تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

وقول صفوان لحسان :

تلق ذباب السيف مني فإنني

غلام إذا هو جيت لست بشاعر

وكان أبي يقرأ (وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين) ، وهذا يحمل على أنه فسر به.

وقيل : كان غلاما يعمل بالفساد ، وتأذى منه أبواه عن الضحاك.

وقيل : كان يقطع الطريق ، وهذا يبيح القتل إذا كان كافرا ، وإن كان قاطعا للطريق محاربا فكذا أيضا ذلك يبيح القتل ، ومع الصغر يكون من باب المنكر يبيح القتل للدفع ، فهذا وجه.

الوجه الثاني : أنه كان صغيرا ، وهذا محكي عن ابن عباس وغيره ، وإذا كان كذلك فما المبيح لقتلة؟

قلنا : في ذلك وجوه :

الأول : يوافق القياس في شريعتنا ، وهو أن ذلك كالدفع عن الغير إذا فرض أنه قاطع طريق.

الثاني : أن الخضر عليه‌السلام علم أنه إذا أدرك (١) كان على العصيان.

وروي عن ابن عباس أن نجدة الحروري كتب إليه كيف جاز قتله ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه : إن علمت من حال الولدان ما علم عالم موسى فلك أن تقتل. ونجدة كان خارجيا منسوب إلى حروراء ـ بالمد والقصر ـ وهو اسم موضع قريب من الكوفة : ذكره ابن الأثير.

الوجه الثالث : أن في قتله لطفا لأبويه ، واللطف الذي يدفع عن الطغيان والكفر واجب ، ولهذا بين الخضر الوجه بقوله : (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) قيل : هو من قول الخضر ، وقيل : من قول الله : عن الأصم.

__________________

(١) أي بلغ تمت.

٢٢١

أسئلة كلامية

الأول : أن يقال : كيف يحسن إنزال المضرة بإنسان ليكون لطفا لآخر؟

جوابه أن اللطف تابع لنفع من أنزلت به المضرة (١) ، وذلك تعويضه وإدخاله الجنة فحصل بقتله أمران اللطف والعوض.

الثاني : أن يقال : هل يستوي في حصول اللطف الموت والقتل؟

قال الحاكم : ذلك يختلف ، قد يكون الموت لطفا دون القتل فيجب الموت وعكسه ، فيجب القتل ويستويان فيخير.

الثالث : أن يقال : هل يحسن منا إن علمنا كما حسن من عالم موسى؟ جوابه ما تقدم عن ابن عباس في جوابه لنجدة أنه يحسن ، لكن إنما يكون العلم بخبر نبي ، وهذا إذا قلنا : إنا متعبدون بشرائع من تقدم ، وإن قلنا : إنا غير متعبدين لم يحسن منا ، وإن أعلمنا نبي ؛ لأن الشرائع تختلف.

ومنها : جواز السؤال للحاجة وقد يجب ذلك من قوله (اسْتَطْعَما أَهْلَها).

ومنها : جواز الإجارة من قوله : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً).

__________________

(١) بذا الجواب يستقيم على أصل أبي العباس من وجهين :

الأول : أن يحسن الألم لمجرد العوض فهو مقصود للألم عنده والعوض مانع.

الثاني : أن يقول إن العوض يبلغ مبلغا عظيما وإنه دائم غير منقطع فيكون مستحقه من أهل الجنة إذ لا لا دار .... غير الجنة والنار عنده. وأبو هاشم يخالفه في الوجهين فيجوز اللطف مقصود أن الألم والعوض مضمنا وتابع ولا يقول بدوامه فيجوز أن يوفر في غير الجنة والله أعلم.

٢٢٢

قوله تعالى

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما)(١) [الكهف : ٧٨ ـ ٨٢].

ثمرات ذلك :

منها : أخذ الشافعي من قوله : (فَكانَتْ لِمَساكِينَ) أن المسكين أحسن حالا من الفقير ، ومذهب الأئمة أن الفقير أحسن حالا لقوله تعالى : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد : ١٦].

قيل : أراد قد لصق جلده بالتراب لشدة عريه.

وقالوا : في هذه الآية أن حصة كل واحد يسيرة أو أنهم أجراء ، ولهذا قرئ في الآحاد (لمسّاكين) بتشديد السين.

وعن الكلبي : كانت لعشرة إخوة ، خمسة زمنين ، وخمسة يعملون في البحر.

__________________

(١) سؤال حسن : لم قال في الآية الأولى : فأردت وفي الثانية : فأردنا وفي الثالثة : فأراد ربك؟

الجواب : أنه في الأولى في الظاهر إفساد فأسنده إلى نفسه. وفي الثالثة العام مخص فأسنده إلى الله تعالى وفي الثانية إفساد من حيث القتل العام من حيث التبديل فأسنده إلى نفسه وإلى الله تعالى. وقيل : لأن القتل كان منه وإزهاق الروح من الله تعالى تمت من الغرائب والعجائب.

٢٢٣

وقوله : (وَراءَهُمْ) قيل : أراد أمامهم ، كقوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) [الجاثية : ١٠].

وقيل : أراد خلفهم ، لكنهم يمرون عليه بالرجوع ، ولم يعلموا به ، عن الزجاج.

ومنها : في قوله تعالى : (وَأَقْرَبَ رُحْماً) قيل : أراد أبر بوالديه.

وقيل : أوصل للرحم دل ذلك على حسن صلة الرحم.

نكتة : قال في التهذيب عن جعفر بن محمد : رزق جارية فولدت الجارية سبعين نبيا.

وقيل : تزوجها نبيّ من الأنبياء فولد له نبيا ، فهدى الله على يديه أمة من الأمم ، عن الكلبي.

ومنها : في قوله تعالى : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) قيل : كانت صحف علم مدفونة عن ابن عباس.

وقيل : كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه

بسم الله الرحمن الرحيم

عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، عجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ، عن ابن عباس ، والحسن ، وجعفر بن محمد ، وروي ذلك مرفوعا.

وقيل : كان مالا ، وهذا مروي عن قتادة ، وأبي علي ، وعكرمة ، وأنكر الأصم أن يكون علما ، وهذا يدل على جواز جمع المال وتخليفه للورثة ، كما فعله ذلك الصالح.

وعن قتادة : أحل الكنز لمن قبلنا ، وحرم علينا ، وحرمت الغنيمة

٢٢٤

عليهم ، وأحلت لنا ، وأراد بتحريم الكنز علينا ما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة : ٣٤] وقد فسر الكنز بعدم التزكية.

ويؤخذ من ذلك حسن الرعاية لحق الصالح في أولاده ، وإن تقادمت الأبوة.

وعن جعفر بن محمد : كان بين الغلامين وبين الأب ـ الذي حفظا فيه يعني : من أجله ـ سبعة آباء.

وعن الحسين بن علي وقيل عن الحسن بن علي عليهما‌السلام : أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله الغلامين؟ قال : بصلاح أبيهما ، قال : فأبي وجدي خير منه ، فقال : قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون.

قال الحاكم : ودلت على أنه يجب على العالم بيان المتشابه كما فعله الخضر عليه‌السلام.

نكتة أخرى :

ذكر الحاكم أن الخضر عليه‌السلام قال لموسى عند أن فارقه : كن نفاعا ، ولا تكن ضرارا ، وكن هشا ، ولا تكن غضبانا ، وانزع عن اللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تعجب من غير عجب ، ولا تعيرن أحدا بخطيئته ، وابك على خطيئتك ، يا موسى تعلّم ما تعلمت لتعمل به ، لا لتحدث به فيكون عليك وباله ، ولغيرك نوره ، واجعل التقوى لباسك ، والذكر والعلم كلامك ، وهذه داخلة في الأحكام الشرعية.

قال الحاكم : ومن الناس من يقول : إن الخضر حي وهو فاسد ؛ لأنه نبي ولا نبي بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٢٥

إن قيل : في الرواية أنه عزّى أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النبي عليه‌السلام (١).

قوله تعالى

(إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) [الكهف : ٨٦]

قيل : خير بين القتل والأسر ، وسماه حسنا بالإضافة إلى القتل.

وقيل : كان في شريعتهم التخيير بين القتل والعفو عن الكفار.

وقوله تعالى

(أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) [الكهف : ٨٧]

قيل : أراد أصر على كفره ، ولم يتب.

قوله تعالى

(فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) [الكهف : ٩٤]

قد استدل بهذا على أنه يجوز أخذ الأجرة على الواجب ، والاستدلال بهذا على الجواز مردود ؛ لأن ذي القرنين أنكر عليهم بقوله : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ، وقد قال الحاكم : في ذلك دلالة على أن الأجرة لا تؤخذ على ما جرى مجرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتدل الآية على أن الإمام يستعين بغيره على دفع المنكر.

قوله تعالى

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) [الكهف : ١٠٣ ـ ١٠٥]

__________________

(١) يقال : إن صح ذلك فقد صار متعبدا بشريعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقال في نزول المسيح عيسى بن مريم في آخر الزمان فهذا أحسن ما يجاب له والله أعلم (ح / ص).

٢٢٦

وثمرة ذلك :

وجوب التشدد في طلب الحق ؛ لئلا يبطل سعيه بالتقصير في النظر والطلب ، وأنه مع التقصير يكون عاصيا ، ولو ظن أنه على الحق.

وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز التقليد في المسائل الإلهية ، وجوز العنبري التقليد فيها ، وكذا ذكر أبو مضر.

وعن القاسم عليه‌السلام مقلد المحق ناج.

قوله تعالى

(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠]

قال في الكشاف : قيل : نزلت في جندب بن زهير ، قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني ، فقال : «إن الله لا يقبل ما شورك فيه».

وروي أنه قال : «لك أجران أجر السر وأجر العلانية» وذلك إذا قصد أن يقتدى به.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتقوا الشرك الأصغر» قالوا : وما الشرك الأصغر؟ قال : «الرياء».

نكتة :

قال جار الله وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرئ عند مضجعه : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كانت له في مضجعه نورا يتلألأ إلى مكة ، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم ، وإن كان مضجعه بمكة كانت له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ».

تم ما نقل من سورة الكهف.

٢٢٧
٢٢٨

تفسير

سورة مريم

٢٢٩
٢٣٠

سورة مريم ـ عليها‌السلام ـ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى :

(إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣]

قيل : كان دعاء زكريا عليه‌السلام حفية ؛ لأنه أبلغ في التضرع ، وأبعد من الرياء ، فيكون أقرب إلى الإجابة ، وهذا مروي عن ابن جريج.

وفي الحديث عنه عليه‌السلام : «خير الذكر الخفي» فيدل هذا على أن الأفضل دعاء السر ، فإن أمن على نفسه من الرياء ، وقصد التعليم كان الجهر أفضل ، كما قيل في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : إنما دعا خفية لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبر والشيخوخة.

وهذا يدل أنه ينبغي تجنب ما يكون سببا في اللوم ، وعليه الحديث عنه عليه‌السلام : «دع ما عند الناس إنكاره ، وإن كان عندك اعتذاره».

وقيل : أخفاه خوفا من مواليه الذين خافهم.

وقيل : خفت صوته لضعفه وهرمه ، كما جاء في صفة الشيخ : صوته خفات ، وسمعه تارات.

واختلف في سن زكريا الذي دعا فيه ، فقيل : ستون ، وقيل : خمس وستون ، وقيل : سبعون ، وقيل : خمس وسبعون ، وقيل : خمس وثمانون.

٢٣١

قوله تعالى

(إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) [مريم : ٤]

إنما ذكر وهن العظم والشيب تضرعا وتذللا بضعف حاله ، وإنما قال : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) ، أي : قد عودتني الإجابة ، وأنك لا تخيبني ، وذلك توسل منه إلى الله تعالى بما سلف له من الإجابة ، فهذه أمور من آداب الدعاء أن يكون خفية ، وأن يكون بالتضرع والتذلل ، وأن يدعو الله تعالى متوسلا إليه بما عوده من النعم.

ويروى أن معن بن زائدة سأله محتاج وقال : أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا ، فقال : مرحبا بمن توسل إلينا بنا ، وقضى حاجته.

قوله تعالى

(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم : ٥ ، ٦]

دلت على جواز تمني الولد ، ولكن إنما يستحب تمنية لأمر ديني ؛ لأن زكريا خاف من مواليه وهم كلالته.

وقيل : عصبته. وقيل : بنو عمه. خاف منهم على الدين أن يغيروه وأن يبدلوه.

وكانوا أشرار بني إسرائيل ، وأراد ميراث العلم ؛ لأن الأنبياء لا تورث ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» وقد ورد استعمال الإرث في العلم ، قال تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) [فاطر : ٣٢].

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «العلماء ورثة الأنبياء» وقول أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ

٢٣٢

في جوابه لفاطمة ـ عليها‌السلام ـ لما قالت له : أأنت ورثت رسول أم أهله؟ فقال : بل أهله (١).

قوله تعالى

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [مريم : ٧]

دلت على حسن التبشير بما يسر ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن من موجبات المغفرة إدخال السرور على أخيك المسلم» ودلت على أن المرسل هو المبشر ، فلو قال رجل : من يبشرني بكذا من عبيدي فهو حر ، فأرسل إليه عبده بالبشارة عتق ، والرسول أيضا يسمى مبشرا ، قال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ) فلو أرسل عبدا آخر بالبشارة لزم أن يعتقا معا.

قوله تعالى

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم : ١١]

قيل : أراد بالإيحاء الإشارة ، وقيل : الكتابة ؛ وهذا يدل على أن الإشارة والكتابة ليستا من الكلام ، فلو حلف لا تكلم فأشار ، أو كتب ، لم يحنث.

وعن الشافعي : يحنث بالإشارة ، وجعلها من الكلام ، لقوله تعالى في سورة آل عمران : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران : ٣١] والاستثناء حقيقة يكون من الجنس.

قوله تعالى

(وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢]

قيل : أراد النبوة ، وأن الله تعالى أكمل له العقل وهو صبي ، وهذا خاص فيه ؛ لأن البلوغ شرط في الولايات.

__________________

(١) بياض في الأصل.

٢٣٣

وقيل : أراد بالحكم الفهم للتوراة والفقه في الدين.

وروي أنه دعاه الصبيان للعب ، قال : ما للعب خلقنا.

ومن ذلك قوله :

واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت

إلى حمام سراع وارد الثمد

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلا حمامتنا أو نصفه فقد

أراد زرقاء اليمامة وهي امرأة يضرب بها المثل في حدة البصر ، وكانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام ، فنظرت إلى حمام بين جبلين تطير من بعد تسرع إلى الثمد ، وهو الماء القليل ، فلما وردت الماء فإذا هو ست وستون.

قوله تعالى

(فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦]

اختلف ما أريد بالصوم ، فقيل : السكوت عن الكلام ، وقيل : الصوم الشرعي ، لكنهم كانوا لا يتكلمون وهم صيام ، وهذا كان في شريعتهم.

أما في شرعنا : فقد نسخ ؛ لأنه نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صوم الصمت ، وفي الحديث : «لا صمات في الإسلام» فتكون الآية دالة على صحة النذر بالصوم الشرعي.

وأما النذر بالسكوت : فمنسوخ أي وجوبه ، فلو نذر به فقد يكون محظورا إذا وجب الكلام كرد السّلام ، وواجبا إذا كان الكلام محظورا فيلزم الوفاء به ، وقد يكون مباحا فيبطل نذره عند أبي العباس ، وأبي طالب ، وعند المؤيد بالله إذا لم يف به كفر.

وإنما أمرت بالسكوت لأمرين :

الأول : أن عيسى صلّى الله عليه يكفيها الكلام بما تبرأ به ساحتها.

٢٣٤

والثاني : كراهة مجادلة السفهاء.

قال جار الله : وفيه دلالة أن السكوت عن السفهاء واجب ، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها.

وقال رجل لبعض السلف : لو قلت واحدة لسمعت عشرا ، فقال : ولو قلت أنت عشرا لما سمعت واحدة.

قال جار الله : ما قرع السفيه بمثل الإعراض ، ولا أطلق عنانه بمثل العراض ، وهذا يصدقه قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩].

شعرا :

رجعت على السفيه بفضل حلمي

كأن الحلم صار له لجاما

فظن بي السفاه فلم يجدني

أسافهه وقلت له سلاما

فقام يجر رجليه ذليلا

وقد كسب اللآمة والملاما

وفضل الحلم أبلغ في سفيه

وأحرى أن ينال به انتقاما

قوله تعالى

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) [مريم : ٢٩]

هذا دليل أن الإشارة ليست بكلام فلا يحنث بها من حلف من الكلام وهذا ظاهر ؛ لأنها غير داخلة في حقيقة الكلام.

قوله تعالى

(وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) [مريم : ٣٢]

قال الحاكم : دل ذلك على حسن التواضع.

٢٣٥

قوله تعالى

(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧]

قيل : سلام متاركة ومباعدة عن أبي علي ، وأبي مسلم.

وقيل : أمان لك مني ، وقيل : أراد سلامة الدنيا ، والدعاء بمثل هذا جائز للكافر.

وقيل : معناه سلمت مني ، وقوله تعالى : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) قيل :

وعده بالاستغفار على مقتضى العقل حتى منعه الشرع.

وقيل : أراد بالاستغفار أن لا يعذبه في الدنيا.

وقيل : استغفارا مشروطا بالتوبة ، وفي جواب إبراهيم عليه‌السلام تحلم وملاطفة ، وعدم مجازاة لقول أبيه لأرجمنك.

قوله تعالى

(وَأَعْتَزِلُكُمْ)

دل : على وجوب الهجرة ، وعدم موالاة الكافر وموادته.

قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) [مريم : ٥٤]

دلت : على أن الوفاء بالوعد له محل.

قيل : خص إسماعيل بذلك ؛ لأنه وعد صديقا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة ، وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى به حيث قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [مريم : ١٠٢].

قوله تعالى

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم : ٥٨]

٢٣٦

هذا راجع إلى من سبق ، إما إلى النبيين ومن بعدهم ، وإما إلى قوله : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا)

وقد استدل من أوجب سجود التلاوة بهذه الآية ؛ لأنه لا سجود في القرآن إلا سجود التلاوة ، والله تعالى إنما بين صفتهم بالسجود ليقتدى بهم ، وهذا قول أبي حنيفة ، وصاحبيه : إنه يجب على القارئ والمستمع ، لكن إنما يجب في مواضع محصورة.

ومذهب أكثر الأئمة ، والشافعي : أنه غير واجب ، ويحملون هذا على الاستحباب ، واحتجوا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسجد عند أن قرأ عليه زيد بن ثابت (النجم) ، وقد روي أنه سجد ، فلما فعله مرة وتركه مرة دل أنه ليس بواجب.

واحتجوا أيضا بما روي أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة يوم الجمعة وهو على المنبر فنزل وسجد وسجدوا معه ، ثم قرأها في الجمعة الأخرى فتهيئوا للسجود فقال عمر : على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء ، وكان ذلك بحضرة المهاجرين والأنصار ، ولم ينكر عليه.

واحتجوا بأنها لو كانت واجبة لم يفعلها من قعود على الراحلة في السفر ، وبأنها لو كانت واجبة لبطلت الصلاة بتركها.

احتج الموجبون بقوله تعالى في سورة الانشقاق : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) [الانشقاق : ٢١] فذمهم على ترك السجود ، أجبنا بأن ذلك في الكفار ، أو أراد الخضوع.

قالوا : قال تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) [السجدة : ١٥].

أجبنا : بأنه أراد سجود الصلاة أو الخضوع ، أو الاستحباب ؛ لأن ذلك لا يكون شرطا في الإيمان إجماعا.

٢٣٧

أما استثمار استحباب الخشوع والبكاء فذلك ظاهر ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتلوا القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا».

وعن صالح المري ـ رضي الله عنه ـ : قرأت القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام فقال : «يا صالح هذه القراءة فأين البكاء».

وعن ابن عباس : (إذا قرأتم سجدة سبحان الله فلا تعجلوا في السجود حتى تبكوا ، وإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن القرآن نزل بحزن ، فإن قرأتموه فتحازنوا» هكذا في الكشاف قال فيه : وقالوا : يدعو في سجود التلاوة بما يليق بآيتها ، فإذا قرأ آية تنزيل السجدة قال : اللهمّ اجعلني من الساجدين لوجهك ، المسبحين بحمدك ، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك.

وإن قرأ سجدة سبحان الله قال : اللهمّ اجعلني من الباكين إليك ، الخاشعين لك.

وإن قرأ هذه الآية قال : اللهمّ اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين ، الساجدين لك ، الباكين عند تلاوة آياتك.

والمذهب يسبح فيها بما يسبح في سجود الصلاة.

قوله تعالى

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١]

استحسنّا ذكر ما قيل في ذلك بيانا لما اشتبه.

وقد اختلف علماء التفسير في المراد فقيل : هذا يختص بالمشركين فيكون المعنى بيّنا. وهذا مروي عن عكرمة ، والأصم ، والقاضي.

وقوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [مريم : ٧٢] ابتداء وليس بعطف ، أي ننجيهم من الدخول ، نظيره :

٢٣٨

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [البلد : ١٧] وقيل : هو عام ، ثم اختلفوا على أقوال :

فقيل : أراد بالورود الدخول ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) لكن يردها المؤمن وهي خامدة فيعبر بها ، وتنهار بغيرهم.

وعن ابن عباس : يردونها كأنها إهالة وروي دواية (١) وهي الجليدة التي تعلو المرق.

وروي أن جابرا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عليه‌السلام : «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار ، فيقال لهم : قد وردتموها وهي جامدة».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم».

وأما قوله تعالى : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) فالمراد من عذابها.

قال ابن مسعود ، والحسن ، وقتادة : الورود : الجواز على الصراط.

وعن ابن عباس : قد يرد الشيء الشيء وإن لم يدخله ، كقوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) [القصص : ٢٣].

وعن مجاهد : ورود المؤمن النار هو مس الحمّى جسده في الدنيا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحمى من فيح جهنم».

وقال عليه‌السلام : «الحمّى حظ كل مؤمن من النار».

وقيل : الورود للقرب منها ، نحو : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ). وقولهم : وردت القافلة البلد ، وإن لم تدخل.

__________________

(١) دواية كثمامة وبكسر : وهي ما تعلو ال ... واللبن إذا ضربتها الريح تمت قاموس فصل الدال المهملة.

٢٣٩

قوله تعالى

(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٢ ، ٩٣]

استدل بهذا على أن البنوة والملك لا يجتمعان ، وهذا قول أكثر العلماء.

وعن داود : اجتماع البنوة والملك ، وأن من ملك أباه أو ابنه لم يعتق ، وأما سائر ذوي الأرحام المحارم فمذهب الأئمة وأبي حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي ، وابن حيى ، وهو مروي عن عمر ، وعبد الله : أنهم يعتقون ، وأخذوا ذلك من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ملك ذا رحم محرم فهو حر».

وقال الشافعي : لا يعتق إلا الأصول والفروع.

قوله تعالى

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) [مريم : ٩٧]

ثمرة ذلك :

الدلالة على أن القرآن الكريم عربي ، فلا تصح في الصلاة قراءته بالعجمية أحسن العربية أم لا ، وهذا مذهب الأئمة ، والشافعي ؛ وتحرير الدلالة أن الصلاة لا تصح إلا بقرآن لقوله تعالى في سورة المزمل : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] وقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل : ٢٠] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها».

وإذا ثبت ذلك فما يقرؤه بالفارسية ليس بقرآن لهذه الآية ، ولقوله تعالى في سورة الشعراء : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) وقوله تعالى في سورة يوسف : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف : ٢] وقوله تعالى في سورة حم السجدة :

٢٤٠