تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

قال جار الله : ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام والقرابات ، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان. قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)

وذلك : بالإحسان ، والشفقة ، والنصيحة ، وإفشاء السّلام عليهم ، وعيادة مرضاهم ، وشهود جنائزهم ، ومراعاة حق الأصحاب ، والخدم ، والجيران ، والرفقاء في السفر ، وكلما تعلق بهم بسبب حتى الهر والدجاجة.

وعن الفضل بن عياض أنه قال : إن العبد إذا أحسن الإحسان كله ، وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين.

الرابعة : قوله : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ). أي : يخافون عقابه ، وقد كرر الله تعالى الوعد بالخيرات لمن خشي ربه نحو ما ذكر في سورة (لم يكن) لقوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة : ٨] ، والخشية الحقيقة لا تكون إلا مع العلم به تعالى ، ولهذا قال : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨].

الخامسة قوله : (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) أي : المناقشة.

وقيل : عدم القبول للطاعة ، التكفير للمعصية ، وفي هذا إشارة إلى أن العبد يحاسب نفسه ، وعليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا».

وقد جعل العلماء ـ رحمهم‌الله ـ المحاسبة للنفس من شروط الورع ، وقسموا المحاسبة إلى درجات ، وقيل : عقيب كل فعل وكل ساعة ، أو في كل وقت صلاة ، أو عند النوم.

السادسة : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ).

والصبر يكون على فعل الطاعة ، فيدخل في ذلك الجهاد ، ويكون على فعل المعصية ، ويكون على النوائب.

٨١

قال الغزالي : والصبر عن المعصية أفضلها.

وروي في المنتخب من الأحياء عن ابن عباس أن الصبر على ثلاثة أوجه : صبر على أداء فرائض الله فله ثلاثمائة درجة.

وصبر عن محارم الله وله ستمائة درجة.

وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى : فله تسعمائة درجة.

واعلم أن الصبر من أعظم ما تظاهرت به الآيات والأخبار ، وقد ذكره الله تعالى في كتابه الكريم في نيف وسبعين موضعا ، وتكاثرت فيه الأخبار.

وفي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل ما الإيمان؟ فقال : «الصبر» وهو يشبه قوله عليه‌السلام : «الحج عرفات» وهو ينقسم إلى صبر على الطاعة ، وعلى المصيبة ، وعن المحرمات.

وقال بعض العارفين : أهل الصبر على ثلاث مقامات :

أولها : ترك الشكوى ، وهذه درجة التائبين.

والثانية : الرضا بالمقدور ، وهذه درجة الزاهدين.

والثالثة : المحبة لما يصنع به مولاه ، وهذه درجة الصديقين.

وهاهنا دقيقة : وهي أن يقال : بما ذا تنال درجة الصابرين في المصائب وليس الأمر إلى اختياره ، فإن كان المرجع بذلك أن لا يكره المصيبة فذلك غير داخل في اختياره؟

وأجاب الغزالي : بأنه إنما يخرج عن مقام الصابرين بالجزع من نحو شق الجيب ، وضرب الخد ، والمبالغة في الشكوى ، وإظهار الكراهة ، فينبغي أن تجتنب جميعها ، ويظهر الرضاء بقضاء الله ، ولا يظهر الكآبة ، ولا يغير حاله في مطعم ولا ملبس ، وهذه داخلة تحت مقدوره.

وقوله تعالى : (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) لأن كل عمل يقع على وجوه ، فعلى المكلف أن ينوي بها ما كان حسنا عند الله ، وإلّا لم يستحق به ثوابا.

٨٢

وفي هذا فائدة وهي اشتراط النية في الصبر فلا يكون صبره ليقال : ما أحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل ، ولا يكون صبره لئلا يعاب عند الجزع ، ولئلا يشمت به الأعداء ، وهذا كقوله :

وتجلدي للشامتين أريهم

أني لريب الدهر لا أتضعضع

السابعة : قوله : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ).

أراد أداها. ودلالتها مجملة.

الثامنة : قوله : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً).

قيل : أراد الفرض ،. واختلفوا ما الأفضل فيه؟

فقيل : الإخفاء لبعده من الرياء ، وقيل : العلانية ليزيل التهمة ، وليقتدى به.

وقيل : أراد مجموع الأمرين ؛ لأن العلانية أفضل في الفرض ، وهو المراد بقوله : علانية السر أفضل في النفل ، وهو المراد بقوله : سرا ، وهذا تفسير جار الله.

وقيل : السر أعطاها بنفسه ، والعلانية أعطاها الإمام.

وعن أبي علي : أراد الزكاة والحقوق الواجبة.

التاسعة : قوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ).

في تفسير ذلك وجوه :

الأول : عن ابن عباس : المراد أنهم يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيّئ غيرهم.

الثاني : عن الحسن إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا.

٨٣

الثالث : عن ابن كيسان (إذا أذنبوا تابوا).

الرابع : أراد إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره ، ويمكن أن يفسر بما فسر قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤].

وثمرات هذه الآية : تظهر بما ذكره المفسرون من هذه الأقاويل المذكورة.

قوله تعالى

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) [الرعد : ٢٥]

ثمرة ذلك : أن الله تعالى لما جعل اللعنة لمن هذه حاله : دل ذلك على أنها نقائض لما تقدم ، واختلف ما أريد بالفساد في الأرض هنا.

فعن ابن عباس : الدعاء إلى غير الله.

وعن الحسن : بقتال الرسول والمؤمنين.

وعن أبي علي : بقتلهم الناس ، وظلمهم بغير حق.

قال الحاكم : وفي ذلك دلالة على أن من كان بهذه الصفة استحق اللعن خلاف المرجئة.

قوله تعالى

(وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [الرعد : ٢٦]

هذا أسبق في معنى الذم.

قال الحاكم : أراد بذلك الفرح على وجه الافتخار. أما لو كان فرح سرور بنعم الله تعالى فجائز.

٨٤

تفسير

سورة إبراهيم

٨٥
٨٦

سورة إبراهيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) [إبراهيم : ٩]

لهذه الآية ثمرة : وهي أنه لا يجوز لأحد أن يعد أباه إلى آدم ويقول : أنا فلان بن فلان ، ويدرج ذلك إلى آدم ، ولا نسب غيره على هذه الصفة ؛ لأن الله تعالى نفى العلم عن غيره ، فقال : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ).

وعن ابن عباس : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون.

وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه السورة قال : كذب النسابون ، يعني : أنهم يدعون علم الأنساب ، وقد نفى الله علمها عن العباد.

وقد روي قول ابن مسعود مرفوعا.

واختلف المفسرون إلى ما يرجع الضمير في قوله : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ)؟

فقيل : إلى الجميع من قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، والذين من بعدهم.

وقيل : إلى الذين من بعدهم.

٨٧

وقيل : إلى المهلكين من الذين كذبوا.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يجاوز في انتسابه معد بن عدنان.

قوله تعالى

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) [إبراهيم : ١٣ ، ١٤]

ثمرة تجتنى من هذه الآية : وهي أن وجوب الدعاء إلى الإسلام لا تسقطه أذية الكافر في حق الأنبياء.

وأما في حق الأئمة ، وسائر المؤمنين : فإذا دعا المؤمن كافرا أو وعرف أنه يؤذيه بالسب : فالمنصور بالله ذكر أن المضرة لا تسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إنما يسقط ذلك الإجحاف.

وذكر أبو طالب مسألة : وهي أن من عرف أنه إذا كسر الطنبور قذف لم يكسره ؛ لأن ذلك يؤدي إلى زيادة القبيح ، والظاهر من عادة المسلمين الصبر على الأذى ، وأن لا يعدوا هذا مانعا.

وأما الوجوب (١) ....

نكتة من الكشاف : قال في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من آذى جاره ورثه الله داره».

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : ولقد عاينت هذا في مدة قريبة ، كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا فيها ، ويؤذيني فيه ، فمات ذلك العظيم ، وملكني الله ضيعته ، فنظرت يوما إلى أبناء خالي يترددون فيها ويدخلون

__________________

(١) بياض في الأصل.

٨٨

في دورها ويخرجون ، ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحدثتهم به ، وسجدنا شكرا لله تعالى.

قوله تعالى

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ)

قيل : أعمال القرب ؛ لأنها محبطة : عن الأصم ، وغيره.

وقيل : عبادتهم للأصنام ظنا أن ذلك ينفعهم ، : عن ابن عباس.

قال جار الله : هي المكارم التي كانت لهم : من صلة الأرحام وعتق الرقاب ، وفداء الأسارى ، وعقر الإبل للأضياف ، وإغاثة الملهوف ، والإجارة وغير ذلك.

وثمرة الآية :

أن قرب الكافر غير صحيحة ، فلا يصح وقفه ، ولا تسبيله مسجدا ، ولا نذره ؛ لأن الله سبحانه شبه أعمالهم بما لا ينفع.

ثم قال تعالى : (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) قيل : المراد لا يرون له يوم القيامة ثوابا ، كما لا يقدرون من الرماد المطيّر في الريح على شيء.

ثم إن الظاهر من مذهب الأئمة : أنه يدخل في ذلك الوضوء فلا ينعقد ، والكفارات فلا تصح منه يمين ، والظهار والإيلاء : لا يصحان منه ، وهذا يعم الحربي ، والذمي ، والمرتد.

وقال أبو حنيفة : يصح وضوء الكافر ؛ لأنه ليس بعبادة بل هو كغسل النجاسة.

وقال الشافعي : تصح يمينه ، وظهاره ، وإيلاؤه ، ويكفر بغير الصوم ، فيكون المعنى على كلامهم أنه لا نفع لأعمالهم في الآخرة.

٨٩

إن قيل : قد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقل الناس عذابا يوم القيامة عبد الله بن لحي» (١)؟

قيل : ومن هو يا رسول الله؟ قال : «رجل ممن قبلكم كان يطعم الطعام» (٢) .....

فرع

قال المؤيد بالله إذا نذر أو حلف ثم ارتد بطل حكم النذر واليمين ، وظاهره سواء كان قبل الحنث أو بعده.

وقال علي خليل : هذا قبل الحنث لا بعده ، فقد استقرت ، والأولى إطلاق المؤيد بالله.

وفي إطلاق الآية ما يقتضي العموم ؛ لأنه عم الأعمال ، ولأنه تعالى قال : (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) والمعنى : من كسبهم فمن للبيان ويريد أنهم لا يرون له أثرا من الثواب ، كما لا يقدر على شيء من الرماد المطير في الرياح.

قوله تعالى

(فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) [إبراهيم : ٢١]

قال الحاكم : في ذلك دلالة على التحذير من التقليد ، والحث على النظر.

__________________

(١) في بعض النسخ (عبد الله جدعان) وفي القاموس (عبد الله بن جدعان) بالضم جواد معروف ، وربما كان يحضر النبي طعامه وكان له قصعة يأكل منها القائم والراكب لعظمها.

(٢) بياض في الأصل.

٩٠

قوله تعالى

(كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) [إبراهيم : ٢٤ ، ٢٥]

قيل : أراد بالكلمة الطيبة : كلمة التوحيد : عن ابن عباس ، والحسن.

وفي الحاكم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ألا أخبركم بشيء أصله في الأرض وفرعه في السماء أن يقول دبر كل صلاة : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله عشر مرات ، فإن أصلهن في الأرض وفرعهن في السماء».

وقيل : قراءة القرآن : عن الأصم.

وقيل : ما أمر الله به من كلام الطاعات : عن أبي علي.

وقيل : دعوة الإسلام عن أبي مسلم ، والقاضي.

وقيل : الإيمان : عن الربيع بن أنس.

وقيل : أراد بالكلمة الطيبة : المؤمن نفسه عن ابن عباس ، وعطية العوفي.

وقوله تعالى : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ)

قيل : النخلة ، وقيل : كل ما طاب ثمرها ، وقيل : شجرة في الجنة.

وقوله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ)

قيل : في كل ستة أشهر على تفسير أنها النخلة ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ؛ لأن ثمرها يأتي لستة أشهر ؛ لأن ذلك وقت ثمرتها من طلوعها إلى صرام النخلة ، : عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن.

وقيل : سنة : عن مجاهد ، وابن زيد ؛ لأنها تثمر في السنة مرة.

٩١

وقيل : شهران ؛ لأن ذلك مدة إطعامها ، : عن سعيد بن المسيب.

وقيل : غدوة ، وعشيا : عن ابن عباس ، والربيع بن أنس ، كأنه شبه شجرة تؤتي أكلها غدوة ، وعشية.

وقيل : كل ساعة من ليل أو نهار ، كأنه شبه المؤمن في جميع أحواله بالشجرة المثمرة في جميع الأحوال ،

ولهذه الجملة ثمرتان :

الأولى : بيان فضل المشبه من الإيمان ، أو المؤمن ، أو الشهادة ، أو غير ذلك ، وفي ذلك ترغيب إلى هذا الذي مثله الله تعالى بالطيب.

والثمرة الثانية : تستخرج من لفظ الحين.

وقد قال في الضياء : الحين الزمان يقع على القليل ، والكثير وجمعه أحيان ، فلو قال لعبده : أنت حر إذا مضى حين ، أو قال لامرأته : أنت طالق إذا مضى حين ، فإن كانت له نية عملت نيته ، وإن لم : كان ذلك لمرور وقت يسير ،. فإن كان ثمّ عرف أنه يريد به الزمان الطويل ، فالطول : يطلق على السنة ، والأربعين السنة ، وعمر الدنيا ، لكن يخرج من عمر الدنيا بقرينة الحال أنه ما أراده ويقع الطلاق بالموت ؛ لأنه الطويل بالإضافة إلى عمره ، ويجعل هذا تأويلا لكلام أهل المذهب وأصحاب أبي حنيفة : أنه إذا قال : أنت طالق إلى حين أنها تطلق بالموت ؛ لأنه المعنى إذا مضى زمان طويل وهو مدة حياتي.

قوله تعالى

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) [إبراهيم : ٣١]

ثمرة ذلك : أنّه تعالى أمر بإقامة الصلاة ، والمعنى : أنهم يديمونها على الوجه الشرعي.

٩٢

قيل : لكن أراد الصلوات الخمس : وهذا مروي عن الحسن.

وقيل : أراد تهجد الليل ، وكان مفروضا : عن الأصم.

وقوله تعالى : (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ)

قيل : أراد الزكاة الواجبة ، : عن الحسن ، والأصم ، وأبي مسلم ، ورجحه الحاكم ؛ لأنه تعالى عقب ذلك بما يجري مجرى الوعيد.

وقيل : أراد في مواساة الفقراء ، ونصرة الرسول : عن أبي علي.

وقوله تعالى : (سِرًّا وَعَلانِيَةً)

قد تقدم الكلام عليه ، وبيان ذكر الأفضل.

وقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)

في ذلك دلالة على لزوم الحج ، وإن لم يتمكن إلا بالركوب في البحر ؛ لأنه تعالى جعله في جملة ما امتن به علينا.

قوله تعالى

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٥ ، ٣٦].

المعنى : رب اجعل هذا البلد ـ يريد مكة ـ وأمنه بأن ينجو من الحراب : عن الأصم ، أو بما يختص به من الطير.

أو أراد الحكم بأن يؤمّن من قصده من الحجاج ، أو من يدخله خائفا فلا يقام عليه حد ، ولا قصاص ، نظير ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧].

وقيل : المعنى أهل هذا البيت أمناء كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) وقواه الحاكم.

٩٣

قال : وهو قول أكثر المفسرين ، ويكون من المجاز من النقصان ، مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ).

وقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ).

إن قيل : كيف دعا وفي ولده من أشرك؟

قلنا : في ذلك وجوه :

الأول : أنه أراد بولده أي : من كان موجودا ، ولذلك ضمهم إلى نفسه.

الثاني : أنه دعاء باللطف وقد حصل ، وإن لم يلطف به من أشرك.

الثالث : أنه أراد من كان نبيا ومؤمنا.

الرابع : أن أحدا من ولده لصلبه لم يعبد صنما ، وإنما عبد بعضهم الأوثان ، وهذا مروي عن مجاهد.

وسئل ابن عيينة : كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال : ما عبد أحد من ولد إبراهيم صنما ، واحتج بالآية ، وقال : إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم ، قالوا : البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمثابة البيت ، وكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدّوار ، فاستحب أن يقال : طاف بالبيت ولا يقال دار.

قال الحاكم : هذا بعيد ؛ لأنه عليه‌السلام لم يرد بالدعاء إلا عدم عبادة غير الله.

وقوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)

أي : من اتبعني في الدين (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي : بعضي لفرط اختصاصه به.

وقوله تعالى : (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

اختلف في المعني بذلك.

٩٤

فقيل : ليس في هذا دعاء للعاصي ، ولكنه فوض الأمر في الحكم إليه.

وقيل : دعاء بأن يمهلهم بالعقاب ليتوبوا : رواه الحاكم عن القاضي ورجحه.

وقيل : دعاء على قضية العقل ثم نهى الشرع.

وقيل : من عصاني ثم تاب : عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي ، والأصم.

وقيل : من عصاني بدون الشرك.

قال الحاكم : وليس بالوجه لأنه جرى ذكر الكفر ، ولأن دون الكفر لا يقطع بغفرانه.

ولهذه الآية ثمرات :

بعضها يظهر من اللفظ ، وبعضها من كلام المفسرين :

منها : الترغيب في الدعاء باللطف بما يجنب عن المعاصي.

ومنها : جواز الدعاء بما يعلم قطعا أنه كائن ، ذكره أبو القاسم فيكون تعبدا وتذللا ؛ لأن إبراهيم عليه‌السلام كان يعلم قطعا أن الله تعالى مجنب له.

ومنها : جواز إضافة الفعل إلى السبب ؛ لأنه أضاف الإضلال إلى الأصنام وليس فعلهن.

ومنها : كراهة تسمية الطواف دوارا.

ومنها : أنه لا يجوز الدعاء للعاصي بالمغفرة ، لأجل ذلك تأول المفسرون الآية.

ومنها : أمان من دخل البيت الحرام من الصيد أو من التجأ إليه ، وفي ذلك تفصيل وخلاف قد تقدم.

٩٥

قوله تعالى

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) [إبراهيم : ٣٧]

ثمرة هذه الجملة : أنه ينبغي للوالد أن يرتاد لولده سكنى بلد يكون فيها أقرب إلى فعل الطاعة ، وأنه ينبغي الدعاء للولد كما فعل إبراهيم.

قوله تعالى

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [إبراهيم : ٤١]

ثمرة ذلك استحباب الدعاء للنفس وللوالدين وللمسلمين.

إن قيل : كيف دعا بالمغفرة لأبويه مع كفرهما؟

قلنا : في ذلك وجوه :

الأول : أنه أراد آدم وحواء.

الثاني : أنه أراد من أسلم لا أبويه الأدنيين.

الثالث : أنه دعاء على حكم العقل ، ثم منع الشرع.

الرابع : أنه دعاء باللطف ، فمعنى (اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) أي : هب لنا لطفا يقودنا إلى الإيمان.

الخامس : أن ذلك كان على موعد من أبيه بالإيمان ، قيل : وكذا أمه ، وقيل : بل كانت أمه مؤمنة.

٩٦

تفسير

سورة الحجر

٩٧
٩٨

سورة الحجر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قوله تعالى

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر : ٣]

قيل : هذه المقارّة منسوخة بآية السيف.

وقيل : لا نسخ ؛ لأنه ورد على سبيل التهديد.

قوله تعالى

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) [الحجر : ٢٤]

قيل : المراد من تقدم ولادة وموتا ، ومن تأخر ، ومن خرج من أصلاب الرجال ، ومن لم يخرج بعد ، أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ، ومن تأخر.

وقيل : المتقدمين في صفوف الجماعة والمستأخرين.

وروي أن امرأة حسناء كانت في المصليات خلف رسول الله وكان بعض القوم يستقدم لئلا ينظر إليها ، وبعضهم يستأخر لينظرها فنزلت ، وهذا مروي عن ابن عباس.

وورد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خير صفوف الرجال أولها ، وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها».

وقيل : المصلي في أول الوقت والمصلي في آخره ، عن الأوزاعي.

٩٩

وقيل : المتقدم في القتال والمتأخر : عن مقاتل.

أفادت الآية على هذا التفسير وفضيلة أول الوقت ، والتقدم في الجهاد ، والمتقدم من صفوف الرجال.

لكن اختلف الفقهاء لو تأخر صف الرجال عن صف النساء ، فعندنا ، وأبي حنيفة : يفسد ؛ لأنه عليه‌السلام وصفه بالشر ، ولحديث أم سليم الأنصارية أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى بأنس ، ويتيم ، وبعجوز ، وهي أم سليم الأنصارية فصفا خلفه وأخرها.

وقال الشافعي : تقدمها لا يفسد ، وفي هذا دلالة على أن الصبي يصل الصف (١)

قوله تعالى

(فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر : ٢٩]

قيل : سجود تحية لا عبادة.

وقيل : اجعلوه قبلة ، وقيل : السجود هاهنا أريد به الخضوع.

وللآية ثمرة : وهي أن من ترك امتثال أمر الله تكبرا كفر ، كما أن كفر الشيطان كان بذلك ، وكذلك من استهان بنبي كفر ؛ لأن كفر الشيطان كان بذلك ، لكون آدم نبيا ، وقيل : في وجه كفره.

قوله تعالى

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) [الحجر : ٧١]

قيل : أراد بناته لصلبه عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة.

وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)

__________________

(١) أي يسد الجناح تمت.

١٠٠