تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

سورة هل أتى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) [الإنسان : ٦ ـ ١٢]

هذه الجملة لها ثمرات : الأولى : فضل الوفاء بالنذر وأنه من مهمات الطاعات ؛ لأن الله تعالى جعل الوفاء به سببا لنيل رتبة جليلة ، فقال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) ثم وصفهم فقال : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) إلى آخر الصفات من الخوف ليوم كان شره مستطيرا ، وإطعام الطعام ، ولكن اختلف المفسرون ما أريد بهذا النذر ، فعن قتادة : المراد أن يتموا ما عليهم من الواجبات كالصلاة ، والزكاة ، والحج ونحوها.

وعن مجاهد : والمراد إذا نذر بطاعة وفى بها ، وكذا عن عكرمة ، وقد قال الزمخشري : الوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات ؛ لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله كان بما أوجب الله عليه أوفى.

وما ورد في الحديث في سبب نزول الآية ، وأن ذلك في نذر علي عليه‌السلام وفاطمة ـ رحمها الله ـ في مرض الحسن والحسين ـ عليهما‌السلام ـ يدل أن المراد بالنذر المذكور ما أوجبه الإنسان على نفسه ، ولكن إن كان النذر شكرا لله على نعمه ، أو استجلابا لنفع ، أو استدفاعا لضر ، كما ورد في فعل علي ، وفاطمة ، ونذرهما بصوم ثلاثة أيام إن شفا

٤٨١

الله تعالى الحسن والحسين من مرضهما ، فالوفاء بذلك واجب ، ويدعى أن ذلك إجماع ، وهذا إذا أنذر بما له أصل في الوجوب من صدقة وصلاة وصيام أو نحو ذلك.

أما لو نذر بطاعة لا أصل لها في الوجوب كالتسبيح وزيارة الأئمة والصالحين ، فهذه مسألة خلاف ،

فالذي أخذ من عموم قول القاسم ، والوافي ، وأحد قولي المؤيد بالله أن ذلك يلزم الوفاء به حيث يلزم الوفاء بما أصله الوجوب.

ومن حججهم قوله تعالى في سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ٥] وقوله تعالى في سورة الحج : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [الحج : ٢٩].

وأما قوله تعالى في سورة براءة : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة : ٧٥ ـ ٧٧] فأخبر تعالى بوقوع العقاب بنقضه ، فهذا المنذور به له أصل في الوجوب.

وقال أبو العباس وأبو طالب : وخرجه الأزرقي ليحيى ، وأحد قولي المؤيد بالله ، وأبو حنيفة لا يلزم ؛ لأن ما لا يجب شرعا لا يجب بالنذر ، ولأن رجلا نذر إن فتح الله مكة أن يصلي في بيت المقدس فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صل هاهنا» وهذا قد كان أوجب على نفسه المشي إلى بيت المقدس ، ولم يأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوفاء.

أما لو نذر بمعصية فمذهبنا وأبي حنيفة ، وحكاه في النهاية عن سفيان : أنه يلزم كفارة يمين لا فعل المعصية.

وقال الناصر ، والصادق ، والباقر ، والإمامية ، ومالك ، والشافعي : لا يلزم شيء.

وسبب الخلاف : اختلاف الأخبار ففي حديث عائشة ـ رضي الله

٤٨٢

عنها ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه».

قال الذين لم يوجبوا الكفارة : هذا يدل ألا شيء عليه.

وورد حديث عمران بن الحصين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا نذر في معصية الله ، وكفارته كفارة يمين» وهذا نص في اللزوم ، فكان حجته لنا ، والخبر الأول لم ينف الكفارة وإنما نفى فعل المعصية.

وهاهنا فروع على المذهب وهو :

أن يقال : لو فعل الناذر المعصية هل تسقط الكفارة وإن أثم أم لا؟

قلنا : في الكافي وأشار إليه في اللمع ، وذكر الفقيه يحيى بن احمد أنها تسقط.

وذكر السيد يحيى بن الحسين أنها لا تسقط ، والخبر محتمل للقولين ، فمن كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «فكفارته» والكفارة إنما تكون للمخالفة ، احتمل ما قاله في الكافي ، ومن جهة إطلاقه ، احتمل كلام السيد يحيى بن الحسين.

وأما لو نذر بمباح كأن يقول : عليه دخول السوق ونحوه ، فأبو العباس ، وأبو طالب قالا : وجود النذر كعدمه ؛ لأن الأصل براءة الذمة.

وقال المؤيد بالله : يلزم كفارة يمين إن خالف ؛ لأنه نذر بما لا يلزم الوفاء به ، فأشبه النذر بالمعصية ، وتفصيل مسائل النذر مستنبط من غير هذه الآية.

وقوله تعالى : (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً)

يعني : قاسيا منتشرا من قولهم : استطار الحريق ، واستطار الفجر.

وقوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ)

قيل : أراد على حب الله وذلك ألا يكون رياء ، ولا لغرض دنيوي من محبة مدح ، أو مجازاة ، وهذا محكي عن الفضيل بن عياض.

وقيل : أراد على حب الطعام ، وهذا نظير قوله تعالى في سورة

٤٨٣

البقرة : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة : ١٧٧] وقوله تعالى في سورة آل عمران : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] واختلفوا ، فقيل : أراد الإيثار به في حالة الجوع والشهوة له.

وهذا مروي عن ابن عباس ، وسبب النزول في فعل علي وفاطمة ـ عليهما‌السلام ـ يدل عليه.

وقيل : المراد على حب المال ، وذلك حال الصحة والشح به لا عند أن ييأس من الحياة. وقيل : يطعمون من أحب الأشياء إليهم كما روي عن الحسن أنه كان يتصدق بالسكر ويقول : أنا أحبه.

قوله تعالى : (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) المسكين قد تقدم بيانه هل هو أضعف من الفقير كما ذهب إليه الأئمة ، وأبو حنيفة ، ومن أهل اللغة يونس ، وزيد ، ويعقوب ، وابن دريد ، ومن المفسرين أبو مسلم ، أو الفقير أضعف منه كما قاله الشافعي وابن الأنباري.

وأما اليتيم فهو الطفل الذي لا أب له ؛ لأن الغالب عليه الحاجة فلا بد أن يكون فقيرا بالإجماع.

وأما الأسير فاختلف المفسرون ما أريد به فقيل : أريد به الأسير من أهل الحرب ، وهذا هو الظاهر ، وهو مروي عن الحسن ، وقتادة ، وأبي علي ، وعن الحسن كان عليه‌السلام يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيكون عنده اليوم واليومين ، ويؤثره على نفسه.

قال في الكشاف : وعند عامة بالعلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ، ولا تصرف إليهم الواجبات.

وعن قتادة : أسيرهم يومئذ المشرك ، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه ، وقيل : هو الأسير من أهل القبلة ، عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء.

وعن أبي سعيد الخدري : هو المملوك ، والمسجون.

وقيل : الأسير المرأة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإنهن عوان عندكم» ذكره في عين المعاني ، وهو مروي عن أبي حمزة الثمالي.

٤٨٤

وقيل : الأسير في أيدي الكفار يعطون في فكاكه.

وقوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً).

قيل : هذا بيان عن اعتقادهم ونيتهم ، فأثنى الله تعالى عليهم ولم ينطقوا بذلك.

وعند مجاهد : أما أنهم ما تكلموا ولكنه علمه الله فأثنى عليهم ، وهكذا عن سعيد بن جبير.

وقيل : يجوز أن يكون قولا باللسان منعا لهم عن المجازاة بمثله ، أو بالشكر ؛ لأن إحسانهم مفعول لله ، وليكون ذلك تنبيها على ما ينبغي.

وعن عائشة ـ رضي الله عنه ـ أنها كانت إذا بعثت بالصدقة إلى بيت تسأل الرسول ما قالوا ، فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ، ليبقى لها ثواب الصدقة خالصا.

وقوله تعالى : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً)

وصف اليوم بالعبوس مجازا على أن يصفه بصفة أهله ، كما يقال : نهارك صائم ، وليلك قائم.

وروي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق كالقطران ، والقمطرير : الشديد العبوس.

قال جار الله : يحتمل أن المعنى أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم ، لا لإرادة مكافأتكم ، تم كلامه ، وفي هذا إشارة إلى أن من فعل الطاعة لئلا يدخل النار ، أو ليدخل الجنة صح ذلك ، وهذا قد ذكره المنصور بالله ، والفقيه يحيى بن أحمد.

وقال أبو مضر : لا يجزيه ؛ لأن الواجبات وجبت لكونها لطفا ، فقد نوى غير ما وجبت لأجله ، والآية تحتمل أنه لم يفعل الطاعة للخوف ، ولكن فعلها لوجوبها ، وهو مع ذلك خائف ،

وقد ظهرت ثمرات : منها لزوم النذر وهو على ما تقدم من التفصيل ، وبيان ما يؤخذ من الآية وما يؤخذ من السنة ، وأنه إنما يفي بما نذر من

٤٨٥

الطاعة لا من المعصية ، فلو نذر بصيام أيام النهي كالعيدين ، وأيام التشريق ، فعن الناصر والشافعي ، وزفر : أنه لا ينعقد نذره ، وعندنا ، والحنفية ، ينعقد ، ويصوم في غيرها.

قال أبو حنيفة ، وصاحباه ، والمرتضى ، وأبو العباس : وإن صام فيها جاز ، وصحح أبو طالب أنه لا يجوز.

حجة الناصر ، والشافعي أن نذره تعلق بالمعصية.

حجتنا أنه سمي طاعة ومعصية فيبطل ذكر المعصية ، وتصح ذكر الطاعة.

قال في الشرح : فصار كما لو قال : عليّ لله أن أصوم يوما ، وفي هذا إشارة إلى أنه إذا صام في غيرها لم تجب عليه نية القضاء ، وهذا يحتمل.

وقال الإمام يحيى : إن النهي للتنزيه ، إذا لو كان للحظر لم يصح نذره.

قال في التهذيب : وإذا أوجب على نفسه صلاة في دار مغصوبة يلزم النذر بالصلاة عند الجميع.

ومنها : أن الطاعات لا بد فيها من الإخلاص في النية لله ، لا لشكر ولا لمجازاة. قال الحاكم : فإن فعل الصدقة للشكر أو للمجازاة صحت لكن لا يثاب عليها.

ومنها : ما ذكره الحاكم أن صدقة التطوع تصح على وجه الإباحة وعلى وجه التمليك بخلاف الواجب الذي هو الزكاة فيشترط فيه التمليك.

ومنها : أن الإطعام مع الحاجة يكون أعظم في الثواب.

ومنها : أن الصدقة على المسكين واليتيم والفقير لها مزية في الثواب.

ومنها : أن الأسير ممن يتقرب عليه ، وقد تقدم ما قيل فيه.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : وقد سمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغريم أسيرا فقال : «غريمك أسيرك فأحسن إليه».

٤٨٦

وأما دفع الزكاة إلى الكافر الحربي وسائر الواجبات فلا تجوز بالإجماع ، وجوزه العنبري ، وقد انقرض خلافه.

وأما إلى فقراء أهل الذمة فلا يجوز أن يدفع إليهم شيء من الواجبات عموما عندنا ، والشافعي ، وجوّز أبو حنيفة ، ومحمد دفع الفطرة ، والكفارات والنذور ، والمظلمة ، إلى فقراء أهل الذمة ، ومنعه أبو يوسف.

وجه المنع القياس على الزكاة ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زكاة الفطر : «اغنوهم في هذا اليوم» إشارة إلى فقراء المسلمين.

وجه قول أبي حنيفة (١).

ومنها أنه إذا فعل الطاعة للخوف من العذاب أجزأ على ما تقدم.

[النزول]

وفي سبب نزول هذه الآية أقوال : الأول : ذكره في التهذيب أنها نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ، ويتيما ، وأسيرا.

الثاني : ذكره في عين المعاني أنها نزلت في جماعة من المهاجرين تكلموا بطعم أسارى بدر وهم أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، والزبير ، وابن عوف ، وسعد ، وأبو عبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنهم ـ.

الثالث : ذكره الحاكم في السفينة والتهذيب ، والزمخشري أنها نزلت في علي وفاطمة ، ونذرهما في مرض الحسنين ـ عليهما‌السلام ـ.

قال في الكشاف : عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ مرضا فعادهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناس معه فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ، فنذر عليّ وفاطمة ـ رضي الله عنهما ـ وفضة جارية لهما ـ رضي الله عنها ـ إن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشفيا وما معهما شيء ، فاستقرض علي ـ رضي الله عنه ـ من

__________________

(١) بياض في (ب) قدر سطر وفي (أ) قدر سطرين تقريبا.

٤٨٧

شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة أصواع من شعير ، فطحنت فاطمة ـ رضي الله عنه ـ صاعا ، واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : السّلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من مواد الجنة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صياما ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك ، ولما أصبحوا أخذ علي ـ رضي الله عنه ـ بيد الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ وأقبلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال : «ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم» وقام وانطلق معهم فرأى فاطمة ـ رضي الله عنها ـ في محرابها قد التصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه‌السلام وقال : هنأك الله في أهل بيتك ، وأقرأه السورة.

قال في التهذيب : وروي أنه أخذها من اليهودي لتغزل فاطمة صوفا.

قال : وعن ابن عباس بينا أهل الجنة في الجنة إذا رأوا ضوءا كضوء الشمس فيسألون رضوان ويقولون : يقول ربنا (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) ، فيقول رضوان : ليس فيها شمس ولا قمر ، ولكن علي وفاطمة ضحكا فأشرقت الجنة من نور ضحكهما. وقيل [شعرا] :

إني مولى لفتى أنزل فيه هل أتى.

وقوله : (شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)

قيل : صيفا ولا شتاء ، وقيل : حرا ولا بردا ؛ لأن الزمهرير البرد الشديد. وقيل : هو القمر بلغة طي. قال الشاعر :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزمهرير ما زهر

وهو يؤخذ من القصة ثمرات

منها : حسن الإيثار على النفس مع الحاجة كما جاء في قوله تعالى :

٤٨٨

(وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) وقد حمل أن ذلك على من وثق من نفسه بالصبر ، ليوافق خبر البيضة

ومنها : جواز معاملة أهل الذمة ، والاستقراض منهم ، وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعامل أهل الذمة خشية أن يجانبه المسلمون.

ومنها جواز أن يؤجر المسلم نفسه من الذمي على عمل من الأعمال كإجارة المشترك.

وقوله تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً)

ثمرتها : عظم محل الصبر ، وأنه أصل في الدين ، وقد كرر الله ذكره في كتابه إلى نيف وسبعين موضعا ، وقيل : أكثر ، ولها أبواب تضمنت الترغيب فيه ، وهو صبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وصبر على المصيبة.

قوله تعالى :

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) [الإنسان : ٢٤ ـ ٢٦]

المعنى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : لما قضت حكمته من تأخير النصر.

وثمرة هذه : الجملة الحث على الصبر ، والنهي عن طاعة الآثم ، وهو فاعل الإثم ، والكفور فاعل الكفر.

قيل : أراد العموم لكل آثم وكل كافر.

وقيل : الآثم أبو جهل ، والكفور الوليد ، وقيل : الآثم عتبة ، وإنما نهى عن طاعتهما لأنهما يدعوانه إلى الإثم والكفر ، وقد جاء في الحديث : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

قيل : أو بمعنى الواو والألف زائدة ، وقيل : بل ذلك تخيير ؛ لأنه إذا نهى عن طاعة أحدهما فطاعتهما جميعا أبلغ في النهي.

٤٨٩

ومنها : ذكر الله بكرة وأصيلا ، قيل : أراد دم على ذكره ، وقيل : بكرة وعشيا ، وقيل : البكرة صلاة الفجر ، والأصيل الظهر والعصر.

وقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) قيل : أراد صلاة المغرب والعشاء. وقيل : أراد صلاة الليل ، وكانت واجبة. وقيل : أراد التطوع عن أبي علي.

وقوله تعالى : (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) قيل : أراد التهجد.

وقيل : أراد الخشوع ، وقيل : تنزيهه عما لا يليق به.

وقوله تعالى : (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً).

قال الحاكم : دل على قبح قصر النفس على حب الدنيا ، ووجوب التفكر في أمر الآخرة.

سورة المرسلات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً)

الكفت : الضم ، والمعنى يضم الارض للناس في الحياة على ظهورها وبعد الممات في بطونها وهي القبور ، وسمي بقيع الغرقد كفتة ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اكفتوا صبيانكم» أي : ضموهم إليكم.

وقيل : (كِفاتاً) بمعنى عطافا ، قال الشاعر :

فأنت اليوم فوق الأرض حي

وتلك غدا تضمك في كفاتى

ولهذه الآية ثمرة : وهي أن القبر حرز للكفن ، فمن نبش الكفن قطع ، وهذا مذهبنا ، والشافعي ، وأبي يوسف وهو مروي عن علي عليه‌السلام ، والشعبي وعمر بن عبد العزيز لعموم الأدلة ، ولهذه الآية.

وقال أبو حنيفة ومحمد : لا قطع عليه.

٤٩٠

وقال أبو طالب ، وأصحاب الشافعي : إنما يكون حرزا للكفن الشرعي لا للدراهم ، ولا لما زاد على الخمسة.

قال أصحاب الشافعي : لا بد أن يكون في مقبرة المسلمين وأن تكون المقبرة مما يلي العمران.

وقال في الزوائد : يكون حرزا ولو انفرد.

قيل : ويأتي مثل هذا المدافن إذا رد عليها التراب أنه تكون حرزا.

وعن الإمام أحمد بن سليمان لا تكون المدافن حرزا.

قوله تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ)

قيل : نزلت في ثقيف ، وذلك لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهم بالصلاة فقالوا : لا تنحني فإنها سبة علينا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» وهذا يدل أن الكفار مخاطبون ، لذلك عاقبهم بترك الصلاة ، وفي ذلك دلالة على أن الصلاة عند الله بموقع.

سورة عم (النبأ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً)

أي : غطاء وسترا ، فجعل ذلك أمنة لهم ، يبيتون فيه العدو ، ويهربون ولا يشعر بهم العدو ، ويغطي ما يحبون ستره ، ولهذا قال المتنبي :

وكم لظلام الليل عندك من يد

تخبر أن المانوية تكذب

المانوية منسوب إلى ماني النقاش وهو رأس الزنادقة ، وهو يقول

٤٩١

مبدأ الخير من النور ، ومبدأ الشر من الظلمة ، وقد جعل أبو العباس الماء الكدر كالثوب لجواز الصلاة ، فخرج له أن الظلمة كذلك ، وأن للمصلي أن يصلي في الظلام عاريا ؛ لأن الله تعالى جعل الليل لباسا ، وظاهر المذهب خلاف هذا ، وأنه يجب اللباس لعموم قوله تعالى في سورة الأعراف : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣١].

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً)

دل على جواز التكسب وطلب المعاش ذكره الحاكم خلافا لبعضهم.

قوله تعالى

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)

قيل : يأتون من القبور إلى الموقف أمما كل أمة مع إمامهم.

وقيل : جماعات مختلفة.

قال في الكشاف : عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ، ثم أرسل عينيه وقال : يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكوسون أرجلهم فوق رءوسهم (١) يسحبون عليها ، وبعضهم عميا وبعضهم صما وبكما ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم يصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم ، فأما الذي على صورة القردة فالقتات من الناس ، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت ، وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا ، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم ، وأما الصم البكم

__________________

(١) في الكشاف أرجلهم فوق وجوههم.

٤٩٢

فالمعجبون بأعمالهم ، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران ، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف ، فالذين يتبعون الشهوات واللذات ، ومنعوا حق الله بأموالهم ، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء».

ثمرة ذلك الزجر على ما جاء في هذا التفسير.

قوله تعالى : (عَطاءً حِساباً).

معناه : كافيا من قولهم : حسبك هذا الشيء أي : كفاك.

وقيل : المعنى على قدر الاستحقاق ، وثمرة ذلك أن الثواب بقدر العمل ، وبقدر المشقة.

سورة النازعات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) [النازعات : ٤٠]

ثمرة ذلك : الزجر عن اتباع الشهوات وهوى النفس ، وقد جاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات» وقد أفرد الحاكم لذلك بابا في السفينة.

سورة عبس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) [عبس : ٨٠].

٤٩٣

النزول

قيل : جاء عبد الله بن أم مكتوم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان ضريرا ، وعنده صناديد قريش عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال : يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم لتشاغله بالقوم فكره عليه‌السلام قطعه لكلامه ، وعبس ، وأعرض عنه فنزلت ، فكان عليه‌السلام يكرمه إذا رآه ويقول : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له : «هل لك من حاجة» واستخلفه على المدينة مرتين ، يعني ليصلي بالناس ، وقيل : أكثر.

قال أنس : رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء.

ثمرة ذلك : لزوم تعظيم حرمة المؤمن ، وأن الفضل بالإيمان لا بالغنى.

قال في عين المعاني : وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عبس بعد ذلك في وجه فقير ، ولا تصدى لغني ، وفي الحديث : «من تحامل على فقير لغني هدم ثلث دينه» وهذا نظير قوله عليه‌السلام : «إياكم والإفراد» والظاهر أن التعبس من النبي عليه‌السلام.

وقيل : كان ذلك من غيره ، وقيل : نزلت في العباس.

قال المرتضى : من نظر في أخلاقه عليه‌السلام مع المؤمنين عرف أن الآية في غيره ، وقد قال الحاكم : ليس في الآية ظاهر أنه أريد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا تواترت بذلك الأخبار ، وإنما روي في ذلك أخبار آحاد ، وإذا قلنا كان ذلك من الرسول فقيل : لم يكن دينا ولكنه دله على الأحسن ، ولم يكن فعل ابن أم مكتوم سوء أدب ؛ لأنه لا يعلم ، والمراد بالترك : التطهر بالأعمال الصالحة ، والتعبس : تقطيب الوجه ، والتولي : الإعراض والتصدي : التعرض للشيء ، والتلهي عن الشيء : الإعراض عنه ، وأم مكتوم : هي أم والد عبد الله ، وأبو شريح بن مالك.

٤٩٤

قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) [عبس : ٢٤].

ثمرة هذه الآية : وجوب النظر في الأدلة.

قوله تعالى :

(حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [غبس : ٢٧ ـ ٣١].

الغلب : المتكاثفة كالضخمة والأبّ : المرعى. وقيل : الثمار الرطبة ، وقيل : التين ، وقيل : استدل أبو حنيفة على أن العنب والنخل ليس بفاكهة ، فلا يحنث من أكله ، وقد حلف لا يأكل الفاكهة لأن المعطوف غير المعطوف عليه ، وعندنا ، والشافعي وأبي يوسف ومحمد : ذلك فاكهة ، والمرجع في الفاكهة إلى العرف ، وقد يفرد بعض الشيء بعد ذكر جملته تفحيما ، كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] ومثل قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨].

سورة التكوير

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى :

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير : ٨ ـ ٩].

قال : كانت الجاهلية تقتل البنات خيفة العار ، وخيفة المجاعة ، فكان إذا أراد قتلها حفر لها قبرا ، ثم يقول لأمها : زينيها وطيبيها تذهب إلى حمائها ، ثم يذهب بها فيضعها في الحفرة ويهيل التراب عليها.

وقيل : كانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها فإن ولدت بنتا دفنتها في الحفرة ، وإن ولدت غلاما حبسته عن ابن عباس.

٤٩٥

قال قتادة : كانوا يقتلون البنات ، ويغذون الكلاب ، وقد افتخر الفرزدق فقال :

ومنا الذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم توأد

لأن جده صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد ، وإنما جعل الله تعالى السؤال ؛ لأن في ذلك توبيخا لهم ، نظيره : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) فكان هذا توبيخا للنصارى.

وقيل : سئل بمعنى سئل عنها ، أي : عن سبب قتلها بأي ذنب ، نظيره قوله تعالى : (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٤] وقرئ في الشاذ (سألت) أي : سألت الله تعالى ، أو سألت قاتلها تخاصمه في ذلك.

وثمرة ذلك : تحريم فعل الجاهلية في وأدهم البنات ، وفي الحديث : «الوائدة والموءودة في النار ، إلا أن تتدارك الوائدة الإسلام فيعفو الله عنها» وهذا الحديث في الكوكب ومعناه (١).

والعزل لا يلحقه اسم الوأد ، على قول أكثر العلماء ، وإنما منع منه للضرار ، وفي ذلك تفصيل.

وقال القاسم العياني : لا يجوز ، وأنه الوأدة الصغرى.

سورة المطففين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين : ١ ـ ٣]

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم المدينة ، وكانوا أخبث الناس كيلا ، فنزلت ، فأحسنوا الكيل.

__________________

(١) بياض في الأم قدر نصف سطر.

٤٩٦

وقيل : قدمها وبها رجل يعرف بأبي جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ، ويكتال بالآخر.

وقيل : كانت عادة أهل المدينة يطففون ، وكانت عادتهم المنابذة ، والملامسة ، والمخاطرة ، وهي بيع الطير في الهواء ، فنزلت ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأها وقال : «خمس بخمس» فقيل يا رسول الله : وما خمس بخمس؟ فقال : «ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا ظهر فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات ، وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر».

وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يمر بالبائع فيقول : اتق الله وأوف الكيل ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم.

المعنى التطفيف هو البخس في الكيل والوزن.

وقيل : قيل هو وعيد. وقيل : هو شدة العذاب ، وقيل : جب في جهنم للمطففين.

وثمرة ذلك : وجوب العدل ، وتحريم البخس ، وذلك عام وخص هذا بالوعيد لمّا كان عادة لهم.

وقوله : (اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) قيل : على بمعنى من ، ولا شك أن ذلك محرم.

وأما كبر المعصية فقال الحاكم : لا يقطع بالكبر في القليل ؛ لأن الوعيد يتناول جميع المعاصي لعله أراد لكونه في الكفار.

قال : لكن عند أبي علي تكون كبيرة بخمسة كمانع الزكاة ، وعند أبي هاشم بعشرة كنصاب السرقة ، إن قيل إن المؤيد بالله لا يفسق بالقياس ولا يفسق من غصب مالا كثيرا إلا أن يعتاد ذلك فيقال : هذا إن اعتاد التطفيف

٤٩٧

فذلك كبيرة ، وإن لم يعتده فالقليل لا يقطع بكبره والكبر فيه ما تقدم أنه كبيرة عند الشيخين ، وأن اختلفا في قدره. وأما عند المؤيد بالله سؤال (١).

وهاهنا فرع

يعتاده كثير من الناس في كيل الزبيب ونحوه ، وهو أنه إذا كال كيلا وافيا عند أن يشتري ، ثم بعد الكيل يشتريه جزافا ، وعند أن يبيع لا يكيل كما شرى هل يجوز ذلك؟

ولعل جواب ذلك أن يقال : إن بيّن البائع أن كيله فيه زيادة على ما يفعله عند البيع وعلى ما يفعل الناس ، وخيره بين البيع وعدمه ولم تتقدم مبايعة جاز هذا.

وأما إذا تقدمت المبايعة بأن يشتري منه مثلا أمدادا معلومة مما معه ، فإنه لا يستحق إلا الكيل المعتاد فلا يحل أن ياخذ زائدا عليه ، إلا أن يبيح له البائع ويعرفه ذلك.

وأما إذا لم يبين له بل اعتقد البائع أنه يكيل كما يكيل غيره ، وأنه يكيل كما يكيل إذا باع فهاهنا يكون غاصبا بالتغرير ، وإذا حصل الملافظة بعد ذلك فلا يمنع أن يثبت للبائع الخيار والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ).

النزول

قيل إن أبا جهل ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل وأصحابهم من مشركي قريش بمكة كانوا يضحكون من عمار ، وخباب ، وصهيب ، وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين يستهزءون بهم ، ومن إسلامهم فنزلت.

وقيل : جاء على عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون ، وضحكوا ، وتغامزوا ، ثم قالوا لأصحابهم : رأينا

__________________

(١) بياض في الأصل ويمكن أن يقال : المؤيد بالله لا يفسق بالقياس وأما هذا فإن صار ذي جرأة مفسقة فسق.

٤٩٨

اليوم الأصلع فضحكنا منه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية قبل أن يصل علي وأصحابه إلى النبي عليه‌السلام عن مقاتل والكلبي ، فقيل : استعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا على بني هاشم ، وكان إذا مر بهم ضحكوا منه.

وثمرتها : تحريم السخرية والاستهزاء بالمؤمنين ، وأن المؤمن لا نقص عليه في ضعف حاله.

سورة انشقت

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ).

قيل : أراد لا يخضعون. وقيل : أراد لا يضلّون.

قال في الكشاف : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم «فاسجد واقترب» فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رءوسهم ويصفرون فنزلت.

وعن أبي هريرة أنه سجد فيها وقال : والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسجد فيها.

وعن أنس صليت خلف أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فسجدوا فبهذا احتج أبو حنيفة بأنها واجبة ، والمذهب وهو قول الشافعي انها غير واجبة ، واستدلال أبي حنيفة بهذه على الوجوب يحتمل.

وعن الحسن : هي غير واجبة ، وعن ابن عباس : ليس في المفصل سجدة ، وقد تقدم طرف من هذا ، وقد قال في الشرح : إن عطاء بن يسار سأل أبيّ بن كعب هل في المفصل سجدة؟ قال : لا ، ويجب أن يكون المراد ليس فيه سجدة واجبة.

والقاسم والهادي والمؤيد بالله يقولون بعدم الوجوب ؛ لأنه قرئ ما فيه ذكر السجود ، فلا يجب السجود ، كما لو قرئ : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ

٤٩٩

وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، وقد جاء في الأثر أنه قرئ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النجم فلم يسجد.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ بالنجم فسجد ، فلما سجد مرة وترك مرة ، دل على عدم الوجوب.

سورة البروج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج : ٨٥]

لهذه ثمرتان : الأولى : حسن الصبر على القتل ونحوه وأن لا ينطق بكلمة الكفر ؛ لأنه قد ورد في القصة أن قوما آمنوا فاتخذ ملكهم أخاديد ، وأوقد فيها النار فمن لم يرجع أحرق ، وأن راهبا راودوه عن الرجوع عن الإيمان فأبى فقدّ بالمنشار.

الثمرة الثانية : أن الراضي بالفعل كالفاعل في أنه عاص ؛ لأنه قد روى أنهم كانوا فريقين فرقة حرقت المؤمنين في الأخاديد ، وفرقة قاعدة راضية. وقيل : القاعدة مؤمنون لكن لم ينكروا صنيع الكفار.

وعن أبي مسلم فكانوا شركاء في المعصية.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ)

لهذا ثمرتان : وهما : صحة التوبة عن الكفر والقتل ؛ لأنهم كفار ، وحصل منهم قتل المؤمنين.

الثانية : قبح المنع من الحق ، والإكراه على الباطل ، وهذا حكم مجمع عليه.

٥٠٠