تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

بعير ، فيحصل من هذا أن من تكلم على متهم عذر ، وقد اختلف في قاذف المتهم هل يحد أم لا؟ فالظاهر من هذا المذهب ـ وهو محكي عن الشافعي وأبي حنيفة ـ أنه لا يحد.

وذكر أبو جعفر في (شرح الإبانة) : أن العفة غير شرط عند كافة العلماء.

قوله تعالى

(وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف : ٨٤]

المعنى : يا أسفي فأبدل ياء الإضافة بالألف ، والأسف هو : أشد الحزن والحسرة ، وابيضاض العين : ذهاب سوادها ؛ لأن العبرة تمحو سواد العين.

قيل : أصابه العمى.

وقيل : كان يدرك إدراكا ضعيفا ، وفي هذه الجملة بحثان :

الأول : كيف كان هذا الحال من شدة الأسف والحزن مع كونه نبيا.

قال جار الله : قد قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى أن لاقاه ثمانين عاما.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل جبريل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ قال : وجد سبعين ثكلى ، قال : فما كان له من الأجر؟ قال : أجر مائة شهيد ، وما ساء ظنه بالله ساعة قط.

وفي الحاكم : قيل : قال جبريل ليوسف إن بصر أبيك قد ذهب من الحزن عليك ، فوضع يده على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني ولم أك حزنا على أبي ، حكاه الأصم.

٦١

جواب هذا مذكور في الكشاف قال : الإنسان مجبول على الحزن ، وقد بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ولده إبراهيم ، وقال : «القلب يحزن ، والعين تدمع ، ولا نقول ما يغضب الرب ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون» ، وإنما الحزن المذموم ما يقع من الصياح ، والنياحة ، ولطم الوجه ، والصدر ، وتمزيق الثياب ، ولما بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بعض أولاد بناته وهو يجود بنفسه فقيل : نهيتنا عن البكاء؟ فقال : «ما نهيتكم عن البكاء ، وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين ، صوت عند الفرح وصوت عند الترح».

ولما بكى الحسن على ولد أو غيره فقيل له في ذلك؟ فقال : ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب : فهذا حكم.

البحث الثاني : أن يقال : العلماء قد شرطوا في الأئمة سلامة الحواس التي يقع النقصان بها ، كالعمى والصم والخرس ، والنبوة أبلغ من ذلك ، فكيف كان نبيا مع العمى؟

جواب ذلك والله أعلم : أن يقال إنه لم يذهب بصره بالكلية ، فحدة البصر غير شرط وإن ذهب بالكلية فلعله كان راجيا لعود بصره.

وقيل : هذا شرط قبل التبليغ لا بعده ، فلا يكون العمى ولا العاهات بعد التبليغ قدحا في النبوة.

وقد ذكر العلماء : أنه إذا عرضت للإمام علة يرجى زوالها لم تبطل إمامته ، وإن كان زوالها لا يرجى بطلت إمامته ، وهكذا الحسن.

فإن زالت العلة بعد الإياس ، أو أطلق من الحبس المأيوس وقد دعا إمام آخر : فعند زيد بن علي ، والنفس الزكية ، وأبي عبد الله الداعي ، والمؤيد بالله ، وأبي طالب ، والمعتزلة ، والفقهاء : أن الثاني أحق بالإمامة ؛ لأن إمامة الأول المأيوس قد بطلت.

٦٢

ولهذا نظير من القياس ، وهو التزوج بالأمة لعدم السبيل إلى الحرة ، فإنه إذا وجد السبيل لم يبطل نكاح الأمة.

وعند القاسم والناصر أن يسلم المفضول للأفضل ، وكذا عندهما أنه إذا دعا إمام ، ثم وجد أفضل منه لزمه التسليم.

قال الناصر : فإن امتنع كان فاسقا ؛ لأنه يعرف أن غرضه الدنيا.

وهاهنا بحث قد دق على عدة من أهل الأنظار : وهو أن يقال : إلى من يرجع الإياس هل إلى اعتقاد الأول أو إلى اعتقاد الثاني ، أو إلى أهل المعرفة بالأحوال ، أو يكون كل أحد متعبدا بظنه؟

والجواب عن هذا أن يقال : إذا تكاملت شروط الإمامة في الثاني رجح ما عنده مما يتعلق بالاجتهاد والتدبير ، ومثل هذا مما يقلد فيه.

قيل : في هذا نظر ؛ لأن اليأس شرط في صحة إمامته ، فلا يصح تقليده فيه ، كالعدالة والعلم وغيرهما ، فالمرجع بالإياس إلى ظنه لا إلى العلم ، ولا طريق إلى ظنه إلا بقوله.

وثمّ جواب آخر وهو أن يقال : يرجع في العلة هل هي مما يرجى زوالها أم لا إلى الأطباء الثقات ، ويرجع في الحبس إلى العادة ، والنظر في علة الحبس وسببه ، فإن كان سبب الحبس باقيا نحو أن يحبس لدعواه الإمامة فهذا كالمأيوس ، وإن كان السبب يمكن زواله كدفع مال أو تسليم معقل يتمكن المحبوس من تسليمه فهذا مرجو فلا تبطل معه الإمامة.

وجواب ثالث وهو أن يقال : إذا عقد للثاني خمسة فعقدهم كالحكم بالإياس وهذا حكم ثان ، فظهر من هذا البحث تتمة لما ذكر من هذه الجملة.

إن قيل : كيف اشتد الحزن مع يعقوب وكان يمكن يوسف زواله بشرح خبره ، وخصوصا مع قرب الديار وتطاول الأزمان ، وكيف استجاز عدم البذل لوسعه في قطع حزن أبيه بتحقيق خبره وشأنه؟

٦٣

قلنا : لعل ذلك بمعرفة يوسف بأن إخوته يمنعون الرسول ونحوه من تبليغ أبيهم ، هذا أشار إليه الحاكم وهو يمكن أن يقال : لعل ذلك لمصلحة دينية أعلمها الله تعالى يوسف عليه‌السلام ولم يخبر بها ، والله أعلم.

وروي أن يوسف لما أدخل أباه المخازن فأدخله مخازن القراطيس قال : يا بني ما أغفلك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال : أمرني جبريل عليه‌السلام فسأل يعقوب جبريل فقال : الله أمرني بذلك لقولك : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) ، قال : فهلا خفتني.

وقيل : إن يعقوب اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت.

وروي أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب : «إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه ، وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ، ثم المساكين ، فاصنع طعاما ثم ادع عليه المساكين» وهذه مسألة فقهية أنه لا يجوز التفريق بالبيع بين ذوي الأرحام في حال الصغر ، وفي ذلك تفصيل وخلاف.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) [يوسف : ٨٨]

هذه الجملة قد تضمنت ثلاثة أمور وهي : جواز الشكاء لدفع المضرة ، وسؤال الصدقة ، وجواز أخذها مع السؤال.

أما الأول : فذلك جائز لدفع الضرورة ، وقد يجب الشكى إذا كان فيه وقاية روح ، أو دفع مضرة ، أو زوال منكر ، وأرادوا بقولهم : (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) ، يعني : الهزال من الشدة والجوع ، وقيل : بهلاك مواشينا.

٦٤

وقوله : (بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي : مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها ، قيل : كانت من متاع الأعراب جبونا ، وسمنا.

وقيل : سويق المقل ، والاقط ، والمقل الدوم ، وقيل : الصنوبر وهو شجر أخضر في الشتاء والصيف.

وقيل : النعال ، والأدم ، وقيل : دراهم زيوف.

وأما الثاني : وهو سؤال الصدقة فظاهر السؤال أنهم أرادوا وفاء الكيل ، وقيل : إرخاص السعر ، وقيل : الزيادة ، والسؤال الذي على وجه المماكسة في البيع والنكاح ونحو ذلك جائز.

وأما إذا كان في غير عقود المعاوضات فجائز أيضا للمضرة ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تحل المسألة إلا لذي فقر مدقع ، أو دم مقطع ، أو غرم موجع».

وقد يجب السؤال لدفع المضرة لوجوب نفقة الزوجة والأبوين العاجزين ، والأولاد الصغار.

وأما الزائد على ذلك فالمذهب تحريمه لهذا الخبر وأمثاله.

وعن أبي حنيفة ، والشافعي ، وصححه الشيخ أبو جعفر جوازه ؛ لأن الله تعالى قال : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) فلو فعل محرّما جاز نهره ، وهذا في سؤال غير الإمام ، فأما سؤال الإمام فجائز ؛ لأن في الحديث إلا أن يسأل ذا سلطان ، يقال : المراد إذا سأل للضرورة.

وقيل : أرادوا بالصدقة إخراج أخيهم ، ولا إشكال في جواز ذلك ، قيل : الصدقة محرمة على الأنبياء فلم يريدوا الزيادة ، ولكن أرادوا إرخاص السعر والإغماض عن رداءة البضاعة ، وهذا مروي عن سعيد بن جبير وغيره.

وقيل : سألوا الزيادة ، والصدقة لم تحرم على أحد من الأنبياء إلّا على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا مروي عن سفيان بن عيينة.

٦٥

ولما سئل ابن عيينة عن ذلك قال : ألم تسمع (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) ، والصدقة : هي العطية التي يبغى بها المثوبة من الله ، ومنه قول الحسن لما سمع من يقول : اللهم تصدق عليّ : إن الله لا يتصدق إنما يتصدق الذي يبغى الثواب ، قل اللهم اعطني أو ارحمني.

وكذا روي عن مجاهد كراهة (اللهم تصدق علينا) ، لكن قد ورد في حديث يعلى بن منبه أنه لما قال عمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ذلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» وفي ذلك دلالة على أن المحاباة في إرخاص السعر كالصدقة.

وقد اختلف العلماء هل يجوز للقاضي أن يتولى البيع بنفسه؟

ففي (شرح الإبانة) لمذهبنا والشافعي : لا يتولاه خشية المحاباة.

وعند أبي حنيفة ، وصاحبيه : يجوز ، وجاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله الوالي يتجر في رعيته».

وفي الآية دلالة على أن الغني لا ينافي القربة ، فيستحب أن يتصدق على الأغنياء إذا كان فيهم وجه قربة ؛ لأنه قد روي أنهم كانوا أغنياء ، ولم ينكر عليهم يوسف عليه‌السلام.

ووجه التقرب عليهم قيل : كونهم أنبياء ، وقيل : أولاد أنبياء ، وهذا يدل على أن من تصدق على رجل لا قربة فيه صلة لآبائه الذين فيهم قربة أن ذلك صدقة وقربة.

ويدل على أن السائل له حق لا ينبغي أن يخيب ؛ لأن يوسف عليه‌السلام رق لهم شكايتهم فبادر إلى إنزال المسرة عليهم ، قيل : لما قالوا : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ) ارفضت عيناه ، وباح بما كان يكتمه.

وقيل : علم الله المصلحة بإخباره بحالهم.

وقيل : زال المانع.

٦٦

وقيل : لما وقف على كتاب يعقوب إلى عزيز مصر وهو :

من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد : فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء ، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى ، وجعلت النار عليه بردا وسلاما.

وأما أبي فوضعت السكين على قفاه ليقتل ففداه الله.

وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ، ثم أتوا بقميصه ملطخا بالدم وقالوا : قد أكله الذئب ، فذهبت عيناي من بكائي عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ، ثم رجعوا وقالوا : إنه سرق وأنك حبسته لذلك ، وإنا أهل بيت لا نسرق ، ولا نلد سارقا ، فإن رددته عليّ وإلّا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك ، والسّلام.

فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك ، وعيل صبره.

وفي هذه الحكاية دلالة على جواز التزكية للنفس لمصلحة جواز الدعاء على الظالم ، وأن الذبيح إسحاق كما قال بعض المعتزلة ، ورواه في الكشاف عن علي ، وعبد الله بن مسعود ، والعباس ، وعطاء ، وعكرمة ، وجماعة من التابعين.

وروي عن ابن عباس ، وابن عمر ، ومحمد بن كعب ، وجماعة من التابعين : أنه إسماعيل ، وهذا هو الظاهر من أقوال العلماء.

قوله تعالى

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) [يوسف : ٩٦]

في ذلك دلالة على جواز التبشير لمسار الدنيا واستحبابه ، وجواز السرور بحصول النعم الحاصلة في الدنيا.

٦٧

قيل : إن يهوذا هو الحامل له ، قال : أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخا بالدم إليه ، فأفرحه كما أحزنته.

وقيل : حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان ، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا ، وفي هذا إشارة إلى أن المعتذر والمخطي ينبغي أن يكون عذره بإظهار التذلل ، والتوبيخ لنفسه.

قوله تعالى

(سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف : ٩٨]

قيل : أخّر الاستغفار إلى ليلة الجمعة.

وقيل : إلى وقت السحر ، وقيل : ليعرف حالهم في صدق التوبة ، وفي هذا دلالة على أنه ينبغي أن يخص الأوقات الفاضلة بالدعاء.

وقد ذكر العلماء ـ رضي الله عنهم ـ تخصيص الدعاء بأحوال كبين الأذان والإقامة ، وحالة الفطر ، وليلة القدر ، وعقيب الصلوات ، وفي أماكن الحج ، وغير ذلك.

وفيه أيضا إشارة إلى أن منع اللبس يخالف الحال التي لا لبس فيها ، وقد قال أهل المذهب في الصلاة على الجنازة : إن الميت إذا كان حاله ملتبسا قال : اللهم إن كان محسنا فزده إحسانا ، وإن كان مسيئا فأنت أولى بالعفو.

وقيل : أراد الدوام على الاستغفار.

قال في الكشاف : وقد روي أنه كان يستغفر لهم ليلة كل جمعة في نيف وعشرين سنة.

وقيل : قام إلى الصلاة وقت السحر ، فلما فرغ رفع يديه وقال :

٦٨

اللهمّ اغفر لي جزعي على يوسف ، وقلة صبري ، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم ، فأوحى الله إليه إني قد غفرت لك ولهم أجمعين.

قال جار الله : وقد اختلف في استتابهم.

قوله تعالى

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) [يوسف : ٩٩]

في كتب المفسرين أن يوسف خرج للقيا يعقوب فيمن معه من الجند ، وأهل مصر ، وفي هذا دلالة على حسن التعظيم باللقيا لمن له حاله ، وكذا يأتي مثله في التشييع ، وقد ورد مثل هذا في تشييع الضيف ، وكذا يأتي في لقياه ؛ لأن إكرام الضيف قد ندب إليه.

قوله تعالى

(آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) [يوسف : ١٢]

قيل : أحييت أمه وبشرت ، عن الحسن.

وقيل : كانت حية عن ابن إسحاق ، وأبي علي.

وقيل : أراد بالأم خالته ؛ لأن يعقوب تزوجها بعد موت أمه نفاسا ببنيامين ، فالخالة تسمى أما ، وكذلك الرابة لقيامها مقام الأم.

ولهذا فائدة شرعية : وهي أن من ينسب رجلا إلى خالته أو رابته : ـ وهي الحاضنة له ـ فقال : يا بن فلانة لم يكن قاذفا لها.

قوله تعالى

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) [يوسف : ١٠٠]

العرش هو السرير الرفيع ، وفي ذلك دلالة على جواز اتخاذ السرير الرفيع ، وجواز رفع الغير عليه تعظيما للمرفوع.

٦٩

قوله تعالى

(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠]

إن قيل : إن السجود لغير الله لا يجوز ، وظاهر الكلام أنهم سجدوا ليوسف؟

قلنا : في ذلك وجوه :

الأول : أن ذلك كان تحية لهم ، كتقبيل اليد ، لا أن ذلك كان على وجه العبادة.

الثاني : أنهم عظموه بالسجود ، والمعبود هو الله سبحانه ، كما جاء في قصة آدم : عن الأصم.

الثالث : أن المراد جعلوه قبلة ، والسجود لله تعالى ، : عن أبي علي.

الرابع : أنه أراد بالسجود الخضوع.

الخامس : أن المراد وسجدوا له ، أي : لله ، عن ابن عباس.

السادس : واستحسنه الحاكم : أن المراد سجدوا له أي : لأجله ، وإلّا فالسجود لله ، لكن هو سبب السجود.

قوله تعالى

(وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) [يوسف : ١٠٠]

وجمع بين الخروج من السجن والانتقال من البدو في أن ذلك إحسان ونعمة ، وذلك لما كان أحوال البادية يلحق أهلها قصور ، وكانوا أهل ماشية ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من بدا فقد جفا» أي : من حل البادية ، ويروى لجرير :

أرض الفلاحة لو أتاها جرول

أعنى الحطيئة لاغتدى حراثا

ما جئتها من أي وجه جئتها

إلا حسبت بيوتها أجداثا

٧٠

وأهل البوادي فيهم الجهل والقسوة.

وفي الحديث عنه عليه‌السلام : «إن الجفاء والقسوة في الفدادين» وقد تقدم ما قيل في قوله تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) [التوبة : ٩٧] وقال تعالى : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى).

وعن الحسن : ما بعث الله نبيا من البادية ، ولا من الجن ، ولا من النساء ، ففي هذا دليل على حسن النقلة عن البوادي إلى القرى.

قوله تعالى

(تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١]

اختلف المفسرون هل هذا من يوسف صلّى الله عليه تمن للموت أم لا؟

فقيل : ليس ذلك بتمن للموت ، بل التمني يعلق بأن يتم إسلامه إلى موته فيموت على الإسلام ، كما قال يعقوب لبنيه : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وقيل : بل ذلك كان تمنيا للموت.

وروي : أن ميمون بن مهران بات عند عمر بن عبد العزيز فرآه كثير البكاء والمسألة للموت فقال له : صنع الله على يديك خيرا كثيرا ، أحييت سننا ، وأمت بدعا ، وفي حياتك خير وراحة المسلمين ، قال : أفلا أكون العبد الصالح لما أقر الله عينه وجمع له أمره قال : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).

قال النواوي في الأذكار : يكره أن يتمنى الموت لضر نزل به ، لما رواه البخاري ومسلم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه ، فإن كان لا بد فاعلا فليقل : اللهمّ أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي».

٧١

قال النواوي : وذكر العلماء من أصحابنا وغيرهم هذا إذا تمنى لضر نزل به ، أما لو تمنى الموت خوفا على دينه لم يكره ، وقد تقدم ذكر هذا الحكم.

قوله تعالى

(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [يوسف : ١٠٤]

المعنى : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) فيكون ذلك سببا للامتناع من إجابتك ،

وفي هذا دليل على أن من تصدى للإرشاد ـ من تعليم ، ووعظ ، وفتوى ـ فإن عليه اختيار ما يمنعه من قبول كلامه ، وهل يؤخذ من الآية المنع من جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن (١) ...

__________________

(١) (بياض في الأصل).

٧٢

تفسير

سورة الرعد

٧٣
٧٤

سورة الرعد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرعد : ٨]

المعنى : (ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) لفظ (ما) إما بمعنى الذي ، أي :

الذي تحمل هل هو واحد أو أكثر ، أو ذكر أو أنثى أو حي أو ميت ، وكذا سائر الصفات ، ويحتمل أنها مصدرية ، أي : حمل كل أنثى ، أي : هل قد حصل حملا أو لا.

وقوله تعالى : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) اختلف هل هذا يرجع إلى الحمل أو إلى الحيض؟

فقيل : هو راجع إلى الحمل ، والمعنى (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) ، أي : ما يقل من الغيضوضة التي هي النقصان ، ومنه (وَغِيضَ الْماءُ) [هود : ٤٤] أي : نقص ، ويراد قلة الحمل ، وما تزداد كثرته وزيادته على الواحد ، هل هم اثنان أو ثلاثة أو أربعة.

وقد اختلف الفقهاء : هل يحد أكثر حمل الامرأة أم لا؟

فقال بعض أصحاب الشافعي : إنه لا يحد لعموم الآية ، فإن الله تعالى تمدح بعلم الزيادة والنقصان ،

وحكى بعض أصحاب الشافعي أن قرعة وجدت فيها اثني عشر ولدا من سقط امرأة.

٧٥

وحكى الشافعي أنه دخل على شيخ في اليمن فدخل على ذلك الشيخ خمسة صبيان فسلموا عليه ثم قبلوا رأسه ، ثم دخل خمسة فتيان فسلموا عليه وقبلوا رأسه ، ثم دخل خمسة شبان فسلموا عليه وقبلوا رأسه ، ثم دخل خمسة كهول فسلموا عليه وقبلوا رأسه ، فقلت : من هؤلاء؟ فقال : هؤلاء أولادي كل خمسة منهم ولدوا في بطن واحد.

وذكر الشيخ الفضل ابن أبي السعد العصيفري عن رجل من صنعاء ساكن شظب : أن امرأته ولدت خمسة في بطن واحد ، وظاهر المذهب أن أكثر ما يكون أربعة ، ويقولون : المرجع بهذا إلى العادة ، وهذا أكثر ما اتفق ، وهذه الحكاية تنقض ذلك.

ولهذا ثمرات :

وهي إذا مات ميت ومن ورثته من هو حمل واستعجل الورثة على القسمة ، فعلى ما ذكر أهل المذهب والمشهور عن الشافعي أنه يترك نصيب أربعة أكثر ما يورثون من كونهم ذكورا أو إناثا ؛ لأن هذا مجوز ، فإذا وضعت عمل بحسب ذلك من تقرير القسمة ، أو رد ما زاد على نصيب الذي ظهر.

وعن الشعبي ، والنخعي ، ومالك ، والأظهر عن أبي حنيفة ، ورواية الربيع عن الشافعي : أن المال لا يقسم حتى يتبين الحمل.

وعن الليث بن سعد وأبي يوسف : أنه يترك نصيب واحد أكثر ما يقدر ، ويؤخذ من الورثة ضمين.

وعن محمد بن الحسن : يوقف نصيب اثنين ، ويؤخذ من الورثة ضمين ، ولا دلالة في الآية على قدر.

وقيل : قوله تعالى : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) يراد بذلك كم تلبث في البطن هل قليل أو كثير ، وهذا يدل على أن المدة غير مقدرة بحد لا يزيد ولا ينقص ؛ لأنه تعالى تمدح بالعلم بذلك وحده.

٧٦

وقد اختلف العلماء بعد ذلك في أكثر مدة الحمل ، أما أقله فستة أشهر ، وأخذ ذلك من قوله تعالى في سورة الأحقاف : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] مع قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] فإذا خرج حولان بقي ستة أشهر.

قيل : وهذا وفاق ، ولهذا فوائد :

منها : أن الرجل إذا تزوج امرأة وجاءت بولد لدون ستة أشهر من التمكن من الوطء فإنه لا يلحق به ؛ لأنه يعلم أنه ليس منه.

وكذلك إذا ارتد الرجل وامرأته ، وجاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم اللحوق فإنا نعلم أنه كان في البطن قبل اللحوق فيرثه ، وإن جاءت به لستة أشهر لم يعلم بذلك فلا يرثه وغير ذلك.

واختلفوا في أكثر مدة الحمل فالمذهب أن ذلك أربعة أعوام ؛ لأن المرجع بهذا إلى الاتفاق ، وقد روي أن هذا اتفق وهو مذهب الأئمة والشافعي ، ومالك.

وقالت الحنفية : سنتان ، وهو مروي عن عائشة ، والضحاك.

وروي عن مالك : خمس سنين.

وقال الليث بن سعد (١) ثلاث سنين.

وعن الزهري : سبع سنين ، وهذا الحكم لا يؤخذ من الآية ، وإنما أخذ من الوقوع ، والوقوع فرع الصحة.

قال في الكشاف : وروي أن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان بقي في بطن أمه أربع سنين ، ولذلك سمي هرما.

وروي عن عجلان أنه قال : امرأتي كانت تلد لأربع سنين ، ولدت ولدا لأربع سنين قد نبتت ثنيتاه.

__________________

(١) (ذكره في تاريخ ابن خلكان تمت).

٧٧

وروي أن محمد بن عبد الله النفس الزكية : ولد لأربع سنين.

وروي ذلك في منظور بن ريان ، وقيل فيه شعر :

وما جئت حتى أيس الناس أن تجي

وسميت منظورا وجئت على قدر

فقد يحتج بالآية لمذهبنا.

وكيفية الحجة أن يقال : الآية تقتضي جواز الزيادة في المدة القليل والكثير ، فخرج ما زاد على الأربع لدلالة الإجماع بناء على أن خلاف من زاد على أربع قد انقرض ، والدلالة محتملة ؛ لأن في الآية إجمال ما أراد بالزيادة والنقصان ، هل هو راجع إلى الحمل أو إلى زمانه ، أو إلى الحيض.

وقيل : إن قوله تعالى : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) يتعلق بزيادة الحيض ونقصانه ، فيلزم أن لا يجد قليل الحيض ولا كثيره ، هذا قول الناصر ، ومالك ؛ لأن الله تعالى تفرد بذلك لكونه يمدح به ، والأحسن أنه محدود من أخبار وردت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو قوله عليه‌السلام : «تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء» وأن الآية دلالتها مجملة فلا يؤخذ ذلك من الآية.

قيل : وليس في الآية أيضا دلالة على أن الحيض يحصل مع الحبل ، أو لا يحصل ؛ لأن الآية مجملة ، وقد يستدل بذلك على أنهما يجتمعان كقول مالك ، والشافعي.

ومذهب الأئمة ، وأبي حنيفة ، وهو مروي عن الحسن ، وإبراهيم ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، والحاكم ، ـ وقد ادعى في الشفاء أن ذلك إجماع العترة ـ : أنهما لا يجتمعان ، واستدل بقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤] فجعل عدتهن بالوضع ، فلو كان الحيض يجامع الحبل دخلت في عدة الحيض.

٧٨

وعن علي عليه‌السلام : رفع الحيض عن الحبلى ، وجعل الدم رزقا للولد.

وعن عائشة : الحامل لا تحيض ، وذلك لا يكون إلا توفيقا.

قوله تعالى

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) [الرعد : ١٣]

قيل : أراد ويسبح سامعو الرعد ويصيحون فيقولون : سبحان الله والحمد لله ، وهذا فيه إشارة إلى استحباب التسبيح والتحميد لمن سمع الرعد.

وقيل : الرعد ملك.

وعن النبي عليه‌السلام : (سبحان من سبح الرعد بحمده).

وعن علي عليه‌السلام : (سبحان من سبّحت له).

قوله تعالى

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٥]

قال الحاكم : اتفق الفقهاء أن هاهنا سجدة تلاوة وثبوت كونها مشروعة : ـ

إما من حيث أن هذا خبر فيكون مخبره كما أخبر به لئلا يكون خلفا في كلام الباري ، نظيره : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) [البقرة : ٢٣٣]. وإما بالسنة.

قوله تعالى

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٠ ـ ٢٢]

٧٩

هذه تسع خلال جعل الله سبحانه جزاء من حافظ عليهما ما ذكر عقيب ذلك وهو قوله تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ).

ثم أكمل مسرتهم بالاجتماع لمن يحبونه من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، ومع تسليم الملائكة عليهم.

فالأولى : الوفاء بعهد الله ، وعهده ما عقدوه على أنفسهم ، من الشهادة بربوبيته ، وذلك قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ(١) لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى).

وقيل : عهده أوامره ونواهيه عموما.

الثانية : قوله تعالى : (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ)

والميثاق ما وثقوه على أنفسهم ، فتدخل الواجبات كلها.

وعن أبي مسلم : ميثاق الرسول ، وهو ما حلفوا له عليه.

وقيل : يدخل في هذا ما كان من المواثيق بينهم وبين أمته ، وبينهم وبين خلقه ، ويدخل في هذا الكفالة والنذر ونحو ذلك ، وقد دخل هذا في الجملة الأولى ، لكن في هذا زيادة وتأكيد.

الثالثة : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) في ذلك وجوه :

الأول : أنه أراد الإيمان بجميع الكتب والرسل حتى لا يفرق بينهما.

الثاني : صلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومؤازرته ونصرته ، عن الحسن.

الثالث : ـ عن ابن عباس ، والأصم ، ـ صلة الأرحام.

الرابع : صلة المؤمنين عامة بالتولي ، والحفظ والذب عنهم : عن أبي علي وأبي مسلم.

قال القاضي : وهو الوجه.

__________________

(١) (del)

٨٠