تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

وقيل : الغبار ، وقيل : الماء المهراق ، ومن أمثالهم أقل من الهباء.

ثمرة ذلك : حبوط أعمال الكافر التي تعد محاسن من صلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، وقرء ضيف ، ومنّ على أسير.

وكذا لا يصح حجه ، ولا صومه ، ولا عمارته للمساجد ، وتسبيل الأوقاف ، وقد تقدم هذا (١).

قوله تعالى

(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) [الفرقان : ٢٨]

النزول

قيل : نزلت في كل كافر ظالم تبع غيره ، وترك متابعة أمر الله.

وقيل : كان أبيّ بن خلف يحضر مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسمع كلامه فزجره عقبة (٢) : عن عطاء.

وقيل : كان عقبة خليلا لأبيّ بن خلف فأسلم عقبة فقال أبيّ : وجهي عليك حرام إن تابعت محمدا ، فارتد فنزلت : عن الشعبي.

وقال ابن عباس : إن عقبة صنع طعاما ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فامتنع من أكله حتى يشهد بالشهادتين ، فشهد فبلغ أبيّ فقال : ما أنا بالراضي عليك حتى تأتيه وتبزق في وجهه فارتد وفعل ذلك ، وهدر رسول الله دمه فقتل عقبة يوم بدر صبرا ، وقتل أبي بن خلف يوم أحد قتله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده.

وعن الضحاك : لما بزق في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد بزاقه في خده فأحرقه ، وكان أثره ظاهرا حتى مات.

__________________

(١) في أول سورة براءة في قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) الآية تمت.

(٢) بن أبي معيط تمت.

٤٨١

ثمرة الآية : تحريم خلة الكافر والظالم ، وقد ثبت وجوب موالاة أولياء الله ، ومعاداة أعداء الله.

قال الحاكم : والآية عامة في كل متحابين في معصية الله ، وجاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل الجليس الصالح مثل الداريّ إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه ، ومثل الجليس السوء كمثل القين إن لم يصبك ناره أصابتك شراره» (١).

وقد روي عن مالك بن دينار أنه قال : إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار حسن من أن تأكل الخبيص مع الفجار.

ولأبي وائلة :

تجنب قرين السوء واصرم حباله

فإن لم تجد عنه محيصا فداره

واحبب حبيب الصدق واحذر مراءه

تنل منه صفو الود ما لم تماره

وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا

إذا اشتعلت نيرانه في عذاره

قوله تعالى

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان : ٣٠]

هذه شكاية من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ربه من قومه وهم قريش.

وقوله (مَهْجُوراً) فيه وجوه :

الأول : أنهم أعرضوا عنه ، وصدوا عنه ، وعن الإيمان.

والثاني : أنه أراد أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه كقوله : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦].

__________________

(١) بتشديد الياء العطار نسبة إلى الدارين موضع في البحرين يؤتى منه بالطيب تمت نهاية. ويحذيك إذا لم يعطك. والقين الحداد والصائغ تمت.

٤٨٢

وقيل : قالوا فيه غير الحق ، بأنه سحر وأنه أساطير الأولين.

ثمرة ذلك : أن للقرآن الكريم جلالة وحقا ، ولأجل ذلك ورد الوعيد على نسيانه.

وفي سنن أبي داود بالإسناد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجذم» ظاهر كلامهم أن النهي عن نسيان لفظه ، والمنصور بالله قال : النسيان إطراح أحكامه.

وقال في الكشاف : وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تعلم القرآن وعلمه ، وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا أقض بيني وبينه».

قوله تعالى

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) [الفرقان : ٤٨ ، ٤٩]

قيل : بليغا في الطهارة وهو طاهر مطهر.

وقيل : الطهور الطاهر.

وثمرتها : جواز التوضؤ بالماء على عمومه ، فما خرج فبدليل ، وقد تقدم شرح هذا عند ذكر قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : ١١] في سورة الأنفال.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : إن قلت : إنزال الماء موصوف بالطهارة ، وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن أن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش ، يعني : وكان يلزم أن لا يسقى بالمتنجس؟

أجاب : بأنه لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصفه

٤٨٣

بذلك ، وفي ذلك دلالة بالمفهوم أنه لا يتوضأ بالمتنجس ، ولا يشرب المتنجس.

أما الآدمي : فذلك ظاهر.

وأما الأنعام ونحوها : فهكذا عندنا.

وعند أبي حنيفة يجوز ما لم يتغير.

قوله تعالى

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) [الفرقان : ٥٨]

وهذا أمر بالتوكل على الله : وهو الالتجاء إليه ، وأمر بتنزيهه عن ما لا يجوز عليه.

قال في الكشاف : وعن بعض السلف أنه قرأها فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق.

وقوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)

قيل : نزهه بحمده ، وقيل : اعبده شكرا على نعمته.

قوله تعالى

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : ٦٣ ـ ٦٥]

قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ)

هو مبتدأ ، وخبره (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً).

وقيل : الخبر قوله في آخر السورة : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ)

٤٨٤

وهذه اثنتا عشرة خلة محمودة :

أحدها : أنهم يمشون على الأرض هونا ، والمعنى : أنهم يمشون متواضعين غير متكبرين ، بل يمشون بالسكينة والوقار ، فلا يضربون بأقدامهم ، ولا يخفقون بنعالهم ، أشرا وبطرا ، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق ، وقد قال تعالى : (وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) وفي الحديث : «المؤمنون هينون لينون» (١) : وهذا مروي عن مجاهد ، وابن عباس.

وقيل : حلماء علماء إن جهل عليهم لا يجهلون.

وقيل : أصحاب عفة ووقار : عن محمد بن الحنفية.

الخلة الثانية : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً).

قيل : المراد قالوا : سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم : وهذا يحكى عن مجاهد.

وقال الحسن : سلام توديع لا سلام تحية.

وقيل : معناه نتسلم منكم تسليما.

وقيل : يأتي بهذه اللفظة (٢).

وعن أبي علي : ادعوا الله لهم بالسلامة من أذاهم ، واطلبوا السلامة من مشاركتهم. لكن اختلفوا :

فقال أبو العالية والكلبي : هذه منسوخة بآية القتال ، والأظهر من كلام المفسرين بقاؤها.

قال جار الله : لا حاجة إلى النسخ ؛ لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشرع ، وأسلم للعرض والورع.

__________________

(١) بالتخفيف فيهما تمت.

(٢) أي يقول (سلاما) تمت.

٤٨٥

قال الحسن : هذا وصف نهارهم ، ثم إنه تعالى وصف ليلهم بالخلة الثالثة فقال : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً).

قال ابن عباس : من صلى من الليل ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجدا وقائما.

وقال الكلبي : هو الركعتان بعد المغرب ، وأربع بعد العشاء الآخرة.

وقيل : يكثرون الصلاة بالليل ؛ لأن من صلى ركعتين بالليل لا يقال : بات يصلي.

الخلة الرابعة : أنهم مع الاجتهاد يدعون إلى الله ، ويتضرعون لخوفهم كقوله تعالى في سورة المؤمنين : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون : ٦٠].

قوله تعالى

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) [الفرقان : ٦٧ ، ٧١]

قوله تعالى : (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) هذه خلة خامسة من صفات المؤمنين ، واختلف المفسرون في تفسير ذلك على أقوال :

الأول : مروي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جريج ، وابن زيد : أن الإسراف : هو الإنفاق في معصية الله تعالى قلّ أم

٤٨٦

كثر. والإقتار : منع حق الله من المال ، فأما في القرب فلا إسراف ، وسمع رجل رجلا يقول : لا خير في الإسراف ، فقال : لا إسراف في الخير.

قال في عين المعاني : وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من منع حقا فقد قتر ، ومن أعطى في غير حق فقد أسرف».

القول الثاني : أن السرف : مجاوزة في الحد في النفقة.

والإقتار : التقصير مما لا بد منه ، وبمثله أمر الله نبيه حيث قال : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩] : وهذا مروي عن إبراهيم ، ورجحه الحاكم ؛ لأن الإنفاق في المعصية حرام لا من جهة أنه سرف.

القول الثالث : أن السرف الأكل للتنعم واللبس للتصلف ، وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يلبسون ثوبا للجمال والزينة ، ولا يأكلون للتنعم واللذة ، ولكن يأكلون ما يسد جوعتهم ، ويعينهم على عبادة ربهم ويلبسون ما يستر عوراتهم ، ويكنهم من الحرة والبرد.

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ : كفى سرفا ألا يشتهي الرجل شيئا إلا اشتراه فأكله ، وهو يقال : هذه حالة الزاهدين ، وأما المباح فلا يعد صاحبه مسرفا ، إلا مجازا.

القول الرابع : أن الإسراف أكل مال الله بغير حق : وذلك مروي عن عون بن عبد الله.

وقوله : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي : قسطا وعدلا :

وإياك مثلا مفرطا أو مفرّطا

كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقد فصل المحققون من المحصلين فقالوا : الأحوال مختلفة :

فمن وثق بالصبر فالإيثار أفضل ، وليس بسرف ، وقد قال تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الحشر : ٩].

٤٨٧

ومن لم يثق بالصبر فالأفضل أن لا يجاوز في الصدقة ما يتضرر به ، وقد ورد خبر البيضة.

وقد اختلف العلماء إذا نذر بجميع ماله أو تصدق به أو وقفه أو وهبه.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان : ٦٨]

هذه ثلاث خلال مضافة إلى الخلال المتقدمة.

وقوله تعالى : (إِلَّا بِالْحَقِّ) ، وذلك القتل قصاصا ، وعلى الردة ، وقتل الزاني المحصن ، والمحارب.

وقوله : (يَلْقَ أَثاماً) قيل : عقابا : عن أبي عبيدة.

وقيل : جزاء الإثم : عن عباس.

وقيل : اسم لجهنم وهو موضع يسيل فيه صديد أهل جهنم ، وروي ذلك مرفوعا.

وقيل : واد في جهنم فيها حيات وعقارب نعوذ بالله منها : عن مجاهد ، قيل :

لقيت المهالك في حربنا

وبعد المهالك تلق أثاما

قوله تعالى

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان : ٧٠]

يعني : في المستقبل بأداء الواجبات ، واجتناب المقبحات.

قيل : كرر التوبة لأن الأولى : للخصال المذكورة. والثانية : عام.

وفي ذلك دلالة على أن الكافر مخاطب بالشرائع ، وأن التوبة من القتل تصح كسائر المعاصي.

٤٨٨

وقد روي عن ابن عباس ، وزيد بن ثابت : أنها لا تصح وأن هذه منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) [النساء : ٩٣].

قال الحاكم : والعلماء بأسرهم على خلافه ؛ لأنه لا يكون مكلفا ولا طريق له إلى التخلص من العقاب ، وأن القتل لا يكون أبلغ من الكفر وعبادة الأوثان.

قوله تعالى

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٢ ـ ٧٤]

هذه أربع خلال :

الأولى : قوله : (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)

للمفسرين أقوال في المراد بذلك :

فعن الضحاك : الشرك ، وتعظيم الأنداد.

وقيل : أعياد المشركين : عن مجاهد.

وقيل : مجالس الباطل : عن قتادة.

وقيل : الغناء : عن محمد بن الحنفية.

وقيل : الكذب. وقيل : شهادة الزور.

وقيل : جيوش الملوك ، لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضاء به ، وفي مواعظ عيسى عليه‌السلام إياكم ومجالسة الخطّائين.

قال الحاكم : لا منافاة بين الأقوال ، فتحمل على جميعها.

٤٨٩

وقوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)

اللغو : كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح.

والمعنى : مروا بأهل اللغو والمشتغلين به ، مروا معرضين عنهم ، مكرمين لنفوسهم عن الخوض معهم لقوله تعالى في سورة القصص : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [القصص : ٥٥].

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) يعني : لم يصيروا ، أو لم يسقطوا كالصم العمي ، بل يكون منهم التسمع والتدبر ، وفي ذلك دلالة على وجوب التدبر للآيات.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) يعني : تقرّ أعينهم ، وتسرّ قلوبهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم.

وعن محمد بن كعب : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجاته وأولاده مطيعين.

وعن ابن عباس : هو الولد إذا رآه يكتب الفقه.

قلت حاكيا عن حالته : لما رأيت ولدي محمد الذي اختاره الله إلى جواره ، وقد اختلف عليه جماعة من الفضلاء ، وهو ينفث عليهم بجواهر ونفائس ملئت بذلك سرورا ، وفزعت إلى الصلاة شكرا لله سبحانه على ذلك.

وقيل : سأل الله أن يلحق بهم أزواجهم وذرياتهم في الجنة لتقر به أعينهم.

[اللهم إني أتضرع إليك بذاتك العظمى وأسمائك الحسنى ، وبحق ملائكتك الكرام ، وأنبيائك عليهم الصلاة والسّلام أن تقر عيني ، وتكمل عندك مسرتي بالاجتماع في دار كرامتك ، ومحل رضوانك ، وسلامتك

٤٩٠

بولدي وسائر أحبائي ، وأن تفيض عليه من رحمتك ، وتنعم عليه بمغفرتك ، ووالدي وإخواني وسائر المؤمنين.

وصلى الله على محمد الأمين ، وآله المكرمين ، وقد ذكرت ذلك لتكون سببا في الاستغفار له ، وصلته بما أمكن من القرب ، فقد أوصى بذلك وأبلغ في الدعاء لمن وصله بصلة تنفعه عند الله رحمه‌الله وغفر له].

وقوله تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً).

قيل : أراد أئمة يقتدى بهم ، وقيل : هداة مهتدين : هذا مروي عن ابن عباس ، وهو الظاهر.

وعن مجاهد : اجعل للمتقين إماما ليؤتم بهم فيكون من المقلوب.

وقد استثمر من الجملة ثمرات دخلت في أثناء التفسير :

ومنها : أن الولد الصالح نعمة ، ومرغوب فيه ، ويجوز الدعاء له ، بل يندب إليه.

ومنها : أنه يحسن طلب الرئاسة في الدين ، وذلك يتم بالعلم والعمل فيطلب ما يصلح له من إمامه كبيرا أو صغيرا ، أو القضاء أو الإمارة ، مع إكماله لشروط ذلك ، وحسن قصده ، ورغبته فيما أعد لهؤلاء من جزيل الثواب ، وهذا حيث يثق من نفسه بالوفاء ، ولا يكون بالمسلمين عنه غنى.

وقد قسم العلماء الطلب لذلك : إلى واجب ، ومندوب ، ومحظور ، ومكروه ، على ما هو مشروح في كتب الفقه.

وإذا فسرت الآية بأنه أراد إماما يقتدى به فالمعنى : اجعلنا ظافرين بالكمال ، ولم يدع بالولاية.

وقد اختلف أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ :

فمنهم : من اختار القيام لخوف الضرر على الإسلام كزيد بن علي عليه‌السلام وغيره.

٤٩١

ومنهم : من اختار التوقف لشدة الخطر : كالصادق ، والباقر ، وغيرهما ، ومن المتأخرين شيخا آل الرسول ـ عليهم‌السلام ـ شمس الدين ، وبدر الدين يحيى ومحمد بنا أحمد بن يحيى فإنهما طلبا للإمامة فاختارا الترك ، وألزما المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه‌السلام وكانا من أنصاره ومن كتاب المنصور بالله إلى شمس الدين في شعر له :

أصدق ما قال به القائل

ما أحوج السيف إلى الحامل

يا بن علي يا بن أبي طالب

قم فانصر الحق على الباطل

وادع وعندي أنها دعوة

كاملة في رجل كامل

فأنت في صيد بني أحمد

لا ساقط الذكر ولا حامل (١)

فأنت لا أنطقها كاذبا

عالم أهل البيت والعامل

فالحق لا يترك أعني به

نفسي مكان الجمل البازل

وفي كلام المنصور بالله عليه‌السلام دلالة على أنه يجوز الخروج من الإمامة إذا وجد الإمام من هو أكمل منه ، وقد أوجب ذلك القاسم ، والناصر ، حتى قال الناصر إن لم يسلّم فسق ؛ لأنه حينئذ طالب للدنيا ، وهذا حيث لا عذر للأفضل ، تم ما نقل من سورة الفرقان.

وصلّى الله على محمد وآله والحمد لله حمدا يوافي نعمه ، ويكافئ مزيده ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

__________________

(١) هذا البيت غير موجود في النسخة أ.

٤٩٢

تفسير

سورة الشعراء

٤٩٣
٤٩٤

سورة الشعراء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء : ٣]

أي : قاتلها. وقيل : مهلكها.

هذه تسلية له عليه‌السلام ، وفي ذلك دلالة على أنه لا يجب الحزن ، ويحمل الضيق المتعب على كفر الكافر ، ومعصية الفاسق ، وقد تقدم في باب قوله تعالى : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠] لأنه كان في لسانه عقدة ، وفي ذلك دلالة على جواز كون الإمام على هذه الصفة على ما تقدم.

قوله تعالى

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠]

قيل : من الجاهلين ؛ لأنه فعل ذلك قبل النبوة.

وقيل : المخطئين ، لأنه وكز القبطي. وظن أن ذلك لا يؤدي إلى القتل ، وقيل : من الناسين ، ولا يصح حمله على الضلال في الدين.

قال الحاكم : يحتمل أنه لم يكن عاصيا ؛ لأنه ظن أنه لا يأتي على القتل.

٤٩٥

قوله تعالى

(وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) [الشعراء : ٤٤]

هذا قسم للجاهلية ، وقد نهى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال عليه‌السلام : «لا تحلفوا بآبائكم ولا أمهاتكم ، ولا تحلفوا بالطواغيت».

قال الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ : وقد استحدث الناس في الإسلام جاهلية تشبه الجاهلية الأولى ، وذلك أن الواحد لو أقسم بأسماء الله كلها وصفاته على شيء لم يقبل منه ، حتى يقسم برأس سلطانه ، تم كلامه.

وهذا معصية قد تبلغ الكفر إن اعتقد أن عظمة ذلك كعظمة الله ، وكذا السؤال في تنزيه السلاطين الظلمة

قوله تعالى

(قالُوا لا ضَيْرَ) [الشعراء : ٥٠]

المعنى : لا يضرنا ما توعدت به من تقطيع الأيدي والأرجل مع الثواب والجزاء من الله تعالى.

وهذا دليل على فضل احتمال القتل ونحوه ولا ينطق بكلمة الكفر وهذا هو المذهب ، والظاهر من أقوال المعتزلة.

وحكى النواوي في الأذكار خمسة أوجه :

الأول : ـ مثل قولنا ـ أن الأفضل أن يصبر على القتل ، وفعل الصحابة بذلك مشهور.

الثاني : أن الأفضل أن يتكلم بكلمة الكفر ، ليصون نفسه من القتل.

الثالث : أن يفصل فإن كان في بقائه مصلحة للمسلمين من نكاية العدو ، فالأفضل أن يصون نفسه فإن لم فالصبر أفضل.

الرابع : أنه إن كان من العلماء الذين يقتدى بهم فالصبر على القتل أفضل ، لئلا تغترّ به العوام ، وإن لم يكن كذلك صان نفسه.

٤٩٦

الخامس : أنه يجب عليه التكلم لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] ولا خلاف أنه لا يكون عاصيا إن صان نفسه ، ونطق بكلمة الكفر.

قوله تعالى

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٨٢]

أي طمع يقين وهي الصغائر ، وهي مغفورة ، ويجوز طلب المغفرة انقطاعا إلى الله ، وإن كان مغفورا له ، لكن قيل : أراد صغائر غير معينة (١).

وقيل : هي قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] وقوله : (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٣] وقوله لسارة هي أختي ، وقوله للكواكب : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦].

قال الزمخشري : وليست بخطايا يجب منها الاستغفار ، وما هي إلا معاريض ، ويستثمر من ذلك جواز التعريض.

قوله تعالى

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤]

قيل : أراد ثناء حسنا ؛ لأنه الحياة الثانية ، قال الشاعر :

قد مات قوم وهم في الناس أحياء

وقيل : ولد صالح يعمل بقوله وهو محمد عليه‌السلام.

وقيل : أراد بقاء شريعته.

ويستثمر : جواز الدعاء بهذه الأمور ، وأنه يستحب افتتاح الدعاء بالتوحيد لقوله : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٧٧].

__________________

(١) ظاهر كلام المتكلمين وجوب التوبة من الصغائر قال أبو العباس يجب عقلا وشرعا وقال المؤيد بالله سمعا فقط ذكر معنى ذلك في الدامغ وتذكرة الشيخ حسن تمت.

٤٩٧

قوله تعالى

(وَاغْفِرْ لِأَبِي) [الشعراء : ٨٦]

هذا الدعاء ؛ لأنه وعده الإسلام بدليل قوله تعالى في سورة التوبة : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤].

وقيل : كان مبطنا للإسلام ، ويظهر الكفر تقية.

قوله تعالى

(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١١٤]

هذا من جواب نوح صلّى الله عليه لما قال له قومه : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الشعراء : ١١١ ، ١١٢].

قيل : عابوهم بالمهن الخسيسة كالحجامة ، والحياكة.

وقيل : بإتيان أعمال سيئة في الباطن.

وثمرة ذلك :

أن العبرة بالظاهر ؛ لأنه قال : (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الشعراء : ١١٢] يعني إنما آخذ بالظاهر ، لا أني أشق على قلوبهم ، ويدل على أن المؤمن وإن كان حاله القلة في الدنيا لا يبعد استدعاء لذي الحالة ، ونظير هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إياكم والإفراد» الخبر.

قال الزمخشري : وهكذا قالت قريش لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما زالت أتباع الأنبياء كذلك حتى صارت من سيماهم.

وروي أن هرقل سأل أبا سفيان : من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال : ضعفاء الناس وأراذلهم ، فقال : ما زالت الأنبياء كذلك.

٤٩٨

قوله تعالى

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء : ١٢٨ ـ ١٣٠]

الريع : المكان المرتفع.

والآية : العلم المرتفع ؛ يهتدون بها.

وقيل : بزوج الحمام تعبثون أي : تبنون ما لا تحتاجون.

وقوله : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)

قيل : الجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب.

وقيل : يبادر بتعجيل العذاب من غير نظر في العواقب.

والمصانع : مآخذ الماء ، وقيل : القصور.

ثمرة ذلك :

كراهة الأبنية المرتفعة المستغنى عنها ، وقد روي في السنة كراهة ذلك ، وقد أفرد الحاكم ـ رحمه‌الله ـ في السفينة بابا في اتخاذ البناء ، وروى أخبارا وآثارا.

منها : ما روى أبو هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا أراد الله بعبد شرا هلك ماله في الماء والطين».

قال : وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من بنى فوق ما يكفيه جاء يوم القيامة حامله على عنقه».

وعن وهب قال : مما أنزل الله تعالى : «من استغنى بأموال الفقراء أفقرته ، ومن تجبر على الضعفاء أذللته ، ومن بنى بقوة الفقراء أعقبت بناءه الخراب» إلى غير ذلك.

والذي يأتي على أصول الشريعة أن البناء ينقسم : إلى محظور ، ومكروه ، وواجب ، ومندوب ، ومباح.

٤٩٩

فالمحظور : أن يبني للمفاخرة.

والمكروه : ما يلهي عن الأفضل ومعه ما يكفيه.

والواجب : ما يدفع عنه الضرر أو يحرزه من عدوه.

والمندوب : ما يرغب إلى الطاعة.

والمباح : ما عدا ذلك.

ولعل ما ورد من النهي مبني على أن ذلك يشغل ويلهي عن أمر الآخرة.

وعن الحسن دخلت بيوت أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبلغت يدي سقفها.

قال المفسرون : وفي ذلك دلالة على أن الصفة ب (جبار) نقص في العباد ، وإن كانت مدحا في حق الله تعالى.

قوله تعالى

(وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) [الشعراء : ١٥١]

قال الحاكم : في ذلك نهي من اتّباع أهل البدع ، ورؤساء أهل الضلال.

قوله تعالى

(لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء : ١٥٥]

دلت : على صحة القسمة في الأعيان والمنافع ، وسواء كانت العين موجودة أو في حكم الموجودة كالماء من العيون والآبار ، فيقسم بالأيام ، ويحكم بذلك.

وعن الشافعي : إن المهاياة صلح فلا يجبر عليها ؛ لأنه يصير الحال مؤجلا.

٥٠٠