تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

هذا وارد فيمن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الموطن ، وتسمى بيعة الرضوان ، وكان عددهم ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين.

وقيل : ألفا وأربعمائة.

وقيل : ألفا وثلاثمائة بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الموت دونه ، وعلى أن لا يفروا ، وقال لهم رسول الله : «أنتم اليوم خير أهل الأرض» هكذا ذكر في الكشاف.

ولها ثمرات : منها جواز مثل هذه البيعة ولا يقال : هذا خاص برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن ما يثبت له يثبت للإمام إلا بدليل يخصه.

ومنها الحكم بعدالة من بايع هذه البيعة ؛ لأنه تعالى سماهم مؤمنين ، وأخبر بالرضاء عنهم ، وأخبر بحسن سرائرهم ، ومدحهم بإنزال السكينة عليهم ، وهي طمأنينة قلوبهم ، واللطف المقوي لقلوبهم ، وهذا يلزم منه وجوب موالاتهم ، والمحبة لهم فتكون الترضية أرجح من التوقف ، ويلزم حسن الظن بهم.

قال الحاكم : والرضاء من الله تعالى إرادة تعظيمهم وإيثابهم ، قال : والرضاء عن الفاعل غير الرضاء بالفعل ، فقد يرضى الله بالفعل ، ولا يرضى عن الفاعل ، كطاعات الفاسق ، وقد يرضى عمن لا يرضى بفعله ، كمؤمن أتى صغيرة ، وهذا قول أبي هاشم وأصحابه ، وهو الصحيح.

وقال أبو علي : الرضاء عنهم رضاء بأفعالهم ، ومن فوائد الآية إباحة الغنائم.

قوله تعالى

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ

٢٢١

عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الفتح : ٢٤ ، ٢٥]

اعلم أن هذه النكتة الكريمة لها ثمرات :

الأولى : جواز مصالحة الكفار مدة ، حيث تكون الشوكة للكفار أو يرجى إسلامهم ، لا أن كانت الشوكة للمسلمين لقوله تعالى :

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) وإذا جاز صلح الكفار مدة على الوجه المذكور فكذا أصلح البغاة ، وهذا يؤخذ مما روي في سبب نزول الآية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نزل بالحديبية أمره تعالى أن يصالح فصالح عشر سنين ، وعلى أن تخلو له مكة في العام القابل ليعتمر ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أحرم وقلد الهدي ، وكان الهدي سبعين بدنة ، وهم سبعمائة ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمرة القضاء في مثل ذلك الشهر فهذه ثمرة.

الثانية : جواز المن على الكفار ؛ لأنه قد روي أن المشركين بعثوا أربعين رجلا عام الحديبية ليصيبوا من المسلمين فأتي بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسرى فخلا سبيلهم ، عن ابن عباس.

وقيل : كانوا ثمانين من أهل مكة هبطوا إلى جبل التنعيم عند صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوا فأخذهم الرسول عليه‌السلام ومنّ عليهم ، عن أنس.

وقيل : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ظل شجرة وبين يديه علي عليه‌السلام يكتب كتاب الصلح ، فخرج ثلاثون شابا بالسلاح فدعا عليهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعميت أبصارهم وأخذوا فمنّ عليهم ، وقيل : غير ذلك ، وهذه حجة على جواز المنع ، وقد تقدم ذلك.

٢٢٢

ومنها : جواز ترك الغنائم من الأموال لمن غنمت منه ؛ لأنه قد روي أن ذلك كان يوم الفتح ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك لأهل مكة أموالهم ، ومنّ عليهم بترك القتل.

وقوله تعالى : (كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) وذلك بالرعب (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) وذلك بالنهي والأمر بالصلح ، وهذا دليل لأهل المذهب وأبي حنيفة أن مكة فتحت عنوة.

وقال الشافعي : فتحت صلحا.

ومنها : أنه لا يجوز تبييت العساكر التي فيها تجار المسلمين ، وأسراهم وضعفاؤهم ؛ لأن الله بين العلة في كف المسلمين بقوله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) وأولئك قوم من المسلمين كانوا بمكة عجزوا عن الهجرة ، فلو سلط الله المؤمنين على أهل مكة لقتلوا من بينهم من المسلمين لعدم العلم بهم ، والوطء والدوس عبارة عن الإيقاع ، وإنما يجوز قتلهم إذا خشينا الاستئصال بالمسلمين ، وهذا مذهبنا في المسألة ، واحتج أهل المذهب بهذه الآية ، كذا لا تحرق سفينة فيها كفار ومعهم أسير من المسلمين ، وقد ذكر هذه مالك.

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري : إذا كان في عسكر الكفار أسارى من المسلمين جاز أن يفعل بهم ما يؤدي إلى قتلهم من رمي ومنجنيق ونحوه ، ويقصد الكفار فإن أصاب مسلما فلا دية عليه ولا كفارة عند أبي حنيفة.

وقال الثوري : تجب الكفارة دون الدية ، وفي مذهب الشافعي إن كان الأكثر من المسلمين لم يجز ، وإن كان الأكثر من الكفار جاز ؛ لأن الظاهر أنه لا يصيبهم ، والأولى الترك.

قال في الشرح : وحكى الأستاذ أن المؤيد بالله كان يختار قول أبي

٢٢٣

حنيفة في جواز رميهم إذا قصد الكفار ، وهو ظاهر حكاية الشرح عن الوافي.

أما إذا خشينا نكاية المسلمين جاز رميهم ، وكذا لو تترسوا بمسلم ، وهذا قول الجميع ، وشرط الغزالي أن تكون ضرورية بأن يقصدوا كلية بأن يخشى على الجملة لا على واحد ، وأن تكون قطعية بأن نعلم نكايتهم لنا ، ولا يكفي الظن.

قيل (ح) : وهو المذهب إلا في الظن فإنه كالعلم ، وقيد في الشرح بالعلم ، وإذا جوزنا ذلك للضرورة أو فعل ذلك في دار حرب من غير ضرورة وجبت الدية والكفارة عندنا لعموم قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) [النساء : ٩٢] وحكى علي ابن العباس عن إجماعهم أنه إذا كان القتل في دار الحرب هدر ؛ لأن الدار دار إباحة.

أما لو تعمد قتل مؤمن في دار الحرب فلا قود ذكره أبو طالب ، وتجب الدية ، وهكذا عن أبي حنيفة أنه سقط القود ، وتجب الدية في العمد والخطأ ، والكفارة في الخطأ.

وقال الشافعي : يجب القود في العمد ، وأبو حنيفة أسقط الدية حيث قصد الكفار.

وحجتنا العموم في قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ).

وكذا احتج من أوجب الدية بقوله تعالى في هذه الآية : (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) والمعنى : لو لم نمنعكم لقتلتم المشركين ، ومن بينهم من ضعفاء المسلمين فتصيبكم بقتل المسلمين معرة.

قال جار الله : المعرة مع عدم العلم وجوب الدية والكفارة ، وسواء

٢٢٤

قاله الكفار بأن يقولوا : قتلوا من كان من أهل دينهم ، وقد فسر ابن إسحاق أيضا المعرة بالدية.

قال جار الله في تقدير الآية : إن المعنى ولو لا كراهة أن تهلكوا قوما مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عالمين بهم ، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة ، لما كف أيديكم عنهم ، لكن حذف جواب لو لا لدلالة الكلام عليه.

ثم بين تعالى أن الكف لهذا الغرض لا لكونهم غير مستحقين للقتل فهم الذين كفروا ، ثم أضافوا إلى كفرهم أن صدوا عن المسجد الحرام ، وأنهم لو تزيلوا أو انفصلوا عن المؤمنين لما كففناكم عنهم ، بل يعذّبون عذابا أليما.

قيل : بالقتل والأسر ، وقيل : بالنار ، وهذه المسألة لا تشبه ما إذا كان بين الكفار من لا يقتل من صبي منهم وامرأة وشيخ ، فإنه يجوز نصب المنجنيقات عليهم ، وإن قتل هؤلاء وهذا إجماع ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل ذلك مع أهل الطائف ؛ لأن ذلك لو منع من حربهم أدى إلى سقوط جهادهم ، ولأنه من قتل هؤلاء فلا دية عليه ولا كفارة.

ومن أحكام الآية وثمرتها : ما يتعلق بقوله تعالى : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) وهو يتعلق بذلك أحكام :

الأول : أن الهدي له مكان يذبح فيه ؛ لأنه تعالى قال : (مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) ، أي : محبوسا أن يبلغ محله فجعل له محلا حبس عنه ، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء ، وهي هل لهدى الإحصار مكان مخصوص يذبح فيه أم لا؟ فمذهبنا وهو قول أبي حنيفة أن مكانه الحرم لهذه الآية.

وقال الشافعي : يذبحه حيث أحصر ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذبح هديه بالحديبية.

قلنا : قال جار الله بعض الحديبية من الحرم ، يعني : فقد نحر في

٢٢٥

الحرم ، قال روي أن مضارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في الحل ، ومصلاه في الحرم ، يريد بالمضارب الخيام ، وفي ذلك دليل على فضل الصلاة في الحرم ، وإنما قال : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) يعني : محله المعتاد وهو منى.

وروى ابن جريج قال : قلت لعطاء : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو وأصحابه نحروا الهدي وحلقوا بالحديبية حين أحصروا فقال : إنهم حلوا في الحرم ، وتلا قوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٣٣] والحرم محلها ، وفي الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «منى كلها منحر ، وفجاج مكة طريق ومنحر».

إن قيل : هذا الاستدلال يقضي أن الحرم كله سواء في هدي العمرة والحج؟

قلنا : الأفضل في الحج أن يكون ذبح هديه في منى ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل ذلك ، ولأنه موضع التحليل ، والأفضل في العمرة أن يكون ذبح هديها بمكة ؛ لأنه موضع التحلل ، ولأن قد جرت به عادة المسلمين ، فإن ذبح في غير ذلك لضرورة جاز بلا خلاف ، وإن كان لغير ضرورة جاز أيضا ، وإن ترك الأفضل على ما ارتضاه الاستدلال ، وقد ذكره الفقيه محمد بن سليمان.

وعن المنصور بالله : يكون تاركا للنسك فيجزي وعليه دم ، وظاهر كلام اللمع ، وصرح به في البيان لا يجزي وهو مستدرك عليه بأن يقال : إنما شرط الضرورة للذبح في غير مكة لئلا يترك الأفضل ، والشافعي أخذ بما ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذبح بالحديبية ، وأنها ليست من الحرم.

الحكم الثاني : أن يقال : هذا الهدي جعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هديا للعمرة ، فكيف ذبحه للإحصار؟

٢٢٦

قلنا : يجاب بأمرين :

الأول : أن كونه للعمرة مشروطا بأن يتمكن منها فإذا لم يتمكن فكأنه باق على ملكه ، كما قالوا إذا بعث بهدي الإحصار ثم زال حصره ، وأدرك الحج : انتفع بهديه ، فقد نحره للإحصار ؛ لأنه باق على ملكه.

الأمر الثاني : أن المصرف مساكين الحرم فلم يتعد عنهم (١).

الحكم الثالث : يتعلق بما ورد عن ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحر البعير عن عشرة ، والبقرة عن سبعة ، وبما روي عن الحسن بن علي عليه‌السلام أنه قال : أمرنا رسول الله صلّى الله عليه أن نضحي بأسمن ما نجد ، والبقرة عن سبعة والجزور عن عشرة ، وهذا مذهبنا وهو قول زفر ، ورواه في الترمذي عن ابن إسحاق ، لكن قال : حديث ابن عباس غريب.

وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، ورواه في الترمذي عن سفيان الثوري : إن البدنة والبقرة سواء في أنهما لا يجزيان إلا عن سبعة ، واحتجوا بأخبار كثيرة منها ما رواه مسلم في صحيحه ، والترمذي في صحيحه بالإسناد إلى جابر بن عبد الله قال : (نحرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن تسعة) ، وفي صحيح مسلم عن جابر من طريق أسندها قال : (خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحج فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة).

قوله تعالى

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح : ٢٦]

__________________

(١) بياض في (ب) قدر سطر تقريبا وفي (أ) قدر سطرين

٢٢٧

قيل : لما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام أن يكتب كتاب الصلح بينه وبين قريش حين نزل بالحديبية فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل بن عمرو وأصحابه : ما نعرف هذا ولكن اكتب : باسمك اللهم ، ثم قال : اكتب : «هذا ما صالح عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل مكة» فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة فقال عليه الصلاة والسّلام : «اكتب ما يريدون فأنا أشهد أني رسول الله» فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك فأنزل الله على رسوله السكينة ، فتوقروا ، وحلموا ، ونزلت الآية.

ولها ثمرات منها : ذم الحميّة بالباطل ، ومنها : استحباب كتب البسملة بكمالها في السجلات.

ومنها : استحباب كتابة المحاضر في المعاهدة بين الناس ، وهذا في الأوراق ظاهر ، وأما في الشاب فإن كان في ذلك نوع من التأكيد حسن ، وإن أريد به التفاخر قبح.

وأما قولهم : والزمهم كلمة التقوى ، قيل : كلمة التقوى (لا إله إلا الله) عن ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، وغيرهم.

وقيل : كان شعارهم في الحرب (لا إله إلا الله) ، فلزموا ذلك وقيل كلمة الإخلاص عن مجاهد وقيل : (لا إله إلّا الله والله أكبر) عن علي عليه‌السلام ، وابن عمر.

وقيل : (لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ، عن عطاء بن أبي رباح.

وقيل : بسم الله الرّحمن الرّحيم عن الزهري ، وقيل : بسم الله الرحمن الرحيم ، ومحمد رسول الله.

٢٢٨

وقيل : الوفاء بالعهد عن الحسن ؛ لأنها في سبب التقوى ، وقيل : أوامر الله عموما عن ابي علي.

قوله تعالى

(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح : ٢٧]

لهذا ثمرات : الأولى : استحباب الاستثناء بمشيئة الله ؛ لأن ذلك إن كان من كلام الله تعالى فوروده مورد التعليم لعباده أن يقولوا في غداتهم مثل ذلك ، وأما وعد الله تعالى فهو مقطوع به.

أو يكون المعنى : لتدخلن جميعا إن شاء الله ، ولم يمت منكم أحد ، وأن المشيئة تعلق بآمنين.

وإن كانت حكاية لما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه فذلك ظاهر.

وقيل : يجوز أن ذلك على لسان ملك فأدخل الملك : إن شاء الله.

ومنها : قوله تعالى : (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) المعنى بعضكم محلق وبعضكم مقصر ، لا أنه أراد الجمع بين الحلق والتقصير في شخص واحد ، وظاهر الآية يقتضي التعميم ، وقد تقدم ذلك ، والحلق أفضل إلا في حق المرأة ، والمتمتع في العمرة فالتقصير أفضل ، وقد جاء في الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا للمحلقين ثلاثا وترحم على المقصرين مرة واحدة.

وهو يتعلق بالحلق والتقصير حكم في الإثبات وهو بم يعد ممتثلا هل بالكل أو بالبعض؟ فعندنا بالجميع.

وحكم بالنهي وهو إذا خالف وحلق قبل بلوغ الهدي محله ، فإنه يكون مخالفا بالبعض فعندنا بما يتبين أثره ، وقد شرح ذلك.

٢٢٩

قوله تعالى

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩]

هذه الشدة والرحمة سبقا للمدح والثناء ، فعلى المؤمنين في كل زمان أن يراعوا هذا التشدد والتعطف ، ويجب أن يكون ثم حال في الموالاة والمعاداة يميز به بين المؤمن والكافر.

وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ : بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه ، أما المصافحة فلم يختلف فيها الفقهاء ، وقد جاءت فيها أخبار كثيرة ، ومن حقها أن تكون بالترحم والتعطف ، فإن صافحه عند اللقاء وكان عند الافتراق يأخذ من عرضه كان ذلك فيه كذب وسخرية ، وكان ذلك كما قيل :

يبدون بينهم المودة والصفا

وقلوبهم محشوة بعقارب

وقول الآخر :

تدلي بودي إذا لاقيتني ملقا

وإن أغب كنت أنت الهامز اللمزة

والمعانقة جوزها أبو يوسف.

قال في الكافي : وهو قول عامة العلماء ، وكرهها أبو حنيفة ، وهذه الآيات نظيرة لقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] وقوله تعالى : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣] وقد استدل أهل المذهب بقوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) أن عتق الكافرة عن كفارة الظهار واليمين لا تجزي ؛ لأن ذلك خلاف الشدة ، وأبو حنيفة جوزها لأنه ينطلق عليها اسم الرقبة.

٢٣٠

وقوله تعالى : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨].

وهذه هي الثمرة : أن يغلظ على من ليس من أهل ملته ، ويعامل المؤمنين بالبر والصلة ، وكف الأذى والمعونة ، والاحتمال وحسن الأخلاق.

قوله تعالى

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح : ٢٩]

لهذا ثمرات :

منها : أنه إذا أراد بصلاته دخول الجنة والسلامة من النار كان ذلك نية مجزية ، كما ذكره المنصور بالله وغيره ، خلافا لما روي عن المعتزلة أنه لا يجزي ؛ لأنه نوى به غير ما وجبت لأجله ، وهو كونها لطفا ؛؟ لأن المعنى يبتغون بركوعهم وسجودهم فضلا من الله ، وذلك دخول الجنة ، ويطلبون بذلك رضاه.

وقيل : أراد بابتغاء الفضل طلب الحلال من الدنيا.

قال في عين المعاني والتهذيب عن عطاء : دخل في ذلك كل من حافظ على الصلوات الخمس.

الثمرة الثانية : أنه يستحب تطويل الغرة في غسل الوجه كما سيجيء في السجود ، وقد جاء في الحديث : (أمتي الغر المحجلون يوم القيامة من أثر الوضوء).

قال أصحاب الشافعي : فيستحب إدخال جزء من الرأس في غسل الوجه ، وتستحب الزيادة في غسل الرجلين لأجل التحجل ، وقد روي في تفسير السيماء أن علامتهم في وجوههم يوم القيامة من أثر السجود. عن

٢٣١

ابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والربيع بن أنس ، قال شهر بن حوشب : تكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر ، ويؤخذ من هذا استحباب تمكين الجبهة في السجود.

وقيل : المراد علامتهم في الدنيا من أثر السجود ، عن مجاهد.

قال في الكشاف : وكان علي بن الحسين زين العابدين ، وعلي بن عبد الله بن العباس يقال لكل منهم : ذوا الثفنات ؛ لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه أشباه ثفنات البعير (١).

قال جار الله : وما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تعلبوا صوركم» (٢).

وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلا قد أثر في وجهه السجود فقال : إن صورة وجهك أنفك فلا تغلب وجهك ، ولا تشن صورتك (٣).

قال جار الله : هذا محمول على قصد إحداث تلك السيمة فتكون رياء ونفاقا ، فاستعاذ بالله منه ، والعلب الأثر وعلب اللحم إذا اشتد ، والأنف أحسن الشيء في الوجه.

وقيل : الأثر : هي الصفرة والنحول عن الضحاك.

وعن الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى.

وعن سفيان : تحسن وجوههم لصلاتهم بالليل ، وقد جاء في الحديث من كثرة صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.

قوله تعالى

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) [الفتح : ٢٩]

يعني : السيماء في الوجوه ، ويتم الكلام.

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٥٥٠

(٢) الكشاف / ٣ / ٥٥٠

(٣) الكشاف ٣ / ٥٥٠

٢٣٢

ويبتدئ بقوله تعالى : (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) وخبره : (كَزَرْعٍ).

وقيل : المراد ذلك مثلهم في الكتابين ، وهو ما ذكر.

وقوله : (كَزَرْعٍ) هذا خبر مبتدأ محذوف ، أي ومثلهم في القرآن كزرع ذكر هذا في عين المعاني عن الفراء.

قال جار الله : ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله : (كَزَرْعٍ) يعني : أن مثلهم في الكتابين معا كزرع.

وهاهنا ثمرة ثالثة : وهي لزوم موالاة أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ رضي الله عنه ـ ، واعتقاد استحقاقهم للثناء من الله تعالى عليهم ، وقد فسر قوله تعالى : (كَزَرْعٍ) قال في الكشاف عن عكرمة ، الزرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و (شَطْأَهُ) أبو بكر (فَآزَرَهُ) عمر (فَاسْتَغْلَظَ) عثمان (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) بعلي ـ رضي الله عنهم ـ.

قال في السفينة : وفي كتاب الله ثمانية عشر آية تشهد بفضل الخلفاء الأربعة ، وأنشد لبعضهم :

إني أحب أبا حفص وشيعته

كما أحب عتيقا صاحب الغار

وقد رضيت عليا قدوة علما

وما رضيت بقتل الشيخ في الدار

كل الصحابة عندي قدوة علم

فهل عليّ بهذا القول من عار

إن كنت تعلم أني لا أحبهم

إلا لوجهك أعتقني من النار

وعن الحسن أراد بذلك العشرة الذين بشرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنة ، وقد جاء في الحديث المشهور عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عشرة في الجنة : أبو بكر في الجنة ، عمر في الجنة ، علي في الجنة ، عثمان في الجنة ، طلحة في الجنة ، الزبير في الجنة ، سعد بن أبي وقاص في الجنة ، عبد الرحمن بن عوف في الجنة ، سعيد بن زيد في الجنة ، عمرو بن نفيل في الجنة»

وقد أوسع الحاكم في السفينة في ذكر فضائلهم ، ولبعضهم :

٢٣٣

خيار عباد الله بعد نبيهم

هم العشر طرا بشّروا بجنان

زبير وطلح وابن عوف وعامر

وسعدان والصهران والختنان

ويحرم ذم الصحابة وسوء الظن بهم.

وروى الحاكم في التهذيب عن علي عليه‌السلام وابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز ، يقال لهم الرافضة : يرفضون الإسلام ، إذا رأيتموهم فأدركتموهم فاقتلوهم».

وفي خبر علي عليه‌السلام قلت : ما علامتهم؟ قال : «ليست لهم جمعة ولا جماعة ، يسبون أبا بكر ، وعمر».

قال : وذكر الهادي عليه‌السلام في الأحكام قال : حدثني أبي ، وعماي محمد ، والحسن ، عن أبيهم القاسم بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جده الحسن بن علي ، عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وعليهم أنه قال : «يا علي يكون آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به يقال لهم : الرافضة فإذا أدركتموهم فاقتلوهم قتلهم الله فإنهم مشركون».

وفي هذا دليل على جرح الإمامية ، وعدم قبول أخبارهم وشهادتهم.

وقوله تعالى

(يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) [الفتح : ٢٩]

لهذا ثمرة : وهو أن إغاظة الكفار قربة ، وذلك محكى عن الهادي عليه‌السلام ، فإذا كان إذا عمر معمرا لا يحصل به نفع إلا غيظ الكفار كان ذلك قربة إلى الله.

وقال المؤيد بالله : لا قربة في ذلك إن لم تحصل به قوة للمسلمين ، وقد تقدم هذا عند ذكر قوله تعالى : (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) [التوبة : ١٢٠]

٢٣٤

سورة الحجرات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : ١]

القراءة الظاهرة ـ بضم التاء وفتح القاف ـ مأخوذ من التقدم ، وأصله قدمه وأقدمه ، مثل سلفه وأسلفه ، وحذف المفعول ليعم ، أي : لا تقدموا أمرا قبل أن يؤذن لكم ، وقرئ (لا تقدموا) ـ بضم التاء وكسر الدال مخففا وإسكان القاف ـ ، وقرئ (لا تقدموا) ـ بفتح التاء وسكون القاف وفتح الدال ـ من القدوم بمعنى لا تعجلوا على أمر قبل أمر الله ورسوله.

وفي عين المعاني : وقرأ يعقوب : (تقدموا) ـ بفتح التاء ـ مثل دبر وتدبر.

وقوله تعالى : (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أراد باليدين المجاز ، والقصد الجهة التي يريد بها ، وفي سبب نزول هذه الآية أقوال ذكرها أهل التفسير ، فعن الحسن في قوم ذبحوا قبل صلاته عليه‌السلام فأمرهم أن يعيدوا الذبح ، وعن عائشة في قوم صاموا قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال مسروق : دخلت عليها يوم الشك فأمرت لي بعسل فقلت إني صائم ، فقالت : نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صوم هذا اليوم ، وفيه نزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

وعن قتادة : نزلت في قوم كانوا يقولون : لو أنزل فيّ كذا ، فكره الله ذلك.

٢٣٥

وعن الضحاك : نزلت في الشرائع والقتال ، والمعنى : لا تقضوا أمرا دونه.

وعن عطاء الخراساني : أن رجلين من بني سليم اعتزيا إلى بني عامر لكثرتهم وكان بنو عامر قتلوا القراء في بئر معونة فقتلا فوداهما النبي عليه‌السلام.

وعن أبي علي : نزلت في قوم كانوا يخوضون في مجلس رسول الله وكان إذا سئل أفتوا قبله.

قال في الكشاف : في حديث المقتولين أنه صلّى الله عليه بعث سبعة وعشرين رجلا عليهم المنذر بن عمرو الساعدي فقتلهم بنو عامر إلا ثلاثة نفر ، فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة فاعتزيا إلى بني عامر ؛ لأنهم أعز من سليم فقتلوهما وسلبوهما ، ثم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «بئس ما صنعتم كانا من سليم ، والسلب ما كسوتهما» فوداهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولهذه الآية ثمرات عامة وخاصة :

أما العامة : فقد قيل : يدخل في ذلك كل قول أو فعل ، فلا يقدم عليه إلا بوحي من الله تعالى ، واقتداء برسوله حتى لا يمشي بين يديه إلا لحاجة ، وأن يتأنى في الافتتاح في الطعام ، وقد مدح الله تعالى الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ فقال تعالى : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) [الأنبياء : ٢٧].

وأما الخاصة فما ورد في سبب نزولها.

أما ما روي أنها نزلت في التضحية قبل الصلاة ، وأن من ذبح قبل الصلاة أعاد فقد تظاهرت أخبار بذلك.

منها حديث أبي بردة بن يسار أنه لما ذبح قبل الصلاة قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شاتك شاة لحم».

وحديث الأسود بن قيس قال : شهدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم النحر فمر

٢٣٦

بقوم قد ذبحوا قبل الصلاة فقال : «من ذبح قبل الصلاة فليعد» وهذا مذهبنا وأبي حنيفة ، فإن صلى مع الإمام فبعد الصلاة ، وإن صلى وحده فبعد صلاته ، فإن كان لا صلاة عليه كالحائض فبعد الفجر.

قال أبو طالب : وكذلك المريض والمسافر.

قال القاضي زيد : هذا إذا قلنا : ليست الصلاة بفرض عين.

وقال مالك والأوزاعي : جواز ضحيته مرتبة ذبيحة الإمام.

قال في النهاية : قد وردت أخبار مختلفة ففي بعضها : من ذبح قبل الصلاة أعاد ، وفي بعضها من ذبح قبل ذبح الإمام.

وقال الشافعي : وقتها مرتب على دخول قدر الصلاة والخطبتين بعد دخول وقت صلاة العيد ، فلو كان لا يصلي للعصيان قال الشيخ عطية : وقت ضحيته بعد الزوال ، فهذه ثمرة على هذا القول.

الثمرة الثانية : في صوم يوم الشك ، اعلم أنه لا يكره صيامه إن صام شعبان ، ولا خلاف أنه يستحب صومه إذا وافق وردا له بنيّة التطوع ، ولا خلاف أنه ينهى عن نية صومه قطعا على أنه من رمضان.

واختلفوا بعد هذا على أقوال فمذهب الهادي ، والقاسم ، والناصر ، قال المؤيد بالله : والمسألة إجماعية لأهل البيت أنه يستحب صومه يعني بنية مشروطة ، وخرج من قولهم أحمد بن عيسى فإنه قال : يكره ، واستحبابه مروي عن علي عليه‌السلام وابن عمر ، وابن سيرين ، وأسماء ابنة أبي بكر ، ورواية أهل المذهب عن عائشة.

وقال الشافعي : يكره صومه ، ولو شرط وذلك مروي عن عمر ، وعمار ، ومالك ، والشعبي ، والنخعي ، والأوزاعي.

وقال أحمد : تجب إن كان غيما ، ويكره إن كان صحوا.

وقال الحسن وابن سيرين : الناس تبع للإمام في الفطر والصوم.

٢٣٧

وقال أبو حنيفة : إن صامه بنية التطوع جاز ، وإن انكشف أنه من رمضان أجزأه ، وإن صامه بنية رمضان كره.

إن قيل : ما سبب هذا الخلاف؟

قلنا : من استحب صومه تعلق بثلاثة وجوه :

الأول : ما رواه أبو طالب عن ابن أبي شيبة ، عن أم سلمة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصومه.

الثاني : أنه مروي عن علي عليه‌السلام ، وفي الحديث عن علي عليه‌السلام : (لأن أصوم يوما من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوما من رمضان).

الوجه الثالث : عموم الترغيب في الصوم ، نحو قوله صلّى الله عليه :

«يقول الله تعالى : الصوم لي وأنا أجزي به» ونحو ذلك.

ووجه رابع : وهو أن لليوم الواحد من رمضان من الفضل مزية على غيره ، فينبغي أن لا تفوت هذه الفضيلة ، وأن يحتاط لها ، ولأنه قد ثبت استحبابه في صورة وهي إذا صام جميع الشهر ، ووافق وردا له.

وأما من كره صومه فيتعلق بأمرين :

الأول : ما روي في سبب نزول هذه الآية.

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت لمسروق حين امتنع من شرب عسل أمرت به له ، واعتل بأنه صائم : نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صوم هذا اليوم ، وفيه نزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

الأمر الثاني : ما ورد من الآثار في النهي عنه ، وذلك ما رواه في صحيح مسلم ، والترمذي ، والبخاري وسنن أبي داود ـ رضي الله عنه ـ ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تقدموا) وفي بعضها ، «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين ، إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه».

٢٣٨

ومنها : ما رواه الترمذي وسنن أبي داود بالإسناد إلى صلة (١) قال :

كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه فأتي بشاة ـ في الترمذي ـ مصلية فتنحى بعض القوم فقال عمار : من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال في الترمذي : قال أبو عيسى : حديث عمار حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعدهم من التابعين ، وبه يقول سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وعبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق.

قال أهل المذهب : ما ورد من النهي متأول على أنه صامه بنية القطع ، قال من كرهه : لا ملجأ إلى التأويل ، والخاص مقدم على العام ، وما روي من طريق ابن أبي شيبة لم يذكره في الصحاح ، وهاهنا فرع وهو أن يقال : إذا قلنا بترجيح صومه بنية مشروطة لما ورد من الأدلة المتقدمة فهل يترك صومه الآن؟ لأن قد صار ذلك عادة الباطنية.

قلنا : قد روي هذا عن الإمام المهدي علي بن محمد ، وعن الفقيه علي بن يحيى ، والمسألة في محل النظر ؛ لأن ترك ما يثبت شرعا لمخالفة المبتدعين لا يصح.

الثمرة الثالثة : في حكم من قتل مسلما يعتقد كفره ، وقد تقدم ما ذكر من قتل الرجلين الذين من بني سليم أنه صلّى الله عليه قال لمن قتلهما :

__________________

(١) صلة : هو صلة بن زفر ، وهو أبو بكر ويقال له : أبو العلى العنسي الكوفي أحد أعيان التابعين سمع عن حذيفة وابن مسعود وغيرهما من الصحابة مات في زمن مصعب بن الزبير ـ صلة ـ بكسر الصاد وتخفيف اللام ، وزفر ـ بضم الزاي وفتح الفاء.

٢٣٩

«بئس ما صنعتم» ووداهما صلّى الله عليه ، فهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز الفعل إلا بإذن من الرسول عليه‌السلام ، والإمام قائم مقامه ، فإن فعل عصا ، ووجبت الدية لما ورد في هذين الرجلين ، وقد جاء مثل هذا في إيجاب الدية أن والد حذيفة بن اليمان وهو من الأنصار اسمه اليمان حسين بن جابر قتله المسلمون يوم أحد ظنوه ، كافرا فأوجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدية.

وفي حديث المسلمين أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وداهما ، وحديث خالد بن الوليد ، وفعله مع الذين اعتصموا بالسجود فقتلهم ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يديهم فوداهم نصف الدية دلالة على أن خطأ الرعية في بيت المال كخطإ الحاكم ، ويكون هذا على سبيل الإعانة ففيه دلالة أنه يعان من بيت المال من لزمه غرم وإن تعدى في موجبة كحديث المظاهر إن قلنا : إن الذي سلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيت المال.

وأما القود فإن كان ذلك في دار الحرب فلا قود بلا إشكال ، وإن كان في دار الإسلام فظاهر الحديث أنه لا قود ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبين ذلك ، وهو في موضع التعليم ، وقد أطلق ذلك في (شرح الإبانة) ، وذكره في الكافي عن أبي طالب ، واحتج بحديث والد حذيفة بن اليمان.

وقيل : يجب القود إذا اعتقد القاتل أن المقتول على صفة فانكشف على غيرها ، كأن يظنه كافرا وهو مسلم ، أو يظنه قاتل أبيه وانكشف أنه غير قاتل ، أو يظنه عبدا فانكشف حرا ، وعلل ذلك بأن القتل لا يستباح بالظن ، فكان متعديا فيجب القود ، وقد أطلق هذا في التذكرة ، والحفيظ.

ومن ثمراتها : لزوم تعظيم أهل الفضل من العلماء فلا يسبقه في طريق ولا قول من فتوى ولا إمامة ؛ لأنهم ورثة رسول الله ، وقد ثبتت لهم مزايا.

٢٤٠