تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

وثمرة ذلك أن الواجب اتباع الدليل دون العمل بما تشتهيه النفوس ؛ لأنها تميل بصاحبها إلى الباطل.

وعن الشعبي إنما سمى الهوى ؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار ، وقد كثر التحذير عن اتباع الهوى. قال الله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) [النازعات : ٤٠] وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ثلاث مهلكات ، شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه».

قال : في عين المعاني عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تحت ظل السماء أبغض إلى الله من هوى ، وقيل في ذلك.

إن الهوى لهو الهوان بعينه

فإذا لقيت هوى لقيت هوانا

وإذا هويت فقد تعبدك الهوى

فاخضع لحبك كائنا ما كانا

آخر :

ومن البلاء وإلى البلاء (١) علامة

ألّا ترى لك عن هواك نزوع

العبد عبد النفس في شهواتها

والحر يشبع مرة ويجوع

آخر :

فاعص هوى النفس ولا ترضها

إنك إن اسخطتها زانكا

حتى متى تطلب مرضاتها

وإنما تطلب عدوانكا

آخر :

إذا طالبتك النفس يوما بشهوة

وكان عليها (٢) للجدال طريق

فدعها وخالف ما هويت فإنما

هواها عدو والخلاف صديق

آخر :

نون الهوان من الهوى مسروقة

فأسير كل هوى أسير هوان

__________________

(١) في (أ) ومن البلاء وللبلاء.

(٢) في (أ) تاليها

٢٠١

قوله تعالى

(وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤]

كان الكفار يضيفون كل حادثه تحدث إلى الدهر ، ويزعمون أن مرور الأيام والليالي هي المؤثرة في هلاك الأنفس ، وينكرون قبض الأرواح من ملك الموت بإذن الله ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» أي فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر ،

ولهذه ثمرة وهي من أضاف الخير والشر إلى الأيام واعتقد أنها المؤثرة كفر ، فإن لم يعتقد أنها المؤثرة ، ولكن اعتقد أن الله تعالى أجرى العادة بأن يوم كذا نحس ، ويوم كذا سعد ، فقال المنصور بالله في المهذب : من فرق طعامه للجن ، وكره المسير في يوم دون يوم ، والجواز في طريق دون طريق لا يكون مشركا بالله تعالى ، إلا أن يعتقد تعظيم الجن ، وتعظيم اليوم والطريق ، وأن لها تأثيرا من قبل أنفسها في النفع والضر ، وما سوى ذلك جهالات لا تبلغ الشرك ، والتوبة تجزي من ذلك ، هذا لفظه.

فإن قيل : فقد جاء في الحديث : «آخر ربوع ثقيل على محمد وعلى أمة محمد» (١).

قوله تعالى

(إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [الجاثية : ٢٤]

دليل على وجوب الأخذ بالعلم دون الظن في مسائل التوحيد والعدل ، وقد كرر الله تعالى الذم على أخذ الكفار بالظن في مواضع كثيرة.

__________________

(١) يقال في الجواب عنه وعن ما أشبهه مثل (يوم الأربعاء يوم نحس مستمر) وما ورد (يوم الأربعاء ما بدأ فيه شيء إلا تم) أن قد قيل : إن جميعها أحاديث واهية ضعيفة وعلى فرض الصحة. يقال : ما معنى (ثقيل) فيحتاج إلى النظر (ح / ص).

٢٠٢

سورة الأحقاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [الأحقاف : ١٣]

قال في التهذيب : يعني استقاموا بما يكرمهم عقلا وشرعا.

وفي عين المعاني : استقاموا قولا وفعلا وعقدا ، قال : والاستقامة على أربعة أوجه : استقامة القلب على صدق الإرادة ، واللسان على صدق الشهادة ، والبدن على صدق الطاعة ، والسر على صدق الإشارة.

قوله تعالى

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) [الأحقاف : ١٥]

معناه أمرناه بالإحسان إليهما.

وثمرة ذلك : أن لهما حقا مؤكدا من البر ، فتجب نفقتهما مع الكفر والإسلام ، ولا يقطع الوالد إن سرق من مال ابنه ، ولا يقاد بابنه ، ولا يحبس بدين ابنه ، واختلفوا هل يحد إذا قذفه وقد تقدم ذلك.

قوله تعالى

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) [الأحقاف : ١٥]

أي بمشقة ، وفي هذا إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب ، وقد اختلفوا إذا قدر على نفقة أحدهما فقط على ما تقدم.

٢٠٣

قوله تعالى

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥]

المعنى على قولنا ، وهو مروي عن علي عليه‌السلام ، وابن عباس : حمله في البطن ، وفصاله من الرضاع ، فيكون الحمل ستة أشهر والرضاع حولين لقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] وإذا خرج الحولان بقي ستة أشهر وهي أقل الحمل ، وحكى في الشرح أن امرأة أتت بولد لستة أشهر فهم عمر بحدها ، فقال علي عليه‌السلام : إن لها في كتاب الله مخرجا ، وتلا هذه الآية ، فحمله ستة أشهر ، وفصاله أربعة وعشرون شهرا ، فكأن عمر ما قرأ هذه الآية ، وكان قد قال : ادعوا لي عليا.

وقال في التهذيب : إن عمر هم برجم امرأة جاءت بولد لستة أشهر فقال علي وابن عباس : إن لها مخرجا وتلا هذه الآية.

وروي عن ابن عباس رواية أخرى ، وأبي مسلم أن حمله تسعة أشهر وفصاله أحد وعشرون شهرا ، وما قلنا : إن مدة الرضاع حملان هو إجماع أهل البيت ، والشافعي ، وأبي يوسف ، ومحمد.

وقال أبو حنيفة : ثلاثون شهرا ، وحمل الحمل المذكور هنا على الحمل على الأيدي لا على الحمل في البطن ؛ لأنه لا يحد بالأقل والأكثر ، وإنما قيد بالفصال ، ولم يقل ورضاعه.

قال جار الله : لأن الفصال يليه ويلابسه ، فتظهر فائدة الآية.

وثمرتها : بيان أقل الحمل ، وبيان مدة الرضاعة.

قوله تعالى

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [الأحقاف : ١٥]

قيل : الأشد البلوغ الشرعي عن الشعبي ، ورواية في عين المعاني

٢٠٤

عن مالك ، قال : وعن ابن جبير ثماني عشرة سنة ، وعن أبي شيبان خمس وعشرون ، واختاره أبو حنيفة. وقال السدي : ثلاثون.

وعن ابن عباس : ثلاثة وثلاثون ، وقال الثوري : أربع وثلاثون.

وعن الحسن أربعون ؛ لأنها زمان البعثة.

قيل : وما بعث نبي لدون أربعين ، وقد تقدم ما ذكر في سورة الإسراء في قوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) [الأنعام : ١٥٢] وهي الثمرة.

قوله تعالى

(وَعَلى والِدَيَ) [الأحقاف : ١٥]

ثمرة : ذلك أن النعمة على الوالدين نعمة على الولد ، وقد بني على هذا أن معتق الأب يرث لأنه منعم ، وكذلك معتق الأم.

قوله تعالى

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ) [الأحقاف : ٣٢]

في ذلك دلالة على وجوب إجابة الداعي إلى الحق ، فيدخل فيه إجابة إمام الحق.

٢٠٥

سورة محمد [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١]

قيل : أراد بقوله : (وَصَدُّوا) أي : أعرضوا عن الإسلام.

وقيل : أراد صدوا غيرهم أي : منعوا غيرهم ، وقيل : المعنى منعوا غيرهم من الحج عن أبي مسلم.

وقوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) قيل : أحبطها وجعلها ضائعة ، فلا يثبت لهم ثواب مما كانوا يفعلون ، ويعدونه من المكارم ، من قرء الضيف ، وفك العاني ، وصلة الرحم.

وثمرة ذلك : أن قرب الكافر غير صحيحة من وقف ونذر ، وتسبيل مسجد ، ووضوء على قولنا : إنه عبادة ، وأبو حنيفة لما قال : هو يشبه غسل النجاسة ، وأنه لا يحتاج نية صحّحه من الكافر.

قوله تعالى

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) [محمد : ٤]

هذه الآية الكريمة لها ثمرات :

الأولى : وجوب قتل الكفار ، لكن قوله : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إن أريد به ملاقاة الحرب فذلك ظاهر ، وإن أريد به الموافقة في الحرب وغيره

٢٠٦

خرج من هذا العموم الذمي ، فإنه لا يقتل ، والمؤمّن والمرسل إذا كان معه كتاب ملكهم ؛ لأن المعروف من سيرة الرسول عليه‌السلام أن الرسل لا تقتل ، وخرج من هذا من جاء مسترشدا فإنه لا يقتل ، ذكره الحاكم ، وكذا الثابت.

وقوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) لم يرد العضو المخصوص الذي هو العنق ، وله أن يضرب فيه أو في غيره ، لكنه عبارة عن نفس القتل ؛ لأنه يقال : ضرب الأمير رقبة فلان ، وضرب عنقه إذا قتله ، وذلك لأن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، فعبر بضرب الرقبة عن القتل ، وإن ضرب في غيرها.

الثمرة الثانية : أنه يفهم من قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) كما يفهم من قوله تعالى في سورة الأنفال : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧] أن الأسر قبل الإثخان لا يجوز ، ويجوز بعد الإثخان وهو الظهور على الكفار بالقتل الكثير ، وإثقالهم بكثرة الجرحى ؛ لأن في ترك قتلهم قبل الإثخان تركا لما تحصل به الهيبة للمسلمين.

الثمرة الثالثة : أن المسلمين إذا ظهروا على الأسرى شدوا الوثاق ، والوثاق ـ : بالفتح والكسر ـ اسم لما يوثق به من حبس أو قيد.

قيل : المراد بهذا إذا خشى هربهم ، قيل : هذا في حرب واحد أمر الله تعالى بقتلهم حتى يظهر الإثخان فيأسرهم وقيل : القتل في حرب والأسر في حرب آخر ، وذكر ذلك لتعظيم الهيبة في قلوب الكفار.

الثمرة الرابعة : في حكم الكافر بعد الأسر ، وقد قال تعالى : (فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ولم يذكر القتل بل خير بين المن والمفاداة ، فقال الحسن : هذا هو الواجب أن يمن بلا شيء ، أو يفدي بمال ، أو يستعبد من يجوز استعباده دون القتل ، فلا يجوز قتل الأسرى وهذا مروي عن ابن عمر ، وعطاء ، والضحاك.

٢٠٧

وروي أن الحجاج أتى بأسير فقاول ابن عمر في قتله ، فقال : ما بهذا أمر الله تعالى ، يعني في قوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً).

وقال الأكثر : إنه يجوز قتل الأسير ، وإن هذا المفهوم منسوخ بقوله تعالى في سورة براءة : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] وبقوله تعالى في سورة الأنفال : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) [الأنفال : ٥٧] وهذا مروي عن قتادة والسدي ، وابن جريج ، وادعى أبو جعفر الإجماع على جواز قتل الأسير ، وجوز القتل أبو طالب ، وذلك قول أحمد والشافعي ، واختاره في الانتصار ، وقد قتل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسيرين من أسرى بدر في الطريق وهما : عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ،

وظاهر كلام الهادي عليه‌السلام المنع من قتل الأسير إلا بشرطين :

أحدهما : أن يظهر منه كيد بعد أسره.

الثاني : أن تكون الحرب قائمة ، وهذا إذا لم يقتل أحدا ، فإن كان قد قتل قتل.

الثمرة الخامسة : جواز إطلاقه ومفاداته بمال أو بأسير للمسلمين ، وظاهر هذه الآية جواز ذلك ، وقد منّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أبي غرة الجمحي في أسره المرة الأولى ، وقتله في أسره المرة الثانية ، ومنّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أبي العاص بن الربيع.

وأما المفاداة بمال أو بأسير فيجوز ذلك لظاهر الآية ، وقد فادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسيرا من بني عقيل برجلين من المسلمين ، وهذا هو قول عامة أهل البيت ، ومالك ، والشافعي ، ذكره في (شرح الإبانة) ، وهو ظاهر قول الأخوين ، ومروي عن أبي يوسف ، ومحمد ، وتكون هذه الآية ناسخة لما في الأنفال في قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) [الأنفال : ٦٧].

٢٠٨

قال في الكشاف : وما في الأنفال كان يوم بدر ، فلما كثر المسلمون نزل قوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً).

وقال أبو حنيفة : لا تجوز المفاداة بمال ، ويرجع حربيا ، ولا إطلاقه ، ولكن يقتل أو يسترق إن كان عجميا أو توضع عليه الجزية ، ولأبي طالب والقاضي زيد كلام ظاهره ، كقول أبي حنيفة : أنه لا يرد حربيا لكن قد تأول أن المراد إذا كانت شوكتهم باقية.

وعن مجاهد ليس اليوم منّ ولا فداء ، إنما هو الإسلام ، أو ضرب العنق ، وإذا قلنا : إنه يخير فذلك حيث يستوي حق المسلمين ، فإن اختلف الحال فعل الإمام الأصلح من القتل والمن والمفاداة ، وأبو حنيفة يقول : إن هذه الآية نزلت قبل نزول براءة ، ونسخ جواز المفاداة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وله روايتان في جواز مفاداة أسير الكفار بأسير من المسلمين ، وقالوا : لا يجوز مفاداة النساء والصبيان ؛ لأن في ذلك تكثير العدد ، ويجوز مفاداة العجوز الفانية ، والشيخ الهرم لكونهما لا يولدان فإذا أسلم الأسير لم يقتل ويسترق إن كان عجميا.

قال الزمخشري : وإن قيل : أريد بالمن ترك القتل ، ويسترقون ، أو يمن عليهم بترك القتل ، ويسلمون الجزية ، ويكونون أهل ذمة ، وأريد بالفداء مفاداة أسير الكفار بأسير من المسلمين جاز ذلك على الرواية الخفية لأبي حنيفة ، يعني ولا يجعل هذا منسوخا ، بل يتأوله.

وقوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها).

قيل : الأوزار الأثقال ، وهي آلة السلاح ، والمعنى حتى تقع الموادعة ، قال الشاعر وهو الأعشى :

فأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

وقيل : الأوزار الآثام ، والمعنى حتى يضع أهل الحرب من الكفار آثامهم بالإسلام.

٢٠٩

وقيل : حتى تنقطع الحرب بنزول عيسى عليه‌السلام فيسلم كل يهودي ونصراني ، عن مجاهد.

وقيل : حتى يعبد الله ولا يشرك به عن الحسن.

وقيل : حتى يسلموا أو يسالموا عن الكلبي ، وحتى قد جعلت غاية لما قبلها من الضرب والشد ، والمن والفداء على قولنا ، والشافعي.

والمعنى : افعلوا هذه الأشياء حتى تضع الحرب أوزارها عموما.

وأما عند أبي حنيفة فهي غاية لهذه الأشياء إلى أن تضع الحرب أوزارها في يوم بدر ، وعموما إن فسرنا المن بترك القتل والاستعباد وأخذ الجزية ، وفسرنا الفداء بالمفاداة بأسرى المسلمين ، وأن علق (حتى) بالقتل والأسر دون المن والفداء ، فالمعنى : فاقتلوهم وأسروهم حتى لا تبقى شوكة للمشركين.

قوله تعالى

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) [محمد : ٦]

قيل : معنى : (عَرَّفَها) أي : طيبها ، من العرف وهو طيب الرائحة ، ومن كلام جار الله ، عزف كنوح القمارى ، وعرف كفوح القمارى يعني بالعزف : الصوت للملاهي ، ويعني بالعرف : الريح ، وعود قمارى منسوب إلى قمار وهي بلد في الهند (١).

وقيل : (عَرَّفَها) بمعنى : أعلمهم بها.

وعن مقاتل : إن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى.

__________________

(١) معنى الأول صوت كصوت القمارى وهو الطائر المعروف ، والثاني أن الريح مثل ريح العود المنسوب إلى قمارى بلد بالهند تمت

٢١٠

وثمرة ذلك : الحث على الجهاد والشهادة ، وقد روى (قاتلوا) ـ بفتح القاف وبالألف ـ (وقتلوا) ـ بضم القاف وحذف الألف ـ على ما لم يسم فاعله ، فالأول بمعنى جاهدوا ، والثاني استشهدوا ، وقرأ عاصم ـ بفتح القاف ـ وبغير ألف قتلوا المشركين ، وقرأ الحسن ـ بضم القاف وتشديد التاء ـ على المبالغة في قتلهم.

قوله تعالى

(إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧]

المعنى تنصروا دين الله ودين نبيه.

وقيل : تنصروا الله بدفع ما يضاف إليه سبحانه من سوء القول ، وثمرة ذلك : الحث على الجهاد ، وقد يكون باللسان وباليد وبالمال.

قوله تعالى

(يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) [محمد : ١٢]

قال الحاكم : في الآية دلالة على أنه لا ينبغي على الإنسان أن تكون همته مقصورة على لذات الدنيا بما لا يكون موصولا إلى ثواب الآخرة ، ولبعض العارفين في أكل المؤمن ينبغي أن لا يخلو عن ثلاثة : الورع عند الطلب ، واستعمال الأدب ، والأكل للسبب.

وأما الكافر فيطلب للنهمة ، ويأكل للشهوة ، وعيشه في غفلة.

وقيل : المؤمن يتزود ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع.

قوله تعالى

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد : ١٩]

قال الحاكم : فيها دلالة على وجوب الاستغفار للمؤمنين.

٢١١

قال في عين المعاني : وفي الخبر : «من لم يكن عنده ما يتصدق به فليستغفر للمؤمنين فإنه صدقة».

وروي : «لا أدع الاستغفار لأمتي كل يوم خمسا وعشرين مرة».

وقيل : الاستغفار عن التقصير عن حقيقة العبودية ، ويحتمل أن يكون أمر ندب.

قوله تعالى

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠]

قال جار الله : قوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) جواب لقسم محذوف.

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ ما خفى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة فأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق.

وقوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) يعني : في نحوه وأسلوبه.

قال ابن عباس : هو قولهم : ما لنا إن أطعنا من الثواب ، ولا يقولون : ما علينا إن عصينا من العقاب.

وقيل : اللحن التعريض وهو أن تنحو به نحوا من الإنحاء ليفطن له صاحبك ، قال الشاعر :

ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا

واللحن يفهمه ذووا الألباب

وقيل : للمخطئ لاحن ؛ لأنه يعدل بكلامه عن الصواب ، واللحن والخطأ من واد واحد.

٢١٢

ولهذه ثمرة : وهي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفهم وعاملهم بأحكام المسلمين ، وقد ذكر السيد يحيى أن المنافق تثبت له أحكام المسلمين من التوارث وغيره.

قوله تعالى

(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٣]

قال ابن عباس : بالرياء والسمعة ، وعنه : بالشك والنفاق ، وقيل : بالعجب.

وقيل : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ، وقيل : بالكبائر وهذا دليل على كبر ما يبطل ، وهو ما ذكر.

قوله تعالى

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) [محمد : ٣٥]

لها ثمرتان : منطوق بها ، ومفهومة.

فالمنطوق بها : أنه لا يجوز موادعة الكفار ومسالمتهم من القتال مع قوة المسلمين وعلوهم عليهم.

والمفهومة : أن ذلك جائز مع ضعف المسلمين ، وهذا هو الظاهر من أقوال العلماء ، وقيل : الممنوع أن يدعوهم ابتداء بأن تطلب بحق ، فإن طلبونا أجبناهم.

قال الحاكم : والذي عليه مشايخنا وأكثر الفقهاء هو الأول.

قوله تعالى

(وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) [محمد : ٣٦]

قيل : لا يسألكم الله ، وقيل : لا يسألكم الرسول ، والمراد لنفع نفسه ، وآية النجوى منسوخة.

٢١٣

وقيل : المراد جميع أموالكم بل السهم الذي فرض عليكم ، وقيل : المعنى أن الأموال لله تعالى.

وقوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [محمد : ٣٨]

قيل : أراد الصدقة الواجبة ، والإنفاق في الجهاد ، والبخل الشرعي ما يستحق عليه الذم ، وهو منع الواجب.

٢١٤

سورة الفتح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) [الفتح : ٦]

ثمرتها : جواز لعن المشركين والكفار ، وهذا على طريق العموم ، وأما لو لعن كافر معينا فإن أخبر الله تعالى أنه من أهل النار جاز لعنه ، كأبي لهب وأمثاله ، وإن لم فظاهر المذهب الجواز ، وهو كالمشروط بأن يموت على كفره ، والغزالي منع من ذلك ، قال : لأنه لا يعلم بما يختم الله له ، وقد مر مثل هذا المأخذ.

قوله تعالى

(وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ) [الفتح : ٩]

قيل : تعزروه بالنصرة على الأعداء ، وتوقروه بالتعظيم.

وثمرة ذلك : الحث على نصرة الحق ، والحث على تعظيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقوله تعالى : (وَتُسَبِّحُوهُ) اختلف المفسرون إلى من يعود ذلك فقيل : إنه يعود إلى الله تعالى فيوقف على قوله : (وَتُوَقِّرُوهُ).

وقيل : يعود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكون متصلا ، والثمرة لزوم تنزيه الله تعالى ، وتبرئة رسوله عن القبائح.

قال الزمخشري : الضمائر لله تعالى بالتعزير ، والتوقير ، والتسبيح ، وتوقير الله : تعزيره أي : تعزير دينه ونبيه.

٢١٥

وقوله : (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) في هذا دلالة على اختصاص هذين الوقتين بمزية وفضيلة ، ويحتمل أنه يريد الدوام.

وفي الكشاف عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : المراد صلاة الفجر ، وصلاة الظهر ، والعصر.

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [الفتح : ١٠]

النزول

نزلت في أهل الحديبية.

وعن جابر : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ، فقال لنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنتم اليوم خير أهل الأرض» فبايعنا تحت الشجرة على الموت ، وعلى أن لا نفر ، فما نكث أحد منا إلا أريد بن قيس ، وكان منافقا ، وفي الكشاف : إلّا جدّ بن قيس اختبأ تحت إبط بعيره ، وكان منافقا فلم يسر معنا.

وقيل : كان سبب البيعة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث عثمان رسولا إلى أهل مكة فأرجف بقتله.

ولهذه الآية ثمرات :

منها : أن للإمام أخذ البيعة من الرعية إذا كان ذلك يقوي أمره ، ويجب عليهم الإجابة ، وتحريم الإرجاف ، يؤخذ من السبب ، ووجوب الوفاء بالبيعة ، وتحريم النكث ، والبيعة : هي المعاقدة على السمع والطاعة كالمعاقدة على البيع ، وإذا عرف واحد من الرعية أن في بيعته تقوية للإمام لزم بذل المبايعة من نفسه.

٢١٦

وقوله تعالى : (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ)

هذا تأكيد لبيعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظيره قوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠]

وقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)

المعنى : أن الذي يبايع الرسول فكأنه يبايع الله ، كقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

وقوله تعالى : (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قيل : قدرته فوق قدرتهم ، وقيل : معنى عقد الله فوق عقدهم ؛ لأنه تعالى منزه عن الجوارح.

ومنها : أنه يجب الوفاء ، وتحريم النكث والمخالفة.

قوله تعالى

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١١]

قيل : نزلت في أعراب غفار وجهينة ، وأسلم ، وأشجع ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استنفر من حول المدينة حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب ويصدوه عن البيت ، وأحرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وساق الهدي ليعلم أنه لا يريد حربا ، فتثاقل كثير من الأعراب قالوا : نذهب إلى قوم قد غزوه إلى عقر داره بالمدينة ، وقتلوا أصحابه ، وظنوا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهلك ، ولا ينقلب إلى المدينة ، واعتلوا بالشغل بأموالهم وأهاليهم ، وطلب الاستغفار ، وكان ذلك غير صحيح من قلوبهم فنزلت في تكذيبهم.

ومن ثمراتها : وجوب إجابة الإمام على من دعاه ، وجواز استنصار الإمام بالمنافقين ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استنفر من أخبره الله بأنه منافق ، ويدل على أن ظن السوء لا يجوز ، وفي الآية إشارة أنه لو صح ما يقولون أن الشاغل لهم أهلوهم أن لهم أن يطلبوا الإمام أن يتركهم.

٢١٧

قوله تعالى

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) [الفتح : ١٥]

قيل : أراد المتخلفين عن الحديبية عن ابن عباس ، ومجاهد ، وإسحاق.

وقيل : عن تبوك عن الحسن وأبي علي.

قال الحاكم : وهو الأظهر وهو اختيار القاضي.

قيل : ولا مانع أن يرجع إلى الجميع ، قيل : ومعنا قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) يعني : ما وعد الله أهل الحديبية ، أن غنائم خيبر لهم خاصة ، عن مجاهد وقتادة.

وقيل : ما ذكر في قوله تعالى : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) [التوبة : ٨٣] عن ابن زيد ، وأبي علي ، وأبي مسلم ، واعترض أن هذا نزل بعد خيبر ، وبعد فتح مكة ،

ولهذه الآية ثمرات : وهي أن الحسن إذا أدى إلى مفسدة قبح ، والمفسدة هاهنا كونهم يبدلون كلام الله ويقولون : قد أخلف ما وعد.

قوله تعالى

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [الفتح : ١٦ ، ١٧]

٢١٨

قيل : أراد بالمخلفين من تخلف عن غزوة تبوك عن أبي علي ، وقيل : عن الحديبية ؛ لأنهم نهوا عن الخروج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمرهم الله أن يخرجوا مع داع آخر ، وإنما نهوا في وقت وأذن لهم في وقت ؛ لأن المصالح تختلف بالأوقات ، أو لقوة الإسلام والأمان من كيدهم.

وقيل : هذا أمر لكل من تخلف عن غزواته لغير عذر.

قال الحاكم : وهو الوجه لعمومه.

وقوله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ).

اختلف أهل التفسير في هذا الداعي ، فقيل : هو الرسول عليه‌السلام ورد بقوله تعالى : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً).

وعن قتادة : كان هذا في أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمدعو إليهم ثقيف وهوازن.

قال جار الله : فإن صح ذلك فالمعنى لا تخرجوا معي ما دمتم على مرض القلوب والاضطراب.

وعن مجاهد : كان الذي منعوا منه أن لا يخرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم.

قال الحاكم : وقيل : أبو بكر ، وعمر ، وعليه أكثر المفسرين ، دعوا إلى حرب فارس والروم ، وقيل : أمير المؤمنين دعا إلى حرب معاوية ، ورد بقوله تعالى : (أَوْ يُسْلِمُونَ).

وعن رافع بن خديج : كنا نقرأ هذه الآية فلا نعلم من الداعي حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم ، فقد استدل بهذه الآية على إمامة أبي بكر ؛ لأنه تعالى وعد من أطاعه.

ولها ثمرات : منها وجوب الجهاد ، ومنها أنه يتعين مع دعاء الإمام ، ومنها أن طاعة الأئمة واجبة ، ومنها أن القتال لا يسقط إلا بالإسلام إن

٢١٩

حملنا قوله تعالى : (أَوْ يُسْلِمُونَ) على الدخول في الدين ، والإقرار به ، وإن حمل على الاستسلام والانقياد والمسالمة كان الدخول في الحرية مقبولا ومسقطا للقتال ، فإن حمل ذلك على أن المدعو إليهم أهل ردة فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل كما يفيده ظاهر الآية ، وإن حمل على أنهم كفار عرف لا كتاب لهم فذلك أيضا.

وأما كفار العجم وأهل الكتاب فتقبل منهم الجزية عندنا ، وأبي حنيفة.

وقال الشافعي : لا تقبل إلا من كتابي أو مجوسي ، لا ممن لا كتاب له عربيا أو عجميا ، وعند مالك تقبل من كل كافر وهو ظاهر قول الهادي ، لكن تأوله السادة وقد تقدم شرح ذلك عند ذكر قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) [التوبة : ٢٩].

وقراءة العامة (أو يسلمون) بالنون ، وفيه دلالة على حصول أحد الأمرين ، وفي قراءة أبيّ (أو يسلموا) بغير نون ، بمعنى إلى أن يسلمون.

ومن ثمراتها : سقوط الجهاد بالأعذار وعدم القدرة.

وعن ابن عباس : لما نزل قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ) قال أهل الزمانة كيف بنا يا رسول الله؟ فنزل : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) إلى آخرها.

وعن الحسن نزلت في ابن أم مكتوم.

قوله تعالى

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح : ١٨]

٢٢٠