تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

سورة المؤمنون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) [المؤمنون : ١ ـ ١٠]

ثمرات هذه الجملة الكريمة أحكام :

الأول : استحباب الخشوع في الصلاة ، ومنه ما يجب لأن الخشوع والخضوع متقارب ، وهو يكون بالقلب والجوارح.

فبالقلب : أن يقصد الله تعالى بالعبادة فهذا يجب ، ويستحب تفريغ القلب ، واستشعار الخوف ، وأ لا يخطر بباله سوى العبادة لله.

وأما بالجوارح : فالسكون والطمأنينة ، وترك الالتفات ، وألا يعبث بلحيته.

قال جار الله : ويتوقى كف الثوب ، والتمطي والتثاؤب والتغميض ، وتغطية الفم ، والفرقعة (١) والتشبيك ، وتقليب الحصى ، والاختصار ،

__________________

(١) بالفاء بعدها راء ثم قاف ثم عين. الفرقعة : غمز الأصابع حتى يسمع لها صوت وفي النهاية مثله وسيأتي ذكر الفرقعة في العنكبوت.

٣٢١

يعني : وضع اليد على الخاصرة وفي الحديث نهي عن التخاصر في الصلاة.

قيل : هو أن يضع يده على الخاصرة ، وقيل : على مخصرته وهي العصا.

وقيل : أن يختصر بعض السورة ، وقيل : أن لا يتم الأركان والسدل ، وهذا باب قد وسع فيه العلماء وأفردوا للخشوع في الصلاة أبوابا ، وجمعوا فيها آثارا وحكايات للصالحين.

وروى الحاكم في السفينة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ركعتان خفيفتان في تفكر خير من قيام ليله والقلب ساه ، وأن القوم يكونون في صلاتهم وبينهم في الفضل كما بين السماء والأرض» فتفرع من هذا أنه ينبغي أن يقدم الخاشع في الإمامة على غيره.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي رافعا بصره إلى السماء ، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده.

وهاهنا ألفاظ نذكر ما قيل فيها :

أما التغميض : فالمذهب أنه مكروه غير مفسد ، وهذا مروي عن الصادق ، والكرخي.

وقال المنصور بالله : إذا غمض في أكثر الصلاة بطلت في قول.

وأما السدل : فهو أن يجعل الثوب على الرأس والكتفين ، ويرسل أطرافه (١) ، وفي الحديث نهي عن السدل في الصلاة ، هكذا في الضياء.

والقاسم عليه‌السلام قال : لا بأس بالسدل ، وهو قول مالك وكرهه أبو

__________________

(١) وقيل هو أن يلتحف بثوب ويدخل يده من داخل ويركع ويسجد كذلك وكانت اليهود تفعله تمت.

٣٢٢

حنيفة ، والشافعي ، قالوا : إنه يكره ؛ لأن عليا عليه‌السلام رأى قوما يسدلون في الصلاة فقال : كأنهم اليهود يخرجون من فهورهم (١) أي من مدارسهم.

وأما وضع اليمين على اليسار ، فهذه مسألة خلاف بين العلماء :

فقال المؤيد بالله : مذهب عامة أهل البيت أنه غير مشروع.

وقال أبو طالب : ويفسد إذا طال ؛ لأنه فعل كثير.

وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، ورواية للقاسم : إنه مشروع ، ورووا أخبارا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففي حديث أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بأخذ الكف تحت السرة ، وفي حديث وائل بن حجر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يضع اليمين على اليسار تحت صدره.

وأجاب أهل المذهب : بأن في هذا تعارضا.

وقال مالك : لا يضع إلا في النافلة إذا طالت.

ووجّه سبب الخلاف في النهاية بأن قال : من أثبت الوضع تعلق بما ورد ، ومن نفاه قال : قد رويت آثار ثابتة في صفة صلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينقل فيها الوضع ، والزيادة المروية غير مناسبة لأفعال الصلاة.

وقال مالك : ليست مناسبة ، وإنما هي من باب الاستعانة فأجاز ذلك في النفل.

قال صاحب النهاية : الذي يظهر من أمرها أنها هيئة تقتضي الخشوع وهو الأولى في الصلاة ، وهذا ترجيح لثبوت ذلك.

قال في الشرح : ويكره أن يصلي عاقصا شعره ، وأن يفترش ذراعيه.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).

__________________

(١) جمع فهر ـ بضم الفاء ـ.

٣٢٣

قيل : هو الإعراض عن المعاصي : عن الحسن ، وأبي علي ، وأبي مسلم.

وقيل : الحلف الكاذب : عن ابن عباس.

وقيل : الشتم : عن مقاتل. وقيل : الباطل.

وقال جار الله : اللغو ما لا يعنيك أمره من قول أو فعل ـ كاللعب والهزل ـ وما توجب المروءة تركه ، تمّ كلامه.

وقد جاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) قيل : في فاعلون دلالة على المداومة ، والمعنى الظاهر : أن المراد الزكاة المفروضة.

وقيل : أراد بالزكاة كل فعل محمود ، ومنه اشتقت الزكاة ، ولكن دلالة الآية على الزكاة مجملة ، وبيانها من جهة السنة الشريفة.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ).

في معنى ذلك وجوه :

الأول : أن المراد بقوله (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ :) أي إلّا عن أو إلّا من ؛ لأن الحروف تعاقب.

الثاني : أن المعنى لا يحلون الإزار إلا على أزواجهم ، أو يلامون إلّا على أزواجهم.

قيل : عنى بذلك فروج الرجال خاصة ، بدليل ما بعده.

وقيل : أراد فروج النساء والرجال.

وثمرة ذلك :

لزوم حفظ الفرج من الزنى ، واللمس ، والبصر إلّا من الزوجة

٣٢٤

والأمة يخرج من ذلك النظر للمعالجة والختان ، واللمس لهما لورود الأمر بالختان ، ولقوله عليه‌السلام : «عند الضرورات تباح المحظورات».

وقوله تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ).

هذه إباحة مطلقة ، ويخرج من هذا ما عرف تحريمه من الزوجة : وهو حال حيضها ، وإحرامها ، وظهارها ، وصيامها الفرض ؛ لأنه غير مراد للعلم به ، وكذا حال تزويج الأمة.

وعموم الآية جواز الاستمتاع من الزوجة والأمة في أي مكان يكن ، خرج تحريم الأدبار بالسنة الشريفة نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تأتوا النساء في أدبارهن» والرواية عن مالك ، وابن عمر في جواز ذلك : قد أنكرت.

وقيل : إنها كذب ، والرواية عن الإمامية في جواز إتيان الإماء في الأدبار خارجة من أقوال العلماء.

قال في الانتصار : ويجوز الاستمتاع فيما بين الأليتين ، وحلقة الدبر من غير إيلاج ؛ لأن ذلك ليس بموضع الأذى ، وهل يدخل في هذه الإباحة جواز المتعة وتحريمها؟

قلنا : قال الزمخشري : لا تدل الآية على تحريمها ؛ لأن المنكوحة بنكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صح النكاح.

وقال الحاكم : في الآية دلالة على تحريم المتعة ، وقد استدلت عائشة بها على التحريم ؛ لأنه لا ملك ولا عقد نكاح ، بدليل عدم الموارثة.

ويدخل في التحريم وطء الجارية المشتركة ، وأمة الابن ، وعموم الآية جواز وطء الأمة الكتابية ، وقد قال بذلك أبو حنيفة ، والشافعي.

ومذهبنا تحريمه لقوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] والنكاح في حق الإماء يستعمل في مجازه وهو

٣٢٥

الوطء عندنا ، ولقوله تعالى في سورة النساء : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) [النساء : ٢٥].

وجوز أبو حنيفة : نكاح الأمة الكافرة إذا كانت ذمية ، كما جوز ذلك في الحرة ، ومنعه مالك ، والشافعي.

ولو كان له أمتان أختان حرم الجمع بينهما في الوطء عند الجمهور ، وهو مروي عن علي عليه‌السلام ؛ لأن ذلك خارج من العموم لقوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) [النساء : ٢٣] وخرج الجمع في الملك بالإجماع ، وقسنا على تحريم الجمع بين الأمة وبنتها ، وجوز ذلك عثمان لعموم الآية. ويدخل في التحريم لو تزوج امرأة وملك أختها تحريم وطء المملوكة ، فلو عصى وفعل انفسخ نكاح الزوجة ؛ لأن ما منع الابتداء منع الاستمرار.

قال سيدنا : وهذا ما يقضي به النظر ، ولا أعرف فيه نصا ، فلو لمس الأمة لشهوة أو نظر بشهوة وأختها زوجة له هل ينفسخ نكاح الزوجة ؛ لأن ذلك يمنع من ابتداء نكاحها (١)؟.

ومن لم يستقر ملكه كالمكاتب ، والوارث للتركة المستغرقة لم يحل له الوطء.

إن قيل : بما ذا خرج من عموم قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) إتيان المملوك في دبره؟

قلنا : لوجوه ثلاثة :

الأول : أن ذلك إذا خرج من الزوجة والمملوكة فكذا من العبد.

الثاني : الإجماع فإن إباحة ذلك لم تعرف من أحد من السلف والخلف.

__________________

(١) بياض في الأصل تمت.

٣٢٦

الثالث : عموم ما ورد من الأخبار نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أتى رجل رجلا فهما زانيان» وكما أن البهيمة خارجة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله ناكح البهيمة» فكذلك الغلام ، فقد قال جار الله إنما قال : (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ولم يقل (من) ملكت أيمانهم ؛ لأنه أريد أن من جنس العقلاء ما يجري مجرى العقلاء وهم الإناث.

وقوله تعالى : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) [المؤمنون : ٧].

يؤخذ من ذلك أنه يحرم التلذذ واستخراج المني باليد وغيرها ، من حجر يحك ذكره فيها ، ونحو ذلك ، وقد جاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله الناكح كفه».

قال في الانتصار : وهذا قول أئمة العترة ، والأفاضل من الصحابة ، والتابعين.

وعن أحمد بن حنبل ، وعمرو بن دينار : أنهما جوزاه ورخصا في فعله.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) [المؤمنون : ٨].

قال الحاكم : يدخل في ذلك أمانات الله من العبادات ، وأمانات العباد كالودائع والعواري ، والشرك ، والمضاربات ، والبياعات ، والشهادات ، يقال : وكذا يدخل حفظ الأسرار والنصيحة من المستشار ، وقد ورد عنه عليه‌السلام : «المجالس بالأمانات ، والمستشار مؤتمن».

وهذا يدل على وجوب التعهد للودائع ونحوها ، وحفظها بما أمكن من تعهد ما يأكله الدود بنشر الثياب ، وما يأكله السوس بحفظه بالدفن ، والتشريق ، والبيع ، لما يخشى فساده ، وذبح ما خشي تلفه من الحيوان ، وإنفاق ما يحتاج إلى الإنفاق ، وثبوت الولاية لصاحب الأمانة ؛ لأن الراعي

٣٢٧

هو الحافظ والمتعهد للمصالح من رعاة الماشية ، ولكن هذه الأشياء إن لم يوجد أخص منه وهو المالك بأن لا يكون حاضرا.

وقوله تعالى : (وَعَهْدِهِمْ) قال الحاكم : يدخل في ذلك ثلاثة أشياء : أوامر الله تعالى ، والنذور ، والعقود بين الناس ، وإذا جاء بالعهد على طريق اليمين كان ذلك يمينا ، وإذا رأى نقض العهد أقرب إلى الله ، كان كما إذا رأى الحنث أقرب حيث حلف بالله تعالى.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) [المؤمنون : ٩].

كرر الله تعالى ذكر الصلاة.

قيل : لأجل تفخيم شأنها ، وقيل : هما أمران مختلفان.

الأول : أمر بالخشوع فيها.

والثاني : أمر بأن لا تضيع ويحافظ على أوقاتها.

وعن أبي مسلم : الأول : لجميع الصلوات أمر الله تعالى بالخشوع فيها. والثاني : للفرائض.

ويتفرع على هذا أنه يجوز للمصلي إذا كثر شكه أن يخط الركعات على الأرض ، أو يعدها بالحصى ، أو يعد الآي الذي نص عليه الهادي في الأحكام ، وكذلك ما أشبهه ، لكن إطلاق الهادي عليه‌السلام والقاسم والمنصور بالله يجوز ذلك ، ولو بفعل كثير ؛ لأنه من المحافظة ، وقد أمر الله تعالى بها.

وقال القاضي زيد ، والشيخ أبو جعفر : الكثير مفسد قياسا على الأكل والشرب فإنه يفسد بالإجماع.

قال السيد يحيى : إلا أن يكون مبتلى بالعطش والأكل لم يفسد ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اسكنوا في الصلاة» والفعل الكثير ينافي السكون.

٣٢٨

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ).

احتج أبو حنيفة : بهذا على أن من غصب بيضة فأفرخت عنده بالحضن منه أنه يضمن البيضة ولا يرد الفرخ ، والدلالة محتملة ؛ لأنه يقال : ولو كان ذلك خلقا آخر فمن أين أخذت أن الغاصب يملكه.

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء.

قال الهادي ، وأبو حنيفة ، ومالك : إذا فعل الغاصب بالمغصوب ما يزيل اسمه ومعظم منافعه : كأن يطحن الحنطة ، أو يخبز الدقيق ، أو يبذر بالحب ، أو يصير البيضة فراخا ، أو نحو ذلك ، فإن ملك المالك يزول.

وقال المؤيد بالله ، والناصر ، والشافعي : لا يزول.

وأبو علي فصل فقال : إذا فسدت العين ملك كالحب إذا بذر به ، وكذا يأتي في البيض إذا صار فراخا ، لا إذا لم يفسد كالحنطة بطحنها.

قال المؤيد بالله : وهذا ليس بقول ثالث ؛ لأنه أخذ من كل قول بطرف ، فلم يخرج عن قول العلماء.

ومن حجج القول الأول : شاة الأسارى ، وكذلك قوله عليه‌السلام : «الزرع للزراع وإن كان غاصبا» وهو يحتمل أنه أراد وإن كان غاصبا للأرض ، ويحتمل وإن كان غاصبا للبذر ، فيحمل عليهما ، والدلالة محتملة.

وحجة القول الثاني : استصحاب الحال ، وإن تغير الاسم ، وزوال معظم المنافع لا تبطل ملك المالك ، كما لو فعله المالك بنفسه.

قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) يعني المقدرين.

قال الحاكم : وفيها دلالة على إطلاق الخالق على غير الله تعالى.

قال : ولكن إنما يجوز مع التقييد لا مع الإطلاق ، فأما مع الإطلاق فلا يسمي به غير الله.

٣٢٩

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) قال الحاكم : الآية تدل على وجوب الأمر بالمعروف وإن ناله الأذى.

وقد ذكر أبو طالب مسألة فقال : من عرف أنه إذا كسر الطنبور قذف فإنه لا يكسره (١).

قوله تعالى

(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [المؤمنون : ٢٩].

قيل : أراد بهذا عند دخول السفينة : عن أبي علي.

وقيل : المنزل الذي وقف فيه بعد الخروج من السفينة : عن مجاهد.

وقيل : هو عام.

ثمرة هذا : استحباب الاقتداء به عليه‌السلام في أن من نزل منزلا في سفره قاله.

قال في الأذكار : عن صحيح مسلم ، والترمذي ، وموطأ مالك ، عن خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من نزل منزلا ، ثم قال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك».

قوله تعالى : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ).

ثمرتها : إباحة الطيبات وهي ما تشتهى وتستلذ ، وما خرج من ذلك فبدليل ، وقد استدل الإمام يحيى بن حمزة على جواز أكل القطاة والدّراج بأن ذلك من الطيبات ، وكذلك على جواز أكل الشظاة.

والذي خرج للهادي عليه‌السلام : أن أصل الحيوان على الحظر حتى

__________________

(١) بياض في الأصل تمت.

٣٣٠

يقوم دليل الإباحة ؛ لأن إيلام الحيوان محظور عقلا ، واختار الأمير الحسين أنه على الإباحة ، وقد تقدم هذا.

قال في التهذيب : وروي أن عيسى عليه‌السلام كان يأكل من غزل أمه فنبه بالآية أن النبوة لا تحرم الطيبات ، وهذا هو الظاهر لمجيئه عقيب قوله تعالى : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) [المؤمنون : ٥٠].

وقيل : أراد بالطيبات الحلال فيكون الأمر للتكليف وعلى الأول الأمر للترفيه.

قال جار الله : قيل : طيبات الرزق حلال ، وصاف ، وقوام.

فالحلال : الذي لا يعصى الله فيه.

والصافي : الذي لا ينسى الله فيه.

والقوام : ما يمسك النفس ، ويحفظ العقل.

فعلى هذا الحرام ليس من الطيب ، فيلزم أن لا يجوز الوضوء بالماء المغصوب ، ولا الصلاة في الثوب المغصوب ، ونحو ذلك ؛ لأنه انتفاع بغير الطيب.

ولفظ (كُلُوا) إنما ذكره لأنه معظم الانتفاع ، والمراد انتفعوا من الطيب لا من غيره ، وجاء في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا».

وجاء حديث ابن عمر عنه عليه‌السلام : «لو أن رجلا كان له تسعة دراهم من حلال وضم إليها درهم من حرام ، فاشترى بالعشرة ثوبا لم يقبل الله فيه صلاته».

قال الحاكم : وهذه تبطل قول بعض الصوفية في تحريم اللذات.

٣٣١

قوله تعالى

(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون : ٦٠]

القراءة الظاهرة : يؤتون ما آتوا المعنى : يعطون ما أعطوا في القراءة الأحادية ، (يأتون ما أتوا) أي : يفعلون ما فعلوا.

وعن عائشة أنها قالت : قلت يا رسول الله هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟

قال : «لا يا ابنة الصديق ، ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق ، وهو على ذلك يخاف الله ألّا يتقبل منه».

وثمرة ذلك : أنه لا يجوز القطع على قبول صلاة ، أو صوم ، أو نحوه من الطاعات ، وأنه يتوجه على الفاعل الخوف ، والإشفاق من عدم القبول.

وعن الحسن : المؤمن من جمع إحسانا وشفقة ، والمنافق من جمع إساءة وأمنا ، وتلا هذه الآية.

وقد قيل : وجل الطاعة أكثر من وجل المعصية ؛ لأن المعصية تمحوها التوبة ، والطاعة تحتاج إلى تصحيح الغرض.

قوله تعالى

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) [المؤمنون : ٦١]

ثمرة ذلك : حسن المسارعة في الطاعات : من تعجيل الصلوات ، ونحو ذلك.

وقيل : أراد في خيرات الدنيا ، ويكون نظيره قوله تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٤٨] ومثل : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

والخلاف في تأخير الصلاة أنه أفضل أو التقديم ، قد تقدم.

٣٣٢

قوله تعالى

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [المؤمنون : ٦٢]

يدل على أن من حمل نفسه ما لا يطيقه بنذر ـ كأن يوجب على نفسه ألف حجة ـ أنه لا يلزمه ، وليس بعضه بالبطلان أولى من بعض فيبطل الجميع خلافا لأبي مضر أنه قال : يفعل ما يقدر ، ويستنيب عن الباقي وفي الصوم يكفر للباقي.

لا يقال : من وجب عليه القصاص قد كلف فوق طاقته ، وكذلك من كلف من بني إسرائيل بتسليم نفسه للقتل (١) ، أو قطع العضو ؛ لأن ذلك داخل في الطاقة وإن شق.

قوله تعالى

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [المؤمنون : ٧١]

قيل : أراد بالحق خلاف الباطل ، والمعنى لو اتبع أهواءهم لدعا إلى المفاسد والقبائح.

وقيل : أراد بالحق القرآن ، والمعنى لو أنزله الله تعالى على أهوائهم لخرج عن حد الحكمة.

وقيل : أراد بالحق الله تعالى : قاله السخاوندي.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو أطاع الله الناس في الناس لم يكن ناس» والمعنى لو أطاع الله أهواءهم لم يكن إلها ، وإذا كان الأمر كذلك لم يقدر على خلق السماوات والأرض ، وهذا يروى عن قتادة.

__________________

(١) يعني في التوبة تمت.

٣٣٣

ثمرة ذلك : أن الهوى لا يكون طريقا يتبع ، بل يبني الأمر على الحكمة لا على ما تاقت إليه النفوس ، وهذا يحتمل أن يدخل فيه اتباع المذاهب لأجل الهوى.

مثاله : من تاقت نفسه إلى امرأة وهو ممن يعتقد تحريم نكاح المتعة أو لا مذهب له فقال : أتمسك بمذهب من يجيز ذلك لأقضي شهوتي بنكاح المتعة ، أو أتمسك بمذهب أبي حنيفة لشرب المثلث ، أو أتمسك بمذهب من يبيح لحوم الخيل ، ونحو ذلك ؛ لأقضي شهوتي ، وأتمسك بمذهب من لا يوقع طلاق البدعة ، حيث طلق ثلاثا بدعة ، وشق عليه الفراق شهوة لامرأته أو حاجة إليها لصلاح أحواله.

وقد قال قاضي القضاة : الواجب على العالم والعامي أن يعزلا عن أنفسهما محبة المنفعة.

وقد نص المؤيد بالله في سير الإفادة : أن العامي إذا قلد ما عنده أنه أولى بالاتباع ، أو اجتهد العالم لم يكن لهما أن يعدلا عن ذلك ، فإن عدلا عن ذلك كانا مخطئين ولا يفسقان ؛ لأن التفسيق لا يكون إلا بدلالة ،

وقد قال المنصور بالله في مثل هذا : إنه انسلاخ من الدين ، وذكر الغزالي نحو هذا.

وهذه مسألة تحتاج إلى تحقيق ، وقد كثر التعلق بمثل هذا لمجرد الحل ، وقضاء الأرب فيمن طلق امرأته بدعة ، وهو يعتقد وقوعها تقليدا لمن يرى ذلك ، ثم ينتقل إلى مذهب من لم يوقعها.

والمفهوم من قول المؤيد بالله ، والمنصور بالله ، وقاضي القضاة ، وهو محكي عن أبي طالب : أنها قطعية ، فلو حكم الحاكم بصحة الانتقال نقض حكمه من يرى أنها قطعية.

٣٣٤

قوله تعالى

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [المؤمنون : ٧٢]

الخرج : هو الأجر ، ويطلق على ما يعطى الولاة ، وهذا استفهام ، والمراد به النفي ، أي : ما تسألهم على طلب الهداية أجرا ، ولا رزقا.

وقد قرئ : (خرجا فخرج ربك) بغير ألف ، وقرئ خراجا فخراج ربك بالألف فيهما ، وقرئ خرجا فخراج ربك بغير ألف في الأول ، وبالألف في الثاني ، فقيل : هما واحد : وهو الأتاوة.

وعن النضر بن شميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بينهما؟

فقال : الخراج : ما لزمك أداؤه ، والخرج : ما تبرعت به ولم يجب.

والمعنى : ليس ثم ما ينفر عنه في دعائك إلى الهدى ، وذلك المنفر طلب الخراج.

وثمرة هذه الجملة :

أنه يلزم من يبلّغ عن الله تعالى وعن رسوله الشرائع والأحكام ـ وهم الأئمة والقضاة والعلماء بعد الرسول ـ إزالة ما ينفر فلا يجوز لهم قبول ما يتهمون به من الهدايا ، والعطايا ونحو ذلك.

ويستخرج من قوله تعالى : (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)

أنه يجوز إطلاق لفظ الرازق على غير الله تعالى ، نحو قولنا : الرازق للقاضي الإمام والسلطان ، لكن ظاهر اللفظ إطلاقه على الله تعالى ، فلو قال والرازق في اليمين (١) قبل قوله : إنه أراد غيره ، ومع إطلاقه ينصرف إلى الله تعالى.

__________________

(١) أي الحلف تمت.

٣٣٥

قوله تعالى

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون : ٧٦]

النزول

قيل : إن ثمامة بن أثال الحنفي لما أسلم ولحق باليمامة ، ومنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز. ـ قيل : والعلهز : طعام يتخذونه من الدم ، ومن وبر البعير في سني المجاعة ـ جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : «بلى» فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع.

وثمرة ذلك :

جواز منع الميرة من الكفار ، وإن كان فيهم الصغار والنساء ، وقد حاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل الطائف ، ونصب عليهم المنجنيقات ، وهذا إجماع أنه يفعل بهم ما يؤدي إلى استئصالهم.

وأما البغاة : فلا يمنعون الميرة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يمنع أهل القبلة الميرة.

قال الناصر ، والأخوان : هذا إذا لم يتقوّوا بها على المسلمين ، فإن حصل ذلك بالميرة منعوا منها ، وقد دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش بالقحط فقال : «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» وفي ذلك دلالة على جواز مثل هذا الدعاء على الكفار.

قوله تعالى

(رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [المؤمنون : ٩٤]

ثمرة ذلك :

حسن الدعاء ، وجوازه بما يقطع بأن الله يفعله.

٣٣٦

وقد ورد استحباب الدعاء بنحو اللهمّ آت محمدا الوسيلة والفضيلة ونحو ذلك ، وقد ثبت حصول ذلك من غير الدعاء.

قال جار الله : يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذه (١) مما علم أنه لا يفعله ؛ إظهارا للعبودية ، وتواضعا لربه ، وإخباتا له ، واستغفاره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك.

قوله تعالى

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [المؤمنون : ٩٦]

أمر الله تعالى بالتمسك بالأخلاق الجميلة من العفو ، والحلم ، وأن من دعا إلى الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدأ أولا باللطف ، واللين ، وأن يتلقى السيئة بالصفح ، والإحسان ، وفي هذا مضاعفة الحسن ، وهو أن يقابل القبيح بالجميل.

وعن ابن عباس : (التي هي أحسن) : شهادة أن لا إله إلا الله ، والسيئة : الشرك.

وعن مجاهد : السّلام تسلم عليه إذا لقيته.

وعن الحسن : هي الإغضاء ، والصفح ، وقيل : المراد أخّر القتال بالموعظة.

وقيل : أدفع أذاهم بمعاشرتك لهم ، وقيل : ادفع باطلهم ـ ببيان الحجة ـ على لطف.

واختلف المفسرون : هل الآية منسوخة أو محكمة؟

فقيل : إنها منسوخة بآية السيف.

__________________

(١) في الكشاف يستعيذ به تمت.

٣٣٧

وقيل : محكمة ؛ لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى ثلم دين ، أو إزراء بمروءة.

ومن أخبار الشهاب عنه عليه‌السلام : «مداراة الناس صدقة ، ما وقى المرء به عرضه فهو صدقة».

قوله تعالى

(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [المؤمنون : ٩٧]

أمر تعالى بالاستعاذة.

المعنى : أستجيرك وهذا الأمر الذي هو أمر بالاستعاذة قد عطف عليه الأمر بطلب الغفران ، والرحمة في آخر السورة ، وهو أمر (١).

قوله تعالى

(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) [المؤمنون : ١١٠]

قيل : من الاستهزاء ، وقيل : من الاستعباد.

ثمرة ذلك : قبح ما ذكر ، وحسن الصبر على ذلك لمن ابتلي به ، لقوله تعالى : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) [المؤمنون : ١١١].

__________________

(١) بياض في الأصل تمت.

٣٣٨

تفسير

سورة النور

٣٣٩
٣٤٠