تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

سورة الطارق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ)

ثمرة ذلك : وجوب النظر في تركيب الإنسان وابتداء خلقه ليعلم أن له صانعا قادرا ، عالما.

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ)

يعني : أن القرآن وما فيه من الوعد والوعيد قول فصل ، أي : حق ليس بهزل ، والهزل : نقيض الحق.

وثمرة ذلك : أن إقرار الهازل لا يصح ، فلو أقر على وجه الهزل والاستكبار ، وعرف كذبه ، وكذلك بأن يقر بقتل من علم أن قاتله غيره ، وما أشبه ذلك لم يصح بخلاف إنشاء العقود ونحوها ، فتصح بالهزل ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد ، النكاح ، والطلاق ، والعتاق».

قال العلماء : أراد عليه‌السلام تبيين أن هذه الأشياء كغيرها ، هذه فائدة تخصيصها ، وأما اقرار السكران فذكر الإمام محمد بن المطهر في المنهاج أنه يصح إقراره عند زيد بن علي كما صحح طلاقه ، وكذا ذكره الفقيه يحيى ابن أحمد ، والفقيه حسن في التذكرة أنه على الخلاف في طلاقه ، وفي مذهب الشافعي : إن سكر لمعصية صح إقراره ، كما يصح طلاقه.

وفي شرح القاضي زيد ، وتهذيب الحاكم في غير هذا الموضع أنه لا يصح إقراره بالإجماع ، وهو أحسن ؛ لأن الإقرار إخبار ، والسكران لا يصح منه قصد الإخبار ، فكان كالهازل.

قوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧]

قيل : معناه لا تدع بهلاكهم ، ولا تستعجل به.

٥٠١

وثمرة ذلك : أنه لا ينبغي استعجال العقوبة والنصرة ؛ لأن ذلك موقوف على الحكمة ، ومعنى (رُوَيْداً) أي : منتظرا للعذاب ، قال الشاعر :

رويدك حتى تنظري عم تنجلي

غمامة هذا العارض المتألق

سورة الأعلى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى).

المعنى : نزهه عما لا يليق به من المعاني مثل أن يفسر الأعلى بالعلو الذي هو القهر والاقتدار ، لا بمعنى العلو الذي هو ارتفاع المكان ، وأن يصان عن الذكر لا على وجه التعظيم والخشوع ، ويجوز الأعلى صفة للرب ، أو الاسم.

قال في الكشاف : وفي الحديث لما نزل : فسبح بسم ربك العظيم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزل : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اجعلوها في سجودكم» وكانوا يقولون في الركوع : اللهم لك ركعت ، وفي السجود : اللهم لك سجدت.

وقيل : الاسم بمعنى المسمى عن أبي علي ، نحو قوله :

إلى الحول ، ثم اسم السّلام عليكما.

وقيل : أراد قل سبحان ربي الأعلى عن ابن عباس وقتادة.

وقيل : نزه اسم ربك عن أن تسمي به سواه ، وقيل : صل باسم ربك ، وقيل : حسّن اسمه ؛ لأن حسن الاسم يدل على حسن الصفة ، وحسن الإفعال.

ثمرة ذلك : وجوب تنزيه الله ، وتنزيه أسمائه عما لا يليق ، وأن لا يسمى باسمه غيره ، وأن يسبح الله في الركوع والسجود ؛ لأن ذلك قد جاء في الخبر ، وهو قوله عليه‌السلام : «اجعلوها في ركوعكم ، واجعلوها في سجودكم»

٥٠٢

ولكن اختلف في حكم ذلك وصفته.

أما حكمه : فقال أحمد ، وأصحاب الظاهر ، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان : إن ذلك واجب.

وقال عامة الأئمة ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي : إن ذلك مستحب غير واجب ، وإن الأمر للندب ، وفعله عليه‌السلام على وجه الاستحباب.

والوجه أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للذي علمه الصلاة : «ثم اركع حتى تطمئن راكعا ، ثم اركع حتى تعتدل قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا» ولم يأمره بالتسبيح.

وروي أنه قال : فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك.

وأما صفته : فعند القاسم ، والهادي يقول في الركوع : سبحان الله العظيم وبحمده ، وفي السجود سبحان الله الأعلى وبحمده ، وذلك لوجهين : الأول : أن المروي عن علي عليه‌السلام أنه كان يقول ذلك.

الثاني : أنه ورد في ركعتي الفرقان.

وقال زيد ، والمؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي يقول في الركوع :

سبحان ربي العظيم ، وفي السجود : سبحان ربي الأعلى ، وذلك لوجوه ثلاثة : الأول : أنه ورد في الآية ذكر الرب.

والثاني : قد ورد في حديث حذيفة قال : كان رسول الله يقول في ركوعه : سبحان ربي العظيم ثلاثا ، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه سبحان ربي العظيم ، وإذا سجد فليقل في سجوده سبحان ربي الأعلى» وهذا نص.

وقد قال الإمام المهدي عليه‌السلام علي بن محمد في هذه المسألة : لا حكم للقياس مع وجود النص.

وقال الناصر في المختصر : إنه مخير.

٥٠٣

الوجه الثالث : أن في رواية المؤيد بالله في الأمالي في ركعتي الفرقان أنه يقول في السجود : سبحان ربي الأعلى ، وقد ذكر بعض المفرعين أن الهدوي إن سبح بتسبيح المؤيد بالله لم يسجد للسهو ؛ لأن ذلك قد ورد في الأثر ، وأشار إليه في تعليل الشرح ، وأن المؤيدي إن سبح بتسبيح الهدوي سجد للسهو.

قوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى)

قال العلماء ـ رضي الله عنهم ـ : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمور بالتبليغ والتذكير ، نفعت الموعظة أم لا ؛ لأن في ذلك ازاحة للعلة ،

فيقال : لم شرط هنا إن تنفع الذكرى؟ وأجيب بوجوه :

الأول : ذكره الزمخشري أن هذا بعد أن بلغ واستفرغ مجهوده في تذكيرهم ، وما ازدادوا إلا عتوا فتحسر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك ، فقيل له بعد ذلك تسلية له ، وتهوينا عليه : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) [الزخرف : ٨٩] ، (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى).

الجواب الثاني : ذكره جار الله وغيره : أن هذا ذم لهم كما يقال للواعظ : عظ المكاسين إن سمعوا منك استبعادا لذلك ، وأنه لن يكون.

وقيل : إن ذلك ليس بشرط ، وإنما هو إخبار بأنه ينفع لا محالة ، وأنه بمعنى إذ.

وقيل : ذلك حث على القبول ، كما يقول الناصح لغيره : قد نصحت لك إن قبلت. وعن أبي مسلم : إن رجوت.

وأما غير الرسول فلا يجب التذكير والوعظ ، إلا إذا ظن أو جوز التأثير لا إذا عرف بعلم أو ظن أنه لا يؤثر.

قوله تعالى :

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى : ١٤ ـ ١٥].

٥٠٤

النزول : قيل نزلت في صدقة الفطر ، وصلاة العيد ، عن أبي العالية ، وأبي سعيد الخدري ، وابن عمر ، وكان ابن عمر يقول لنافع يوم العيد : أخرجت صدقة الفطر؟ فإن قال نعم ، خرج إلى المصلى ، وإن قال لا قال أخرج ، فإنما نزل قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) في هذا المعنى.

وعن علي عليه‌السلام أنه تصدق بصدقة الفطر ، وقال : لا أبالي أن لا آخذ في كتابي غيرها ، لقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي : أعطى زكاة الفطر ، فتوجه إلى المصلى فصلى صلاة العيد ، وذكر اسم ربه فكبر تكبيرة الافتتاح.

وقيل : تزكى أي : تطهر من الشرك والمعاصي ، أو تزكى بمعنى تطهر للصلاة ، أو تكثر من التقوى من الزكاء الذي هو النمو ، وإخراج الزكاة مثل تصدق من الصدقة.

إن قيل : كيف يحمل على صدقة زكاة الفطر وصلاة العيد والسورة مكية ولم تكن في مكة زكاة فطر ولا صلاة عيد؟

قال الحاكم : يحتمل أنها نزلت بمكة ، وختم ذلك بالمدينة ، أو أنها نزلت بالمدينة ، كما قال الضحاك.

وقال ابن عباس : إنها مكية ، ولهذا ثمرات :

الأولى : وجوب صدقة الفطر ؛ لأنه قد فسر ذلك عدة من الصحابة.

الثاني : لزوم صلاة العيد ، وأنها فرض عين ، وهذا رواية محمد بن القاسم عن أبيه ، وحكاه الوافي عن القاسم ، والهادي ، وأبي العباس ، وحكاية التقرير عن الأخوين ، والمنصور بالله ، ورواية عن الحنفية في (شرح الإبانة) ، ويحتج بهذه الآية ، وبقوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وأراد صلاة العيد ، ونحر الأضحية على أحد التأويلات ، والاستدلال بذلك محتمل على ما سيأتي ، ورواية علي بن العباس عن القاسم وهو الذي رجحه أبو طالب ، وأحد قولي الشافعي ، والكرخي أنها فرض كفاية ، كصلاة الجنازة.

٥٠٥

وقال زيد ، والناصر ، وصحح لمذهب الشافعي ، وأشار إليه المؤيد بالله ، واختاره الإمام يحيى : إنها سنة ؛ لأن أقل ما يرد التعبد به أنه السنة ، واختلف بعد ذلك هل يشترط المصر؟ وظاهر المذهب ورواية الشرح عن المؤيد بالله أن المصر غير شرط.

وعن زيد بن علي ، والباقر ، والحنفية ، ورواية أبي جعفر عن المؤيد بالله : المصر شرط ، وأدلة ذلك المفصلة من السنة.

الثمرة الثالثة : أن تكبيرة الافتتاح واجبة ؛ لأنه قد فسر قوله تعالى :

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) تكبيرة الافتتاح ، وجعل تعالى ذلك سببا للفلاح ، وهو مجمع عليها ، إلا ما روي عن نفاة الأذكار ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن علمه الصلاة : «توضأ كما أمرك الله ، ثم استقبل القبلة وقل الله أكبر» ونفاة الأذكار فسروا الذكر بشيء غير التكبيرة تكون قبلها ، وقد احتج أبو حنيفة أن الافتتاح يكون بكل اسم من أسمائه.

وقلنا : إن التكبير شرط على ما تقدم للخبر ، واحتج المؤيد بالله وأبو حنيفة أنها ليست من الصلاة ؛ لأن الفاء للتعقيب فجعله مصليا عقب ذكره اسم ربه.

وقال الهادي عليه‌السلام والشافعي : إنها من الصلاة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما هي التكبير والتسبيح وقراءة القرآن». وعن ابن عباس : في معنى : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي : ذكر معاده ووقوفه بين يديه فصلى له. وعن الضحاك : وذكر اسم ربه في طريق المصلى ، فصلى صلاة العيد.

سورة الغاشية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)

ثمرتها : وجوب النظر ، في هذه الآيات ليستدل بها على أن لها صانعا قادرا ، عالما حيا ، موجودا.

٥٠٦

وعن سعيد بن جبير : لقيت شريحا القاضي فقلت : أين تريد؟ فقال :

أريد الكناسة وهي موضع بالكوفة ، فقلت : وما تصنع بها؟ قال : انظر إلى الإبل كيف خلقت.

قوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢١ ـ ٢٢]

ثمرة ذلك : وجوب الدعاء والأمر بالمعروف وأما قوله تعالى : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) قيل : معناه بمكره أو بمجبر ، لكن اختلفوا فقيل : هذا منسوخ بآية السيف ، والاستثناء منقطع ، أي لكن (مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) فإن الله يعذبه.

وقيل : ليس بمنسوخ ، والمراد ويقاتل.

وقيل : هو كقوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق : ٤٥] والاستثناء متصل أي إلا من كفر فإنك تقاتله. وقيل : القتال ليس بإكراه.

سورة الفجر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى :

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا) [الفجر : ١٥ ـ ١٦].

قيل : نزل ذلك في أمية بن خلف امتحنه الله بالنعمة ، فظن أن ذلك إكرام له وتعظيم له ، ولم يشكر ، وضاق عليه رزقه فظن أنه أهانه ، فقال : أهانني ، واستخف بي ، فردعه الله تعالى عن ذلك بقوله : (كَلَّا).

وثمرة ذلك وجوب الاعتقاد بأن الرزق قلته ليس بإهانة من الله فقد يضيق على المؤمن لمصلحة ، وكثرته ليس بإكرام من الله فقد يوسع على الكافر لمصلحة.

٥٠٧

قوله تعالى :

(بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر : ٨٩].

ثمرة ذلك : وجوب إكرام اليتيم وحسن رعايته في نفسه وماله ، وقد كرر الله تعالى ذكره ، وإنما خصه بالذكر ؛ لأنه محتاج إلى غيره لضعفه ، وتدل الآية على وجوب رعاية حق المسكين.

وقوله تعالى : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا)

قيل : اللمم الذي يأكل ما يجد ، لا يميز بين الحلال والحرام.

وقوله : (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا).

أي : كثيرا ، ولفرط الحرص تجمعونه من غير وجهه.

قيل : أراد بالتراث الميراث ، وقيل : أراد مال اليتامى عن أبي مسلم.

قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر : ٨٩].

النزول : قيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب حين استشهد في أحد ، وقيل : في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة ، وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك ، فحول الله وجهه نحوها ، فلم يستطع أحد أن يحولها.

قال الزمخشري : فالظاهر العموم.

وفي عين المعاني قيل : في أبي بكر ، عن ابن عباس ، وقيل : في عثمان عن الضحاك ، حين تصدق ببير رومة ، والمعنى أن الله تعالى يقول ذلك إكراما له ، إما على لسان ملك كما كلم موسى ، والمطمئنة هي الآمنة التي لا يلحقها خوف ، أو المطمئنة إلى الحق.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : والتكريم إما عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة.

٥٠٨

وقوله : (إِلى رَبِّكِ) أي إلى موعد ربك (راضِيَةً) بما أوتيت (مَرْضِيَّةً) عند الله.

وقوله : (فِي عِبادِي) أي : في جملة عبادي المؤمنين ، وقيل : النفس الروح ، ومعناه فادخلي في أجساد عبادي ، وفي قراءة ابن مسعود : فادخلي في جسد عبادي ، وفي قراءة ابن عباس : فادخلي في عبادي.

وثمرة ذلك : الترغيب في سبب هذا القول ، وهو الشهادة ، أو الصدقة ، أو غير ذلك.

سورة البلد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى :

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) [البلد : ١١ ـ ١٨].

المعنى : لما بين الله تعالى أنه هداه النجدين وهما طريق الخير والشر على الأصح قال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) والاقتحام هو الدخول في الشيء بشدة ، مثل الولوج ، والعقبة التي ترتقي على صعوبة ، فمثل الله سبحانه طريق الخير لصعوبتها بالعقبة ، ثم بينها وأنها فك رقبة ، أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، أي : مجاعة ، وأن يكون (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) يعنى : بالرحمة ، وفي ذلك أقوال :

الأول : أنه إخبار ؛ لأن (لا) متى أضيف (١) إلى الماضي أريد به

__________________

(١) أي : ضمت إلى الماضي وقرنت به.

٥٠٩

الخبر ، والمعنى إن لم يشكر تلك النعمة فلم يقتحم تلك العقبة ؛ بأن يفعل الأعمال الصالحة من فك الرقاب ، وإطعام الطعام إلى آخره ، وهذا هو الظاهر.

الثاني : أنه استفهام أي : هل اقتحم تلك العقبة ففعل هذه الأشياء.

والثالث : أنه دعاء بمعنى لا اقتحم العقبة يعني : لا يخرج منها إلى السهل والرخاء مثل ما ورد في حديث الجمعة : «فلا جمع الله شمله» وكما يقال : لا غفر الله له.

وثمرة ذلك أمور : الأول : الحث على مجاهدة النفس في عمل الطاعة واجتناب المعاصي ، وقمع الهوى.

الثاني : بيان فضل فك الرقبة وهو تخليصها من رق أو غيره ، وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دلني على عمل يدخلني الجنة؟

فقال : «تعتق النسمة ، وتفك الرقبة» قال : أو ليسا سواء؟ قال : «لا ، إعتاقها أن تنفرد بعتقها ، وفكها أن تعين في تخليصها من قود أو غرم».

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : والعتق والصدقة من أفاضل الأعمال ، وعن أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ العتق أفضل من الصدقة ، وعند صاحبيه : الصدقة أفضل.

قال : والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقديم العتق على الصدقة.

وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة أيضعه في قرابته ، أو يعتق به رقبة ، قال : الرقبة أفضل ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضوا منه من النار».

وقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ)

معناه : أنك لم تدرك صعوبتها وكنه ثوابها ، والمسغبة المجاعة ، وسئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله تعالى : (ذا مَتْرَبَةٍ) فقال : «الذي مأواه المزابل».

وقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا).

٥١٠

جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة في الفضيلة على العتق والصدقة ، وإن كان الإيمان هو السابق في الوقت ؛ لأنه لا يثبت عمل صالح إلا به ، وخص ذا المقربة ؛ لأن في ذلك صدقة وصلة ، ومن ذلك الأمر بالمعروف ، ولقوله تعالى : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي : أمر بعضهم بعضا بالصبر والتراحم ، وأراد الصبر على الطاعات وعن المعاصي ، وعلى المحن.

سورة الشمس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ٩]

أي : زكى نفسه بالأعمال الصالحة.

(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي : دس نفسه بالأعمال القبيحة ، ودس : نقيض زكى ، وقيل : الضمير يرجع إلى الله تعالى أي : من زكاها الله ، ومن دساها الله.

والمعنى : على قول المعتزلة : حكم بتزكيتها وتدسيسها ، والجبرية يأخذون بظاهره أن الفعل لله ، وفي دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها فأنت خير من زكاها» والمعنى على قول أهل العدل سؤال اللطف والتوفيق.

قوله تعالى :

(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها) [الشمس : ١٤].

أضاف العقر إليهم لما رضوا به ، وإن كان العاقر واحدا وهو قدار بن سالف ، فهم كالرذلة هذا.

ثمرته : أن الراضي بالفعل كالفاعل ، فلو فرض أن الرضاء بالفعل القبيح لدفع ضرر عنه ، أو جلب نفع كان يرضى رجل بقتل رجل هو يرثه فيرضى بقتله لأجل يرث منه ، أو كان يحمل مئونته فيرضى بقتله لسقوط

٥١١

المؤنة وما أشبهه (١) ، هذا مع أنه ما أعان على قتله بقول ولا فعل ، فهل يكون رضاؤه بالقتل معصية ، أو نقول : لمن يرض بالقتل ، بل لحصول النفع ، أو دفع المضرة ؛ لأنه كان يرضى بموته بدلا من القتل ، سؤال (٢) ...

سورة الليل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى)

المراد : بخل بما يجب عليه

قوله تعالى : (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى)

أي : يتطهر به من الذنوب.

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى)

ثمرة ذلك : أنه لا يستحق الثواب إلا إذا فعل الواجب لوجه الله تعالى ، ولكونه طاعة ، فلو فرض أنه أعطى زكاته الإمام ليكون له حظا عنده أو ليؤمنه في الطرق ، أو نحو ذلك ، أو أعطى الفقير الزكاة لكونه يضيفه ، أو ينفعه في المستقبل ، بحيث يعرف من نفسه أنه إن لم يحصل الغرض الدنيوي لم يدفع إليه الزكاة ، فهاهنا لا يجزئه ولا يثاب ، فإن أعطاه لإحسان نظر ، فإن كان لا يستحق عليه المجازاة فقد قيل : إنه يجزئه ؛ لأنه قصد الزكاة والطاعة ، وجاز الإحسان بالإحسان ، وليس بقضاء شيء في ذمته ، والآية تقتضي النفي.

__________________

(١) في نسخة (وما أشبه هذا ، مع أنه) الخ.

(٢) بعد السؤال بياض في الأصلين (أ) و (ب) قدر سطر تقريبا.

٥١٢

سورة الضحى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى)

قيل : أراد ضالا عن الشرائع التي طريقها السمع ، كقوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٤٢] وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) [يوسف : ٣] وقوله تعالى : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠] وليس ذلك لمعصية.

وقيل : ضل [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] في صغره في بعض شعاب مكة ، وقيل : ضل مع حليمة في بني سعد.

قال الحاكم : لكن لا يجوز أن يطلق عليه اسم الضال ؛ لأنه يوهم الضلال عن الدين.

وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) يعني : فقيرا.

قيل : أغناه بمال خديجة ، وقيل : بغنائم.

وثمرة ذلك : جواز التجارة ، وإباحة الغنائم ، ولهذا قال عليه‌السلام : «جعل رزقي تحت ظل رمحي» وقيل : قنعك فأغنى قلبك.

وثمرة ذلك : الحث على قنوع القلب ، وقيل : أغناك بالقرآن وبالعلم.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من لم يغنه القرآن فلا أغناه الله ، ومن لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله» روى ذلك الحاكم.

قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).

ثمرة ذلك ثلاثة أمور : الأول : أنه لا يقهر اليتيم ، ومعناه لا يقهره على ماله ، وخصه لضعفه ، وفي قراءة ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ (فلا تكهر) ، وهو أن تعبس في وجهه ، وفي حديث معونة بن الحكم قال :

٥١٣

صليت خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعطس فشمّته فرماني القوم بأبصارهم ، فلما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمي وأمي ما رأيت مثله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فو الله ما كهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني ولكن قال : «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس».

قال في الشرح : ولا خلاف أنه لا يجوز تشميت العاطس وهو في الصلاة وهو قوله : يرحمك الله ، ويجوز بالسين المهملة ويكون دعاء له بحسن السمة ، والمعجمة وهو الدعاء له بما يزيل عنه الشماتة.

وقوله بأبي وأمي هذه المسألة وهو التفدي بالأبوين : قال القاضي عياض : ذهب جمهور العلماء إلى جوازه ، سواء كان المفدى به مسلما أو كافرا ، وكذلك قال النواوي : المذهب الصحيح المختار أنه لا كراهة فيه ، وفي قوله : جعلني الله فداك ، وقد تظاهرت بذلك الأخبار المشهورة في الصحيحين وغيرهما ، وكره ذلك بعض العلماء إذا كانا مسلمين ، وكره مالك بن أنس جعلني الله فداءك ، وأجازه بعضهم.

وفي الحديث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ـ وأشار بالسبابة والوسطى». وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خير بيوتكم بيت فيه يتيم مكرم».

وعن عمر : إذا بكى اليتيم اهتز العرش ، ويقول الرب : ملائكتي من أبكى اليتيم هذا الذي غيبت أباه في التراب؟ فيقولون : أنت أعلم ، فيقول : ملائكتي أشهد أن لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة ، فكان عمر إذا رأى يتيما مسح رأسه وأعطاه شيئا.

الثاني : قوله : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) والمراد إعطاؤه ، أو رده بالجميل.

قال في الكشاف : وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رددت السائل ثلاثا ، فلم يرجع فلا عليك أن تزبره.

وعن إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السّؤّال يحملون زادنا إلى الآخرة.

٥١٤

وقيل : أراد بالسائل طالب العلم لا تنهره ، عن الحسن.

وقيل : وأما السائل عني فدله عليّ. قال أبو علي : المراد جميع المكلفين ، وإن كان الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والثالث : ما يتعلق بقوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : والتحدث بنعمة الله شكرها ، وإشاعتها ، والمراد ما ذكره الله تعالى من نعمة الإيواء ، والهداية ، والإغناء ، وذكر الأصم أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يختم مجالسه ويقول : كنت يتيما فآواني الله ، وكنت ضالا فهداني الله ، وكنت فقيرا عائلا فأغناني الله ، وتأول الآية على ذلك.

وفي الحديث عنه عليه‌السلام : «التحدث بالنعم شكر».

وعن مجاهد : أراد بالقرآن ، أي : حدث به ، معناه تقرئه ، وكان الحسن بن علي يقول : إذا علمت خيرا فحدث به إخوانك.

وأما التحدث بما فعل من الطاعات فقد ذكرناه فيما تقدم.

قال في الكشاف : وعن عبد الله بن غالب أنه كان إذا اصبح يقول : رزقني الله البارحة خيرا ، قرأت كذا ، وصليت كذا ، فإذا قيل له : يا با فراس أمثلك يقول مثل هذا فيقول : قال الله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وأنتم تقولون : لا تحدث بنعمة الله.

قال جار الله : وإنما يجوز مثل هذا إذا قصد أن يقتدي به غيره ، وأمن على نفسه الفتنة ، والستر أفضل ، ولو لم يكن فيه إلا التشبه بأهل الرياء لكفى به.

وفي قراءة علي ـ رضي الله عنه ـ (فخبر) ، فلو كتم ما أنعم الله عليه به من الرزق لغرض نحو الخوف من السرق ، أو من أن يعان ، أو من أن يحسد لا أنه منكر لنعمة الله فلا حرج في هذا ، فإن كتم خشية أن يمنع من الزكاة ولم يحصل منه كذب ولا إظهار جوع بل مجرد الإخبار فلعل ذلك جائز.

٥١٥

سورة ألم نشرح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)

هو استفهام بمعنى التقرير ، والمعنى : فسبّحناه حتى وسع هموم النبوة ، ودعوة الثقلين ، أو احتمل المكاره ، أو فسحناه بما أودعناه من العلوم. وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ : ملئ حكمة وعلما.

وقوله تعالى : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ).

أراد ما وضعه عنه من الثقل ، وهو ما كان يغمه من فرطاته قبل النبوة ، ومن جهله بالشرائع ، ومن تهالكه على إسلام ذوي العناد ، والوضع : أن غفر له ، وعلّم الشرائع ، ومهد عذره بعد ما بلّغ.

وأنقض معناه سمع صوت الانتقاض والانفكاك ، وهذا مجاز وتشبيه

وقوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ).

قيل : معناه قرن ذكره بذكر الله في الشهادة ، والأذان ، والإقامة والخطب ، وفي كثير من مواضع القرآن ، نحو : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٧١] شعر :

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه

إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وقد جاء في الحديث : «حالتان يذكر الله ولا يصلى عليّ ، عند الأكل ، وعند الجماع».

قال الحاكم : قيل فكيف يحسن الامتنان بالنعم من أكرم الأكرمين ، يعني لأن الله تعالى قد ذكر تعداد النعم ، نحو ما ذكره في هذه ، وفي الضحى نحو : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) وأجاب بوجوه ثلاثة :

الأول : أنه إن كان قصد أنه ينقطع إليه في امتنانه حسن.

وقيل : إنما تكون المنة مذمومة لما فيها من المشقة على النفس ،

٥١٦

وأما من الخالق فلا مشقة على المنعم عليه بذكر الله نعمه.

وقيل : إنما ذكرت تنبيها على الشكر ، ليحصل المزيد فيكون غاية الجود.

وقال غيره : إن المن المذموم تعداد النعم على جهة التقريع ، وما كان من جهة الله لم يرد به ذلك ، وفي كلام بعض الموحّدين يا منان غير منان أي يا معطي غير مقرع.

قوله تعالى :

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً).

ثمرة ذلك : أن النكرة لما كررت وكان المراد بالجملة الثانية الاستئناف افادت المغايرة ، وأنهما يسران ، والمعرّفة لا تفيد المغايرة ؛ لأن الألف واللام إما للعهد وإما للجنس ، وقد روي عن ابن عباس وابن مسعود : لن يغلب عسر يسرين ، وروي ذلك مرفوعا ، وأنها لما نزلت خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يضحك ويقول : «لن يغلب عسر يسرين» وهذه عدة من الله تعالى لنبيه أن بعد الضيق الذي كان فيه هو وأصحابه يتغير الحال إلى السعة ، ويجوز أن يريد ما حصل من الفتوح في أيامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأيام الصحابة ، وأن يريد يسر الدنيا ويسر الآخرة ، ويكون نظيره قوله تعالى : (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة : ٥٢] وهما حسن الظفر ، وحسن الثواب ، ولبعضهم :

توقع إذا ما غزتك الخطوب

سرورا يسردها عنك قسرا

نرى الله يخلف ميعاده

وقد قال إن مع العسر يسرا

وقد ذكر مسألة : وهي إذا قامت البينة أن رجلا أقر لغيره بمائة دينار في مكان ، ثم شهد هؤلاء الشهود أو غيرهم أنه أقر بذلك المقر له أولا بمائة دينار ، ولم تحصل الإضافة إلى سبب في الإقرارين ، فقال الهادي عليه‌السلام في المنتخب وأبو حنيفة : إنه يلزم مائتان ؛ لأن النكرة إذا

٥١٧

تكررت أفادت المغايرة ، واحتجوا بهذه الآية ، وبأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نزلت قال : «لن يغلب عسر يسرين».

وقال الهادي في الفنون ، والناصر ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد : لا تلزم إلا مائة واحدة ؛ لأن الخبر قد يتكرر ، والمائة الثانية يحتمل أن تكون الأولى ، ويحتمل أن تكون غيرها ، والأصل براءة الذمة.

قوله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ).

ثمرة ذلك : أنه يكره الفراغ ، وألا يشتغل المرء إلا بعبادة ربه ، وبامر معاشه ، وفي الخبر : «إن الله تعالى يبغض الصحيح الفارغ».

وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : إني لأكره أن أرى أحدكم فارغا سبهللا ، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة ،

وقد ذكر في تفسير ذلك وجوه :

أحدها : فإذا فرغت من عبادة فاشتغل بعبادة أخرى.

الثاني : عن ابن عباس فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء.

الثالث : عن الحسن فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة.

الرابع : عن مجاهد فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك.

وما روي عن بعض الرافضية أنه قرأ بكسر الصاد ومعناه فانصب عليا عليه‌السلام للإمامة.

قال الزمخشري : لو صحح هذا للرافضي يصح للناصبي أن يقول : هو أمر بنصب العداوة لعلي عليه‌السلام.

وقوله تعالى : (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ).

أي : اجعل رغبتك إليه خصوصا ، ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه.

٥١٨

سورة التين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ).

صح أنهما الشجرتان المعروفتان ، وروي أنه أهدي إليه عليه‌السلام طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه : «كلوا ، فلو أن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه ؛ لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها ، فإنها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس».

ومر معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيبا فاستاك به ، وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة تطيب الفم ، وتذهب بالجفرة (١) ، وسمعته يقول : هو سواكي وسواك الأنبياء قبلي».

وقوله تعالى : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ).

أراد به مكة ، وأمانته أنه يحفظ من دخله ، كما قال تعالى : (حَرَماً آمِناً) [القصص : ٥٧].

سورة اقرأ (العلق)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى :

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)

ثمرة ذلك : حسن الافتتاح لقراءة القرآن ، بسم الله الرّحمن الرّحيم ؛ لأن المعنى : اقرأ مفتتحا ببسم الله ، وهذا أمر ندب في غير الصلاة ، وأما في الصلاة فكذلك في غير الفاتحة من سائر السور ، فلو قرأ من وسط

__________________

(١) الجفرة : فساد في أصول الأسنان.

٥١٩

السور فالمذهب أنه تستحب البسملة ، ذكره المرتضى ، وقالت القراء : لا تستحب ، ورجحه الإمام يحيى ؛ لأنهم أعرف بآداب القرآن ، وحجة المرتضى أن عادة المسلمين قد جرت بذلك.

وأما الفاتحة فإنه يفتتح بالبسملة عندنا ، وأبي حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي ، لكن عندنا والشافعي في كل ركعة ، وعند أبي حنيفة في الركعة الأولى ، وعند مالك لا تقرأ البسملة في الفريضة ، ويجوز قراءتها في النافلة.

وسبب الاختلاف أن الأخبار اختلفت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففي حديث أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين ، فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم ، فإنها إحدى آياتها» وأخبار كثيرة بنحو هذا ، وفي النهاية في حديث ابن مغفل قال : سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال : يا بني إياك والحدث ، فإني صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر ، وعمر فلم اسمع رجلا منهم يقرؤها.

قال في النهاية : قال أبو عمر بن عبد البر : ابن مغفل : رجل مجهول.

قوله تعالى : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)

ثمرتها : ما ذكر الله من التنبيه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو ، وما دونت العلوم إلا بالكتابة ، ولو لا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا ، فعلى هذا يكون من العلوم الدينية التي يجب تعلمها ، ويكون من فروض الكفايات.

ولجار الله ـ رحمه‌الله ـ :

ورواقم رقش كمثل أراقم

قطف الخطا نيّالة أقصى المدى

سود القوائم ما يحد مسيرها

إلا إذا لعبت بها بيض المدى

٥٢٠