت الحارث المصطلقية.

وقيل : المراد لا يحل لك من الكتابيات اليهود والنصارى من بعد المسلمات ؛ لأن الكتابيات لا ينبغي أن يكن أمهات المؤمنين.

وقيل : لا تحل لك النساء من الإماء من بعد الحرائر.

وقوله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ) لأن الجاهلية كانت عادتهم أن ينزل أحدهم عن زوجته للآخر على أن ينزل له عن زوجته.

قال في الكشاف : وحكي أن عيينة بن حصن دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده عائشة من غير استئذان فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أين الاستئذان»؟ فقال : ما استأذنت على رجل منذ أدركت ، ثم قال : من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال : «هذه عائشة أم المؤمنين» قال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله قد حرم ذلك» فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله؟ فقال : «أحمق مطاع ، وإنه على ما ترين لسيد قومه».

وعن عائشة : ما مات رسول الله حتى أحل له النساء ، تعني أن الآية قد نسخت ، ولا يخلو نسخها إما أن يكون بالسنة وإما بقوله تعالى : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ).

٨٤

وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف ، أما التسري مع الزوجات فجائز له لقوله تعالى : (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ).

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) [الأحزاب : ٥٣]

النزول

روي عن أنس وغيره أنها نزلت في وليمته في زينب بنت جحش ، وذلك لما بنى بها أمر أنسا أن يدعو بالناس وقد أولم بتمر وسويق وشاة ، فترادفوا أفواجا يأكل كل فوج فيخرج ، ثم يدخل فوج آخر إلى أن قال : يا رسول الله دعوت حتى لم أجد أحدا أدعوه ، فقال : «ارفعوا طعامكم» وتفرق الناس وبقي ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليخرجوا فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : «السّلام عليكم أهل البيت» فقالوا : وعليك السّلام يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك؟ فطاف الحجرات فسلم عليهنّ ودعون له ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شديد الحياء فتولى ، فلما رأوه موليا خرجوا فرجع ونزلت.

وقيل : كان هذه في بيت أم سلمة دخل عليه جماعة فأكلوا وأطالوا الجلوس والحديث ، فتأذى بهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستحيا أن يأمرهم بالخروج فنزلت ، عن قتادة ومقاتل.

وقيل : في أناس كانوا يدخلون عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الطعام ويجلسون حتى يدرك فتأذى بهم ، فنزلت.

٨٥

وقيل : كان الفقراء ينتظرون فضل طعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيدخلون بغير إذن ، والمعنى : لا تدخلوا إلا وقت الإذن إلى الطعام ، ولا يكون دخولكم وأنتم تنظرون إناه ، وإناؤه نضجه وإدراكه ، بل إذا كنتم غير متوقعين ومتحينين.

قال جار الله : وهذا في قوم كانوا يجيئون طعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينتظرون إدراكه ، ولو كان لغيرهم لم يدخل أحدهم إلا بإذن خاص وهو إلى الطعام ، وغير بالنصب على الحال ، وقرأ ابن أبي عبلة بجر (غير) صفة للطعام ، وضعفه الزمخشري ؛ لأنه إذا جرى على غير من هو له برز الضمير فيقول : غير ناظرين إناءه أنتم.

وقوله تعالى : (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ) ولم تكونوا متوقعين لوقته هذا مفهوم تفسير الزمخشري ، فأما لو كانوا متوقعين لم يدخلوا مع الإذن ، وهذا نظير لما ورد في الخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن طعام المفاجاة ، وعلل بأن الأغلب عدم الرضاء ، وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل مفاجئا وعلل بأنه عرف الرضاء ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو امتنع من الأكل أن انجرح صدر من فاجأه فتكون الآية على حال سببها ، وإذا حصل الرضاء بالانتظار جاز سواء كان الطعام قد نضج أم لا ، فقد تجري العادة بالمسابقة إلى إحراز الضيف ودعيه قبل نضج الطعام.

قوله تعالى : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) أي تفرقوا ، ولا تطلبوا بالوقوف بعد الطعم الأنس بالحديث ، يعني حديث بعضهم لبعض ، أو حديث أهل البيت ، وقد علل سبحانه وجه الانتشار والنهي عن الوقوف للاستئناس بالحديث أن ذلك يؤذي النبي عليه‌السلام ، وذلك لضيق المكان ، والحاجة إلى وقوف غيرهم.

وقوله تعالى : (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أي : من إخراجكم ، والله تعالى لا يستحي من الحق الذي هو إخراجكم.

٨٦

وثمرة هذه الآية الكريمة : وجوب الاستئذان ، وأنه يعمل بما يعرف من شواهد الأحوال وقرائنها ، وأن ما كان القلب لا يطيب به مع عدم الحياء لم يبحه الإذن مع الحياء ، وقد جاء في الخبر : «ما أخذ بسوط الحياء فهو حرام».

فإن قيل : فيلزم من هذا ألا يصح بيع من عرف منه أنه ما باع إلا لأجل الحياء.

قلنا : إذا أخرجه عن حد الاختيار لم يصح على أصل المؤيد بالله ، ويكون في الآية دليل له ، واطلاق الهدوية أنه مختار ، وإنما الإكراه المانع هو الإجحاف ، وقد رأيت عادة بعض الفضلاء العاملين إذا أدان دينا يخرج فيبادر في قضائه خشية أن صاحبة غير راض بالتراخي ، فرضي الله عن العلماء العاملين وهذه مسألة يتساهل فيها من ديدنه الغفلة عن النظر ، ومحاسبة النفس ، فيكون ملازما لوظائف (١) النوافل والإمامة ، وهو ملازم فيما عليه مع قدرته على التخلص ولو بثياب الجمعة والعيد.

اللهم الطف بنا لطفا يقودنا إلى رضاك ، وأغننا عن مد الأيد إلى سواك.

قال الحاكم : وهذا الكلام المنهي عنه هو المباح فنهي عنه في هذه الحال لما كان يؤدي إلى تأذي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقوله تعالى : (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) وهذا من أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاحتمال وعدم المواجهة بما يستنكر.

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : حسبك في الثقلاء أن الله لم يحتملهم.

__________________

(١) مختار الصحاح ج : ١ ص : ٣٠٣ وظف الوظيفة ما يقدر للإنسان في كل يوم من طعام أو رزق وقد وظفه توظيفا.

٨٧

قوله تعالى :

(وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) [الأحزاب : ٥٣ ـ ٥٥]

النزول

قيل إن عمر ـ رضي الله عنه ـ حث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الحجاب فنزلت.

وقيل : إن عمر مر بنساء في المسجد فقال : احتجبن ، فنزلت.

وقيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة فكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فنزلت آية الحجاب.

وأما قوله تعالى : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) فقيل : إن رجلا من قريش قال : لئن قبض رسول الله لأنكحن عائشة.

وأما قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) الآية ، فعن ابن عباس لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : ونحن أيضا نكلمهم من وراء حجاب ، فنزلت.

قال الحاكم : وهذا محمول على أنه أنزل معه ؛ لأن تأخير البيان لا يجوز ، فلما تلا الأولى قالوا ذلك ، فتلا الثانية.

٨٨

ثمرات هذه الجملة :

منها تجويز كلام النساء ، وقد تقدم أن ذلك إذا لم يخش الفتنة ، وأن لا يخضعن بالقول.

ومنها وجوب الحجاب وهو الستر.

وقوله تعالى : (مَتاعاً) أي شيئا ينتفع به ، وهذا فيمن ليس بمحرم ، لقوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَ) الآية.

ومنها وجوب إزالة التهمة ، والبعد مما يخشى عنه الريبة ، ووسوسة الشيطان لقوله تعالى : (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ)

ومنها تحريم نكاح أزواجه من بعده ، فقيل : هذا فيمن دخل بها ، واختاره الإمام يحيى ، وقيل : بل هو عام ، وهو الذي اطلقه الحاكم.

قال : وما روي أنه تزوج بنت الأشعث ومات ولم يدخل بها ، فتزوجها عكرمة غير صحيح ؛ لأنّ المشهور أنه توفى عن التسع فقط.

وقيل : لعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطبها.

وقوله تعالى : (وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَ) ولم يذكر العم والخال.

قيل : لأن أولادهما كالأجانب ، روي ذلك عن عكرمة والشعبي.

وقيل : لأن العم كالأب ، والخال كالأم ، قال الله تعالى : (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً) وإسماعيل عم يعقوب.

قال جار الله : وقيل : كره ترك الحجاب عنهما ؛ لأنهما يصفانها إلى ابنائهما ، وأبناؤهما غير محارم.

وقوله تعالى : (وَلا نِسائِهِنَ) قيل : أراد نساء أهل دينهن من حرة وأمة ، وقيل : قرابتهم وجيرانهن.

وقوله تعالى : (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) قيل : من العبيد والإماء الذين يقومون بخدمتهن عن أبي علي ، وقيل : من النساء خاصة ، وهذا هو المذهب ، وأحد قولي الشافعي.

٨٩

وقيل : الذكور والإناث حال الصغر.

وقوله تعالى : (وَاتَّقِينَ اللهَ) في ذلك تأكيد للأمر ، وكذا قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً).

قال المنصور بالله : وتحتجب المسلمة من الكافرة والذمية إلا ما يبدو في الصلاة.

إن قيل : ما الذي أفادته الآية (١)؟.

قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦]

وثمرة الأمر : بالصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي هذه المسألة أربعة أقوال :

الأول : أن الأمر للندب لا للوجوب ، وأنه يكفي الاعتراف بنبوته ، واعتقاد تعظيمه ، وهذا قول أبي حنيفة ، والناصر.

والثاني : الوجوب في الصلاة الفرض ، وهذا مذهبنا ، والشافعي ، وكذا تجب الصلاة عليه في خطبة الجمعة.

الثالث : تجب في العمر مرة ؛ لأن الأمر لا يتكرر إلا بدليل ، وهذا قول الطحاوي.

قلنا : قد قام الدليل وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلوا كما رأيتموني أصلي».

الرابع : تجب عند ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا مروي عن أبي مسلم ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ذكرت عنده فلم يصل عليّ فدخل النار فأبعده الله».

__________________

(١) قال في النسخة (ب) هاهنا بياض في الأم جرى فيه سهو قدر سطر واحد وقال في النسخة (أ) بياض قدر سطرين تقريبا.

٩٠

ويروى أنه قيل : يا رسول الله أرأيت قول الله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذا من العلم المكنون ، ولو لا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم ، إن الله وكل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلي عليّ إلا قالا ذانك الملكان غفر الله لك ، وقال : الله وملائكته جوابا لذينك الملكين آمين ، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان لا غفر الله لك ، وقال الله وملائكته لذينك الملكين آمين» هكذا في الكشاف ، قال ـ يعني على هذا القول ـ : ولو تكرر ذكره في المجلس لم يتكرر الوجوب كما لا يتكرر السجود في تكرر آية السجدة ، وكذا تشميت العاطس.

قال : وكذا يعني يستحب في كل دعاء في أوله وآخره ؛ لأن الله تعالى لا يرد الصلاة على النبي ، فكذا لا يرد ما بين المقولين ، وأما السّلام فأكثر العلماء لم يوجبوه ، والشافعي أوجبه في صلاة الفرض.

وأما الصلاة على آله فتجب عندنا حيث تجب الصلاة عليه ، ول (الشافعي) في الصلاة على الآل قولان : هل تجب في الصلاة أم لا؟ وقد جاء في الحديث فيما رواه الحاكم : كيف نصلي عليك يا نبي الله؟ فقال : «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم» (١) وقد تقدم ذكر الصلاة على غيره أنها جائزة عندنا

__________________

(١) في موسوعة التخريج الكبرى والأطراف الشاملة :

أخرجه مسلم في صحيحه ج ١ / ص ٣٠٥ / ح ٤٠٥.

والنسائي في سننه ج ٣ / ص ٤٧ / ح ١٢٨٥.

وابن حبان في صحيحه ج ٥ / ص ٢٨٩ / ح ١٩٥٨ ، ج ٥ / ص ٢٩٧ / ح ١٩٦٥.

والترمذي في سننه ج ٥ / ص ٣٥٩ / ح ٣٢٢٠.

وأبو داود في سننه ج ١ / ص ٢٥٨ / ح ٩٨٠ ، ج ١ / ص ٢٥٨ / ح ٩٨١.

وابن حنبل في مسنده ج ٥ / ص ٢٧٤ / ح ٢٢٤٠٦.

٩١

على كل مؤمن ، لقوله تعالى في السورة هذه : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) وقوله تعالى في سورة التوبة : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم صل على آل أبي أوفى» (١).

__________________

ـ ومالك في الموطأ ج ١ / ص ١٦٦ / ح ٣٩٦.

والطبراني في معجمه الكبير ج ١٧ / ص ٢٥١ / ح ٦٩٧ ، ج ١٧ / ص ٢٦٥ / ح ٧٢٥.

والنسائي في سننه الكبرى ج ١ / ص ٣٨١ / ح ١٢٠٨ ، ج ٦ / ص ١٨ / ح ٩٨٧٦ ، ج ٦ / ص ٤٣٧ / ح ١١٤٢٣.

والبيهقي في سننه الكبرى ج ٢ / ص ١٤٦ / ح ٢٦٧١.

والدارمي في سننه ج ١ / ص ٣٥٧ / ح ١٣٤٣.

(١) في موسوعة التخريج الكبرى والأطراف الشاملة :

أخرجه مسلم في صحيحه ج ٢ / ص ٧٥٧ / ح. ١٠٧٨.

والبخاري في صحيحه ج ٢ / ص ٥٤٤ / ح ١٤٢٦ ، ج ٤ / ص ١٥٢٩ / ح ٣٩٣٣ ، ج ٥ / ص ٢٣٣٣ / ح ٥٩٧٣ ،

والنسائي في سننه ج ٥ / ص ٣١ / ح. ٢٤٥٩

وابن حبان في صحيحه ج ٣ / ص ١٩٨ / ح. ٩١٧

وابن خزيمة في صحيحه ج ٤ / ص ٥٨ / ح. ٢٣٤٥

وابن ماجه في سننه ج ١ / ص ٥٧٣ / ح. ١٧٩٦

وأبو داود في سننه ج ٢ / ص ١٠٦ / ح. ١٥٩٠

وابن حنبل في مسنده ج ٤ / ص ٣٥٣ / ح ١٩١٣٤ ، ج ٤ / ص ٣٥٤ / ح ١٩١٣٨ ، ج ٤ / ص ٣٥٥ / ح ١٩١٥٦ ،

والطيالسي في مسنده ج ١ / ص ١١٠ / ح. ٨١٩

والطبراني في معجمه الكبير ج ١٨ / ص ١٠ / ح. ١١

والنسائي في سننه الكبرى ج ٢ / ص ١٥ / ح. ٢٢٣٩

والبيهقي في سننه الكبرى ج ٢ / ص ١٥٢ / ح ٢٦٩٤ ، ج ٤ / ص ١٥٧ / ح ٧٤٤٦ ، ج ٧ / ص ٥ / ح. ١٢٩٠١

وابن الجعد في مسنده ج ١ / ص ٢٥ / ح. ٥٨

وابن الجارود في المنتقى ج ١ / ص ٩٩ / ح ٣٦١

٩٢

والمروي عن أبي حنيفة والشافعي ، وذكره أبو مضر أنه لا يجوز.

وقيل : مكروه ، واختاره الزمخشري ؛ لأن ذلك شعار لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : ولأنه يؤدي إلى الاتهام بالرفض ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم».

فإن قيل : الصلاة على الأئمة عليه‌السلام في الخطب هل عليه دليل مخصوص (١) والخلاف إذا أفرد الصلاة.

أما لو كانت تبعا للصلاة على رسول الله قيل : فذلك إجماع على الجواز.

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) [الأحزاب : ٥٧]

دلالة الآية تقتضي بكبر هذه المعصية ، وقد ذكر في ذلك وجوه :

الأول : أن المراد بأذية الله تعالى وأذية رسوله مخالفة الشريعة ، وحصول المعاصي فيكون مجازا ؛ لأن أذية الله تكون مجازا (٢) ، وقد قيل : أريد بأذية الله أذية رسوله ، فأضافه إلى نفسه تعظيما له.

وقيل : أراد أذية أوليائه ورد بأنه قد ذكر ذلك من بعد ، وقيل : أذية الله للإلحاد في أسمائه.

وعن عكرمة من فعل فعل أهل التصاوير.

__________________

(١) بياض في الأصول قدر سطر ونصف.

(٢) أي : لا تكون إلا مجازا.

٩٣

وثمرتها تحريم أذية المؤمن.

وعن الفضيل : لا يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرا بغير حق ، فكيف المؤمن ، وقد كان ابن عوف لا يكري الحوانيت إلا من أهل الذمة لما في ذلك من الروعة عند كرّ الحول ؛ لأن المكتري إذا رأى صاحب الحق أصابه خوف.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) [الأحزاب : ٥٩]

ثمرة : هذه الآية وجوب الستر ، ووجوب الأمر بالمعروف ، وهذا أمر بالستر إذا خرجن من بيوتهن ، وما تقدم أمر بالحجاب في البيوت ، والجلباب ، قيل : أراد بالجلباب المقنعة تغطي بها وجهها ورأسها ، عن ابن عباس ، ومجاهد.

وقيل : هي الملحفة تدنيها على وجهها ، عن الحسن.

وقيل : ما تستر به المرأة من قميص وخمار ، عن أبي علي ، وأبي مسلم.

وقيل : هو ما يستر به من فوق الخمار.

وعن ابن سيرين : سألت عبيدة السلماني عن ذلك فقال : أن تضع ردائها فوق الحاجب ، ثم تديره حتى تضعه على أنفها.

وعن السدي أن تغطي أحد عينيها وجبهتها والشق الآخر إلى العين.

ومن ثمراتها جواز خروج الامرأة من بيتها لقضاء حوائجها.

وقوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) قيل : يعرفن بالحرية ، وقيل : بالإيمان ، وقيل : بالستر والصلاح.

٩٤

قوله تعالى :

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب : ٦٠ ـ ٦١]

قيل : أراد بالذين في قلوبهم مرض أي : ضعف إيمان ، وقلة ثبات.

وقيل : هم الزناة وأهل الفجور ، ولهذا قال تعالى : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ).

وأما المرجفون فهم من كان يرجف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخبار السوء ، فيقولون : أقبلوا ، يكسرون بذلك قلوب المؤمنين ، والمعنى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عن كيدهم وعدوانهم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عن قول السوء لنأمرنك أن تفعل بهم أفاعيل الشر ، وتزعجهم عن الوقوف في أوطانهم.

ثمرة ذلك : جواز عقوبة هؤلاء ، وأن من لم ينته عما نهي عنه جاز قتله ونفيه ، وقد أكد الله ذلك بأنه سنة ، أي شريعة ثابتة فيمن تقدم من الأنبياء ، لقوله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ).

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [الأحزاب : ٧٠] أي صوابا وعدلا.

وثمرة ذلك الحث على حفظ اللسان من أنواع خطائه ومعاصيه.

قوله تعالى :

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأحزاب : ٧٢]

٩٥

قيل : الأمانة هي الواجبات عن مجاهد.

وقيل : الطاعة عن ابن عباس.

وقيل : ما يخفى من الشرائع كالصوم والاغتسال من الجنابة عن ابن زيد.

وقيل : أمانات الناس والوفاء بالعهود عن ابن عباس ، والضحاك ، وحملها الخيانة.

وثمرة ذلك التشديد في أداء ما وجب.

٩٦

سورة سبأ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠]

التأويب : الرجوع ، أي : رجعى معه التسبيح.

ومعنى ذلك : أن الله سبحانه يخلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبح ، ويكون هذا المعجزة لداود عليه‌السلام ، وهذا محكي عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والسلمي ، والضحاك ، وأبي عبيدة.

وقيل : أراد سخرناها له فلا تستصعب عليه ، وقيل : كان إذا قرأ الزبور بصوت حزين سبحت معه الجبال والطير ، عن وهب.

وقيل : كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين ، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها.

ولهذا ثمرة وهو أن ينبغي قراءة القرآن بالتحزين ، وينبغي النوح على فعل الذنب ، ويجوز الجزع على ما فعله بخلاف الجزع على المصائب ، فلا يجوز ، وقد جاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ابك خطيتك» (١).

__________________

(١) بياض في (ب) قدر أربع كلمات وفي (أ) قدر سطرين تقريبا.

٩٧

قوله تعالى :

(وَأَلَنَّا لَهُ) أن (الْحَدِيدَ اعْمَلْ سابِغاتٍ)

قيل : كان في يده كالعجين والشمع ، وكان يبيع الدرع بأربعة ألف فينفق منها على نفسه وعياله ، ويتصدق على الفقراء.

وقيل : كان يخرج حين ملك بني إسرائيل متنكرا فيسأل عن نفسه ويقول لهم : ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه ، فقيض له ملك في صورة آدمي فسأله على عادته فقال : نعم الرجل لو لا خصلة فيه ، فريع داود فسأله فقال : لو لا أنه يطعم عياله من بيت المال ، فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال ، فعلمه صنعة الدروع ، وفي ذلك دليل على استحباب أن يأكل الإنسان من كسبه.

قوله تعالى

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) [سبأ : ١٣]

المحاريب : المساكن والمجالس الشريفة ، وقيل : المساجد.

وأما التماثيل فقيل : هي صورة الملائكة ، والنبيين ، والصالحين ، كانت تعمل في المساجد من نحاس ، وصفر وزجاج ليراها الناس فيتعبدوا نحو عبادتهم ، وكان ذلك جائز في شريعتهم.

وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما ، وكان هذا معجزة له ، ذكره أبو علي.

وروي أنه أراد بخت نصر صعود الكرسي فضرب الأسد ساقه فخر مغشيا عليه ، وما صعده بعده أحد ، وكان عيسى صلّى الله عليه يصور كهيئة الطير.

٩٨

وقيل : التماثيل صور الأشجار ، أما في شريعتنا فلا تجوز تصاوير الحيوان ، وقد جاء في الحديث : «لعن الله المصورين» ويجب تغييرها ؛ لأن بقائها منكر ، وقد جاء في الحديث أن جبريل عليه‌السلام قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتيتك البارحة فلم أستطع أن أدخل البيت لأن فيه تمثالا ، فأمر بالتمثال أن يقطع حتى يكون كهيئة الشجرة.

وقال في مهذب المنصور بالله : الإثم على فاعله ، ولا يجب تغييره ، ويجوز تملكه ، والظاهر خلاف هذا.

وقد فرع للمذهب أن من صلى وثم تمثال حيوان يقدر على كسره لم تجز صلاته كما لو كان ثم منكر وصلى أول الوقت ، وسألت شيخي العلامة شرف الدين ـ رحمه‌الله ـ عن الصورة الموضوعة على رأس صومعة الجامع بصنعاء كيف أهملها من ملكها من الأئمة؟ فقال : لعل ذلك ذهول عنها.

قوله تعالى

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ : ١٣]

دل ذلك على وجوب شكر النعمة ، وشكرها العمل بطاعة المنعم وتعظيمه.

قوله تعالى

(فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) [سبأ : ١٤]

ثمرة ذلك : أنه لا يجوز أن يعتقد معتقد أن الجن يعلمون الغيب.

قال الحاكم : فيبطل قول جهال الحشوية.

٩٩

قال : وما فعله الجن من تلك الأفعال فذلك معجزة لسليمان صلى الله عليه.

قال : ومن زعم أن الجن تعلم الغيب ، وتقدر على تلك الأعمال العظيمة ، وتغيير الصور يكفر ؛ لأنه سد على نفسه طريق معرفة النبوة.

فإن قيل : من يدعي أنه يعلم شيئا من الحوادث المستقبلة من قتل أو موت أو فتنة ببور أو هلاك مال بطريق الرمل ، أو علامات بما يرى في عظم اللوح من الأمارات هل يخطئ أم لا؟ وإذا أخطأ أين يبلغ خطأه سؤال (١).

__________________

(١) بياض في الأصول قدر سطر تقريبا

١٠٠