تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

ثم أبدله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) واستثنى منهم المكره فإنه لم يدخل في حكم المفتري.

وقوله : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ).

أي : طاب به نفسا واعتقد (١)(فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ).

وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : من كفر بالله وشرح بالكفر صدره فعليه غضبه ، ثم استثنى من أكره على الكفر بلسانه ، وقدم لدلالة الحال.

سبب النزول

قال في الكشاف : روي أنه أن أناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أكره ، فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان.

فمن المكرهين : عمار ، وأبوه ياسر ، وسمية ، وصهيب ، وبلال ، وخباب ، وسالم ؛ عذبوا.

فأما سمية : فقد ربطت بين بعيرين ووجي في قبلها بحربة ، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت ، وقتل ياسر ، وهما أول قتيلين في الإسلام.

وأما عمار : فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها ،

فقيل : يا رسول الله إن عمار كفر؟

فقال : «كلا ، إن عمار ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» وأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول

__________________

(١) أما الاعتقاد فعلى رأي أبي هاشم رحمه‌الله تعالى تمت.

١٤١

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ويقول : «ما لك! إن عادوا إليك فعد إليهم بما قلت».

ومنهم : خير مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر ، ثم أسلم مولاه وأسلم ، وحسن إسلامهما.

وقال في التهذيب ، : نزل قوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) و (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً :) في عبد الله بن سعيد بن أبي سرح ، وقوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) في عمار بن ياسر وأصحابه.

وقيل : نزلت في عياش بن أبي ربيعة آمن وهاجر ، وكان برا بأمه فحلفت ألا تأكل حتى يعود إليها ، فقدم عليه رجلان وأخبراه بذلك ، فأراد أن ينصرف فنهاه عمر ، فأبى وخرج فلما كان ببعض الطريق عذبه من أخبره بقول أمه حتى رجع بلسانه.

ثمرات الآية الكريمة أحكام :

الأول : من افترى الكذب على الله تعالى : كفر ؛ لأنا قد قدرنا تعلق قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) إلى قوله : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) وقد يقال : من كذّب الله تعالى كفر إجماعا ، ومن كذب على الله ، وفيه رد لما علم خلافه ضرورة ، كأن يقول : أحل الله الخمر والزنا ، ونحو ذلك ، أو يقول : لم يوجب الله الصلاة ونحو ذلك كفر ، لا إن لم يعلم خلاف ذلك ضرورة.

الحكم الثاني : أن من نطق بكلمة الكفر مكرها ، ولم يشرح صدره قال جار الله : أي : لم يعتقده ، ولم تطب به نفسه ، فإنه لا يكفر ، وهذا إجماع.

فإن قيل : فما الأفضل هل النطق بكلمة الكفر وقاية لدمه ، أو الصبر على القتل؟

١٤٢

قلنا : قال قاضي القضاة وغيره من المتكلمين : الأفضل ترك النطق بكلمة الكفر.

وهكذا ذكر الزمخشري قال : لأن في الصبر إعزازا للدين ، وقد روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله ، قال : فما تقول فيّ؟ قال : أنت أيضا ، فخلاه ، وقال للآخر : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله ، قال : فما تقول فيّ؟ قال : أنا أصم ، فأعاد عليه ثلاث فأعاد جوابه فقتله ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له».

قال الحاكم : وخالف الحكم في الآحاد حكم الأنبياء ، فلا تجوز التقية منهم بكتم الشرائع.

واختلف في الإمام : فمنهم : من جوز له التقية.

ومنهم : من يمنع إلا لقرينة.

وهذا الحكم له تتمات :

منها : أن الآية تدل على أن في الأفعال ما يكون كفرا ، إذ لو لا ذلك لما استثنى المكره.

قال الحاكم : وقال بعضهم : لا كفر إلا بالاعتقاد لا بالأفعال.

ومنها : أن يقال : هل شرط في حق المكره أن يعرّض ولا يطلق أم ذلك غير شرط؟

قلنا : ذكر الحاكم خلافا في هذا ، فقال بعضهم : إنما يباح له النطق بكلمة الكفر بشرط التعريض ، وكما لو قالوا له يقول بأن الله تعالى ثالث ثلاثة عرض بأن النصارى يقولون ذلك.

وقال بعضهم : لا يحتاج إلى التعريض ؛ وهذا هو الظاهر ؛ لأن الذين فتنوا لم يرو أن أحدا منهم عرض.

١٤٣

ومنها : أنه إذا كان التعريض حاظرا بقلبه ولم يعرّض ففي التهذيب : عن محمد بن الحسن : أنه إن لم يعرّض كفر.

ومنها : أن يقال : إذا شرط التعريض فسواء كان مكرها أو مختارا فإنه لا يكفر مع التعريض ، ويكفر من غير تعريض ، فما أثر الإكراه؟

أجاب الحاكم : بأن مع الإكراه يكون الظاهر عدم الكفر ، ومع عدم الإكراه يكون الظاهر الكفر ، فيتعامل بذلك في الأحكام الظاهرة لا في الباطن.

ومنها : أن يقال : هل في الآية دلالة على أنه من شرط النطق بكلمة الكفر : الاعتقاد كما يحكى عن أبي هاشم أو لا دلالة؟

قلنا : أما مع الإكراه ففي الآية دلالة على أنه لا بد أن يطمئن به قلبه ، وينشرح بالكفر صدرا.

قال الزمخشري : ويعتقد.

وأما مع عدم الإكراه : فلا دلالة ، وقد ذكر المؤيد بالله ، ـ وادعى الإجماع ـ : أنه إذا اختار اللفظ كفر ، ويحتج لهذا بقوله تعالى في سورة المائدة : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣] فعلق الكفر بالقول.

فإن قيل : فما حد الإكراه الذي يبيح النطق بكلمة الكفر؟

قلنا : حده أهل المذهب ، وصححه الحاكم : بخشية الإجحاف بنفس ، أو عرض ، وسواء كان المكره سلطانا ، أو متغلبا ، إذا ظن وقوع ما توعد به.

وقيل : لا بد أن يكون سلطانا.

وقيل : الضرب اليسير ونحوه إكراه ، هذا في الإكراه على كلمة الكفر.

١٤٤

أما الإكراه على غير ذلك : ففي ذلك تفصيل ، فالزنا وقتل الغير لا يبيحه الإكراه ، وسائر المحظورات يبيحها الإكراه بالإجحاف وترك الواجبات ، وبحصول الضرر.

وأما العقود : فيبطل حكمها بالإجحاف على إطلاق الهدوية ، وقال المؤيد بالله : بما أخرجه عن حد الاختيار.

قال المؤيد بالله : والإكراه يبيح إتلاف مال الغير ، وصحح إن لم يخش على صاحبه التلف أو الضرر.

وقال أبو طالب : لا يبيحه.

قال الشيخ أبو جعفر ، والإمام يحيى : وكذا الإكراه على سب الغير ، كسب الله.

قال في شرح الأصول : لا يبيحه ؛ لأن الله سبحانه لا يتضرر بالسب ، وإذا زنى مكرها فلا حد عليه وإن كان مباشرا ، ذكره الأزرقي ، وصححه.

وقال المؤيد بالله : يحد ، وإذا أتلف مال الغير مكرها فلا ضمان على المتلف ، وقد يدعى الإجماع.

وعن المؤيد بالله : يضمن ، ويرجع على المكره ، والقود على الآمر مكرها عند المرتضى.

وقال المؤيد بالله : على المكره الفاعل ، وهذه فروع استنباطها من غير هذه الآية الكريمة.

قوله تعالى

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : ١١٠]

١٤٥

النزول

قيل : نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخ لأبي جهل من الرضاعة ، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو ، والوليد بن الوليد بن المغيرة ، وغيرهم : فتنهم المشركون فأعطوهم ما أعطوا ، ثم إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا.

وقيل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله ، فاستجار له عثمان فأجاره ، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه : عن الحسن ، وعكرمة.

المعنى : ثم إن الله يغفر ، ويرحم هؤلاء الذين فتنوا ثم هاجروا من أوطانهم ، وجاهدوا ، وصبروا.

وقراءة أكثر القراء (فتنوا) ـ بضم الفاء وكسر التاء ـ يعني عن دينهم ، فمنعوا الإسلام.

وقيل : فتنوا بالتعذيب.

وقراءة ابن عاصم (فتنوا) ـ بفتح الفاء والتاء ـ ويرده إلى من أسلم ، وقد كان يقدم منه أنه فتن غيره من المؤمنين ، بأن رده عن الإسلام نحو الحضرمي في إكراهه لعبده على الكفر ، ثم إنه أسلم.

وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِها).

أي : من بعد الهجرة يغفر ما سلف منهم ، أو يغفر ما جرى على ألسنتهم ، بمعنى أنه لا يؤاخذهم عليه.

وقيل : من بعد هذه الأفعال ، وهي الهجرة ، والجهاد ، والصبر.

قيل : هاجروا من أوطانهم إلى المسلمين ، وجاهدوا الكفار : باليد واللسان.

١٤٦

وقيل : هجروا قرناء السوء ، وجاهدوا أنفسهم على ملازمة أهل الخير ، وصبروا على ما فعل معهم الكفار.

وقيل : على مشاق الإيمان.

وثمرة ذلك :

صحة التوبة من الكفر ، ـ وذلك معلوم ـ ، وهذا على قراءة من قرأ (فتنوا) ـ بفتح الفاء والتاء ـ وكذا صحة توبة المرتد على قراءة (فتنوا) ـ بضم الفاء ـ ، وأن الكافر ما جنى حال كفره يسقط بالإسلام ، والترغيب في الهجرة عن دار الكفر ، وعن قرناء السوء ، وأن حال الصابر على العذاب والكف عن النطق بكلمة الكفر : أفضل.

لكن في الآية إجمال ، وكونه تعالى قرن ذلك بالجهاد دلالة على وجوبها ، ولها شروط قد ذكرت في غير هذا المكان.

قوله تعالى

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)

المعنى : أهل قرية فحذف المضاف ـ لدلالة الحال عليه ـ مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، والمراد ضرب أهل هذه القرية مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم ، فأبطرتهم النعمة فكفروا.

قيل : أراد بالقرية مكة ، : عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ؛ وذلك أن الله تعالى أنعم عليهم فكانوا آمنين لا يقاتلهم أحد ، ومطمئنين لا يزعجهم خوف ؛ لأن الطمأنينة مع الأمن والانزعاج مع الخوف.

(يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) يعني واسعا.

١٤٧

(مِنْ كُلِّ مَكانٍ) يعني يحمل إليها من البر والبحر.

(فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) قيل : ذلك بتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : بإخراجه هو وأصحابه.

وقيل : أراد قرية في الأمم الماضية على هذه الصفة : عن الأصم.

وقوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) استعار اللباس : لما يظهر عليهم من الهزال ، وشحوب اللون ، وكان كاللباس لغشيانه لهم ، واستعار الإذاقة : لما يدرك من الألم لذوق المر.

قيل : بلغ القحط بهم إلى أن أكلوا القد والعلهز (١) ، وهو الصوف المخلوط بالدم ، ومنعوا من الميرة ، وانقطعت عنهم الأمطار ، وأصابهم الجوع سبع سنين ، وقصد أهل مكة الجيوش والسرايا من المسلمين ، وشن عليهم الغارات ، ودعا عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان من دعائه : «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهمّ اجعل عليهم سنينا كسني يوسف» فبلوا بالجوع حتى أكلوا العظام المحرقة ، والعهن.

وثمرة ذلك :

جواز منع الكفار من الميرة والطعام ، وأن يرموا بالمنجنيقات ، وسائر أنواع العذاب ، وقد فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك مع أهل الطائف ، وكذلك قطع النخيل ، والأعناب ، وتخريب الزروع ، وقد منعوا من ذلك فكلموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك فقالوا : هب الرجال عاديت فما بال النساء والصبيان؟ فأذن للنساء في حمل الميرة إليهم.

__________________

(١) لسان العرب ج : ٥ ص : ٣٨١.

العله ، وبر يخلط بدماء الحلم كانت العرب في الجاهلية تأكله في الجدب وفي حديث عكرمة كان طعام أهل الجاهلية العله.

١٤٨

ومن ثمراتها :

جواز الدعاء عليهم بالقحط ونحوه ، ويجوز الحمل للميرة على حسب ما يرى الإمام.

وأما أهل القبلة : فقد ورد الأثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنهم لا يمنعوا من ميرة ولا شراب.

قال المؤيد بالله في الإفادة ، وحكاه في (شرح الإبانة) عن الناصر ، والأخوين : إنه يجوز المنع لمصلحة يراها الإمام ، وإن الخبر محمول على عدم المصلحة.

قال الحاكم : ويكون ذلك عقوبة للكفار ، ومحنة لغيرهم من الصبيان : كالأمراض.

قوله تعالى

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) [النحل : ١١٤]

قيل : أراد من الغنائم ، وقيل : حلالا.

قيل : أراد ما يلتذ به ، وطيبا ما كسبه : عن أبي مسلم ،

فعلى هذا يكون من ثمرة الآية :

حل الغنائم ، وأن ما كسبه الإنسان له مزية ؛ لأنه وصفه بالطيب على ما فسر به أبو مسلم.

قوله تعالى

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ)

إلى آخر المحرمات المذكورة ، وقد تقدم شرح ذلك في سورة البقرة.

١٤٩

قوله تعالى

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) [النحل : ١١٦]

المعنى : ولا تقولوا الكذب ـ بنصب الكذب ـ بتقولوا ، وهذه القراءة الظاهرة ، أي : لا تقولوا الكذب لما تصف ألسنتكم من البهائم هذا حلال وهذا حرام ، وذلك إشارة إلى قولهم : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) من غير أن تسندوا ذلك الوصف إلى وحي من الله.

وقيل : ما مصدرية ، والمعنى : ولا تقولوا لأجل وصف ألسنتكم (الكذب) ـ بنصب الباء وينتصب بتصف ـ ، وقرئ (الكذب) بالجر ـ صفة لما المصدرية ـ ، وهو مروي عن الحسن ، وقرئ (الكذب) ـ بضم الكاف والذال ورفع الباء ـ على أنه وقع صفة للألسنة.

وعن يعقوب : ـ بضم الكاف والذال وفتح الباء ـ أي : الكاذبين من رؤسائكم ، أي : تصفه بأنه حلال وحرام ، هذا حلال وهذا حرام.

قيل : أراد البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام.

وقيل : حللوا وحرموا بخلاف أمر الله.

وقيل : جميع ما حللوا وما حرموا بخلاف أمر الله.

وقوله تعالى : (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ) أي : لتكذبوا على الله ، في إضافة التحليل إليه.

وثمرة ذلك :

النهي عن التحليل والتحريم بغير حجة من الله تعالى ، بل من جهة أنفسهم.

١٥٠

قال الحاكم : ولا خلاف أنه كفر ، ولعل مراده حيث يكون في ذلك تحريم ما علم تحليله ضرورة ، أو تحليل ما علم تحريمه ضرورة.

مثال الأول : تحريم النكاح والبيع.

ومثال الثاني : إباحة الزنا والخمر ، فأما لو حرم بلسانه شيئا على نفسه كأن يقول : حرمت على نفسي هذا الخبز أو الماء فقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى في سورة المائدة : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧].

قوله تعالى

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : ١١٩]

النزول

قيل نزلت في قوم أسلموا ثم ارتدوا ، ثم أسلموا فقبل الله توبتهم.

وثمرة الآية :

صحة قبول توبة المرتد ، وهذا مذهب جماهير العلماء.

وقال أحمد بن حنبل : لا تقبل توبته.

وقال إسحاق : لا تقبل إذا ارتد في الدفعة الثالثة.

وقوله تعالى : (بِجَهالَةٍ). أي : جاهلين بالله ، وبعقابه ، أو غير متدبرين للعاقبة لكون الشهوة غلبت عليهم.

وقيل : بداعي الجهل ؛ لأنه يدعو إلى القبيح ، كما أن العلم يدعو إلى الحسن.

ففي ذلك دلالة على وجوب العلم ، ووجوب النظر فيما يفعله الإنسان فلا يقدم على الأمور هجوما ، وخصوصا عند حصول دواعي الشهوة.

١٥١

روى الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في كتابه المسمى ب (بتحذير الأكياس من الباطنية الأنجاس) عنه عليه‌السلام : «من دق في الدين نظره جل يوم القيامة خطره» ويؤيده قوله تعالى في سورة الإسراء : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله يحب البصر النافذ عند مجيء الشهوات ، والعقل الكامل عند نزول الشبهات».

وقوله تعالى : (وَأَصْلَحُوا). يعني أصلحوا بالأعمال بعد التوبة ؛ لأن حراسة التوبة وسائر الأعمال شرط في الغفران.

قوله تعالى : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ). يعني إبراهيم عليه‌السلام.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : روي أنه كان لا يتغدّ إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداه فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاما فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم شكرا لله على أنه عافاني وابتلاكم ،

وفي هذه دلالة : على أن كل نعمة فضل به الإنسان على غيره يجب عليه الشكر لاختصاصه بما خصه الله به ، وأنه ينبغي النظر إلى من هو دون ؛ لأن ذلك يكون سببا في شكر الله تعالى.

وأما المؤاكلة للمجذومين : فقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك.

وروي أنه أخذ بيد مجذوم إلى القصعة وقال : «كل» ثم أكل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : «بسم الله ، ثقة بالله ، وتوكلا عليه» فيكون ذلك خاصا في الأنبياء ؛ لأنهم معصومون على أن يقولوا : أصبنا بسبب المؤاكلة.

وفي الرواية لإيهام الملائكة دلالة على جواز التورية.

١٥٢

قوله تعالى

(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً)

قيل : أراد النبوة.

وقيل : الخلة والثناء الحسن حتى ليس أحد من أهل دين الإسلام إلا وهو يتولاه.

وقيل : تنويه الله تعالى بذكره (١) لطاعته ، وقيل : ذكره في صلاة هذه الأمة ، عند قوله : كما صليت على إبراهيم.

ولهذه الجملة ثمرات وهي : أن هذه نعم من الله سبحانه يجب على من اتفق له شيء من ذلك أن يشكر عليه.

وقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ).

قال جار الله : ثمّ هاهنا فيها من تعظيم رسول الله ما في قوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) والمعنى وأجل ما أولاك من النعم اتباع محمد لك من حيث أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت ؛ لأن ثم للبعد ، والمراد بالاتباع : في دين الإسلام : عن الأصم.

وقيل : من دوام العبادة والتوحيد ، والبراءة من الشرك لا جميع شريعته ؛ لأنه قد نسخ بعضها ، وإنما اتبع الأفضل المفضول لسبق المفضول إلى الحق.

ولقائل أن يقول : يستخرج من هذا أن الراتب في إمامة الصلاة أحق بالاتباع من الأفضل منه لسبقه إلى الحق.

أما لو جاء الإمام الأعظم : فقال الإمام محمد بن المطهر : الراتب أحق.

__________________

(١) هكذا ذكره في الكشاف ج ٢ ص ٦٤٣ عن قتادة.

١٥٣

وقال الإمام يحيى بن حمزة وأصحاب الشافعي : الإمام الأعظم أحق ؛ لأن سلطانه فوق سلطان الراتب ، وقد قال عليه‌السلام : «لا يؤم ذو سلطان في سلطانه».

قوله تعالى

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥]

قوله تعالى : (بِالْحِكْمَةِ) قيل : أراد بالمقالة المحكمة ، وقيل : بالقرآن ،

وقوله تعالى : (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) يعني التي لا يخفى عليهم أنك تنصحهم بها ، وتريد نفعهم ، ويجوز أن يريد بالقرآن ، أي : ادعهم بالقرآن ، الذي هو حكمة وموعظة ، : ذكره جار الله.

وقيل : بالرفق والقول اللين.

وقوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قيل : أراد أحسن الحجج وأثبتها وأظهرها وقيل بالرفق واللين من غير فظاظة ، ولا تعنيف.

وقيل : اعرض عن أذاهم لكن نسخ هذا بآية السيف.

وثمرتها :

وجوب الدعاء إلى الدين ،

فدلت : على لزوم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.

وتدل أنه يجب البداية بالقول اللين ، ولا يجوز أن يبدأ بالخشن.

وتدل على لزوم إزاحة الشبهة بالمحاجة في الدين ، ويلزم من هذا أن يكون الآمر عالما أن ما يأمر به معروفا ، وما ينهى عنه قبيحا ، وأن يعلم كل الشبه التي مع المخالف ، وسائر الشروط مأخوذة من غير هذه الآية.

١٥٤

قوله تعالى

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل : ١٢٦ ـ ١٢٨]

النزول

قال في الكشاف : روي أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد بقروا بطونهم ، وقطعوا مذاكيرهم ، ما تركوا أحدا غير ممثول به ، إلا حنظلة بن الراهب ، فوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حمزة وقد مثل به ، وروي فرآه مبقور البطن فقال : «أما والذي أحلف به لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك» فنزلت ، فكفر عن يمينه ، وكف عما أراده.

قال جار الله : ولا خلاف في تحريم المثلة ، وقد وردت الأخبار بالنهي عنها ، حتى بالكلب العقور.

وفي التهذيب : عن الشعبي ، وقتادة ، وعطاء بن يسار : نزلت في قتلى أحد ، وأن المسلمين قالوا : إن ظفرنا بهم لنمثلن بهم كما مثلوا بنا.

وقيل : في كل من ظلم بغصب أو نحوه ، فإنما يجازى بمثل ما عمل به عن مجاهد ، وابن سيرين ، وإبراهيم ، والثوري.

ثمرات الآية أحكام :

الأول : ثبوت القصاص بما يساوي ، وذلك أن يأخذ اليمين من العينين أو الأذنين باليمين ونحو ذلك.

فأما لو كان البادئ بالقتل قد مثل بمن قتله : فظاهر الآية يدل على أن ولي المقتول يفعل بالفاعل كما فعل ، وهذا قول الشافعي وحصله أبو

١٥٥

طالب من قول الهادي (١) ، من قتل غيره أو جرحه فعل به مثل ما فعل ، واحتجوا بهذه الآية ، وبقوله تعالى في سورة البقرة : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) وبقوله تعالى في سورة المائدة : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٥].

وقالوا : ولأن القصاص يوضع للتشفي.

والذي ذكره المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وحصله أبو طالب أيضا : أنه لا قود إلا بالسيف ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا قود إلا بالسيف» وقياسا على ما لو قتله بالسم ، وبأن المثلة منهي عنها.

الثاني : أن من أتلف على غيره شيئا من ذوات القيم فإن الواجب القيمة ؛ لأن مماثلة العين تتعذر : وهذا قول الأكثر ، وقد يحكى الإجماع.

وعن شريح والحسن ، وعطاء والعنبري : ذوات القيم تضمن بأمثالها.

الثالث : أن العفو أفضل لقوله تعالى : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

قال في التهذيب : وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إن العبد إذا ظلم ولم ينتصر ولم يكن من ينتصر له رفع طرفه إلى السماء ناداه الله عبدي أنا استنصر لك عاجلا وآجلا».

وقوله تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)

قيل : على القتلى من المؤمنين ، وذلك لما ينالون من الفوز بالشهادة.

__________________

(١) قال في البيان : مسألة من قطع يد غيره أو رجله أو نحوها ثم سرى ذلك إلى تلف النفس فعلى قول الهادي وقول للشافعي أنه يفعل به مثل ما فعل فإن مات وإلّا قتل تمت ومثله في البحر تمت.

١٥٦

وقيل : على الكافرين مثل قوله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [المائدة : ٦٨].

وفي ذلك دلالة على حسن الصبر.

وعن هرم بن حبان أنه قيل له حين احتضر : أوص ، فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي. أوصيكم بخواتم سورة النحل.

وقد يقال : إن الآية منسوخة بآية السيف.

وقيل : لا نسخ ، والمراد الصبر على الأذى.

[تم الجزء الثاني بحمد الله تعالى ومنه وكرمه ، وفضله وامتنانه ، فله الحمد كثيرا ، بكرة وأصيلا].

١٥٧
١٥٨

تفسير

سورة الإسراء

١٥٩
١٦٠