تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

أمام عينيك ، وتستعد لمنتظرك ، وهذه التوبة واجبة على الفور إجماعا ، وهي تعم كل مكلف ، ولها تفاصيل في كتاب المعاملات ، وهي واجبة على من أتى كبيرة.

وأما التوبة من الصغائر فأوجبها أبو علي ، وعند أبي هاشم : لا تجب ، ولا يجب تكريرها.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) [التحريم : ٩]

ثمرة ذلك : وجوب جهاد الكفار والمنافقين ، والغلظ عليهم ، لكن فسّر جهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين بإقامة الحجة عليهم ، وقيل : بالسيف إن أظهروا ، وقيل : بإقامة الحدود عليهم إن ارتكبوا ما يوجب الحد.

وعن الحسن : كان أكثر من يصيب الحد في ذلك الزمان المنافقين ، فأمر الله تعالى أن يغلظ عليهم في إقامة الحد.

وقيل : المعنى استعمل الغلظة والخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به.

قوله تعالى

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) [التحريم : ١٠]

جعل الله في هذا بيان أن الإنسان مؤاخذ بعمله ، وأن إيصاله بغيره لا ينجيه من العذاب إن كان عاصيا ، ولا يضره إن كان مؤمنا ، واتصل بالكافر ، وكان هذا في وقت لا يحرم على المؤمن زواجة الكافرة ، ولا على المؤمنة زواجة الكافر ، ثم نسخ زواجة المؤمنة للكافر. وأما المؤمن وزواجته بالكافرة فنسخ ، إن كانت حربية ، وفي الكتابية الخلاف.

والخيانة من امرأة نوح ، وامرأة لوط.

٤٤١

قال في الكشاف : نفاقهما ، وإبطانهما للكفر ، وأن امرأة نوح قالت لقومه : إنه مجنون ، وامرأة لوط دلت على ضيفانه ، وليس المراد الفجور.

وعن ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، واسم امرأة نوح واعلة ، واسم امراة لوط واهلة ، وامراة فرعون آسية بنت مزاحم ، وقيل : هي عمة موسى عليه‌السلام آمنت حين سمعت بتلقف عصا موسى فعذبها فرعون.

وعن أبي هريرة : إن فرعون وتد امرأته بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس ، وأضجعها على ظهرها ، ووضع رحى على صدرها ، فدعت إلى الله فرقى بروحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه.

ولهذا فائدة شرعية : وهي أن الصبر على التعذيب ، وعدم النطق بكلمة الكفر أفضل من النطق بكلمة الكفر ، وإن جاز ذلك.

قوله تعالى

(وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم : ١١]

قال جار الله : وفي ذلك دليل على أن الاستعاذة بالله ، ومسألة الخلاص عند المحن من سيرة الصالحين ، وسنن الأنبياء ، كقوله تعالى : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١١٨] ، وقوله تعالى : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يونس : ٨٥].

سورة الملك

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك : ١٢]

قيل : المعنى يخافونه ولم يروه.

وقيل : معناه في السر حال غيبة الناس.

٤٤٢

وعن الحسن : بالغيب يعني بالآخرة ؛ لأنها غائبة.

وثمرة الآية : على التفسير بقوله في السر وجوب الإخلاص ؛ لأن الخشية في الخلوة تؤدي إلى أداء الواجبات ، واجتناب المقبحات.

قوله تعالى

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [الملك : ١٣]

قيل : كان المشركون يتكلمون بأشياء فيطلع الله رسوله عليها ، فيقولون : أسروا قولكم لا يسمعه إله محمد ، فنبه الله على جهلهم.

وقيل : هذا توعد وتهديد.

قوله تعالى

(فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك : ١٥]

المناكب : هي الجبال ، عن ابن عباس. وقيل : طرقها وفجاجها عن مجاهد ، وقيل : في نواحيها عن الفراء والأصم. قيل : هذا أمر إباحة وإرشاد ، وقيل : يحتمل الإباحة والوجوب والندب ؛ لأن المشي في الحج واجب ، ولزيارة المساجد ندب ، وللتجارة مباح ، والأكل ينقسم أيضا.

قال القاضي : لا يمنع من الحمل عليها. وقيل : (١)

سورة نون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قوله تعالى

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [ن : ٤]

__________________

(١) بياض في (ب) قدر نصف سطر وفي (أ) قدر سطرين.

٤٤٣

هذه صفة مدح ، فيتوجه التشبه به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله تعالى في سورة الممتحنة : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [التحريم : ٢١] وللمفسرين أقوال في تفسير خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقيل : أراد على دين الإسلام عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والأصم.

وقيل : الصبر على الحق ، وسعة البذل ، وتدبر الأمور على مقتضى العقل بالصلاح والرفق ، والمداراة ، وتحمل المكاره في الدعاء إلى الله ، والتجاوز ، والعفو ، وبذل الجهد في نصرة المؤمنين ، ودفع الأذى عنهم ، وترك الحسد ، والحرص ، والتباغض ، عن أبي علي.

وسئلت عائشة عن خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩].

وقيل : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] ، قيل : عاشرهم بخلقه ، وزايلهم بقلبه ، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق.

قوله تعالى

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) [الملك : ٨ ـ ١٤].

ثمرة هذه النكتة : التحذير عن هذه الخلال المذمومة ، وعن طاعة صاحبها ، والخلاف من كثر حلفه ، وأراد الحلف بالباطل ، ونزولها في الوليد بن المغيرة ، وقيل : الأخنس بن شريق ، وقيل : في الأسود بن عبد يغوث.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : وكفى بذلك مزجرة لمن اعتاد الحلف ، ومثل هذا قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [البقرة : ٢٢٤] والمهين : الحقير لقلة رأيه ، أو لكذبه ، صار حقيرا عند الناس ، والهماز : المغتاظ الطعان.

٤٤٤

وعن الحسن : يلوي شدقه في أقفية الناس ، والمشاء بالنميم هو النقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم ، وقوله : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) يعني : بخيل ، والمال هو الخير ، وقيل : أراد مناع من الخير ، وهو الإسلام.

قيل : أراد به الوليد بن المغيرة ، كان له عشرة أولاد ، وكان يقول لهم ، من أسلم منكم منعته رفدي ، وكذا يقول لقرابته ، عن ابن عباس ، وعنه أنه أبو جهل.

وقيل : أراد به الأخنس بن شريق ، وقيل : أريد به الأسود بن عبد يغوث ، والمعتدي : المجاوز في الظلم حده ، والأثيم : كثير الآثام ، والعتل : الجافي والزنيم : الدعي ، قال حسان :

وأنت زنيم نيط في آل هاشم

كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

وكان الوليد قد دعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة ، وقيل : بغت أمه فلم يعرف حتى نزلت هذه الآية ، وعابه بذلك ، وإن كان لا ذنب له في بغي أمه ، لقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] لأنه الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشىء منها ، ومن ثم قال عليه‌السلام : «لا يدخل الجنة ولد زنا ، ولا ولده ، ولا ولد ولده» هكذا ذكر في الكشاف.

وقال الحاكم : الحديث من أخبار الآحاد ، فإن صح ذلك كان في رجل بعينه.

قوله تعالى

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) [ن : ١٦ ـ ١٩]

اعلم أنه يظهر من معنى هذه الجملة ثمرات.

منها : أنه ينبغي إكرام الوجوه ؛ لأن الوجه أكرم موضع من الجسد ، والأنف أكرم موضع من الوجه ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية ،

٤٤٥

واشتقوا منه الأنفة ، ويقال : فلان شامخ العرنين ، وقالوا في الذليل جدع أنفه ، ورغم أنفه ، فعبر الله تعالى بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة ، ولقد وسم العباس ـ رضي الله عنه ـ أباعره في وجوهها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكرموا الوجوه فوشمها في جواعرها» فيأتي على هذا أنه يكره بما يعتاد من وشم الغنم في وجوهها.

وقال جار الله في تفسير هذه السمة : لأن المعنى سنعلمه يوم القيامة علامة مشوهة لمعاداته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : خطم يوم بدر بالسيف ، فبقيت سمة على خرطومه.

وقيل : سنشهره بهذه السمة في الدارين فلا يخفى ، كما لا تخفى السمة على الخرطوم.

وعن النضر بن شميل : أن الخرطوم اسم للخمر ، وان المعنى : سنحده على شربها.

قال جار الله : وفيه تعسف ، وقد ورد في تسمية الخمر بالخرطوم قوله :

تظل يومك في لهو وفي طرب

وأنت بالليل شراب الخراطيم

هذه ثمرة.

الثانية : التحذير من منع ما وجب في المال من الحقوق ، ولأن أصحاب الجنة المذكورة عوقبوا على عزمهم على المنع.

ومعنى قوله تعالى : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) أي : أمرناهم بالإسلام فجعل الابتلاء عبارة عن الأمر.

وقيل : المعنى (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) يعني : أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف»

وهذه ثمرة تؤخذ من فعله عليه‌السلام ، وهو جواز الدعاء على الكفار.

وحديث أصحاب الجنة وهم قوم من أهل الصلاة كانت لأبيهم هذه

٤٤٦

الجنة دون صنعاء بفرسخين ذكره في التهذيب والكشاف ، وهذا حين كانت صنعاء متسعة.

قال في الكشاف : فكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي ، وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل ، وما في أسفل الأكداس ، وما أخطأه القطاف من العنب ، وما بقى على البساط الذي يتساقط تحت النخلة إذا صرمت ، فكان يجتمع لهم شيء كثير ، فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ، ونحن أولو عيال فحلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خفية عن المساكين ، ولم يستثنوا في يمينهم فأحرق الله جنتهم.

ومعنى : (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي لا يقولون : إن شاء الله ، وسمي استثناء ، وإن كان شرطا ؛ لأنه يؤدي معنى الاستثناء ؛ لأن قولك لا أخرج إن شاء الله بمعنى لا أخرج إلا أن يشاء الله.

وقيل : معنى (وَلا يَسْتَثْنُونَ) يعني : حق الفقراء ، واختلف ما هو فقيل : العشر ، وقيل : ما يتساقط عند الصرام ، وكان هذا واجبا إذ لا يعاقبون إلا على ترك واجب ،

وقد اقتطف من هذه ثمرات :

منها : أن فيما أخرجت الأرض واجبا ، وهذا ثابت في شريعتنا ، وبيانه من جهة السنة.

ومنها أن العزم على القبيح قبيح ؛ لأنهم عوقبوا على عزمهم.

قال الحاكم : وإذا عوقبوا على هذا فكيف من أخذ أموال الناس ظلما وهذا يأتي حجة للقاسم ، والهادي ، والناصر ، ومن وافقهم من المتكلمين أن العزم على الكبيرة كبيرة.

وعند المؤيد بالله في قوله الظاهر ، والمنصور بالله : أنه ليس بكبيرة ، وعند أبي هاشم إن شارك العزم المعزوم عليه فيما كان كفرا أو

٤٤٧

فسقا وهو باب الاستخفاف كان العزم كالمعزوم عليه وإلا فلا ، وتفصيل هذه المسألة في كتب علماء الكلام.

ولقائل أن يقول : قد حصل منهم العزم على ترك الواجب ، والأمر بتركه ، والرضاء بالترك من الغير ، فعوقبوا على أمر زائد على العزم.

ومنها ما ذكر الحاكم أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى إذا أخبر عن المستقبل واجب ؛ لأنه لا يأمن كونه كذبا.

قال الإمام يحيى بن حمزة : قد ذكر قوم وجوب الاستثناء ، والصحيح أنه غير واجب ، وأن الله تعالى عاقبهم على حرمان المساكين لا على ترك الاستثناء.

قوله تعالى

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) [ن : ٢٣ ، ٢٤]

المعنى : يتشاورون بهذا القول ، سمي ذلك مخافتة وإن سمع بعضهم بعضا ، وقد احتج المنصور بالله على أن أقل المخافتة أن تسمع من بجنبك.

وقال المؤيد بالله وغيره : إن ذلك جهرا ، وأجيب (١) المنصور بالله أن مخافتة الإنسان لنفسه أن يسمع نفسه ، ومخافتته لغيره أن يسمع غيره.

وأما إطلاق زيد بن علي عليه‌السلام بقوله : ما خافت من أسمع أذنيه ، وقد استضعفه المؤيد بالله ، وقال : إنه مخافت ، وتأول على أن مراده خافت أبلغ المخافتة ، بل أبلغها أن تحرك لسانك ، وتثبت في الحروف ، وإن لم تسمع ، وهذا قد ذكره المؤيد بالله.

وأما النواوي فقال : ما لم يسمع به نفسه فليس بقراءة ، ولا يعتد به في سرية ولا جهرية ، ومخافتة أصحاب الجنة بقولهم : (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) [ن : ٢٤] ، وتخافتوا لئلا يسمعهم المساكين.

__________________

(١) هكذا في الأصل ولعله وأجاب وهو الأولى.

٤٤٨

وهذا يستثمر منه أن جذ الثمار وحصد الزرع ليلا يكره لئلا يكون تشبها بهؤلاء ، وقد ذكر هذا الناصر عليه‌السلام فقال : يكره جذ الثمار ، وجذ الزرع ، والتضحية ليلا.

قوله تعالى

(قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) [ن : ٢٨]

أراد بالأوسط الخيار ، وقيل : الأوسط سنا ، فالأول الأظهر وهو قول الأكثر ، ومعنى : (تُسَبِّحُونَ) أي تستثنون ، وكان استثناؤهم بالتسبيح.

وقيل : تستغفرون الله.

قال في الكشاف : قال لهم حين عزموا على ذلك : اذكروا الله وانتقامه من المجرمين ، وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم ، وسارعوا إلى حسم شرها قبل حصول النقمة فعصوه.

وعن الحسن في تفسير : (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي : لو لا تصلون ، كأنهم كانوا يتوانون عن الصلاة ، وهذا نعت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال الحاكم : وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للعبد عند المعصية أن يفزع إلى الطاعة ليكون ذلك دفعا من العقوبة العاجلة.

وروي أنه قيل للحسن : ألا تخرج على الحجاج؟ فقال : هو عقوبة من الله ، فلا تقاتلوه بالسيف ولكن عليكم بالتوبة ، والدعاء يعني : تخليته عقوبة ، فلا ينصركم الله مع الإصرار فتوبوا تنصروا ، وهذا بناء على أن مصائب الدنيا قد تكون عقوبة ، وقد ذكره أبو علي ، وهذا كثير في كتاب الله ، وفي مصائب الأنبياء وغيرهم.

وقال أبو هاشم : تكون محنة ولطفا.

قوله تعالى

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [ن : ٣٨]

٤٤٩

قيل : كان المشركون إذا سمعوا ما للمؤمنين في الآخرة يقولون : إن صح ذلك فلا ينقص حالنا عن حال محمد وأصحابه ، لما لنا فيه من الحظ ، فرد عليهم الله تعالى فقال تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) وهذا استفهام يراد به الإنكار ، وليس في ذلك دلالة على تفاوت الحال ، وافتراقها في الدنيا ، فلا يؤخذ من هذا أن الفاسق والمؤمن إذا أحضر إلى القاضي في دعوى رفع درجة المؤمن.

وقال الناصر عليه‌السلام : يسوي بينهما ، فإذا أمضى الحكومة قرب أهل الخير والصلاح.

وقال في الانتصار : ظاهر المذهب التسوية بن الرفيع والوضيع من الخصوم ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ، وقد جاء في الحديث : «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه ولفظه» وافتراق مجلس الذمي من مجلس المسلم مخصوص بما رواه علي عليه‌السلام حيث قال وقد خاصم الذمي وجلس في موضع أعلى منه : لو كان خصمي مسلما لما جلست إلا معه ، ولكني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لا تساووهم في المجلس ، ولا تعودوا مرضاهم ، ولا تشهدوا جنائزهم».

وقال مالك : إذا كان المدعى عليه من أهل الفضل لم يأمر له الحاكم إذا كان ثم خصمة ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام.

قال الإمام : والمختار أن الخصم إذا كان من أهل الفضل والعلم وخصمه من السوقة فإن الحاكم يسأل فإن كان له بينة أحضره ورفع مكانه وميزه عن خصمه ، وإن لم تكن له بينة لم يحضره ، وأمر بتحليفه.

أما في سائر الأحوال فيجب تعظيم المؤمن والعالم ؛ لأن الله تعالى قد رفع درجته على غيره. قال تعالى : (يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] وقال تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) [السجدة : ١٨] وقال تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠].

٤٥٠

قوله تعالى

(بِذلِكَ زَعِيمٌ) [ن : ٤٠]

قيل : أراد بالزعيم أي : قائم بالاحتجاج كما يقوم زعيم القوم ليتكلم في أمورهم ، وقيل : أراد بالزعيم الكفيل عن ابن عباس ، وقتادة ، وهذا دليل على أن للكفالة حكما يلزم ، وقد جاء التصريح بذلك في السنة ، قال عليه‌السلام : «الزعيم غارم».

قوله تعالى

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) [ن : ٤٢ ، ٤٣]

ثمرة ذلك : أن للصلاة موقعا من الدين ، وأن صلاة الجماعة كذلك ؛ لأنه قد روي عن كعب أنها نزلت في الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة.

وعن ابن مسعود : تعتم أصلابهم أي ترد عظاما [بلا مفاصل](١) فلا تنثني عند الرفع والخفض ، وإنما يدعون ذلك الوقت توبيخا على ما فرطوا ، حيث دعوا إلى السجود وهم سالمون ، وإلا فلا تكليف في ذلك اليوم.

قوله تعالى

(إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [ن : ٤٨]

قيل : محبوس ، وقيل : مغموم ، وقيل : مملوء غيضا ، وقيل : مختنق.

قيل : كان نداؤه (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) وفي هذا إرشاد إلى الفزع إلى هذه المقالة عند الغم.

__________________

(١) ما بين المعكوفين زيادة من الكشاف.

٤٥١

قوله تعالى

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) [ن : ٥١] هذا موضع وقف.

النزول

قيل أراد الكفار أن يصيبوا رسول الله بالعين ، فنظر إليه قوم من قريش وقالوا : ما رأينا مثله.

وقيل : كانت العين في بني أسد ، وكانت الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعينها ، ويقول لجاريته : احملي المكتل والدرهم لتأتينا باللحم فما تبرح حتى تقع وتذبح ، فسألوهم أن يصيبوا رسول الله بالعين ، فعصمه الله تعالى.

وقال الكلبي : كان الرجل من العرب إذا أراد أن يصيب صاحبه يجوع ثلاثة أيام ثم ينظر إلى الشيء فيقول : لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه ، فما تذهب إلا قريبا حتى تسقط طائفة ، فسألوا هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففعل وقال :

قد كان قومك يحسبونك سيدا

وإخال أنك سيد مغبون

وعصمه الله تعالى ، ولبعضهم :

ترميك مزلقة العيون بطرفها

وتكل عنك نصال نبل الرامي

يتقارضون إذا التقوا في موطن

نظرا يزيل مواطئ الأقدام

وجاء في الحديث : «العين حق ، وإن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر». وعن الحسن هذه الآية رقية للعين.

قال في التهذيب : أنكر الإصابة بالعين أبو علي ، وأبو مسلم ، وجوزه القاضي ، وجماعة ، فمنهم من قال : هو على طريق ما أجرى الله العادة ، ومنهم من قال : ينفصل منه أجزاء تؤثر.

٤٥٢

فتكون ثمرة هذا الخلاف هل يضمن العائن أم لا؟ وهل يقتص منه كما ذكره بعض المفرعين أم لا؟ ولعل الصحيح عدم القصاص ووجوب الدية دينا إذا عرف من نفسه ذلك ، وقد رووا آثارا أنها تصيب وآثارا فيما يدفع به العين وبسط النواوي في الأذكار ، والحاكم رجح أن ذلك غير صحيح ، قال : لأن ذلك لا يثبت.

ومن يدعيه يزعم أنه يكون فيما يستحسن وكيف يكون وهم يجحدون القرآن ، وينسبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السحر ، ويقولون إنه لمجنون ، وهذا الذي ذكره الحاكم مردود ، فإن فصاحة القرآن قد أعجزتهم ، ولهم أقاويل في استعظام القرآن ، وما انطوى عليه من الفصاحة ، والمعنى (لَيُزْلِقُونَكَ) ، قيل : يزلقونك من شدة نظرهم نظر البغض والعداوة أو يهلكونك من قولهم : نظر إليّ نظرة كاد يصرعني وكاد يأكلني لو أمكنته ، ويقال : أزلق الرأس وزلق الرأس أي : حلقه.

سورة الحاقة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الحاقة : ٣٣ ، ٣٤]

لها ثمرتان :

الأولى : أن الكافر مخاطب بالشرائع ، وهذا قولنا والشافعي.

وقال أبو حنيفة : إنه غير مخاطب ، وأخذنا ما ذكرنا من هذه الآية أنه تعالى جعل العذاب لعدم إيمانه ، ولعدم حظه على طعام المسكين.

قيل : ففي هذا إشارة إلى قول الكفار : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) ومن قال هو غير مخاطب قال : الآية لا تدل ، إذ ليس فيها أمر ، ولأنه قد تقدم ذكر عدم الإيمان.

٤٥٣

الثمرة الثانية : تأكيد حق المسكين وطعامه ، وذلك من وجهين :

أحدهما : أنه تعالى جعل حرمان المسكين مقرونا بعدم الإيمان بالله تعالى.

والثاني : ذكر الحظ دون الفعل ليعلم أن تارك الحظ بهذه المنزلة فيكف تارك الفعل.

وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يحظ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، وكان يقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الآخر.

قوله تعالى

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦]

هذا يدل على أن الكذب على الله سبحانه كبيرة ، وهذا إذا كان فيه زيادة شريعة أو نقصان منها ، فأما (١).

قوله تعالى

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الحاقة : ٥٢]

ثمرة ذلك : وجوب تنزيهه تعالى عن صفات النقص.

سورة المعراج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى * إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ

__________________

(١) لعله يريد (فإما إذا لم يكن كذلك فلعله يكون كبيرة أو ملتبسة بحسبه).

٤٥٤

الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [١٧ ـ ٢٥]

هذه جملة لها ثمرات تظهر بيان المعنى :

الأولى : التحذير من ترك ما أوجبه الله تعالى من الحقوق المالية ، والجمع للمال من غير حلّه ، وترك إخراجه إلى مصرفه ؛ لأنه قد فسر قوله تعالى : (فَأَوْعى) أي : جمع المال ، وكنزه في وعاء ، ولم يؤد حقه من الزكاة ، والحق : هو الواجب فيه.

قيل : جمعه من باطل ، ومنع ما يجب من الحق.

وفي دعاء جهنم ـ نعوذ الله منها ونسأله الجنة ـ ثلاثة أوجه للمفسرين :

الأول : أن الدعاء عبارة عن احتصارهم فيها كأنها تدعوهم فتحتصرهم ، ومن ذلك قول ذي الرمة :

أمسى بوهبين (١) محتارا لمرتعة

من الفوارس (٢) يدعو أنفه الربب

وقيل : تقول : إليّ إليّ يا كافر يا منافق ، وقد روي أنها تدعو الكافرين والمنافقين بلسان فصيح ، ثم تلتقطهم التقاط الحبة ، ويجوز أن يخلق الله فيها كلاما ، كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم ، وكما خلقه في الشجرة ، ويجوز أن يكون دعاء الزبانية.

وقيل : الدعاء عبارة عن الهلاك ، من قول العرب : دعاك الله أي :

أهلكك ، قال الشاعر :

دعاك الله من رجل بأفعى

ضئيل ينفث السم الذعافا (٣)

الهلع والهلوع سرعة الجزع عند مس المكروه ، وسرعة المنع عند مس الخير.

__________________

(١) اسم موضع تمت.

(٢) اسم موضع تمت.

(٣) الذعاف : هو القاتل.

٤٥٥

وعن أحمد بن يحيى ثعلب قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع؟ فقلت : قد فسره الله فلا يكون تفسيرا أبين من تفسيره وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ،

وفي معنى الخلق المذكور وجهان :

الأول : ذكره في الكشاف أن الجزع والمنع لتمكنهما في الإنسان صار كأنه مجبول عليهما ، وكأنه أمر خلقي ، كقوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] بدليل أنه حين كان في البطن والمهد لم يكن به هلع ، ولأنه ذم ، والله تعالى لا يذم على فعله ، ولهذا تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا نفوسهم فلم يكونوا جازعين ولا مانعين.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شر ما أعطى ابن آدم شح هالع ، وجبن خالع».

الوجه الثاني : ذكره في التهذيب أن المعنى خلق مشتهيا ؛ لأن التكليف لا يكون إلا بذلك ، والشهوة تدعوه إلى الهلع.

الثمرة الثانية : تأكيد هذه الخصال التي استثنى الله تعالى صاحبها ، وذكرها على سبيل المدح ، وهي المداومة على الصلاة فلا يخلون بشيء منها ، والمحافظة عليها فلا يشغلهم شاغل عن تأديتها في أوقاتها ، شروطها وسننها ، ولا يفعلون ما يحبطها ، ومن كان في ماله حق معلوم ، والمراد يذكر ذلك الحق قيل : أراد به الزكاة ؛ لأنها معلومة ، أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه ، يؤديها في أوقات معلومة ، ولقد علمت بعض من حسن قصده فوصف على نفسه أن يقسم نصف قوته للصدقة ويأكل النصف مما يكفيه ، وأمثال هذا ، وقد جعل الله للسائل حقا لأجل سؤاله ، وذكره في مواضع من كتابه ، نحو : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى : ١٠] وقد جاء في الحديث : «للسائل حق ولو جاء على فرس».

وأما المحروم فهو من تعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم ، وقيل : الذي لا حظ له ، وقيل : الذي أصاب ماله جائحة.

وقيل : المحروم الكلب والسنور ونحوهما مما يطوف ، وقد

٤٥٦

أصغى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإناء للهرة ، وجاء في الحديث أن امرأة عذبت لكونها حبست هرة لم تطعمها ، ولم تسقها ، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ، وأن الله غفر لمومسة مرت بكلب يلهث وهو على منهل فدلت خمارها إلى الماء وعصرتها له.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ).

قد تكلمنا عليهم في سورة المؤمنين.

قوله تعالى

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) [المعارج : ٤٢]

قيل : هذا تهديد ووعيد ، وهو الظاهر. وقيل : هذا منسوخ بآية السيف.

سورة نوح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٥ ، ٦]

إن قيل : هذا دليل أنه يحسن بالأمر بالمعروف ، وإن علم أنه لا يؤثر. قلنا : أما في الاستدعاء إلى الدين فيحسن ؛ لأن ذلك يجري مجرى إزاحة العلة ، وهو واجب في حق الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وهذا دليل على حسنه في الاستدعاء إلى الإسلام.

وأما سائر المناكير إذا ظن أن أمره ونهيه لا يؤثر فذلك غير واجب بلا إشكال ؛ لأن القصد بالأمر والنهي حصول الواجب ، واندفاع القبيح.

وأما الحسن فاختلفوا في ذلك فقال قاضي القضاة وغيره : إنه يزول الحسن ؛ لأن ذلك عبث.

٤٥٧

وقيل : يبقى الحسن كالاستدعاء إلى الدين ، واختار هذا الإمام يحيى محتجا بقوله تعالى : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٦٤] والاستدلال بهذه الآية محتمل ؛ لأنه لم يبين أن وعظهم مع علمهم بأنهم مهلكون ، ولهذا قال : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ، وقد تقدم أطراف في هذه المسألة.

قوله تعالى

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) [نوح : ٨ ، ٩]

هذا العطف يدل على أنه دعاهم ثلاث دعوات ؛ لأن العطف يدل على المغايرة ، وقد قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : فعل عليه‌السلام ما يفعله الآمر والناهي من البداية بالأهون ، والترقي إلى الأشد فالأشد ، فافتتح بالمناصحة في السر ، فلما لم يقبلوه أتى بالمجاهرة ؛ لأنه أبلغ ، فلما لم يقبلوا أتى بالسر والمجهارة معا ؛ لأن الجمع أغلظ من الإفراد.

وثمرة هذا : أن الآمر والناهي يأتي بما يكون أقرب إلى النفع.

وقوله تعالى : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) [نوح : ١١]

دلالة على أنه يرغب من دعا إلى الدين بمنافع الدنيا والآخرة وذلك كثير في كتاب الله تعالى في سورة الصف (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف : ١٣] وفي سورة الأعراف : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] وفي سورة المائدة : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة : ٦٦] وفي سورة الجن : وأ (لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [الجن : ١٦].

٤٥٨

وروي أنهم لما كذبوا نوحا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطال تكرير الدعوة حبس الله عنهم القطر ، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ، وروي سبعين سنة ، فوعدهم نوح عليه‌السلام أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب ، ورفع عنهم ما كانوا فيه.

وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا شكا إليه الجدب فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر قلة النسل ، فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر قلة ريع أرضه ، فقال : استغفر الله ، فقيل له في ذلك ، فتلا الآية ، والاستغفار هو طلب المغفرة من الله تعالى مأخوذ من الستر ، ومنه المغفر لأنه يستر الرأس وما يليه ، ومنه صفة الباري بالغفور ؛ لأنه يستر على عباده.

وحكمه هل يجب مع الذنب ، ويستحب مع غير ذنب ، وقد جاء في الحديث أنه عليه‌السلام كان يستغفر في اليوم مائة مرة ، وهل في الآية دلالة على أن الاستغفار يستحب عند الجدب؟ وهل فيها دلالة على أن الاستقساء لا يصلى له أم لا؟

قلنا : أما استحباب الاستغفار عند الجدب فنعم في الآية دلالة عليه ؛ لأن الجدب يشعر بالسخط من الله ، والمعاجلة بالذنب ، وأما نفي الصلاة فقد استدل أبو حنيفة أنه لا يسن للاستسقاء صلاة ، وأخذ بالآية.

قال في التهذيب : روي أنه صلّى الله عليه استسقى فدعا ولم يصل.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استسقى واكتفى بصلاة الجمعة وهذا قد روي في البخاري وغيره. وروي أيضا أن عليا عليه‌السلام استسقى فدعا ولم يصل.

وقال في الكشاف : وروي أن عمر ـ رضي الله عنه ـ خرج يستسق فما زاد على الاستغفار ، فقيل له : ما رأيناك استسقيت؟ فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر ، شبه الاستغفار بالأنوار الصادقة التي لا تخطئ.

وفي صحيح مسلم والترمذي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استسقى فصلى ركعتين في رواية ابن عباس كصلاة العيد ، وهذا دليل على أن الاستسقاء صلاة ، فمن

٤٥٩

أجل هذا اختلفوا ، فقال أبو حنيفة : لا تسن الصلاة ولا الخطبة ، فإن صلوا وحدانا فلا بأس. وفي الشرح : هي كسائر النوافل.

وقال الأكثر : إنه يسن للاستسقاء صلاة ؛ لأنه عليه‌السلام صلى للاستسقاء ، وقوّى هذا صاحب النهاية ، وقال : ترك الصلاة يفيد أنّها غير شرط في الاستسقاء ؛ لا أنه يفيد أنها ليست سنة ؛ لأنه قد فعلها ، واختلفوا في صفة الصلاة ، فقال زيد بن علي : كصلاة العيد ؛ لأنه قد ورد ذلك في حديث ابن عباس.

وقال المؤيد بالله ، والناصر ، ومالك : لا تكبير فيها كتكبير العيد.

وقال الهادي : أربع ركعات بتسليمتين.

قال القاسم عليه‌السلام : وإن سلم في آخرها جاز.

ووجه كونها أربعا أنه عليه‌السلام استسقى بصلاة الجمعة ، وهي أربع ركعات في الحكم ، يقال : لا وجه لتمحل التنبيه في الحكم ، والقياس مع وجود النص وصفة الصلاة ودعاؤها مأخوذ من السنة ، وقد أمر الله تعالى بالاستغفار ، ووعد عليه بنزول الأمطار فقال تعالى في هذه الآية : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) وقال تعالى في سورة هود : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) [هود : ٥٢] وفي هذا دلالة على أنه يجب الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة ؛ لئلا يسد باب الإجابة ، شعرا :

كيف نرجوا إجابة لدعاء

قد سددنا طريقه بالذنوب

قوله تعالى

(رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦].

ثمرتها : جواز الدعاء بهلاك الظالمين ، وقيل : إنه عليه‌السلام دعا بإذن الله تعالى ، بعد أن أخبره الله تعالى بعدم إيمانهم ، وأنه لا يؤمن أحد من نسلهم.

٤٦٠