تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

الاستحباب كما يقول العلماء فيمن لزمه دم الحج : استحب أن يكون بدنة ، وإن كان الواجب شاة.

وأما من قال : لا يلزمه شيء فإن الأصل براءة الذمة ، وما ورد في قصة إبراهيم عليه‌السلام لا يصح التعلق به ؛ لأن ذبح ولده كان مأمورا واجبا عليه.

وأما في حقنا فذلك محظور ، وأما من قال : ديته فمتعلق بما كان من حديث عبد المطلب أنه فدا ولده عبد الله بمائة من الإبل.

واعلم أن القياس السقوط ؛ لأنه أوجب معصية ، إلا الكفارة ، إن قلنا : إنها تلزم فيمن نذر بمعصية ثم إن استدلال أهل المذهب بحديث إبراهيم يتطرق إليه وجوه :

منها ما سبق أن ذلك واجب على إبراهيم لا على غيره ، ومنها أن ذلك كان خاصا في إبراهيم ؛ لأنه شريعة لأهل زمانه.

ومنها أن الواجب إما مقدمات الذبح أو أنه قد ذبح والتحم على ما سبق ، فلم يكن الفداء لنفس الذبح على ما سبق ، ثم إن أهل المذهب قيدوا الذبح بمكة أو بمنى فيقال : هذا شرط ، أو ليس بشرط بل لو أطلق أو قيد بغير الحرم من الدنيا ، استوى الحكم ؛ لأنه لم يرو أن إبراهيم عليه‌السلام قيد ، ثم إذا قلنا : إن الذبيح إسحاق ، وأنه ذبح الفداء بالشام هل يكون الذبح هناك ، كذلك في تعليلهم ما يقضي بأن النذر بالأجنبي كالنذر بذبح النفس والولد ؛ لأنهم عللوا إذا نذر بذبح أخيه أو مكاتبه أو أم ولده بأنه علق الذبح بمن لا يصح ذبحه ولا بيعه فأشبه الولد فهذا فرع.

الفرع الثاني : إذا نذر بذبح عبده أو أمته ما حكم ذلك.

قلنا : مذهبنا أنه يبيعه ويشتري به هديا إلى مكة ومنى على ما نوى وعللوا ذلك بأن الإنسان قد يقول : جعلت عبدي ذبائح بمنى ، بمعنى ثمنه

١٢١

فوجب أن يحمل على ما يصح ، وقد اشتمل على نوع من القربة لتعلقه بالحرم فوجب أن لا يبطل كما لا يبطل في النفس والولد.

قال في الكافي : وعند الناصر وسائر الفقهاء أنه لا شيء خلاف محمد ابن الحسن فإنه أوجب في الولد والمملوك دما.

واعلم أنه يرد على استدلال أهل المذهب أن يقال : إنه نذر بمعصية وذلك لا يلزم فيه الكفارة.

وقولكم : إنه يحمل على ما يصح وهو الذبح لما يشتري بثمنه مسلم إن أراد ذلك ، أو كان لا نية له وكان ذلك عرفا ، فأما إذا أراد نفس الذبح والمعصية فلا معنى لحمله على السلامة مع تصريحه بأنه أراد المعصية. والنذر بذبح الفرس إذا قلنا : إنها لا تؤكل كالنذر بذبح العبد ، ويتفرع على هذا لو نذر بذبح عبد الغير ، أو فرس الغير ، أو شاة الغير ، هل نقول : نذر بما لا يجوز منه ذبحه ، ولا بيعه ، أو يقال : إنه يباع في حال فيلزمه قيمته ، فهذا ينقض بالمكاتب ؛ لأنه يباع في حال ، وذلك حالة العجز ، هذا محل نظر.

قوله تعالى

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات : ١٢١]

قيل : المحسن من عصم نفسه من الردى ، وجاره عن الأذى ، وعبادته عن الريا.

قوله تعالى

(فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات : ١٤١]

يعني : قارع فكان من المدحضين ، أي من المغلوبين واختلف ما سبب القرعة ، فقيل أشرفوا على الغرق فرأوا أن يطرح واحد ليسلم

١٢٢

الباقون ، وقيل : رأوا حوتا يعرض لهم فقالوا فينا مذنب ، وقيل احتبست السفينة عن السير وعادتها إذا فيها عبد آبق ألا تجري ، وفي هذا إشارة إلى أن القرعة يعول عليها فيما التبس ، والشافعي أخذ بذلك في صور ، وفي ذلك إشارة أنه يراعي حفظ الجملة وتدفع أعظم المفسدتين بأخفهما ، ومالك قد قال بالمصالح المرسلة حتى قال : يقتل ثلث الأمة لصلاح ثلثيها.

وقد لاحظ صاحب قواعد الأحكام دفع الأعظم بالأخف في صور.

والمنصور بالله عليه‌السلام قد اعتبر أشياء من هذا ، وشبّه الإمام في تصرفه على العالم بمثابة ولي اليتيم يفعل الأصلح والأرشد ، ولو بجانب من الأموال.

قوله تعالى

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [الصافات : ١٤٣]

قيل : أراد من المصلين ، وعن بن عباس : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة وقيل : من الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح والتقديس ، وقيل : هو قوله في بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] وهذا ترغيب من الله عزوجل في إكثار المؤمن من ذكره.

قوله تعالى

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) [الصافات : ١٧٤]

أي : إلى حين ، قيل : إلى مدة يسيرة ، وقيل : إلى يوم بدر ، وقيل : إلى الموت ، وقيل : إلى يوم القيامة ، واختلف فقيل : هذه منسوخه بآية السيف ، وقيل : لا نسخ ولكن أراد تولية استخفاف وإهانة.

١٢٣

سورة ص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص : ٣]

المناص : المهرب والمنجى ، والمعنى : أن العذاب لما نزل بهم فزعوا إلى المهرب ، ولا منجى لهم.

وثمرة ذلك : أن توبة الملجى لا تصح.

قوله تعالى

(يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) [ص : ١٨]

قال في الكشاف : يعني في وقت الإشراق ، وهو حين تضحى الشمس ويصفو شعاعها ، وهو وقت الضحى.

وأما شروقها فطلوعها ، تقول : شرقت الشمس ولمّا تشرق.

وعن أم هاني : دخل علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلى صلاة الضحى وقال : «يا أم هاني هذه صلاة الإشراق».

وعن طاوس عن ابن عباس ، قال : هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ فقالوا : لا ، فقرأ : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) وقال : كانت صلاة يصليها داود عليه‌السلام

وعنه : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية.

١٢٤

وعنه : لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها في هذه الآية ، وكان لا يصلي صلاة الضحى ثم صلاها.

وعن كعب أنه قال لابن عباس : إني لا أجد في كتاب الله صلاة بعد طلوع الشمس ، فقال : أنا أعرفك ذلك في كتاب الله تعالى ، يعني هذه الآية.

ويجوز أن يريد وقت صلاة الفجر ، لانتهائه بالشروق ، ومنه : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) [الحجر : ٣٧] وقول الجاهلية : أشرق ثبير ، وهذه الدلالة جميلة ، والدلالة المبينة من السنة ، وقد سبق ذكر الخلاف.

قوله تعالى

(وَفَصْلَ الْخِطابِ) [ص : ٢٠]

قيل : العلم بالقضاء ، وقيل : البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، وقيل : هي لفظ أما بعد.

وقيل : ليس في كلامه لغو ولا هزل ذكره الحاكم رحمه‌الله.

قوله تعالى

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٢١ ـ ٢٥].

١٢٥

اعلم أنه تظهر ثمرات من معنى هذه الجملة ومن ذكر قصة داود ، أما معنى الآية فهذا استفهام ، ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع وتظهر.

وقوله : (نَبَأُ الْخَصْمِ) الخصم : يقع على الواحد والجمع.

وما ورد أنهما ملكان. قال الزمخشري : فلا يمتنع أنه قد صحبهما غيرهما ، وسماهما باسم الخصم لما كانوا في صورة الخصوم.

وقوله تعالى : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) أي : تصعدوا سوره وهو حائطه ، والمحراب مصلاه.

روي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة انسانين فطلبا يدخلان إليه فمنعهما الحرس ؛ لأن ذلك كان في يوم عبادته ، فتسوروا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : إن داود عليه‌السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء ، يوما للعبادة ، ويوما للقضاء ، ويوما للاشتغال بخواصه ، ويوما يجمع بني إسرائيل فيعظهم ، فجاءوه في غير يوم القضاء ، ومن فوق والحرس حوله ، ففزع منهم فقالوا : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا).

قال الزمخشري : وإنما جاز من الملائكة أن يخبروا عن نفوسهم بما لم يتلبسوا به ؛ لأن ذلك على جهة التمثيل والتصور ، كما يقول القائل في تصوير المسألة : زيد له أربعون من الغنم ، وعمرو له أربعون فخلطاها ، أو لي أربعون ولك أربعون فخلطناهما ، وحال الحول هل تجب فيها زكاة.

وقيل : معناه نحن كخصمين فحذف كاف التشبيه ، كما يقال : وجه القمر ، أي كالقمر ، قال الشاعر :

بدت قمرا ومالت حوطبان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا

١٢٦

وقوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ).

قيل : معناه لا تخف عن ابن عباس ، والضحاك.

وقيل : معناه لا تسرف عن السدي.

وقوله تعالى : (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي : إلى وسط الطريق وهو الحق.

وقوله تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي) قيل : هذا تمثيل إذ لا إخوة بين الملكين ، وقيل : إخوة الدين ، وهذا قول أكثر المفسرين ، ولهذا قالا : (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) ..

قالا : ذلك لعظم محلهما.

قال الحاكم : وقد يجوز مثل ذلك لسائر الحكام غير الأنبياء ، فلا يجوز لأمتهم أن يخاطبوهم بمثل ذلك.

وقيل : هما بشران تسورا المحراب ، قيل : هما أخوان من بني إسرائيل

وقوله تعالى : (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) [ص : ٣٢]

أكثر المفسرين أنه كنى بالنعجة عن المرأة ، وأنه أراد حقيقة العدد.

وقيل : لم يرد حقيقة العدد ، وإنما أراد التمثيل.

وعن أبي مسلم : أراد حقيقة النعاج لا النساء ، كما تفيده الحقيقة من اللفظ.

وقوله تعالى : (فَقالَ أَكْفِلْنِيها)

معناه : ملكنيها ؛ لأن المالك يكفل ما تحت يده.

وقوله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) عزه أي : غلبه. شعرا :

كأن القلب حين يقال يغدى

بليلى العامرية أو يراح

١٢٧

قطاة غرها شرك فباتت

تجاذبه وقد غلق الجناح

والمعنى حاجني حجاجا لم أقدر أن أورد عليه مثله ، وأراد بالخطاب مخاطبة المحتاج المجادل ، أو أراد وخطبها المرأة وخطبها يغلبني في الخطبة ؛ لأنه تزوجها دوني ، وقد قرئ وعازني من المعازاة وهي المغالبة.

وقوله تعالى : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) اختلف في كلام داود عليه‌السلام قيل : إنما ظلمه بعد اعترافه ، فجاء داود ، بقوله : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) وهو جواب لقسم محذوف أي والله لقد ظلمك.

وروي أنه قال : أريد أن آخذها منه وأكمل نعاجي مائة ، فقال داود عليه‌السلام : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا أشار إلى طرف الأنف والجبهة ، فقال : يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا ، أو أنت فعلت كيت وكيت ، ثم نظر داود فلم ير أحدا فعرف ما وقع فيه.

وقيل : في الكلام حذف تقديره : إن كان الأمر كذلك فقد ظلمك ، وقيل : بادر إلى التظلم قبل سماع الآخر ، فكان هذا ذنبا ، وقد جاء عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا علي لا تحكم على أحد الخصمين حتى تسمع ما يقول الآخر».

وقوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ)

قيل : جاء بهذا لأمرين ، وهما الترغيب في عادة الصلحاء ، والتنفير عن عادة الأكثر في البغي.

والثاني : التسلية للمظلوم وأن له في الأكثر أسوة ؛ لأنهم قد ظلموا.

وقوله تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ)

وقرئ (فتناه) بالتشديد للمبالغة.

١٢٨

قيل : لما كان الظن يداني العلم عبر به عن العلم ، أي : فتناه ابتليناه بامرأة أوريا هل يثبت أم يزل ، قيل : لما عرف أنهما ملكان.

وعن أبي مسلم لما علم خطأه بالقضية على أحد المدعين.

وقوله تعالى : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) قال في التهذيب : واختلفوا فقيل : لم يكن له ذنب ، وكان استغفاره انقطاعا إلى الله.

وقال الأكثر : بل له ذنب وهو صغير ، استغفر منه ، وإن كان مغفورا ، كقوله تعالى : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) وقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا).

وقيل : التوبة على الأنبياء واجبة من الصغائر لعظم موقعها في جنب ما أنعم الله عليهم.

وقال أبو هاشم : تجب التوبة لجبر ما نقص من الثواب.

وعن أبي علي : يجوز الإصرار عليها.

ثم اختلفوا ما كان ذنبه ، فقيل : إن أوريا خطب امرأة وكان أهلها رغبوا فيه ، وأرادوا تزويجها منه ، فبلغ داود عليه‌السلام ما رغّبه فيها فخطبها وزوجوها منه ، فعاتبه الله تعالى ، وهذا مروي عن أبي علي ، وهو منهي عن هذا في شريعتنا.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يسوم الرجل على سوم أخيه ، ولا يخطب على خطبته» ، ولكن إذا فعل فإن البيع يصح عند الأكثر».

وقال أهل الظاهر : إنه لا يصح ، ورواه في التهذيب ، عن الهادي.

وقيل : خطب أوريا ثم غاب لغزوة فزوجت من داود فاغتم أوريا غما شديدا فعاتبه الله تعالى على ذلك.

قيل : من خواص نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله أن قلبه إذا وقع فيه موقع لامراة لزم زوجها فراقها.

١٢٩

وقيل : تمنى أن تكون امرأة أوريا حلالا له فاتفق قتل أوريا فتزوج بها ، ولم يغتم عليه كما يغتم على أمثاله فعاتبه الله تعالى.

وقيل : كان في شريعته إنه إذا مات رجل وخلف امرأة فأولياؤها أحق بها إلا أن يرغبوا عنها ، فلما قتل أوريا خطبها داود ولم يخطبها أولياؤها لجلالة قدر داود ، وهيبته فعوتب.

وقيل : كان ذنب داود أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته.

قال الحاكم : ولم يتعمد داود الخطيئة ، ولكن ترك الاستدلال ، وكان يمكنه فهذه الوجوه ذكرها مشايخ المعتزلة ، وأنكروا ما يروى من حديث الحمامة ، وأنها دخلت على محرابه.

وقيل : إنها من ذهب فتبعها ليتحف بها ولده فطارت إلى كوة نظر منها امرأة أوريا ناشرة لشعرها ، كاشفة لثيابها ، وقد غطاها شعرها ففتن بها ، فأمر رئيس العسكر يخرج أوريا مع التابوت ليقتل ، فلم يزل كذلك حتى قتل فتزوجها داود وهي أم سليمان ، وقالوا : هذا من اختلاق الحشوية ، وقد روي عن علي عليه‌السلام أن من روى هذا الذي يرويه القصاص معتقدا صحته جلدته مائة وستين ؛ لأنه فرية على نبي فضوعف حدها.

وقوله تعالى : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) قيل : عبر بالركوع عن السجود وقد جاء ذلك شعرا :

فخر على وجهه راكعا

وتاب إلى الله من كل ذنب

قال في عين المعاني عن الخدري : رأيت في المنام كأني أكتب السورة فخر القلم ساجدا عند الآية فذكرته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسجد وأمر به.

وقيل : خر بعد ما كان راكعا ، واستشهد أبو حنيفة بالآية على أن الركوع في التلاوة يقوم مقام السجود.

١٣٠

وقيل : يجوز أن يريد وخر للسجود راكعا أي مصليا ؛ لأن الركوع يعبر به عن الصلاة.

قال في الكشاف : وروي أنه بقي ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة أو ما لا بد منه ، ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب من دمعه إلى رأسه ، ولم يشرب ماء إلا وثلثاه دمع ، وجهد نفسه راغبا إلى الله في العفو عنه حتى كاد يهلك ، واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له : ايشا على ملكه ، ودعا إلى نفسه ، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل ، فلما غفر له حاربه فهزمه.

وروي أنه نقش خطيئته في كفه لا ينساها.

وفي التهذيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خد الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كان الناس يعودون دواد يظنون أنه مريض ، وما به مرض إلا الحياء وخوف الله تعالى».

وعن الحسن : إن داود بعد ما أصاب الخطيئة كان يصوم الدهر ويقوم الليل كله ، ويقول : يا داود الخاطئ ، وقد جاء في الحديث أن داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ، فلعل ذلك قبل خطيئته ، وقد ظهرت الثمرات في شرح المعنى ، منها حسن الاستدلال على المراد ، وجواز احتجاب النبي والإمام على وجه لا يضر ، وجواز تصوير المقصود في غير موضعه ، وجواز الكناية باستعمال المجاز ، وأنه لا يجوز القضاء لخصم قبل أن يسمع كلام الآخر ، وأنه لا يخطب على خطبة الغير بعد المراضاة ، وأنه يجب عزل الشهوة عن الحق فيتألم لما يؤلم المؤمن ولو عاد إليه نفع.

ومنها أن لا يأخذ الإنسان إلا ما طابت به نفس الغير ؛ لأنه قد قيل : إن عادة أهل زمان داود الإيثار ، وأن من أعجبته امرأة سأل زوجها أن ينزل

١٣١

عنها ليتزوجها ، وأن داود لما أعجب بامرأة أوريا سأله النزول عنها فاستحى أن يرده فنزل عنها وتزوجها ، وهي أم سليمان عليه‌السلام ، فعوتب على عدم رد نفسه وشهوته ، حتى طلب من معه امرأة واحدة النزول عنها ومعه تسع وتسعون.

ومنها حسن الرجوع إلى النظر عند حصول الشهوة ، وقد جاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله يحب البصر النافذ عند مجيء الشهوات ، والعقل الكامل عند نزول الشبهات».

ومنها لزوم الاستغفار من الخطيئة ، والفزع إلى الطاعة ، والحزن لما فرط ، وتذكار ما سلف من الخطيئة.

ومنها استحباب سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية عند أبي حنيفة ، وإن ركع بدلا عن السجود جاز.

وقال الشافعي : ليس هاهنا سجود تلاوة.

حجة الشافعي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «سجد داود عليه‌السلام توبة ، ونحن نسجد شكرا».

وحجة أبي حنيفة أن ابن عباس سجد عند هذه ، وقال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسجد فيها.

وسجود الشكر مستحب عندنا والشافعي ، ورواية عن أبي حنيفة.

وقال مالك : والرواية الثانية عن أبي حنيفة يكره سجود الشكر ، حجتنا أخبار مترادفة ، منها حديث حذيفة لما وجده ساجدا فأطال السجود ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك : «إن جبريل أخبرني عن الله تعالى أنه قال : من صلى عليك صلاة صليت عليه».

وعنه عليه‌السلام أنه قال في سجدة «ص» : «سجد أخي داود توبة ، ونحن نسجدها شكرا لله».

١٣٢

وعن أبي بكر : كان صلّى الله عليه إذا أتاه أمر يسره خر راكعا ساجدا شكرا لله.

ولما وجد عليّ عليه‌السلام يد ذي الثدية خر ساجدا.

وعن أبي بكر أنه لما بلغه فتح اليمامة ، وقتل مسيلمة سجد لله ، وحجة مالك أن نعم الله على نبيه متوالية ، ولم يرو أنه سجد ، ولأن الإنسان لا يخلو كل وقت من نعمة.

ومنها : استحباب السجود عند التوبة ، وهي سجدة الخشوع والاعتراف بالذنب.

قوله تعالى

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) [ص : ٢٦]

لهذه الآية ثمرات :

منها اطلاق اسم الخليفة على النبي ؛ لأنه خلف من سبقه من الأنبياء.

وأما خليفة الله فقد تقدم ذكر الخلاف فيه ، وأن ظاهر كلام الزمخشري جوازه ، وأن المراد الولاة ، كمن يستخلفه بعض السلاطين ، وتقدم ما حكى النواوي من عدم الجواز.

ومنها : صحة الحكم وذلك إجماع ، وأنه مشروع ، وينقسم إلى واجب ومندوب ، ومكروه ، ومحظور ، ومباح.

ومنها أنه لا يبغي في حكمه هواه من كونه يحكم لرشوة ، أو شفاعة ، أو محاباة على رئاسة.

١٣٣

قال الحاكم : ولا ينفذ حكمه ؛ لأنه اتبع هواه ، وقد جاء في الحديث النبوي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إياكم والإفراد» الخبر المشهور.

قال في الكشاف : وعن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو للزهري : هل سمعت ما بلغنا؟ قال : وما هو؟ قال : بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ، ولا تكتب عليه معصية ، فقال : يا أمير المؤمنين : الخلفاء أفضل أم الأنبياء؟ ثم تلا هذه الآية.

والنظر هل يستخرج من هذه الآية تحريم الانتقال من مذهب إلى مذهب مساعدة للهوى لا لكونه أرجح ، أم لا ؛ لأن عمله بالهوى تبع للحق ، فدخل في الرخص ، والأقرب أن ذلك كالحكم.

قوله تعالى

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٨]

النزول

قيل نزلت في علي وحمزة وعبيدة ، وفي عتبة ، وشيبة ، والوليد ، لما تبارزوا يوم بدر.

وثمرتها وجوب التمييز بين المؤمن والكافر ، والمؤمن والفاجر في الموادة والموالاة ، وقد جاء في الحديث في أن مجلس المؤمن يكون أرفع من مجلس الذمي عند التحاكم ، ويحتمل أن يؤخذ من هذه الآية عدم التكافؤ بينهما في النكاح ، وما ثبت من المساواة في بعض الأحكام كالدية ونحوها فلدلالة تخصه.

قوله تعالى

(لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩]

قال الحاكم : اللام في ليتدبروا لام الإرادة ، أي يريد منهم التدبر.

١٣٤

وثمرة ذلك وجوب التفكر في آيات القرآن الكريم الذي يؤديه تدبره إلى معرفة التأويلات الصحيحة ، والمعاني الحسنة ، فيكون من جملة علوم الدين.

قال جار الله : من اقتنع بظاهر المتلو لم يحظ منه بكثير طائل ، وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحتلبها ، ومهرة نثور لا يستولدها ، النثور كثيرة الولد.

وعن الحسن : قد قرأ القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله حفظوا حروفه ، وضيعوا حدوده ، حتى أن أحدهم يقول : والله لقد قرات القرآن فما أسقطت منه حرفا ، وقد والله أسقطه كله ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل ، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة ، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء ، يريد بالوزعة منه له وازع أي : مانع.

ومن دعاء جار الله ، اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين ، وأعذنا من القراء المتكبرين.

ولقراءة القرآن آداب من مهماتها حضور القلب ، وتدبر ما انطوى عليه من منافع الدنيا والآخرة.

قوله تعالى :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) [ص : ٣٠ ـ ٣٣]

ثمرات : الآية أن الولد الصالح نعمة من الله ، وقوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجاع بالتوبة إلى الله تعالى ، والظاهر أن ذلك صفة لسليمان عليه‌السلام. وقيل : لداود فيجب شكر هذه النعمة.

١٣٥

ومنها أن ارتباط الخيل مشروع كما هو في شريعتنا.

قال في الكشاف : وروي أن سليمان عليه‌السلام غزا أهل دمشق والصابئين فأصاب ألف فرس.

وقيل : ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة.

وقيل : خرجت من البحر لها أجنحة فقعد يوما بعد ما صلى الأولى على كرسيه واستعرضها ، فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن ورد له من الذكر كان له بالعشي ، وهيب فلم يعلموه فاغتم لما فاته فاستردها وعقرها مقربا لله وبقى مائة فما في أيدي الناس من الجياد من نسلها.

وقيل : لما عقرها أبدله الله خيرا منها وهي الريح تجري بأمره ، وهذا هو الظاهر من أقوال المفسرين أنه عقرها.

قال الحاكم : ويحتمل أن يكون القربان في ذلك الزمان كذلك ، كما روي أن القربان كان تأكله النار ، ثم يكون للخيل عوض ذلك كما تكون للذبح إذا كان متعبدا به كما ذبح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الحديبية سبعين بدنة.

قال أبو علي والقاضي : ولم تكن صلاة العصر مفروضة في زمانه ، وإنما كانت نفلا ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يترك الفرض عامدا ، والنسيان للفرض حتى يكون تنفيرا ، وهذا محتمل النظر ؛ لأنه لا يجوز استمرار النسيان على النبي في الشرائع.

وأما النسيان والتنبيه عليه فجائز ، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما أنسى أو أنسّى لأبين» وقد نسي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى صلى جنبا.

وقيل : لم يرد ضرب رقابها وعراقيبها بالسيف ، وإنما مسح ذلك من الغبار حبّا لها ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والزهري ، وابن كيسان ، وقيل : أخذ يمسح ليعرف حالها كما يفعله أهل الخيل ، وهذا مروي عن أبي مسلم.

١٣٦

وقيل : مسح ذلك بالماء ، وقيل : وسمها في أعناقها وقوائمها لتكون حبسا في سبيل الله ، وإذا حمل ذلك على القتل ففي ذلك دلالة على جواز صيانة العبادة وحفظها بتلف المال ، أو يكون مما يقرب.

من ذلك ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قميصه حين لبسه ناسيا للإحرام.

وقيل : كان ذلك ، وأكل لحم الخيل مباح.

وأما في شريعتنا ففيه الخلاف المعروف ، وهل نسخت الإباحة كما هو المذهب لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل ، أو لم تنسخ كما هو قول أبي حنيفة والشافعي.

وقوله تعالى : (الصَّافِناتُ الْجِيادُ).

قال ابن قتيبة وأبو مسلم : أصل الصفون الوقوف ، والصافن الذي يقوم على ثلاث ويرفع الرابع ، قال الشاعر :

ألف الصفون فما يزال كأنه

مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقيل : الصافن الذي يجمع بين يديه.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار».

قال جار الله : أي واقفين كفعل خدم الجبابرة.

وقيل : الصافن الذي يقوم على ثلاث ويضع سنبكه الرابع على الأرض ، وقد جاء في الحديث النهي عن صلاة الصافن ، والجياد المسرعات ، وأراد وصفها حال وقوفها بالسكون مطمئنة ، وحال جريها كانت سراعا خفافا.

وقوله تعالى : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي).

هو المال ، ويطلق على الخيل وفي الحديث «الخير معقود في

١٣٧

نواصي الخيل» ومعنى : (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) ، قيل : أنبت بمعنى جعلته نائبا عن الطاعة.

وقيل : بمعنى لزمت ، ذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان : أن أحببت بمعنى لزمت ، قال الشاعر :

تبا لمن بالهون قد ألبا

مثل بعير السوء إذ أحبّا

قال جار الله : وليس بذاك.

وقيل : المعنى أحببت حبا للخير ، وقد يقال : حب المحبوب محبوب ، قال أبو الطيب :

والعشق كالمعشوق يعذب قربه

للمبتلي وينال من حوبائه

وقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ)

الظاهر أن المراد حتى توارت الشمس بالحجاب وهو الظلام.

قال جار الله : ومن بدع التفاسير أن الحجاب جبل دون جبل قاف مسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه ، والمروي عن ابن مسعود والحسن وأبي علي أن ذلك عبارة عن غروب الشمس أي حتى توارت الشمس.

وعن أبي مسلم : المراد حتى توارت الخيل بأن غابت من بصره.

وقوله : (رُدُّوها عَلَيَ).

قال أكثر المفسرين : أراد ردوا الخيل ، وقيل : أراد رد الشمس ، بأن أمر الله ملائكته الموكلين بالشمس بردها فصلى العصر في وقتها ، والأول أشهر.

وما يروى أنه ظلم أربعة عشرة من الخيل يقتلها فسلب الملك أربعة عشر يوما فضعيف.

١٣٨

قوله تعالى :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص : ٣٤ ، ٣٥]

اعلم أن هذه الآية الكريمة قد أفادت أن سليمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذنب ذنبا صغيرا واستغفر منه ، وأنه سأل ملكا لا يكون لغيره.

أما ذنبه فقد قال الحاكم قد روية روايات كثيرة وفيها اختلاف وفيها ما لا يجوز على الله تعالى ، ولا على أنبيائه ، والذي قاله علماؤنا وعلماء التفسير ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن سليمان عليه‌السلام قال : أطوف الليلة على مائة امرأة فتلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ولم يقل : إن شاء الله ، فطاف فلم تحبل إلا امرأة واحدة فولدت نصف غلام ، فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه بين يديه ، ولو قال : إن شاء الله كان كما قال ، فكان هذا الابتلاء لترك الاستثناء لمشيئة الله ، والجسد هو نصف الغلام.

وقيل : ولد لسليمان ولد فخاف سليمان من الشيطان أن يقتله ؛ لأن الشياطين أرادوا الاحتيال في قتله ، وقالوا : نخاف أن يعذبنا كما عذبنا أبوه فأمر سليمان السحاب أن تحمله ، وأمر الريح تحمل له الغداء فمات الولد وألقي ميتا على كرسيه ، فكان ابتلاؤه لخوفه من الشيطان فهوى الجسد ، وهو مروي عن الشعبي.

وقيل : بل ولد له ولد ميت جسد بلا روح ، فألقي على كرسيه عن أبي علي.

وقيل : ابتلي بمرض شديد فصار جسدا لا حراك له مشرفا على الموت ، كما يقال : لحم على وضم (١) عن أبي مسلم ، والتقدير : فألقيناه على كرسيه فحذف الهاء.

__________________

(١) الوضم هو صرف الجرار تمت

١٣٩

وأما ما يروى أن الشيطان أخذ خاتمه وقعد على كرسيه وطاف على نسائه وغير ذلك من الروايات ، وأنه وطء امرأة حال حيضها فسال منها الدم فدخل الحمام ووضع خاتمه فأخذه الشيطان.

وما يروى أن الله تعالى أمره أن لا يتزوج إلا من بني إسرائيل فتزوج من غيرهم فابتلي.

وما يروى أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر وأن بها ملكا عظيم الشأن لا يقوى عليه لتحصنه بالبحر ، فخرج سليمان بجنوده من الجن والإنس ، وحملتهم الريح فقيل : ملكها واصطفى بنته وهي أحسن الناس وجها واسمها جرادة ، وأسلمت وحبها وكان لا يرقى دمعها حزنا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فكتبت الصورة كصورة أبيها ، وكانت تغدو هي وولائدها يسجدن له كعادتهن في ملكه ، فأخبره آصف وهو وزير سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ، ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش له الرماد فجلس عليه تائبا إلى الله متضرعا ، وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما وأتاها الشيطان صاحب البحر وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس واسمه صخر على صورة سليمان ، فطلب الخاتم فتختم به وجلس على كرسيه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، وغير سليمان عن هيئته ، فأتا أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعلم أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال : أنا سليمان حثوا عليه التراب ، ثم عمد إلى السماكين يحمل لهم السمك ، فيعطونه كل يوم سمكتين ، فمكث على ذلك أربعين صباحا عدد ما عبد الصنم في بيته ، ولما أنكر آصف وغيره من عظماء بني إسرائيل حكم الشيطان طار وألقى الخاتم في البحر فشق سليمان السمكة التي جاءت له أجرة فأخرج الخاتم ،

١٤٠