تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ، ثم تراجع بتوبة فهذا صاحب اليمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال.

قوله تعالى : (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) قيل : الحنث الذنب العظيم ، ومنه قولهم : بلغ الصبي الحنث ، وقيل الحنث في اليمين ؛ لأنهم كانوا يقسمون جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت.

وقيل : الشرك ؛ لأن الشرك نقض عهد الله.

وقيل : اليمين الغموس.

الثمرة : قبح اليمين الغموس ، وأما الحنث في المباح فجوز الشافعي وبعض أهل المذهب.

وعن الناصر ، وأبي حنيفة ، والقاضي زيد ، وأبي مضر ، والزمخشري لا تجوز ، وقد يحتج بهذه الآية ، والاحتجاج محتمل ؛ لأن الظاهر في الحنث أنه الذنب.

وقال الإمام يحيى بن حمزة : بل الحنث أفضل ؛ لأن بقاءه على منع النفس من المباح مخالفة للمصلحة التي أرادها تعالى ، وهو جواز المباح.

قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) عن رسول الله صلّى الله عليه : «لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت» ومأخذه من الآية أن الله أثبت لهم الحرث ، وجعله تعالى مختصا بالزرع ، هذا فرق في اللفظ وإن كان المعنى بالحرث والزرع واحد.

قوله تعالى

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٧ ـ ٧٩]

القراءة الظاهرة لا يمسه إلا المطهرون بالإدغام ، وقرئ المتطهرون ، والمطهرون من أطهر هو الغير.

٢٨١

وقد اختلف المفسرون في أطراف من تفسير هذه الآية.

الأول : قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ما موقعه فهذا جواب القسم فإنه تعالى أقسم بمواقع النجوم أن هذا الكلام الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرآن كريم ، وهذا الظاهر.

وقيل : هو بدل من قوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) والقسم وقع به ، وقد روي عن ابن عباس ، ومجاهد في تفسير مواقع النجوم أن المراد نجوم القرآن ؛ لأنه نزل نجوما ، ثم بين المواقع بقوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) فهذا خلاف.

الخلاف الثاني : إلى ما يعود الضمير في قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) فقيل : يعود إلى الكتاب المكنون ، وهو اللوح المحفوظ ، وهذا مروي عن ابن عباس والحسن ، والأصم ، وأبي علي.

وقيل : يرجع إلى القرآن ، وهذا مروي عن عمر ، وسعد ، وسلمان ، وقتادة.

الخلاف الثالث : يتعلق بقوله : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) هل هذا خبر أو نهي؟ فقيل : إنه خبر وذلك اللوح المحفوظ أنه لا يناله إلا الملائكة المطهرون بالعصمة من الذنوب ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وأنس ، وجابر بن زيد ، ومجاهد.

وقيل : إنه نهي ، وأن الضمير يرجع إلى القرآن.

قال في النهاية : وإذا قرى (يَمَسُّهُ) بفتح السين لم يحتمل إلا النهي.

الخلاف الرابع : يتركب على قولنا إن قوله : (لا يَمَسُّهُ) نهي ، واختلفوا ما أراد من قوله : (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) فقيل : أراد من الجنابة.

وقيل : المؤمنون المتطهرون من الشرك ، دون اليهود والنصارى وسائر المشركين.

وقيل : الطاهر من الحدث والجنابة معا.

٢٨٢

ثمرات الآية أحكام تتركب :

الأول : أنه لا يجوز للجنب ولا للحائض مس المصحف عند أكثر العلماء ، وهو كالإجماع ، وحكي عن داود والحاكم جواز ذلك.

وجه التحريم قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) وذلك يحتمل النهي كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المؤمن أخو المؤمن لا يظلمه ولا يسلمه» أي : لا ينبغي له أنه يظلمه ، ووجه آخر وهو ما ورد في حديث عمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يمس القرآن إلا طاهر» وحديث عمر ، وابن حزم أنه كتب له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا حين بعثه إلى البحرين (ولا يمس القرآن إلا طاهر).

الوجه الثالث : أن ذلك مروي عن علي عليه‌السلام وسعد وهو كالإجماع.

الحكم الثاني : لا يجوز تمكين الكافر من مس القرآن ؛ لأن قد فسر قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أراد من الشرك ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو وذلك خشية مسه.

الحكم الثالث : في مس المحدث للقرآن ،

وهذه المسألة قد اختلف فيها العلماء ، فالمروي عن زيد بن علي ، والناصر ، والمؤيد بالله ، والمنصور بالله ، وهو محكي عن ابن عباس والشعبي ، والضحاك ، والحكم ، وداود ، وأبي علي ، وأشار إليه قاضي القضاة ورواه في (الروضة والغدير) عن القاضي جعفر ، وصححه الأمير الحسين ، والأمير محمد بن الهادي ، صاحب (الروضة والغدير) جواز ذلك.

وقال القاسم عليه‌السلام ، وخرج للهادي ، وأبو العباس وأبو طالب والشافعي وأبو حنيفة ومالك : إنه لا يجوز ، وسبب الخلاف أن المجوزين احتجوا بوجوه ثلاثة :

الأول : أن الأصل البراءة الأصلية ، ودلالة الآية محتملة كما تقدم ، ودلالة الخبر محتملة كذلك مع أن أهل الحديث اختلفوا في أحاديث عمرو ابن حزم فبطل الاستدلال ، وبقيت الإباحة الأصلية.

٢٨٣

الوجه الثاني : أن القراءة المقصودة قد جازت للمحدث بالإجماع ، وإذا جاز المقصود جاز التابع ، وهو اللمس.

الوجه الثالث : أن الأمة أجمعت إجماعا معلوما في كل عصر وفي كل قطر أن صبيان المكتب (١) يمسون المصحف وهم محدثون من دون تناكر ، وإن كان لا يجوز لما أجمعوا على السكوت ، وعدم النكير.

وقال في النهاية : ومالك منع بحديث عمرو بن حزم لا بالآية فإنه حملها على اللوح ، وعلى الملائكة ، ورخص الصبيان ؛ لأنهم غير مكلفين.

وأما من منع فأخذ بالآية وحمل على أنها للنهي ، والنهي يتعلق بمس القرآن ، والأخذ بالخبر ، وأجيب بأن المحتمل لا يكون حجة ، والآية محتملة كما تقدم ، والخبر محتمل أنه أراد بالطاهر من ليس بجنب ولا حائض ؛ لأنه يطلق عليهما اسم الظاهر حقيقة.

قال المؤيد بالله في الإفادة : والمستحب أن لا يمس القرآن إلا من كان على وضوء.

قال في الكشاف : ومن الناس من حمل اللمس على القراءة ، يعني أن ذلك مستحب.

وعن ابن عمر : أحب أن لا يقرأ إلا وهو طاهر ، وقد جعلت الطهارة من آداب القارئ.

قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) ثمرتها وجوب التسبيح ؛ لأن الله تعالى أمر به ، لكن اختلف ما أريد به فقيل : التنزيه عن كل صفة لا تليق به تعالى.

وقيل : أريد به الصلاة ، وتكون دلالتها مجملة.

__________________

(١) المدرسة تمت.

٢٨٤

سورة الحديد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧]

وقوله تعالى

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) [الحديد : ١٠]

وقوله تعالى

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد : ١١]

ثمرة ذلك الحث على الصدقات والإنفاق وذلك من وجوه :

الأول : أنه تعالى جعل الإنفاق مقرونا بالإيمان بالله والإيمان برسله.

الثاني : أنه تعالى جعلهم مستخلفين فيه ، بمعنى أنها لله تعالى ، وأنها ليست بأموالكم في الحقيقة ، وما أنتم عليه إلا بمنزلة الوكلاء والنواب ، فليهن عليكم الإنفاق منها كما يكون ذلك فيمن أنفق مال غيره ،

٢٨٥

أو أنه تعالى جعلكم مستخلفين ممن قبلكم فاعتبروا بحالهم كيف انتقل منهم إليكم ، وسينتقل منكم إلى غيركم ، فلا تبخلوا.

الثالث : أنه تعالى أعاد ذكر الإيمان والإنفاق تأكيدا في الحض عليه.

الرابع : أنه تعالى وعدهم بالأجر.

الخامس : أنه وصف هذا الأجر الذي هو الثواب بالكبر ، قيل : معناه عظيم دائم لا يشوبه ما ينغصه.

السادس : أنه تعالى أعاد الحث عليه بقوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : أيّ مانع وصارف لكم.

السابع : أنه تعالى بين أن الأموال لا تبقى لهم بل يرثها الله تعالى ، بمعنى : أنه يفني الخلق ولا يبقى إلا هو ، وهذه الأموال تزول منكم ، فكان الإنفاق هو الباقي لكم ، وجاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول ابن آدم : مالي مالي وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت».

الثامن : قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) فاستدعى الإنفاق.

التاسع : أنه تعالى أضاف القرض إلى نفسه فكأن ما صار إلى الفقير صار إليه.

العاشر : أنه جعل الإنفاق كالفرض الذي يلزم عوضه بمعنى : أنه لا يفوتكم بل يصير عوضه إليكم.

الحادي عشر : أنه تعالى جعل ما يعطى الفقراء كالقرض مع الله فكأنه كالكفيل ، والضمين بعوضه.

الثاني عشر : قوله تعالى : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قيل : من سبع إلى سبعين إلى سبعمائة.

٢٨٦

وقيل : إن الإنفاق منقطع ، والجزاء دائم.

الثالث عشر : قوله تعالى : (وَلَهُ أَجْرٌ).

الرابع عشر : قوله تعالى : (كَرِيمٌ) أي : خالص لا تشوبه صفة نقص.

الثمرة الثانية : أن الإنفاق يختلف ثوابه بحسب اختلاف موقعه ، فما صادف الحاجة ، وعظم نفعه كان ثوابه أكثر ، وذلك من قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) أي المنفقين قبل الفتح من المهاجرين والأنصار أعظم درجة ؛ لأن نفقتهم وقت شدة الحاجة ، وقبل أن يدخل الناس في دين الله أفواجا ، وقبل أن يعز الإسلام.

قال جار الله : وهم الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ويستخرج من هذا أن المتصدق إذا علم من هو أشد حاجة في غير بلده فالأفضل أن يحمل الصدقة النفل والفرض إليه ، ولو تلف المال والصدقة المحمولة فلا ضمان عليه إن لم يتراخ ، قيل : ذلك لأنه لم يفرط بناء على أنها لا تنتقل إلى الذمة.

الثمرة الثالثة : أن للمهاجرين والأنصار الذين سبقوا إلى هذه النفقة قبل الفتح فضيلة ليست لغيرهم.

الثمرة الرابعة : التوفر على حسن الصدقة ؛ لأنه تعالى قال : (قَرْضاً حَسَناً) قيل : لا منة معه ولا أذى.

وقيل : في وجوه البر ، وقيل : من الحلال ، وقيل : يفعله خالصا لله.

والظاهر أنه تعالى أراد النفقة عموما في الواجب وغيره ، وقيل : هذا في الفرض.

٢٨٧

وعن الحسن هو التطوع.

وفي عين المعاني : قيل الفرض أن يقول : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.

وعن زيد بن أسلم : النفقة على الأهل.

وعن الحسن (١) : التطوع.

وعن ابن حبان : النفقة في سبيل الله.

الخامسة : أن الفقير لا منة عليه في أخذ الصدقة ، هذا ذكره في الحاكم عن بعضهم ؛ لأن صاحبه يستحق العوض على الله تعالى ، كما يستحق المقرض ، وهذا محتمل على المذهب ، وقد قالوا : من بذل له مال لم يجب عليه قبوله للحج والوضوء لأجل المنة.

قال بعض المتأخرين من السادة (٢) : إذا دفع إلى الفقير الزكاة لزمه قبولها للحج والوضوء ، وفرق بين الواجب والنفل.

قوله تعالى

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) [الحديد : ١٦]

معنى (أَلَمْ يَأْنِ) ، أي : ألم يحن ،

ومنه قوله تعالى : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) أي منتهاه ، وقول بعضهم :

ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا

__________________

(١) قول الحسن مكرر فقد تقدم.

(٢) هو السيد يحيى بن الحسين.

٢٨٨

النزول

قيل : نزلت في المنافقين ، والمعنى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بألسنتهم لا بقلوبهم.

وقيل : نزلت في المؤمنين عن ابن مسعود.

قيل : لما أصابهم الخصب ، وسعة الرزق خاضوا في المزح واللعب والكلام فيما لا يعنيهم.

وقيل : في قوم كانت وظائفهم في الخير قبل الهجرة أبلغ.

وعن ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين.

وعن ابن عباس : أنه تعالى عاتيهم بهذه الآية على رأس ثلاثة عشرة من نزول القرآن.

وثمرتها : البعث على أن الإنسان لا ينقص شيئا من وظائفه التي يعتادها ، وقد قال العلماء من فاته من الوظائف في وقت قضاه في الوقت الآخر لئلا يتساهل.

ومن ثمراتها : استعمال الخشوع لقراءة القرآن ، والتدبر للقارئ.

وعن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب.

قال الحاكم : وفيها تحذير من مثل حال من قلنا في قسوة القلب.

قال : وقد روي أن سبب توبة الفضيل بن عياض ، وعبد الله بن المبارك كان بهذه الآية.

أما الفضيل ـ رحمه‌الله ـ فكان يقطع الطريق ، فسمع ليلة قارئا يقرأ القرآن يعني فبلغ هذه الآية فقال : بلى قد آن وتاب.

٢٨٩

وأما عبد الله فكان في بستان يشرب ويضرب بالعود فسمع قارئا يقرأ : (أَلَمْ يَأْنِ) فتاب.

قوله تعالى

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد : ١٨]

هذا مبالغة في الحث على الصدقة كما تقدم.

قوله تعالى

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الحديد : ٢١]

هذا أمر بالمبادرة إلى الأعمال المؤدية إلى المغفرة من الإيمان والطاعات.

وثمرتها : لزوم المبادرة فورا بالتوبة من المعاصي ، وذلك وفاق.

وأما أداء الواجبات فمن قال : إنها للفوز جعلها حجة له ، ومن قال إنها للتراخي جعل الأمر للندب ؛ لأن العموم قد بطل وفاقا ، وذلك بتأخير ما هو مؤقت.

قوله تعالى

(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الحديد : ٢٣ ـ ٢٤]

ثمرة هذه الآية : لزوم الصبر على المصائب فلا تحزن على فائت ، ولا تفرح بحاصل ، وقبح الخيلاء والافتخار ، والبخل بالواجب ، والأمر بالبخل بذلك.

٢٩٠

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح.

قلت : المراد الحزن المخرج لصاحبه إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ، ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح الملهي عن الشكر ، فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله مع الشكر فلا بأس بهما.

وفي عين المعاني : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكرا بإعطائه لا بطرا ، والحزن صبرا على قضائه لا ضجرا ، إنما يذم من الحزن الضجر والجزع ، ومن الفرح الأشر والبطر ولبزرجمهر (١) : الفائت لا يتلافى بالعبرة ، والآتي لا يستدام بالحبرة ، قيل :

لا تطل الحزن على فائت

فقل ما يجدي عليك الحزن

شتان محزون على ما مضى

ومظهر حزنا بما لم يكن

قال وعن قتيبة بن سعيد : دخلت على بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء مملوء من الإبل الميتة بحيث لا تحصى ، ورأيت شخصا على تل يغزل صوفا فسألته فقال : كانت باسمي فارتجعها من أعطاها ، وأنشأ يقول :

لا والذي أنا عبد من خلائقه

والمرء في الدهر يصيب الرزء والمحن

ما سرني أن إبلي في مباركها

وما جرى من قضاء الله لم يكن

قال في التهذيب : ومن كلام الصادق : يا ابن آدم ما لك تأسف على مفقود ، ولا يرد إليك ، ومالك تفرح بموجود ولا يترك في يديك.

__________________

(١) هكذا في الأصل ولم تستقم العبارة والصواب ما في تفسير القرطبي ج : ١٧ ص : ٢٥٨ وقيل لبزرجمهر أيها الحكيم ما لك لا تحزن على ما فات ولا تفرح بما هو آت قال لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة والآتي لا يستدام بالحبرة.

٢٩١

قوله تعالى

(وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد : ٢٧]

المعنى : جعلنا. قيل : ومعنى (جَعَلْنا) أي : أمرناهم ورعيناهم في الرحمة والرأفة فيما بينهم والرأفة وهي أشد الرحمة.

وقيل : معنى (جَعَلْنا) أي لطفنا.

وقيل : معناه : أخبرنا كما يقال : عدل الحاكم الشهود ، أي أخبر بعد التهم.

وقوله : (وَرَهْبانِيَّةً) الرهبانية : ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين ، مخلصين أنفسهم للعبادة ، وذلك أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى عليه‌السلام فقاتلوهم ثلاث مرات فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل فخافوا أن يفتنوا في دينهم فاختاروا الرهبانية ، والرهبان الخائف ، مشتق من رهب ، هكذا ذكره جار الله.

وقال : وقرئ رهبانية ـ بالضم ـ نسبة إلى الرهبان جمع راهب ، واختلفوا في متعلق قوله : (وَرَهْبانِيَّةً) فقيل : هي معطوفة على قوله : (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) والمعنى : جعلنا في قلوب الذين اتبعوه ، هذه الأشياء الثلاثة ، لكنه بين الرهبانية أن صفتها أنها مبتدعة من عند أنفسهم ، والمعنى : وقفناهم للتراحم ، ولابتداع الرهبانية وما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا رضوان الله ، ويستحقوا بها الثواب ، ويكون تعالى هو الملزم لهم والموجب عليهم ، ليتخلصوا من الفتن ، ويكون سبيل ذلك سبيل وجوب الهجرة من دار الكفار والابتداع ، كونهم أول من ترهب ، والوجوب من الله تعالى ، فتكون الرهبانية المذكورة والابتداع لها مدح ، والمعنى فما رعوا

٢٩٢

الجميع ، ولكن رعاها البعض منهم ، فآتينا من رعاها ، وهم الذين وصفهم الله بالإيمان أجرهم ، والذي لم يرعها هم الأكثر الذين وصفهم الله تعالى بقوله : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) لأنهم كفروا بعيسى عليه‌السلام.

وقيل : (فَما رَعَوْها) لتكذيبهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن آمن به ، فقد رعاها.

وقيل : إنهم نكثوا وعصوا ، وتكون الرهبانية في شريعة عيسى عليه‌السلام وجوبا.

وأما في شريعتنا فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا رهبانية في الإسلام».

وقيل : الرهبانية ترك النساء ، ولزوم الصوامع ، وقيل : هي لحوقهم بالجبال والبراري ، وروي ذلك مرفوعا إلى النبي عليه‌السلام.

وقيل : قد تم الكلام عند قوله : (وَرَحْمَةً) وقوله : (وَرَهْبانِيَّةً) هو ابتداء الكلام ، ويوقف على قوله : (وَرَحْمَةً) وتنتصب رهبانية بفعل مضمر يفسره الذي بعده وهو ابتدعوها ، فكأنه قال : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ، ولكنهم أوجبوها بمعنى : نذروها على نفوسهم ابتغوا بتلك رضوان الله ، فمن رعاها ووفى بما نذر فله الأجر ، ومن ترك رعايتها وحفظها وهم الأكثر فأولئك هم الفاسقون ، فيكون الإيجاب من نفوسهم لا من الله تعالى ، ويكون الابتداع على هذين الوجهين واردا للمدح ، ويكون في شريعتهم أن النذر بالترهب يلزم ، لا في شريعتنا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا رهبانية في الإسلام».

وقيل : دخلوا فيها فوجبت عليهم بالدخول ، وإن لم ينذروا.

وقيل : إن ابتداء الكلام بقوله : (وَرَهْبانِيَّةً) مبتدعة لم يأمرهم بها ، ولكن ابتدعوها ، ويكون هذا الابتداع ذم لأنهم كفروا ونكثوا وعصوا.

وقيل : تزهدوا لطلب الشرف والمكيدة ، وهذه الرهبانية ما كتبناها

٢٩٣

عليهم ، وإنما الذي كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله ، فيكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن ويكون فما معنى قوله : (فَما رَعَوْها) أي ما رعوا الملة ، روي هذا عن مجاهد.

وثمرات الآية الكريمة تظهر من معرفة المعنى.

فأما التراحم والتعاطف بين المؤمنين ، فذلك ثابت في شريعتنا ، وقد تظاهرت الأخبار بذلك والآيات.

قال تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الحاكم في السفينة عن النعمان بن بشير قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «تعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، فإنما مثل المسلمين في تواصلهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل العضو من الجسد إذا اشتكى تداعى الجسد كله بالسهر والحمى حتى يذهب ألم ذلك العضو» وقد أفرد الحاكم رحمه‌الله في السفينة بابا في حق المسلمين.

الثمرة الثانية : الترهب والانقطاع من النساء ونحو ذلك ، فذلك غير واجب في شريعتنا ، إن قلنا : إن الله تعالى أوجبه عليهم ، وإن قلنا : إن الله تعالى لم يوجبه ، ولكن أوجبوه على نفوسهم ونذروا به ، فحكم ذلك في شريعتنا يختلف بحسب المنذور به ، هل له أصل في الوجوب لزم أو في الندب ، فخلاف بين أئمة الفقه.

وأما إذا دخلوا في شيء من الطاعات من غير إيجاب فقد احتج أبو حنيفة بهذه الآية على لزومها ، ووجوب القضاء لما بطل منها ، ومذهبنا والشافعي أنها لا تلزم بالدخول فيها ، وفي ذلك صورة :

الأولى : إذا دخل في حج نفل فإتمامه واجب بلا إشكال لقوله تعالى في سورة البقرة : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٦].

قال في الشرح : وهذا إجماع ، فأما القضاء لما فاته ، فإن فات حج

٢٩٤

النفل لكونه أحصر وتحلل وجب القضاء عندنا ، وهو قول زيد بن علي ، لقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ومن تمامه الإتيان بقضائه ، وقياسا على ما لو فاته الحج بفوات الوقوف.

وقال مالك ، والشافعي : لا يجب عليه القضاء ، وسبب الخلاف أن من أوجب القضاء احتج بما ذكر ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كسر وعرج فعليه الحج من قابل» ولم يفصل ، وبأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما منع من العمرة قضاها.

وحجة من قال : لا يجب القضاء أنه لم يرو أنه صلّى الله عليه أمر أحدا ممن كان معه في العمرة التي أحصر فيها بالقضاء.

الصورة الثانية : إذا دخل في صوم هل له الخروج منه وإبطاله أم لا؟ فمذهبنا والشافعي له الخروج منه ، ولا قضاء عليه سواء أفطر لعذر أو لغير عذر.

وقال أبو حنيفة : لا يجوز له أن يفطر كالواجب ، وإن أفطر فعليه القضاء سواء أفطر لعذر أو غير عذر ، وقال مالك عليه التمام ، فأما القضاء فإن أفطر لعذر فلا قضاء عليه ، وإن أفطر لغير عذر فعليه القضاء ، وسبب الخلاف أن أبا حنيفة تعلق بثلاثة أمور :

الأول : هذه الآية وهي قوله تعالى : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) بناء على التفسير بأنهم ابتدعوا العادة من غير إيجاب ولم يتموها.

والأمر الثاني : القياس على الحج.

والأمر الثالث : ذكره في النهاية قال : روى مالك أن حفصة وعائشة زوجتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدي لهما طعام فأفطرتا عليه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقضيا يوما مكانه».

ومذهبنا ما نص عليه الهادي عليه‌السلام في الأحكام ، وهو قول المؤيد بالله ، والشافعي وهو مروي عن علي عليه‌السلام ، وعمر ، وابن

٢٩٥

عمر ، وابن عباس ، وابن مسعود أنه لا يلزم إتمامه ، ولا يجب قضاء على من أفطره ، وتمسكوا في ذلك بأحاديث رويت من طرق مختلفة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفطر وهو متطوع بالصوم ، وبما روي أن أم أيمن يوم فتح مكة دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتي له بشراب فشرب وناوله أم هاني فقالت : يا رسول الله كنت صائمة ، فقال : «الصائم متطوع أمير نفسه إن شئت فصومي وإن شئت فافطري».

وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعائشة ذات يوم : «يا عائشة هل عندكم شيء ، قالت فقلت لرسول الله : ما عندنا شيء ، قال : فإني صائم ، قالت : فخرج رسول الله صلّى الله عليه فأهديت لنا هدية أو جاءنا زور قالت : فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلت له : أهديت لنا هدية أو جاءنا زور وقد خبأت لك شيئا ، قال : ما هو؟ قلت : حيس (١) ، قال : هاتيه ، فجئت به فأكل ثم قال : كنت أصبحت صائما».

قال في الترمذي : وقد ذهب إلى أن القضاء غير واجب سفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وتأول هؤلاء الآية غير ما تأوله أبو حنيفة كما تقدم في تفسيرها وقالوا : الحج مخصوص ، وأقاسوا أيضا على الطهارة أنه لا يجب الاستمرار عليها وفاقا.

قال في الشرح في القياس على الطهارة وكذلك الاعتكاف مفهومه أنه إجماع أنه لا يجب قضاؤه.

وأما مالك فتأول ما ورد من عدم القضاء من أكل ناسيا ، وتأويله يستمر في حديث أم أيمن ، وحديث عائشة الذي رواه مسلم.

الصورة الثالثة : إذا أحرم بصلاة هل له أن يقطعها أم لا؟

__________________

(١) الحيس : الطعام المتخذ من التمر والإقط والسمن وقد يجعل عوض الإقط الدقيق تمت من حاشية نسخة (ب).

٢٩٦

قال في النهاية : له ذلك إجماعا ، ولا يجب قضاؤها ، وجعل مسألة الصلاة حجة للشافعي وقال : قياس الصوم عليها أولى ؛ لأنه لا يجب المضي في فاسدهما ، ويجب المضي في فاسد الحج ، لعله يريد أنه لا يمضي في فاسد صوم التطوع ونحوه.

وأما في التهذيب فقال : الخلاف في الصوم والصلاة.

لا يقال : فقد قال تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) لأن المراد بالمعاصي أو حيث لم يرد دليل بجواز الخروج.

٢٩٧

سورة المجادلة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) [المجادلة : ١ ـ ٤]

اعلم أن هذه الجملة قد تضمنت ماهية الظهار ، ومبتدؤه ، وذكر المظاهر ، والمظاهر منها ، والمظاهر به ، وبيان المشبه والمشبه به ، وحكم الظهار وموجبه ، وبيان ما يرفع موجبه ، فهذه عشرة فصول :

أما الأول : فاعلم أن الظهار ورد في الآية مجملا ، ولا بد من قرينة تبينه ، والقرينة هي العادة التي كانت الجاهلية تعتادها ، وهو أن يقول الرجل لامرأته : (أنت عليّ كظهر أمي) فصرف اللفظ هذا إلى ما عهد ، ثم إن الآية نزلت فيمن قال ذلك ، فكان هذا قرينة مبينة لمجمل الآية هذا ماهية الظهار.

٢٩٨

ولكنه يتفرع في هذا الفصل فروع :

الأول : أن الكناية تقوم مقام النطق باللسان ، وكذلك الإشارة من الأخرس ؛ لأنهما قد قاما مقام النطق في الطلاق وغيره ، وقد ذكر هذا السيد يحيى بن الحسين.

الثاني : لو كان الظهار مشروطا بشرط وقع إذا حصل الشرط عندنا وأبي حنيفة ، وذكره في المهذب ل (الشافعي) ووجه ذلك التشبيه للظهار بالطلاق ؛ لأنه قول يوجب التحريم فصح تعليقه بالشرط كالطلاق ، ولو علق الظهار بمشيئتها كانت المشيئة على المجلس كالطلاق ، ولو كان الشرط للنفي نحو إن لم أدخل الدار فإن وقت وقع إذا مر الوقت من غير دخول ، وإن أطلق لم يتحقق إلا بالموت ، لكن لا فائدة له في حقها ، وله فائدة لو علق حكما آخر بظهارها ، نحو عبده حر إن ظاهر من فلانة ، ثم قال لفلانة : إن لم تدخلي الدار فأنت كظهر أمي فماتت أو مات وقع الظهار ، فيتحرر العبد ، هذا إن قلنا : أن إن لم للتراخي ولم يعزم على الترك ، ويقع الظهار في إن لم يشاء الله لا إن شاء الله ، ولو علق بالنفي كان مظاهرا عند الإياس أو العزم على تركه ، أشار إليه في الشرح وذكره في جامع الأمهات ، وكذا ذكر في الانتصار أنه يحنث بالعزم على الترك لا بالعزم على الفعل ، وجعل هذا دقيقة.

الثالث : لو وقت بوقت يوقت عندنا وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري ، فيبطل التحريم بمضي المدة ، والوجه : أنه يدخله التأقيت بالكفارة ، فيوقت باللفظ بخلاف الطلاق ، ولأن اليمين يصح تأقتها ، والظهار يشبه اليمين لدخول الكفارة ، فلو قال في اليوم ، وكل ما جاء يوم ، يؤقت اليوم وتأبد لمجيء غد ، ولو قال : كل ما جاء يوم فأنت كظهر أمي ذلك اليوم تكرر الظهار لكل يوم ، وخرجت الليالي وتكرر الكفارة للعود في كل يوم.

٢٩٩

وقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، وابن حي ، والليث : يتأبد ، ول (الشافعي) قول : إنه يبطل ؛ لأنه علق تحريما مؤقتا فأشبه ما لو شبه بامرأة تحرم إلى وقت على أصلهم ، وقد جاء في حديث سلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته إلى آخر رمضان خشية المواقعة فيه ؛ لأنه كان لا يصبر على النساء فصح ظهاره على هذه الرواية.

الرابع : أن اللفظ الذي يظاهر به يكون صريحا وكناية ، فالصريح : أنت عليّ كظهر أمي وما أشبهه.

قال في الكافي : وكذا أنت مظاهرة ، أو قد ظاهرتك ، أو أنا منك مظاهر بالإجماع.

قال في مهذب الشافعي : ولو قال : أنت عندي أو أنت مني أو معي كظهر أمي كان كما لو قال : أنت عليّ كظهر أمي ؛ لأن الفائدة في هذه واحدة ، والكناية أن يقول : مثل أمي فيحتاج إلى البينة ، وكذا لو ظاهر من امرأة ، ثم قال لأخرى : وأنت مثلها ، فهذا محتمل فيحتاج إلى النية.

الفرع الخامس : في كيفية إيقاع اللفظ؟

وقد ذكروا وجوها :

الأول : أن يعرف الظهار في الشريعة ، ويقصد باللفظ المعنى الموضوع له ، وهذا لا إشكال فيه أنه يكون مظاهرا.

الثاني : أن يعرف معناه في الشرع كما يعرف معنى الطلاق ، ثم يأتي بهذا اللفظ هازلا فذلك كهزل الطلاق يقع عندنا ، والأكثر خلافا لتخريج المؤيد بالله ، وتخريج الوافي أن الصريح يحتاج إلى الإرادة بمعنى أن الهازل لا يقع منه ، وهذا يحكى عن المتكلمين في الطلاق.

الوجه الثالث : أن يريد بهذا اللفظ الطلاق كان ذلك كناية في الطلاق عندنا وأبي يوسف ، ومحمد ، فيطلق بإقراره ويقع عليها الظهار ، ظاهر الوجوب صريحه.

٣٠٠