تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

قوله تعالى

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) [نوح : ٢٨]

ثمرتها : حسن الدعاء للوالدين وللمؤمنين ، وأنه مشروط بالصلاح.

سورة الجن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن : ١٨]

قيل : أراد المواضع المهيئة للصلاة عن قتادة.

وقيل : كل موضع يسجد فيه من البقاع عن الحسن.

وقيل : أعضاء السجود عن سعيد بن جبير ، والزجاج ، والفراء.

وقيل : المساجد السجود ، يقال : سجد سجودا ، وتسجّدا.

فإذا حمل على الأماكن المهيئة للصلاة المعروفة فله ثمرات :

وهي أنه لا يجوز أن يثبت فيه حق للغير من طريق ونحوه ، ولا يفعل فيه شيء من أعمال الدنيا كما جاء في الحديث : «إنما عمرت المساجد لذكر الله» وقد تقدم الخلاف في الحكم فجوزه أبو حنيفة وأبو جعفر ، وكرهه الشافعي ، والوافي.

وقوله تعالى : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن : ١٨]

قيل : هذا أمر بالإخلاص في العبادة لله تعالى.

وعن الحسن : من السنة لمن دخل المسجد أن يقول : لا إله إلا الله لا أدعوا مع الله أحدا.

٤٦١

قوله تعالى

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧]

ثمرة ذلك : أن الإمام ليس من شرطه أن يعلم الغيب خلاف قول الإمامية ، ويدل على بطلان قول المنجمين والكهنة ؛ لأن الله تعالى قد خص الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وهم (١) أبعد من الارتضاء وأقرب إلى السخط.

وأما دلالة الآية على نفي الكرامات للأولياء فقد قال الزمخشري : إنها دالة على نفيها ، والاستدلال بها على ذلك ليس بالظاهر ، فهذه مسألة خلاف بين العلماء ، وهي هل يجوز ظهور خوارق العادة على غير الأنبياء.

قال أبو هاشم وبعض القضاة : لا يجوز ؛ لأن ذلك إنما جعل لتمييز المدعي للنبوة من غيره.

وقال الأكثر من الشيوخ والمؤيد بالله بجوازها ، كما جاء في أمر مريم وأهل الكهف ، ويقولون : إنما يمنع ظهور الخوارق على من ادعى النبوة كاذبا ، لا على من لم يدع ، وهذه المسألة مبسوطة.

إن قيل : فما يقولون فيمن يتعاطى علم الرمل وعلم الكتف (٢).

سورة المزمل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [المزمل : ٢]

__________________

(١) يقال : إن ادعى بذلك علم الغيب كفر وإلّا أثم فقط.

(٢) أي المنجمون والكهان تمت.

٤٦٢

هذا أمر بقيام بعض الليل ، وفي ذلك خلاف من وجوه ثلاثة :

الأول : في ماهية المأمور به ، هل هو الصلاة أو قراءة القرآن.

والثاني : في حكم هذا الأمر ، هل هو للوجوب أو للندب.

والثالث : هل المأمور به إن قلنا : إنه للوجوب باق أو منسوخ.

أما الأول : فقال أكثر المفسرين أن ذلك أمر بالصلاة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي بالليل فتسامع الناس بذلك ، واجتمعوا وكبروا ، فدخل البيت فجعلوا يتنحنحون حتى يخرج إليهم.

وقال أبو مسلم : المأمور به تلاوة القرآن ، وأنه تعالى أمره أن يقسم الليل بين النوم والتلاوة.

وأما الوجه الثاني : فهو هل الأمر للوجوب أو للندب؟ فقال أكثر المفسرين : إن الأمر للوجوب ، وأن الزيادة والنقصان إلى رأي المصلي.

وقال أبو علي : إنه أمر ندب ؛ لأن الواجب لا يخير فيه ، ولقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ).

وأما الأمر الثالث : وهو هل هي باقية أو منسوخة؟

فقال الأكثر إنها منسوخة ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي بالليل وأن الناس لما كبروا دخل بيته فكانوا يتنحنحون حتى يخرج إليهم ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) ففرضت الصلاة في الليل حتى كان أحدهم يربط حبلا فيتعلق به.

وقيل : لما نزلت اشتد عليهم محافظة الوقت وكانوا يقومون الليل حتى يصبحوا فشق ذلك عليهم ، وتورمت أقدامهم ، واصفرت ألوانهم ، وظهرت السيماء في وجوههم ، فرحمهم‌الله تعالى وخفف عنهم ونسخ ذلك.

وروي عن ابن عباس والحسن ، وقتادة : كان بين أن فرض عليهم وبين النسخ سنة. وعن سعيد بن جبير : عشر سنين. وعن عائشة : ثمانية أشهر.

٤٦٣

واختلفوا ما الناسخ؟ فقيل : نسخ ذلك بالصلوات الخمس عن ابن كيسان ، ومقاتل. وقيل : نسخ بقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ) وقيل : نسخ بقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) [الإسراء : ٧٨].

وعن الحسن ، وابن سيرين : لا بد من قيام الليل ولو قدر حلبة شاة.

قال في (الروضة والغدير) : والإجماع يحجهم.

وللمفسرين في قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أقوال :

فقيل : التقدير قم نصف الليل إلا قليلا ، فأبدل نصفا من الليل واستثنى القليل من النصف ، وقدم المستثنى على المستثنى منه ، وذلك شائع ، قال الشاعر :

وما لي إلا آل أحمد شيعة

وما لي إلا مشعب الحق مشعب

فأمر تعالى بقيام أقل من النصف ، ثم خيره تعالى بين هذا الذي هو أقل من النصف وبين الزيادة على النصف ، فلا يدخل النصف في القيام ، ولا يكون في ذلك بيان هل النصف قليل أو كثير.

وقيل : النصف بدل من (إِلَّا قَلِيلاً) ، فكأنه تعالى قال : قم نصف الليل ، ثم خير بين النقصان من هذا النصف وبين الزيادة عليه ، فجعله مخير بين ثلاثة أمور وهي النصف ، ودونه ، وفوقه ، وجعل النصف قليلا بالنظر إلى الكل [مجازا] ، والنصف للمساوي حقيقة ، وقد يطلق وإن زاد أو نقص ، قال الشاعر :

إذا مت كان الناس نصفان شامت

وآخر مثن بالذي كنت أصنع

وقيل : يجوز أن يكون الضمير إلى الأقل ، إذا أبدلت النصف من الليل ، فيكون الضمير في منه ، وعليه راجعا إلى الأقل ، فكأنه تعالى أمره أن يقوم أقل من النصف وهو الثلث مثلا ، ثم خيره بين النقصان من هذا الثلث أو الزيادة عليه ، فيكون مخيرا بين الثلاثة.

٤٦٤

قيل : ويجوز أن يجعل (نِصْفَهُ) بدل من قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) ، ويقدر : أو انقص منه قليلا ، وذلك القليل نصف وهو الربع ، أو زد على هذا القليل الذي هو الربع ، فيكون مخيرا بين الربع ، والثلث ، والنصف ، وهذا بناء على أن الاستثناء من كل ليلة.

وقيل : الاستثناء القليل من جملة الليالي.

قوله تعالى

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل : ٤] هذا أمر بالترتيل.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : هو القراءة على ترتيل ، وتؤدة ، وتبيين للحروف ، وإسباغ الحركات حتى يجيء المتلو منها شبيها بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان ، ولا يسرده سردا ، وفي كلام عمر ـ رضي الله عنه ـ شر السير الحقحقة (١) وشر القراءة الهذرمة ، وذلك بأن يشبه المتلو في تتابعه الثغر الألص ، وسئلت عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : لا كسردكم هذا ، لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها ، وقد فسر التنزيل بالتفهم.

وفي عين المعاني عن أبي بكر بن طاهر : تدبّر في لطائف خطابه ، وطالب نفسك بالقيام في أحكامه ، وعليك تفهم معانيه ، وسرّك بالإقبال عليه.

وفي الحديث : «يقال لقارئ القرآن اقرأ ، وارق ، ورتل ، كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها».

فهذه ثمرة من هذه الآية ، وقد أكد الله تعالى الأمر بالترتيل بقوله : (تَرْتِيلاً)

وللقراءة آداب في كتب الحديث :

منها التفهم ، والتدبر ، والخشوع ، والبكاء ، والتباكي.

__________________

(١) أرفع السير وأتعبه تمت.

٤٦٥

قوله تعالى

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) [المزمل : ٦ ، ٧]

المعنى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) قيل : أراد ما ينشأ من منامها أن ينهض فيكون المراد ما ينشأ من النفوس.

وقيل : أراد ما ينشأ من العبادة.

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ لما قال لها عبيد بن عمير رجل قائم من أول الليل أتقولين له قام ناشئة؟ قالت : إلا إنما الناشئة القيام بعد النوم ، ففسرت الناشئة بالقيام عن المضجع ، أو العبادة التي تنشأ بالليل ، أي تحدث.

وقيل : أراد ساعات الليل كلها ؛ لأنها تحدث واحدة بعد أخرى.

وعن علي بن الحسين ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول : أما سمعتم قول الله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) هذه ناشئة الليل.

وعن ابن كيسان (ناشئة الليل) القيام آخر الليل.

وقيل : فما قمت من الليل فهو ناشئة عن عكرمة ، وقيل : ما كان بعد العشاء الآخرة عن الحسن ، وقتادة.

وقوله تعالى : (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً).

يعني : أثبت مواطأة للقلب واللسان ، وقيل : للسمع والبصر ، واللسان والقلب ، وذلك لفراغ القلب.

وقيل : أبين للقراءة ، وإنما كان ذلك مخصوصا لفراغ القلب بالليل من الشواغل. وقيل : لمشقة قيام الليل ؛ لأنه يفارق لذيذ النوم ، والقيام من المضاجع.

وقوله تعالى : (وَأَقْوَمُ قِيلاً). قيل : أراد أشد مقالا وأثبت قراءة لهدوء الأصوات.

٤٦٦

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أنه قرأ وأصوب ، فقيل له : يا أبا حمزة إنما هي وأقوم قيلا ، فقال : إن أقوم وأصوب وأهنأ واحد.

وروي عن أبي سرار الغنوي أنه كان يقرأ (فحاسوا) بحاء غير معجمة فقيل له : إنما هي (فجاسوا) بالجيم فقال : جاسوا وحاسوا واحد ، وفي كلام هذين إشارة إلى قول أبي حنيفة أن العبرة بالمعنى وأنه إذا قرأ في الصلاة بالفارسية وهو يحسن العربية صح ذلك.

وقوله تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) [المزمل : ٧]

أي أشغالا كثيرة تشغل قلبك ، وتقطعك عن العبادة بخلاف الليل.

وثمرة ذلك : تفضيل العبادة بالليل ، والترغيب في تفريغ القلب عن الاشتغال حال العبادة.

قوله تعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) [المزمل : ٨]

في ذلك أقوال للمفسرين :

الأول : أنه أراد بالذكر ما يرجع إلى الاعتقاد ، وهو اعتقاد التوحيد والعدل ، والنبوات وسائر أصول الدين ، فيكون أمر وجوب ، وذلك لا يجوز خلوه عن القلب ساعة إلا لسهو أو نسيان.

وقيل : أراد ذكر الله باللسان في الصلاة.

وقيل : أراد إذا ابتدأت القرآن فاقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم ، وقيل :

أراد ذكره في عموم الأوقات ، وهو يتناول كل ما كان من ذكر طيب ، بتسبيح وتهليل ، وتكبير ، وتحميد ، وتوحيد ، وصلاة ، وتلاوة قرآن ، ودراسة علم ، أو غير ذلك مما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغرق به أوقاته.

وقوله تعالى : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً).

أي انقطع إليه ، وقيل : أخلص له عن ابن عباس.

وقيل : توكل عليه ، وقيل : ارفع اليدين في الصلاة عن محمد بن علي.

وقيل : التبتيل : رفض الدنيا وما فيها ، والتماس ما عند الله.

وقيل : ما دام على الإخلاص فهو متبتل ، وإن كان في المكاسب

٤٦٧

المباحة ، وما ورد من النهي عن التبتل فالمراد بذلك ترك التزوج ، ولهذا سميت مريم ـ رضي الله عنها ـ العذراء البتول.

وقوله تعالى : (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً). قيل : حافظا ، وقيل : وكفيلا بما وعد.

قوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل : ١٠]

قيل : اصبر على أذاهم لك وعلى ما يقولون : من شاعر كاذب ساحر.

وقيل : على ما يقولون من الكفر.

وقوله تعالى : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً).

قيل : الهجر الجميل أن يجانبهم بقلبه وهواه ، ويخافهم مع حسن المخالقة ، والمداراة ، والإغضاء ، وترك المكافأة.

وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ إنا لنكشر في وجوه قوم ، ونضحك إليهم ، وإن قلوبنا لتقليهم.

وقيل : منسوخ بآية السيف ، وقيل : هذا أمر بالدعاء بالرفق ليكون أقرب إلى الإجابة.

قوله تعالى

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل : ٢٠]

قراءة نافع ، وابن عامر ، وأبي عمرو (ونصفه وثلثه) بالجر عطفا على ثلثي الليل ، فيكون الأدنى من هذه الأجزاء الثلاثة ، كأنه قال : أدنى من

٤٦٨

ثلثي الليل ، وأدنى من نصفه وأدنى من ثلثه ، وقرأ الباقون بالنصب على تقدير تقوم نصفه وثلثه ، والأدنى على هذه القراءة مختص بثلثي الليل.

قال في التهذيب : ولا بد أن يكون في ليال مختلفة ، لاستحالة اجتماعها في ليلة واحدة.

قيل : كان ذلك واجبا عن الحسن وجماعة.

وقيل : كان نفلا عن أبي علي ، ولذلك خص بعضهم ولم يعم.

وقوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) هذا عبارة عن الترخيص في ترك القيام المذكور ، كقوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) [البقرة : ١٨٧].

ومعناه : رفع التبعية كما ترفع التبعة عن التائب ، وقيل : جعله تطوعا ولم يجعله فرضا عن أبي علي.

وقيل : نسخه عنكم فلا يوجبه عليكم عن أكثر المفسرين أن القيام المتقدم في قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ) الصلاة.

وعن أبي مسلم تلاوة القرآن.

وقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ). اختلف المفسرون هل هذا أمر ندب ، أو للوجوب ، وهل أراد الصلاة أو التلاوة ، فقال أبو علي :

إنه أمر ندب كما تقدم ، ولذلك خص بعضهم. وقيل : أمر للوجوب عن الحسن وجماعة ، وهذا أظهر ؛ لأن قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) لم يخص.

وأما هل المراد الصلاة أو التلاوة فقيل : أراد الصلاة ؛ لأنه يعبر عنها بجزء منها كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود ، فيكون المعنى فصلوا ما تيسر عليكم ، ولم يتعذر من صلاة الليل.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : وهذا ناسخ للأول ، ثم نسخا جميعا بالصلوات الخمس. وقيل : أراد قراءة القرآن وتلاوته.

واختلفوا في الميسّر على أقوال : فقيل : أرد كل القرآن ذكره في عين

٤٦٩

المعاني ، قال الضحاك : لأنه يسير لقوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ١٧] وعن جويبر ثلثه.

وعن السدي : مائتا آية. وعن ابن عباس : مائة بالليل ، ومائة بالنهار ، أبو خالد ثلاث آيات كأقصر سورة ، ويكون الأمر للندب هذا من عين المعاني. وعن الحسن : من قرأ في ليله مائة آية لم يحاجه القرآن. وعن كعب : من قرأ في ليله مائة آية ، كتب من القانتين. وعن سعيد بن جبير : خمسون آية.

وعن أبي علي : أراد السور القصار ، وقيل : ما تيسر من غير تقدير ، وهذا قول من يجعله ندبا.

وقيل : ذلك للوجوب وأراد به القراءة في الصلاة ،

وتظهر أحكام :

الأول : قراءة فاتحة الكتاب لا تعين في الصلاة عند أبي حنيفة.

وقال الهادي عليه‌السلام ، والمؤيد بالله ، والشافعي : إنها تعين ،

وسبب الخلاف أن أبا حنيفة تعلق بأمرين :

الأول : ظاهر قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فخير تعالى ، وذلك إنما يجب في الصلاة.

الأمر الثاني : أنه قد جاء في الأثر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمن علمه الصلاة : «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن»

وتمسك الآخرون بأخبار :

منها حديث عبادة بن الصامت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال عليه‌السلام : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا» هكذا في السنن.

وحديث أبي هريرة قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام» هكذا في السنن.

قال في الشرح : وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٤٧٠

«مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ولا تجزي صلاة لا تقرأ فيها الفاتحة وقرآن معها».

وعن أبي هريرة أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، فما زاد.

وروي : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، وشيء معها» ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأها وقد قال : «صلوا كما رأيتموني أصلي» ولأن فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان للمجمل الواجد.

قال بعض المعتزلة : لا يقبل خبر الواحد في قراءة الفاتحة ؛ لأنه لا ينسخ القرآن ، أجيب بوجوه :

الأول : أن ذلك ليس بنسخ بل الخبر اقتضى وجوب القراءة بالفاتحة ، والآية خيرت في الزائد عليها ، كأنه قال : اقرءوا الفاتحة ، وما تيسر من غيرها.

الثاني : أن قوله تعالى : (ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أراد بذلك في الخطبة فإنه مخير في قراءة ما شاء.

الثالث : أن المراد بذلك إذا كان لا يحسن.

واختلفت الحنفية في قدر المتيسر ، فعن أبي حنيفة تجزي آية واحدة طويلة كانت أو قصيرة.

وروي عنه أنه يقرأ آية طويلة كآية الدين أو ثلاثا قصارا ، وهو قول أبي يوسف ، ومحمد ، حجتهم الأخذ بظاهر الآية. حجتنا الأخبار.

الحكم الثاني : وجوب القراءة في الصلاة ، وهذا مذهبنا ، والأكثر عن أبي حنيفة ، والشافعي ، وجمهور الفقهاء ، وأخذ ذلك من الآية والأخبار. وعن ابن علية ، والحسن بن صالح : أنها لا تجب.

قال في النهاية : وهذا رواية عن عمر.

وعن ابن عباس لا تجب في السرية ، واحتج أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقرأ في

٤٧١

السرية ، وأخذ الجمهور بحديث حبان أنه صلّى الله عليه كان يقرأ في صلاة الظهر ، قيل له : فبأي شيء عرفتم قراءته؟ قال : باضطراب لحيته.

الحكم الثالث : تكرر القراءة ، فمذهب الهادي والمؤيد بالله وهو قول الحسن وداود أنها لا تكرر ؛ لأن الأمر لا يتكرر ، ومن أتى بالفاتحة وقرآن معها ، فقد خرج عن عهدة الأمر.

وقال الشافعي : تجب الفاتحة في كل ركعة. وقال أبو حنيفة ، وزيد بن علي ، والناصر : القراءة في الأولتين. وقال مالك : في الأكثر.

حجة الشافعي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمن علمه الصلاة : «ثم اقرأ ذلك في كل ركعة».

قلنا : في الخبر ما يقتضي أن ذلك مستحب ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (فما نقصت من ذلك فإنما تنقصه من صلاتك).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في كل ركعة قراءة» أراد أنها محل للقراءة.

وأما شبهة أبي حنيفة ، والناصر ، وزيد بن علي ، في كونهم أوجبوا في الأولتين (١).

وقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [المزمل : ٢٠]

هذا بيان وجه التخفيف ، وله ثمرتان :

الأولى : المباح والطاعة سواء في سبب الرخصة ؛ لأنه تعالى جعل الجهاد والسفر للتجارة سواء.

وقيل : إنما جعله كالجهاد ؛ لأن كسب الحلال جهاد.

وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء.

__________________

(١) بياض في الأصلين قدر سطر.

٤٧٢

وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ : ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله.

الثمرة الثانية : إباحة التجارة والتكسب.

وقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ).

قال في عين المعاني : كرر الأمر بالتخفيف لشدة احتياطهم.

وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).

يعني الواجبة ، وذلك بفعلها في أوقاتها بشروطها.

وقوله تعالى : (وَآتُوا الزَّكاةَ). يعني الواجبة ، وقيل : الصدقة صدقة الفطر ؛ لأنه لم يكن بمكة زكاة ، وإنما وجب بالمدينة ، ومن فسر بالصدقة الواجبة جعل آخر السورة مدنيا.

وقوله تعالى : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قيل : أراد بالقرض الصدقة ، ويجوز أن يريد الصدقة الواجبة ، وأن يريد جميع الصدقات ، ويجوز أن يريد جميع ما يفعل من الخير والحسن ، أن يكون من غير منّة ولا أذى ، وقيل : أن يكون من جيد المال دون رديئه.

وقيل : بالإخلاص ، ومصادفة المصرف.

وفي عين المعاني : الفرض : النوافل ، وقيل : النفقة على الأهل ، وقيل : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.

وقوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ).

قال الحاكم : في ذلك دلالة على قول أبي هاشم في الموازنة ، خلاف قول أبي علي بالإحباط.

وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ). قال الحاكم : دل على وجوب الاستغفار ؛ لأن المكلف قل ما يخلو من التقصير.

٤٧٣

سورة المدثر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر : ١ ـ ٧]

هذه أوامر ستة ، وثمرة ذلك يظهر في شرح المعنى.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) المدثر هو : لابس الدثار وهو : الثوب الذي فوق الشعار ، والشعار هو : الثوب الذي يلي الجسد ، ومنه قوله عليه‌السلام : «الأنصار شعار ، والناس دثار».

قيل : هذه أول سورة نزلت من القرآن ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رأى جبريل عليه‌السلام رجع إلى خديجة وقال : «دثروني ، دثروني» فنزل جبريل وقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

وعن أبي هريرة : أول ما نزل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) إلى قوله : (ما لَمْ يَعْلَمْ). ولهذا ثمرات ذكرها الحاكم ، وهو أنه يجوز (١) أن ينادى بغير اسمه مما لا استخفاف فيه.

قال : وهذا منه تعالى تلطف ، فأما غيره فلا يجوز أن يدعوه إلا بأحسن صفاته وأسمائه ، فيقول : يا نبي الله ، يا رسول الله.

وقوله تعالى : (قُمْ فَأَنْذِرْ) يعني : قم من مضجعك ، أو قم قيام عزم وتصميم ، والمراد أنذر الكفار من عذاب الله إن لم يؤمنوا.

ولهذا ثمرات وهي : وجوب الأمر بالمعروف ، والتخويف من المخالفة بما أمكن.

__________________

(١) صواب العبارة (وهو أنه لا يجوز أن ينادى) الخ ليوافق ما يعد.

٤٧٤

وقوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ). في ذلك قولان للمفسرين :

الأول : أنه أراد بالتكبير التعظيم ، والتنزيه عما لا يليق به ، والمعنى خص ربك بالوصف بالكبرياء.

ويروى أنها لما نزلت قال : الله أكبر ، وكبرت خديجة.

والثاني : أنه أراد تكبير الصلاة ، فالواجب في الصلاة من التكبير ، وهو تكبيرة الافتتاح لا غير عند جمهور العلماء من الأئمة ، والفقهاء ، واستدلوا على ذلك بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «تحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم» وبأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمن علمه الصلاة : «توضأ كما أمرك الله إلى أن قال : ثم استقبل القبلة وقل : الله أكبر».

وقال الزهري وغيره من نفاة الأذكار : لا يجب شيء من الأذكار ، وتنعقد الصلاة بالنية ، وشبهتهم القياس على الأذكار التي ليست بواجبة.

قال في الشرح : وهذا قول قد أجمعوا على خلافه ، والإجماع حجة.

وقال أحمد بن حنبل : يجب تكبير النفل أيضا ، لقوله عليه‌السلام :

«صلوا كما رأيتموني أصلي ، وخذوا عني مناسككم».

قلنا : لو كان واجبا لأمر به من علمه الصلاة.

قال في النهاية : وقد روي أنه عليه‌السلام لم يتم التكبير ، يعني لم يكبر للنفل. وقال سعيد بن جبير ، وعمر بن عبد العزيز : إنه لا يكبر إلا عند الافتتاح.

وروي عن عمر أنه كان لا يكبر للنفل إذا صلّى وحده ، فكأنه عند هؤلاء لإشعار المؤمنين.

واختلف العلماء هل تنعقد الصلاة بغير لفظ التكبير أم لا؟

فالذي خرجه المؤيد بالله ، وهو قول المنصور بالله ، ومالك : لا تنعقد إلا بقوله : الله أكبر.

وقال الشافعي : بقوله : الله أكبر ، والله الأكبر. وقال أبو يوسف : بقوله : الله أكبر ، والله الكبير. وقال أحمد بن يحيى ، وأبو العباس ،

٤٧٥

وأبو طالب : بما فيه أفعل التفضيل مثل : الله أجلّ. وقال أبو طالب : وبالتهليل. وقال زيد بن علي وأبو حنيفة ، ومحمد : بما فيه ذكر الله.

وسبب الخلاف هل نحن متعبدون باللفظ أو المعنى.

ومن الحجة لمن عم قوله تعالى في سورة سبح : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) فجعله مصليا عقب الذكر ، ولم يفصل. قلنا : هذا ذكر خارج من الصلاة.

وقوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) هذا أمر ثالث ، وفي ذلك أقوال للمفسرين :

الأول : أن المراد طهارة الثياب من النجاسة للصلاة ، وهذا هو الذي احتج به الأئمة لطهارة الثوب من النجس للصلاة ، قالوا : لأنه قد يثبت أنه لا يجب تطهيره من النجس لغير الصلاة ، فلم يبق إلا تطهيره من النجس للصلاة ، وهذا قول جمهور العلماء من أبي حنيفة وأصحابه ، والشافعي ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمار : «إنما تغسل ثوبك من البول والغائط ، والمني والدم ، والقيء».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دم الحيض : «حتيه ثم اقرصيه ، ثم اغسليه بالماء».

وحكي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير جواز الصلاة في الثوب النجس.

وشبهتهم ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلع نعليه وهو في الصلاة ، فخلع القوم نعالهم وهم في الصلاة ، فلما سلّم من صلاته سألهم لم خلعوا؟ فقالوا : رأيناك خلعت فخلعنا ، فقال : «إن جبريل أعلمني أن فيهما قذرا» فلو كان الطهارة من النجس واجبة في الصلاة لاستأنف الصلاة ،

واحتجوا أيضا بما روي أنه عليه‌السلام طرح عليه المشركون سلي الجزور بالدم والفرث فلم يخرج من الصلاة.

وحكي في النهاية قولا لمالك وأصحابه أنها غير شرط في الصلاة ، ورواية عن مالك وأصحابه هي فرض مع الذكر ، وأهل المذهب يدعون الإجماع في الكثير ، ويجعلون خلاف من خالف منقرضا.

٤٧٦

قال جار الله : طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ، وفي غير الصلاة الطهارة مستحبة ، والمؤمن الطيب قبيح به أن يحمل خبثا.

قال الحاكم : الحمل على طهارة الثياب من النجاسة هو الحقيقة ، والعدل عنها مع الإمكان تعسف أو توسع.

وقيل : هذا أمر بتقصير الثياب ، ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب ، وجرهم الذيول ، وذلك مما لا يؤمن معه إصابة النجاسة.

وقيل : هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ، ويستهجن ، ولهذا يقال : فلان طاهر الثياب ، وطاهر الجنب إذا وصف بالنقاء من المعايب ، ويقال : فلان دنس الثياب للعاذر.

وقيل : طهرها من لبسها على معصية أو غدر ، قال الشاعر :

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنع

وقيل : المعنى طهر ثيابك من الذنوب عن ابن عباس ، وقتادة ، وإبراهيم والضحاك ، والزهري.

وقيل : المعنى طهر نفسك من المعاصي فكنى بالثياب عنها ؛ لأنها تشتمل عليها ، ولهذا قال عنترة :

فشككت بالرمح الأصم ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرم

وقيل : أراد خلقك فحسّن ، عن الحسن ، ومحمد بن كعب.

وقيل : أراد قلبك وبيتك فطهر.

وفي عين المعاني عن مجاهد : المعنى طهر عملك ، ومنه الحديث : «يحشر المؤمن في ثوبيه اللذين مات فيها» أي : عمله الخبيث والطيب.

وقيل : أدّب أهلك.

وقوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ). هذا أمر رابع ، وفي ذلك أقوال للمفسرين :

٤٧٧

الأول : أن المراد اجتنب النجاسات والزاي بدل من السين ، وقد يستدل بها أنه لا يجوز الانتفاع بشيء من النجس في استعمال ولا استهلاك ، كما هو ظاهر قول الهادي عليه‌السلام ، لكن قد ذكر الفقيه أن المنع من الانتفاع في الاستهلاك قريب من خلاف الإجماع ؛ لأن عادة المسلمين جارية بذلك ، وقد ذكر الهادي عليه‌السلام في الأحكام أنه لا ينتفع بالنجس في رطب ولا جاف.

وقال المنصور بالله : ينتفع بجلود الثعالب في الجاف ، وقد أشار إليه أبو طالب في عظم الفيل ، فقال : لا يستعمل في الأدهان الرطبة.

وقال أبو حنيفة : شعر الخنزير نجس وكذا لحمه ، ويجوز الانتفاع به.

وقال القاسم : ترك الخرز به أفضل ، والذي صحح للمذهب أنه لا يجوز الانتفاع بشعره ، وهو قول الشافعي وأبي يوسف.

وقال المنصور بالله في جلود ذبائح الكفار : إنها نجسة لا تطهر بالدباغ ، ويجوز الانتفاع بها من غير الترطب.

وحجة من منع قوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب». وحجة من جوز (١).

وقيل : اجتنب الشرك عن الضحاك ، والمعنى الثبات على هجره ؛ لأنه كان عليه‌السلام بريئا منه. وقيل : اجتنب الشيطان عن الأصم. وقيل : العذاب عن الكلبي ، أي اهجر ما يؤدي إليه من الأعمال. وقيل : كان عند البيت صنمان ، فقال تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ). وقيل : جانب كل خلق قبيح. وقيل : أسقط حب الدنيا من قلبك ، وأنه رأس كل خطيئة.

وقوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)

__________________

(١) بياض في (ب) قدر سطر وفي (أ) أثبت بخط مختلف ما لفظه : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هلا انتفعتم بإهابها وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأيما إهاب دبغ فقد طهر وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دباغها طهورها.

٤٧٨

اختلف المفسرون في معنى ذلك على أقوال :

الأول : أن المعنى لا تعط شيئا لتنال أكثر منه ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وإبراهيم ، والضحاك ، وقتادة ، ومجاهد.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ وفي هذا وجهان :

الأول : أن يكون النهي للتنزيه وإلا فهو جائز ، وقد جاء في الحديث : «المستغزر يثاب من هبته».

الثاني : أن يكون هذا النهي خاصا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن الله تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق.

وقيل : أراد الربا الحرام الذي يعطي شيئا لطلب أن يعطى أكثر منه عن الضحاك ، وأبي مسلم. وقيل : لا تمنّ على الله بعملك فتستكثره ، عن الحسن. وقيل : لا يكبرن عملك في عينيك فإنه قليل بالإضافة إلى نعم الله عليك ، عن الربيع. وقيل : لا تقصر في عملك مستكثرا لطاعتك ، عن مجاهد. وقيل : لا تمنّ بما أعطيت وتراه كثيرا.

قوله تعالى : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ). قيل : يعني على أذى المشركين. وقيل : على ما تعطي حتى تكون المثوبة من الله تعالى. وقيل : على ما كلفت ، وقيل : على المعاصي ، والطاعات ، والمصائب. وقيل : على مجاهدة الكفار ، وقد ظهرت الثمرة في التفسير.

قوله تعالى

(قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر : ٤٣ ، ٤٤]

في ذلك دلالة على أن الكافر مخاطب بالشرائع كما نقول نحن والشافعي ، خلاف أبي حنيفة.

٤٧٩

سورة القيامة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة : ٢]

في ذلك وجوه : أحدها : أنه أراد التي تلوم نفسها على التقصير.

وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ : إن المؤمن لا تراه إلا لائما لنفسه ، وإن الكافر يمضي قدما لا يعاتب نفسه.

وثمرة هذا : البعث على أن الإنسان يعد على نفسه ذنوبه ليلوم نفسه ، وقد فسرنا به ، أراد نفس آدم عليه‌السلام ؛ لأنها لوامة لفعله الذي كان سبب خروجه من الجنة.

قوله تعالى

(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣]

يعني : بما قدم من أعماله وأخر من آثاره.

وثمرته : أنه يلحق الإنسان الثواب بعد موته ، بما تقدم بسببه في حياته.

قوله تعالى

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة : ١٤]

يعني : شاهدة على فعله ، وهذا نظير قوله تعالى : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٤] ، وقد استثمر من هذا أن إقرار الإنسان على نفسه حجة يحكم بها عليه في الدنيا ؛ لأن الله تعالى جعل شهادة المرء على نفسه حجة يحكم بها عليه في الآخرة.

٤٨٠